الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قمة إيفيان: خريطة طريق إلى أين؟

خالد عبدالله

2003 / 6 / 6
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 


كاتب عربي يقيم في وارسو

انعقدت قمة إيفيان في أعقاب خلاف مرير بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الرئيسية حول رؤية ما ينبغي أن يكون عليه شكل النظام الدولي الجديد وجوهره. وكان الميدان الأول للخلاف العراق. وخرجت الولايات المتحدة من معركتها الأولى لتشكيل النظام الدولي على قدر مصالحها المستقبلية مخدوشة معنويا وسياسيا، كما أن معاركها العسكرية لم تتوقف فهي لا زالت تنزف في العراق وفق بياناتها. وقد تصوبت الأنظار إلى كل كلمة قيلت، وإلى كل إيماءة حصلت، وإلى كل مقترح قدم، وإلى كل ما غاب من هذه جميعا قبيل انعقاد القمة وخلالها. ولو أنزلت كل هذه على خطوط الطول والعرض لأية خريطة استراتيجية لبدت في بادئ الأمر مشوشة، تشير إلى كل الاتجاهات، وتقصر عن رسم معالم واضحة لما جرى.

ولا ريب أن هذا صحيح لو نظرنا إلى الكلمات، وإلى الطقوس، وإلى مواضيع البحث. ففي كل واحد من هذه الأمور يلمس المرء التناقض، بين ما يشير إلى تواصل المرارة، وبين ما يبشر بتجاوز الخلاف. فبوش الذي يؤكد أن الاختلاف في الرأي لا يعني بالضرورة أن نكون غير لطيفين مع بعضنا البعض، سرعان ما يخز فرنسا وكل من عارض أمريكا. وقد أحسن أحد المعلقين وصف رؤية بوش للوحدة بين ضفتي الأطلسي ( أن الوحدة تتطلب من " أوروبا القديمة" أن تتبع التوجه الأمريكي)، أي أن أمريكا تريد الوئام لكن بشروطها. كما أن طقوس الآداب اختلفت، فبين احتضان لبوتين وترتيب على الظهر، إلى لقاء بارد مع شيراك، إلى رفض للاجتماع مع شرويدر.

كما أن القمة زرعت بالألغام. فقد دعا شيراك مجموعة من زعماء العالم الثالث، في مقدمتهم الصين، من بين الذين عارضوا الحرب الأمريكية. وهي إشارة واضحة إلى أن التوجه الانفرادي في إدارة شأن العالم لا يلقى معارضة من شركاء أمريكا فحسب بل أيضا ممن سيكونون مواضيع هيمنتها. كذلك كانت دعوة شيراك لتخفيف العبء عن إفريقيا بتعليق الدعم المقدم إلى الصادرات الزراعية من البلدان الغنية إلى إفريقيا. وقد دخلت الولايات المتحدة بالمزايدة على أوروبا حين اقترحت رفع الدعم عن كل الصادرات الزراعية من البلدان الغنية إلى بلدان العالم الثالث، وزاوجتها بالإعلان عن تقديم مساعدة بمقدار خمسة عشر بليون دولار على مدى خمس سنوات لمكافحة مرض نقص المناعة في بلدان العالم الثالث. وقد اعتبر بعض المعلقين الدعم الأمريكي " مزحة قاسية " لأنه لا توجد ميزانية مخصوصة لهذا الغرض، ولأنه إن تحقق بعض ذلك أو كله فهو سيذهب لدعم شركات الأدوية الأمريكية. كما أن أمريكيا التي تريد إحراج أوروبا في موضوع الدعم المقدم إلى الصادرات الزراعية ترفض بقوة السماح لبلدان العالم الثالث تصنيع الأدوية التي تبيعها شركاتها إلى بلدان العالم الثالث بأسعار باهظة.

ولم تكن نتائج القمة أفضل حالا، فلم يحصل هناك أية معالجة حقيقية للمشاكل المطروحة للنقاش. ولعل أفضل تعبير رمزي عن ذلك أن بوش حضر نصف الاجتماعات، وغادر القمة التي تعالج مشاكل العالم من أجل معالجة مشكلة الصراع العربي الصهيوني انفراديا. فلم يصل المجتمعون إلى اتفاق حول مشاكل التجارة التي يحتدم النزاع حولها، كما كان هذا حال تمكين بلدان العالم الثالث من الدواء أو الخبز الرخيصين. كما مروا عموما على موضوع تناقص قيمة الدولار التي قد تؤثر إن استمرت على النمو الاقتصادي الأوروبي. وهنا تكمن المفارقة، فالولايات المتحدة تحث أوروبا على عمل المزيد من أجل تسريع النمو في بلدانها لكن سياستها تجاه الدولار قد تؤثر سلبا على مسار النمو الاقتصادي الأوروبي. لكن المجتمعين اتفقوا على مسألة انتشار أسلحة الدمار الشامل وبخاصة فيما يتصل بكوريا الشمالية وإيران. 

ومع كثرة الإشارات المتناقضة، ومع تعدد الكلمات المتفارقة، ومع تنوع المقترحات المتعارضة، إلا أن المرء يمكن أن يتبين منحى محددا. لكن ذلك يحتاج إلى غربلتها جميعا بغربال واحد. ولا يمكن أن يكون هذا الغربال الحرب على العراق، أو قضية الصراع العربي الإسرائيلي، أو مقاربة المشاكل الاقتصادية العالمية، أو الإرهاب، أو نزع أسلحة الدمار الشامل أو غيرها. فكل قضية من هذه القضايا لها سماتها الخاصة التي يمكن الاختلاف حولها حتى حينما تكون البلدان الكبرى على اتفاق، والتي يمكن الاتفاق حولها حتى حينما تكون البلدان الكبرى على خلاف.

فالغربال ينبغي أن يكون عاما حتى يستوعب كل القضايا من حيث القاسم المشترك فيها. وهذا هو اتحاد أو افتراق نظرة هذه البلدان إلى كيف ينبغي أن يكون عليه النظام الدولي الجديد. هذا هو مربط الفرس، وهذا هو موضع الاختبار الحقيقي الذي يفسر التوافق أو الاختلاف حول القضايا الفردية. وقد أصبح الأمر واضحا أن الهوة كبيرة بين نظرة الجانبين، بين أمريكا التي ترى أن لديها من القدرات ما يجعلها مؤهلة لأن تتخذ القرارات التي ينبغي على البلدان الاصطفاف ورائها، وبين النظرة الأوروبية التي ترى أن النظام الدولي القائم على التعددية هو الذي يضمن الاستقرار العالمي المطلوب لتوسع رأس المال العالمي وليس الأمريكي فقط.

فالحرب على العراق، وتناقص قيمة الدولار، وحرية التجارة الدولية، والمساعدات إلى العالم النامي، أصبحت ميادين اختبار للرؤية الأمريكية الجديدة التي ألقت خلف ظهرها قيود وقواعد المؤسسات والقوانين الدولية التي تبلورت على مدى القرن الماضي. وبدأت في استخدام قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية لكي تفعل ما تشاء حيث تشاء. ثم طلبت من الدول الكبرى أن تكون عمالا لديها في أقاليم العالم، وأخبرتهم أن لا أمل لديهم في منافستها لأنها ستعمل كل ما في طاقتها لكي تمنعها من الوصول إلى ذلك المستوى. هذا ما فعله بوش في العراق حين قال بحلف الراغبين، أي أنه يقرر السياسة التي سينفذها وعلى الراغبين من البلدان الالتحاق به. ولكن الرغبة مجازية هنا، لأنه عمليا يريد أن يعاقب من يخالفه أكثر مما يريد أن يثيب من يوافقه. وهذا ما يفسر عدم رغبته في البقاء في إيفان. فالمسألة ليست معاقبة فرنسا، بقدر ما هي القول للمجتمعين أن أمريكا لا تقبل بمناقشة سياساتها، بل تتوقع الاصطفاف ورائها. وهذا هو جوهر خطابه في كراكوف في بولندا. وحينما ترك بوش فرنسا وذهب إلى شرم الشيخ من أجل الترويج لخريطة الطريق التي اشتركت في وضعها مع أمريكا أوروبا وروسيا والأمم المتحدة، لم يكن هناك معه أحد من الفرقاء الثلاثة، بل بقوا يعصرون أيديهم عن بعد.

ومع أن الولايات المتحدة لم تحد بعد عن رؤيتها الانفرادية للعالم، لكن من السذاجة الاعتقاد أنها سياسة لا تجد المقاومة. وهي مقاومة ذات أبعاد مختلفة، معنوية نراها في الاستفتاءات والمظاهرات العالمية ضد الولايات المتحدة، وسياسية كما هو مشاهد في المواقف الفرنسية والروسية والألمانية والصينية، وعسكرية كما هو جاري في أفغانستان والعراق. فهذه قيود تتطلب المداورة والمناورة. وقد شاهدنا ذلك في الاقتراب من الروس، وفي تأليب الأوروبيين على بعضهم البعض حتى عشية انعقاد القمة، وفي مغازلة الأفارقة في قضية مرض نقص المناعة. كما شاهدناها في المقترحات الأمريكية التي ظاهرها التعاون مع الآخرين وباطنها إحراجهم مثل قضية منع انتشار أسلحة الدمار الشامل. فهي تهدف من مقترحها إلى الحصول على موافقة الدول الكبرى الأخرى من أجل اعتراض السفن التي يشك أنها تنقل معدات أو مواد أو أسلحة الدمار الشامل. فهي تعرف أنها لا تستطيع أن تقوم بذلك لوحدها لأن عملها سيكون انتهاكا خطيرا للقانون الدولي. ولذلك فهي تريد جرهم بحجة التعاون معهم للحصول على هذه الموافقة حتى تصبح قرصنتها في المياه الدولية شرعية.

فكل ما رأينا من مشاهد، وكل ما سمعنا من أقوال قبيل قمة إيفيان لم تكن على تنوعها إلا أساليب متطورة من المناورة بين الفرقاء ليعزز كل موقفه ويضعف موقف الفريق الآخر.
                          

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمات سودانية: مشروع من أجل تعزيز الصحافة المحلّية في السودا


.. فراس العشّي: كاتب مهاجر من الجيل المطرود




.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن