الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة في الممات / من المحطات الاولى من كتابي ارتحال في اللا منتهى 2016

أمين أحمد ثابت

2023 / 6 / 20
الادب والفن


مكان جثماني الكفن شديد الضيق مدفون تحت ركام من التراب ، وحيدا لا أرى او اسمع او احس بشي ابدا ، لا اعرف أني خرجت كروح أو شبح من جسدي بعد موتي – كما نعتقد به كإيمان ديني – لم تصلني سوى مجسدات القبور في مقبرة لا متناهية المساحة والامتداد كعالم وحيد لا أجد سواه .
وجدتني اخترق قبرا وراء قبر. . ليكونوا حاضرين . . يمكنني التحادث معهم ، لم اجد سوى من ماتوا من فترة قريبة ، وحتى أولئك ممن ماتوا قريبا في حوادث او حروب راهنة ولم تتحلل جثثهم كاملة بعد ، سألت اين بقية الموتى ، كان رد من اهتم بتساؤلي . . هو ما عرفته قبل موتي ، منهم من كان موحدا يقول قد صعدت ارواحهم إلى بارئها في عالمها الغيبي في انتظار يوم القيامة للحساب الإلهي ، ويغلب التصور عند بعضهم بأن الصالح تغادر روحه من بوابة مضيئة وقد لف جسمه لبسا ابيضا ويستقبله ملاك الرحمة بعد الولوج في تلك الفتحة المنيرة ، أما الفاسد والمتجبر على الناس وممن نهبوا وقتلوا عمدا باستكبار وانتهكوا الحرمات ظلما. . فيكسوه لبسا اسودا وبمحيا مكفهرة سوداء وباهتة ، يلج في فتحة نارية شديدة الحمرة ويستقبله مارد اسود مخيف يدفعه بعنف في مسار ناري يتلظى فيه حتى قيام الساعة للحساب الاخروي ، بينما يجيب بعض اخر بأن ارواحهم – المتحررة بعد موتهم من فترة سابقة – قد استنسخت في أجساد أخرى بديلة ، أكانت في اجسام بشرية ، منها على افراد عند ولادتهم أو كمتلبس روحي متسلط على روح افراد تنسخ نفسها – على ما كانت عليه فيمن مات حين كان عائشا – لتكون طابعة صفتها وخصائصها على ذات الانسان المتلبس بها ، إن كانت روحا طيبة ملائكية أو كانت روح شيطانية فإنها تسم من تلبسه بخصائصها – وهو اعتقاد يماثل في يشترك فيه جزء من مؤمني الديانات الوثنية واللادينيين الميتافيزيقيين وجماعات من الفرق والمذاهب الدينية . . منها الإسلامية – ويماثلها حكما أن تتلبس تلك الارواح أجساد حيوانات أو هيئات لكائنات اسطورية ، ويشيع هذا الاعتقاد تحديدا في الأرواح الشريرة الشيطانية بمتلبساتها تلك ، ويستولي هذا الاعتقاد عند العامة والاعتياديين من المجتمعات البشرية – بينما يرد من تبقى علي . . هؤلاء قد تلاشوا نهائيا وتحولت اجسامهم إلى عناصر كيميائية في مكون التربة – عضوية وغير عضوية – وحين طرحت على هؤلاء نحن أيضا ستتحلل اجسامنا لاحقا ، ولكنا نتحادث الان بعد موتنا ، فأين ذهبت ماهي مثلنا – أي ارواحهم – التي مكنتنا من التحادث الان حتى بعد موتنا – ينظرون إلي باستهجان بعضهم والأخر بتجاهل وعدم اهتمام ، حتى أني واحدا منهم بوضوح يقول : حتى وبعد موتنا مازال هناك من يجادل ! – قهقه ومن تفاعل مع قوله من المستمعين . . عفويا وبطريقة الية من فعل عمل الدماغ – يظهر أن هذا الميت كان من المثقفين الذين طحنتهم الحياة في مجتمعات تعاديهم ، وينتهك وجودهم من خلال الانتهازيين والمخادعين ومتنفذي الحكم وزبانيته . . تحديدا في السياسة والثقافة المجتمعية .

لم يأخذ مقامي معهم طويلا ، فلم يعد عند أي واحد منهم ما يبدي اهتماما للتحادث النقاشي ، بل لم أرى حتى اثنين يجلسان جوار بعض – لا كلام ، كل واحد يسبح في ذهانيه مملة ينتظر تلاشي وجوده - لا وجود لتفكير ، لعواطف يتشاركون فيها – بل لا وجود لأحاسيس – لم يتبقى فيهم تسجيلات الية من الذاكرة المؤلمة ، التي يصرخ متشاكيا بها للفضاء ( دون وعي ) ، عن المظالم التي وقعت على كل واحد منهم ، وتكثر مسجلات العويل بين المؤمنين الموحدين من مختلف الأديان ، تحديدا الذين كانوا مستضعفين في حياتهم ، والقلة المتباكية منهم كان عويلهم تضرعا للخالق ليغفر عنهم ما اقترفوه من أخطاء ـ ويتمنون عليه اعادتهم مرة أخرى لتصحيح ما ارتكبوه في دنياهم الماضية – ويتوسلون الصفح في ابتعادهم عن دينه . . فهم بشر تتحكم بهم ذواتهم لحب الدنيا – كما قلت ربنا في كتابك . . المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، وأن الانسان قد خلق هلوعا – وقد غرتنا متع الدنيا وملذاتها فأنستنا اخرتنا – أسطوانة تتردد حيث وقفت عندها الذاكرة من الخوف والمؤلمات التي خزنت في ذاكرتهم واستولت على ذواتهم خلال عيشهم . . بحضور مباشر أو كانت مردومة في مخزن سري من الذاكرة . . حيث كان يتجاهلها الواحد منهم – حتى من كان بلا دين كان عويلهم إما حنقا عن وجودهم في حياة مذلة وكان الأفضل لهم أن لم يأتون إلى الحياة . . فيلعنون ابائهم ، واخرون يتلوى صراخهم بألم لاعتذارات عمن قصروا او اخطاؤا في حقهم ، وجزء منهم صامتا على الدوام . . لا شيء يصدر عنهم ، وقلة باقية – موحدة أو غير موحدة – عويلهم الناحب يغرق في احتجاج على الموت وتركهم للكثير من الثروات التي خلفها بعد موته ولم يحظى بالتمتع بها أو حتى لم يكتفي من التمتع بها قبل موته – لماذا افنى ذاته في جمع تلك الثروات لمعظم عمره وحرم نفسه الكثير وعرض ذاته لكثير من المخاطر . . ليموت – ليتني اكتفيت في يوم من الأيام بما جمعته لأعيش حياتي واتمتع بها قبل ما تأتي المنية ! – لم يعد عند هؤلاء أي معبر لعقل بشري أو احاسيس او عواطف او مشاعر، ولكن ما تبقى من سجل الذاكرة الذي كان يستحوذ على الواحد منهم خلال حياتهم إلى لحظات الاحتضار الأخير المدرك ، أو سجل الدماغ – الحسي والعاطفي العفوي - فيما طبع عليه في كل واحد منهم – كنوع دماغي بيولوجي لم يعد غائي الادراك بعد موته - من ردة الفعل الالي الاستجابي لمصدر يثيره مباشرة – مثل الرد عن تساؤلي ، واستجابة الاخرين الحسية بصورة الية غريزية مع قهقهته . . وهي حالة مستثناه لم تحدث معهم من قبل – فجميعهم يسلك كل واحد منهم كوحيد في عالم لا وجود لغيره فيه .

لم يطل مكوثي ، فقد حضرني الادراك بلا جدوى بقائي ، ولكنه نغص في . . لأسائل نفسي . . حين أموت ولم أعد من مكون الزمن اللامتناهي . . من أي نوع سأكون عليه منهم ؟ - بسطت نظري على امتداد المقبرة ، كانت هناك حشائش وشجيرات متناثرة ، ونسمات عليلة بهواء بارد تهتجن بين اللحظة والأخرى بروائح التعفن وعبق الجثامين المتحللة في مكون التربة – ادركت أني مكثت بعض أيام ، لم تعد أرواح الموتى تتصدر اهتمامي ، كانت تأتي مجاميع بين الفترة والأخرى لدفن موتى جدد . . وزيارات لأفراد لقبور من عنوا لهم عاطفيا لسقاية القبر وزرع شتلات الشجيرات العطرية أو وضع الزهور ، بين محدث همسا إلى ميته – بين التعاطف معه أو افراغ غضبه عليه أو على رحيله - أو الدعاء له . . ممن كانوا على دين سماوي – كان اخر ادراك لمسته . . فارق القبور ، فمن كان ذا مال ينتصب له قبرا مكلفا ومحاطا بتنسيق جمالي من الزهور والروائح العطرية دلالة على الرخاء . . ومثله من كان على حظوة ورفع المكانة . . كان زائريه – فيما يصلني السمع والرؤية لما يقولونه أو يسلكونه من ادب مستصغر لذواتهم في حضرة قبر الفقيد – يعبر عن الوهية لشخصه بالنسبة لهم ، أما البقية فهي قبور رخيصة ومتلاشية الأثر عند من هم اشد فقرا ، تتوزع اقوالهم بين حرقة الفقد لموتاهم والترحم لهم وبين التصبير لهم بأنكم الراحلون ونحن اللاحقون .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي