الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيولُ ربيع الشمال

دلور ميقري

2023 / 6 / 17
الادب والفن


المَسكن، الذي شبّهه دارين بالمصحّة العقلية، علمنا أنه كائنٌ على هضبة " غرينبي ". من شرفة المسكن، في وسع المرء الإطلالُ على جانبٍ من مشهد المدينة، المُنبسطة مع مبانيها القليلة الإرتفاع، يهيمنُ عليها القصرُ الملكيّ وبرجا الكاتدرائية. لكنّ نهر المدينة، المُنساب كثعبانٍ مُرقّشٍ بألوان مُتعددة، ليسَ في الوسع رؤيته من الشرفة. ولو كانَ المرءُ راكباً المنطادَ، الذي يُطلق في سماء المدينة في هذا الفصل الجميل، لأدهشه تناوبُ شكل مجرى النهر بين الضيق والإتساع لغاية ما يُصبح ممراً مائياً للقوارب واليخوت، المُتجهة جنوباً لتصل إلى بحيرة " مالار " الكبرى. وكانَ من النادر ملاحظة السويديين على شرفات الشقق السكنية، وإن يكن الطقسُ حاراً. كأنهم يتجنّبونَ رؤيةَ بعضهم البعض، همُ المكتفون بتبادل التحيّات عند مداخل الأبنية والمصاعد. العزلةُ مبدأ راسخٌ، يحرص عليه الجميعُ في غياب الإيمان بالمعتقدات الميتافيزيقية والطوباوية.
أما جوليا، فإنها على خلاف ذلك، كانت تشعرُ بالراحة النفسية في خلال الجلوس على الشرفة. لعلّ مَرَدّ عادتها، أنها من دم إيطاليّ؛ أو ربما لإعتيادها في فيلا والديها على مشاركتهما بتمضية جلّ الوقت في الترّاس. وكانت فيما سبق قد طلبت من شركة السكن، جعلَ واجهة الشرفة من الزجاج العازل، وقامت بنفسها على فرش أرضيتها بموكيت زيتيّ اللون. كذلك زوّدت الشرفة بأريكة عريضة، باروكية الطراز، كانت قد أشترتها من المزاد. حينَ يكون النهارُ مُشمساً، كانت تتمدد عاريةً على الموكيت لكي تجعل بشرتها برونزية. إلا أنّ بشرتها من الفضة الناصعة، وكانَ من الصعب التأثيرُ عليها. تماماً، بمثل صعوبة تأثّر رأسُ صاحبتها بأفكار الغير. هذا الرأسُ المصقول بدقة، الشبيه بالرؤوس المنحوتة لآلهة الرومان، لم يكن يؤثّر فيه سوى البودرة. مع ذلك، لم تكن مُبتذلة في أثناء تعاملها مع الآخرين، وكانت لا تفقدُ رشدَها ورصانتها سوى في الجوّ المجنون للديسكو.
وهيَ ذي جوليا على الشرفة، والنهارُ يغرد بألف حنجرة للطيور المُتهادية على أغصان الأشجار القريبة. كانت مُستلقية على الموكيت، فيما دارين جلسَ على الأريكة وراحَ يُداعب برؤوس أصابع رجله مؤخرتَها العظيمة، العارية. أكثر من مرة، طلبت منه ألا يُدغدغها في ذلك الموضع: " إنك تُفسد حمّامي الشمسيّ "، قالتها بشيءٍ من الإنفعال. منظرها المثير، في المقابل، لم يُجَز له أن يُوقظ شهوةً، كانت مُشبعة مذ بعض الوقت. لكن دارين لحظَ توترها في اليومين الأخيرين، وكانَ ذلك بسبب هجر جيني للشقة. جرى الأمر على خلفيّة خلافٍ ما، لم يتوصّل دارين لمعرفة دافعه؛ كونه لم يشأ سؤال جوليا عنه. لقد كانَ مرتاحاً ولا شك لعودته إلى حجرة النوم، وإلى الشعور بأنه الحبيبُ الوحيد. وكانَ أيضاً فألاً حسناً، إرتياحُ والديها لصداقته مع ابنتهما؛ هما مَن كانا، ولا غرو، بغاية القلق من علاقتها السابقة بتاجر المخدرات. بل إنّ الأب، طلبَ التكلمَ معه يومَ أمس، أثناء مهاتفته لجوليا. لقد دعاه للحضور إلى الفيلا غداً على الغروب، لمشاهدة مباراة السويد وإيطاليا في كأس العالم، التي كانت قد بدأت مؤخراً.
" هل ستعود إلى الشقّة غبّ إنتهاء المباراة أم ستذهب من هناك إلى الكُريدور؟ "، سألته جوليا. كانت هذه طريقة لطيفة، للتلميح برغبتها في البقاء لوحدها ليلاً. مُمتلئاً بهاجسٍ منحوس، أومأ رأسَه بحركة غامضة ثم سألها بدَوره: " ألا تريدين أن أرافقكِ إلى الديسكو؟ "
" لا، ليسَ ضرورياً. ولكننا نستطيعُ تمضيةَ بعض الوقت معاً في حديقة الملك، ومن ثم يذهب كلٌ منا إلى مقصده "
" أترغبين بالمزيد من الحمام الشمسيّ، أم نبادر للذهاب الآن؟ "
" سأكملُ حمّامي في الحديقة "، قالتها وهي تنهضُ لتستقيم على قدميها. قال لها فيما كان يُداعب بيده شعرَ عانتها، الخشن قليلاً والقاتم اللون: " لمَ لا تحليقه، كي يحظى أيضاً بالرونق البرونزيّ؟ ". نحّت يده، وأجابت: " لأنني لستُ جارية مسلمة، ولن أكون يوماً أبداً ". علّقَ داربن على كلامها في سرّه: " أنتِ لا يُمكن أن تكوني جارية إلا لتاجر مخدرات، مُسلماً كانَ أو مجوسياً! "
جوليا، كانت سويديّة بطريقة مشيها، الملائمة للرجال أكثر من النساء. منتصبةَ القامة وملوّحةً بيديها، كانت تخترقُ الشارعَ الظليل المُوازي للنهر، والمُنتهي بمرسى السفن عند مدخل حديقة الملك. كانت، بحق، تمثالاً مُتحرّكاً لقيصرة روما، جوليا دومنا. وكانَ دارين يضطرُ أحياناً للتخلّف عن خطواتها الطويلة والسريعة، فإذا لحقها يضربُ يدَهُ بمودّة على مؤخرتها. كانت ترتدي، سلفاً، ثياباً ملائمة لسهرة الملهى؛ هيَ تنّورة قصيرة صفراء اللون، وفوقها قميص تيشرت من الجينز الأزرق اللون. كانا على لونيّ العلم السويديّ. دارين، من ناحيته، كانَ ببنطال جينز مع تيشرت المنتخب الإيطاليّ لكرة القدم، سبقَ وأشتراه عندما كان يتجوّلُ يوماً في ستوكهولم القديمة. هيئته هذه، ما لبثت أن استفزّت أحدهم
كانَ دارين وصديقته جالسين على الضفة العالية للنهر، تحت أشجار الحديقة، لما بدأ قارب سياحي بالتحرك من المرسى. كان قارباً كبيراً من دورين، وعلى سطحه كان ثمة أشخاص يرتشفون البيرة أو أيّ شرابٍ كحوليّ آخر. لما مرّ القاربُ بإزائه، وجّه دارين نظرَهُ إلى تلك الثلة المتجمّعة على سطحه. وإذا أحدهم يرفعُ بوجهه إصبعه الوسطى. بقيَ دارين حائراً، فيما صديقته أطلقت ضحكة عالية. قالت له، موضّحةً ما غفلَ عنه: " إنه أعتبركَ أجنبياً جاحداً، كونك تُشجّع المنتخبَ الإيطاليّ لا السويديّ ".
ثمة في الفيلا، نقلَ دارين واقعة الإصبع الوسطى إلى السيّد باولو. فانفجرَ هذا ضاحكاً، وكانت الخمرة قد تمكّنت منه بدَوره. السيّدة أولريكا، أطلت مرةً على جلستهما في الترّاس لكي تضع على المائدة المُشهّيات والفاكهة. قالت لصديق ابنتها، أنّ مشاهدة مباراة كرة قدم تُسبب لها الصداع. علّقَ رجلها بالقول: " بل لإنك واثقة من هزيمة منتخب بلدكِ "
" أليسَ هوَ منتخبُ بلدك، أيضاً؟ "، ردّت مع إيماءةٍ من رأسها الجميل قبل أن تختفي. عقبَ إنتهاء المباراة، استبقوه للعشاء. إذاك، كانت السيّدة أولريكا قد انضمت إلى الجلسة. كانَ الترّاسُ معزولاً من جهتين بألواح الزجاج، أرضيته خشبية وكذلك سقفه. كانَ ثمة مدافئ كهربائية على شكل النيون، مُثبّتة بالسقف والجدارين القرميديين، يتم تشغيلها عندما يبرد الهواء. شجرتا كرز وخوخ، تهدلت أغصانهما المثقلة بالثمار الخضراء على جانبٍ من الترّاس. وكانت الشمسُ تميلُ بسرعة عن المكان، ما جعلَ المُضيف يُغلق ألواحَ الزجاج الواحد بأثر الآخر. تكلمَ الرجلُ قليلاً عن المباراة، لحين أن لحظَ ما أعترى امرأته من ضجر. عندئذ التفتت هي الى دارين، لتسأله عن آخر كتاباته الشعرية. فقال لها، أنه بدأ بتأليف كتاب شعري جديد على شكل قصيدة واحدة وبشيء من النفس الملحمي.
قال السيّد باولو فجأةً للضيف: " لم أتعرّف على كرديّ، هنا أو في إيطاليا، إلا وكانَ ذا نزعة يسارية ". ثم أستدركَ، مُتسائلاً: " ألا يضرّ هذا بقضيتكم القومية، بالأخص مع إنهيار الأنظمة الشيوعية وبروز الغرب كقوة أحادية في العالم؟ ". فكّرَ دارين قليلاً، ثم أجابَ: " بلى، إنّ الكردَ أقرب إلى اليسار وربما لسببٍ إقتصاديّ لا سياسيّ. فغالبيتهم فقراء، يعيشون في مناطق مهملة عمداً من الأنظمة الغاصبة، المُقتسمة بلادهم. إلا أن أحزابهم، وبالأخص في كردستان العراق، أضحت أكثر ليبرالية مع التغيّرات الأخيرة في العالم ".
تدخلت السيّدة أولريكا، للقول: " من معرفتي لنساء الكرد، خرجتُ بانطباع أنهن أكثر حريةً وانفتاحاً من التركيات والإيرانيات والعربيات. هل هنّ كذلك، ثمة في بلادهن؟ "
" أجل، إلى حدّ كبير. لكنّ الموجة الأصولية، المُعقّبة ثورة الخميني وحرب أفغانستان، بدأت بالتأثير على المجتمع الكرديّ "، ردّ دارين مُوضّحاً. تابع الحديث في هذا الإتجاه مع المضيف، لكنه لم يسأله عن ميله السياسيّ. لقد سبقَ وفهمَ العقلية السويدية، التي تحترم بشدّة خصوصية المرء فيما يتعلق بالسياسة والعائلة والدخل والمعيشة.
في أثناء العشاء، المُتّسم بتبادل الأحاديث على عادة الأوروبيين، كانَ دارين أكثر صمتاً. فالهواجسُ هاجمته من جديد، وكانَ يتحيّنُ الفرصةَ المُناسبة لمغادرة الفيلا: لقد قررَ اللحاق بجوليا، ثمة في الملهى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب