الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيولُ ربيع الشمال: 29

دلور ميقري

2023 / 6 / 19
الادب والفن


أخذ دارين الحافلة الكبيرة، المتوجّهة إلى مركز المدينة، وكانت تضجّ بهذيان السكارى وغالبيتهم من الشبان. نزلَ بعدئذٍ عند المستشفى المركزي، ثم تابعَ المسيرَ لدقائق قليلة وسط بعض ذلك الرهط من السكارى. فلم يصل إلى مدخل " فلوستريت " قبل الساعة العاشرة. بادرَ ثمة في غمرة الزحام إلى إجتياس الصالة الصغيرة بعينيه، فلم يعثر على صديقته. فانتقل إلى الصالة الكبيرة، ومن ثم إلى الدور الثاني، أينَ لمحَ جيني وكانت داخل حلقة الرقص. تقدّمَ منها، فبادرت إلى عناقه: " أنتَ تبحث عن جوليا؟ "
" أجل "
" لقد كانت هنا في أول الليل، وأظن أنها تركت الملهى عقبَ رؤيتها لي "
" أتمانعين أن نشربَ قدحاً في البار؟ "
" إذا كنتَ تدعوني، فلا أمانع بالطبع "، ردّت ضاحكةً. جلسا هناك على كرسيين عاليين بمقابل الكونتوار، وكان صوتُ الموسيقى الراقصة مُصمّاً. سألها فيما كانَ يرشفُ الشراب، عن سبب خصامهما، هيَ وجوليا. هزّت رأسَها، وأجابت بنبرة حزينة: " طلبت مني أن أقرضها مالاً، لكنني رفضت. لقد أستدانت عدة مرات، دونَ أن تأبه برد مالي. لذلك غضبت مني بشدة، ولم تتوانَ عن القول بأنني أقيمُ لديها مجاناً ". أمسكت قليلاً عن الكلام، ثم تابعت: " مع أنكَ تعلم، ربما، أنني أملكُ شقة؛ وأنني إذا كنتُ أعيش تحت سقفها، فذلك بناءً على رغبتها هيَ ".
سألها دارين، مُغيّراً بوصلة الحديث: " أتعتقدين أنها عادت إلى البيت أو ذهبت إلى ملهى آخر ". فكّرت جيني هنيهة، قبلَ أن تقول: " أرجّحُ أنها ذهبت إلى ألكسيس، لو كانت تبحثُ عمن يمنحها البودرة مجاناً ". عندئذٍ، خفقَ قلبُ دارين بشكلٍ موجع: لقد صدقَ حَدَسَه، وحصلَ ما كانَ يخشاه.
أسرعَ بشرب قدحه، وما عتمَ أن ودّعَ الفتاة وإتجه إلى ناحية باب الملهى. طوال الطريق، المُفعم برطوبة النهر، كانَ يغلي من الغيظ والغيرة. أفكارٌ تائهة، عَبَرَت في رأسه: " أمنَ المُمكن أن يصل بها الإدمان، حدّ العودة إلى حسين؟ أم أنها ستهتدي إلى تاجر مخدرات آخر، يُقايض جسَدَها الرخص بالبودرة؟ ". بالرغم من عدم إعتياده على حمل مطوى بجيبه، فإنه تخيّل نفسه وقد طعنها حتى الموت حينَ ضبطها مع ذلك الرجل.
ثمة في " ألكسيس "، كررَ بشكلٍ آليّ ما فعله في الملهى السابق. جالَ بعينيه بحثاً عنها هنا وهناك. لما أخفقَ في العثور عليها، نقل بصرَهُ إلى الزاوية، المُتزاحم فيها لاعبو الروليت. إنجذبت عيناهُ، على الأثر، إلى عينيّ رمو. وكانَ هذا أحد أربعة شبان، يقفون هناك، ويعرفهم بالطبع دارين: حسين الإيراني، وعباس اللبناني وصاحبه كمال.
إذا بربيب البيض، يشيرُ بإصبعه إلى دارين بحركةٍ؛ فهمها هذا الأخيرُ أنها إشارة توعّد أو تهديد . فاندفعَ نحوَ خصمه، ممتلئاً أصلاً بمشاعر الغضب والغيظ. كمال، وكانَ الوحيد بين المجموعة مَن انتبه لجليّة الأمر، خطا بدَوره إلى الأمام: " أنتما أكثر من صديقين، ومن المُعيب أن تتعاركا أمام الغرباء "، خاطبَ دارين بالكردية فيما يحولُ بينه وبين الآخر. كذلك بادرَ عباس لجر رمّو إلى ناحيته، وأخذ بالتكلم معه. بعد بضع دقائق، كانَ الخصمانُ يتبادلان الكلامَ بودّ وكأنما شيئاً لم يحدث بينهما.
وقال رمّو بصوته الأجش: " هلمّ ننأى بنفسينا قليلاً عن حلقة الروليت ". حالما أنفردَ بدارين على مبعدة من أصدقائه الآخرين، قال له: " لعلمك أنا تركتُ نسرين، بعدما تأكّدَ لي صحّة كلام نيازي عن علاقتها بابن أخيه. باختصار يا صاحبي، إنها عائلة مُنحلّة! ". لم يهتم دارين بكلامه، هوَ مَن أتى إلى هذا الملهى كي يبحث عن جوليا. أكتفى بهزّ رأسه، تعبيراً عن التفهّم. بقيَ الآخرُ يجولُ في نفس الموضوع، لحين أن أستأذنه دارين بالقول: " أودّ أن أشربَ قدحاً، هناك في البار "
" أتعلم أن نورو هنا أيضاً؟ أظنه يرقصُ مع إحدى السكّيرات "، قالها رمّو ضاحكاً. كانَ هذا ما توقّعه دارين أيضاً، وكانَ يعرفُ فوقَ ذلك أنّ ملّاك الأراضي لو رآه فلن يدَعه وشأنه. هكذا مضى بحذر إلى قرب الدائرة المخصصة للرقص، لينقل عينيه بين الراقصين في محاولة أخيرة للعثور على جوليا. في حقيقة الأمر، كانَ يبغي التجسسَ عليها وليسَ مقابلتها. فلحظ وجودَ نورو، وكانَ جالساً مع إمرأة أربعينية يتبادلان حديثاً فكهاً. وإذا الموسيقى تتوقف، ليُعلن رئيسُ الفرقة عن فقرة ستربتيز. صدحت الفرقة بعدئذٍ بموسيقى هادئة، وعلى أنغامها ظهرت فتاتان بملابس برّاقة، شبيهة بما ترتديه بنات السيرك. أخذتا بنزع ثيابهما قطعة تلوَ قطعة، فيما الجمهورُ يقابل ذلك كلّ مرةٍ بالصياح والصفير. بعضُ الحاضرات، أخذنَ بتقليد الفنانتين، فرحنَ يخلعنَ بدَورهن ثيابهن وإن بصورة سريعة وصاخبة.
" آه، هيَ ذي جوليا "، هتفَ دارين في نفسه حالما رأى صديقته. كانت عارية تماماً، ثمة داخل دائرة الستربتيز. صارت تُرقّص مؤخرتها للجمهور، الذي كانَ مُهتاجاً تماماً. على حين غرّة، التقت عيناها بعينيّ دارين. ظلت لثوانٍ تحدّقُ فيه، وفي الأثناء كانَ العرضُ قد أنتهى. ما أسرعَ أن لملمت جوليا ثيابها من الأرض، ثم ذهبت لتتناول حقيبة يدها من على إحدى الطاولات. بعدئذٍ اتجهت إلى ناحية دارين، لتخاطبه لما حاذته: " إتبعني! ". ثم أكملت طريقها باتجاه إحدى المقصورات، المنذورة للزاهدين بالرقص والراغبين بالثرثرة بعيداً عن جلبة الموسيقى. مشى دارين بأثرها، وهوَ يلاحظ بحنق وغيرة كيفَ كانَ الرجالُ يلاحقون بعيونٍ شبقة ردفَيْها ويعلّقون على كبرهما وحُسنهما.
في المقصورة، خاطبته باستهتار، مومئة برأسها إلى المكان الخالي من مريدي اللهو: " ما رأيك أن تضاجعني هنا؟ ". ثم أتبعت ذلك بالاستلقاء على ظهرها وفتح ساقيها. بقيَ دارين يُراقبها بصمت، وكانت الجلبة في الخارج قد هدأت تماماً. بعد لحظات، بادرَ إلى رمي ثيابها عليها: " هلمّ نخرجُ من الملهى "
" لقد وعدتُ شخصاً آخر بالخروج معه "
" أنتِ لا تعنين حسين، أليسَ صحيحاً؟ "
" بالطبع ليسَ حسين "
" مَن هوَ، إذاً؟ "
" ليسَ من شأنك أن تعرف مَن هوَ "، قالتها فيما كانت ترتدي ملابسها. أرادَ ضربها، لكن فجأةً واتته فكرةٌ مُلهِمَة: " قد تكونُ على موعدٍ مع فتاة؟ لِمَ لا، وهيَ ربيبةُ السحاق! ". هدّأته الفكرة قليلاً. قالَ لها بعد وهلة صمت، وقد عدلَ عن الجدل: " أيمكنني الحصولُ على مفتاح الشقة؟ ". كانت قد أعطت المفتاحَ البديل لجيني، وبعد خصامهما نسيَ أن يطلبه مجدداً. كانَ جوابُ جوليا، أن أطلقت أولاً ضحكة مجلجلة: " إذاً أنتَ لا تغار عليّ، ما دمتَ تعتقد أنني سأخرجُ مع صديقة؟ ". لقد كانت موهوبة في قراءة الأفكار، ولولا إدمانها لكانت قد أضحت عرّافة.
تأزّمَ الموقفُ من جديد. فما عتمَ دارين أن نفخَ بقنوط: " تتكلمين عن الغيرة، وكانَ الأجدرُ بكِ أن تأبهي ولو قليلاً بمشاعري ". قالت جوليا ببساطة، بنبرة مَن يلقي درساً: " لا أدري حقيقةً، لِمَ أنتم الشرقيون تفرّقون بين عشيق المرأة وعشيقتها؟ أليسا هما سواءُ في هدف الممارسة الجنسية؟ "
" أنا أراعي مشاعركِ، وكانَ في وسعي الليلة أن أخرجَ مع فتاة "
" أهيَ جيني؟ بلى هيَ. أظنك التقيتها هناك في فلوستريت، لما ذهبتَ كي تتجسس عليّ "، قالت بنبرة واثقة. كانت الآنَ قد أنهت إرتداء ملابسها، وما لبثت أن مدت يدها إلى حقيبتها الصغيرة: " هاكَ المفتاح، فلعلك تودّ أيضاً ضبطي الليلة مع عشيقي ". لكنّ العرّافة لم تتكلم عن إحتمال قيامه بقتلها في تلك الحالة، ربما لعلمها المُسبق أنه لا يحملُ مطوى.
بعد كل شيء، أمتنعَ دارين عن أخذِ المفتاح. لكنه لم يُعلّق على كلامها، وترك يدها ممتدة فيما هيَ تنظر إليه في شيءٍ من الحيرة. هكذا استدارَ وخرجَ من المقصورة، ومن ثم غادرَ الملهى في طريقه إلى الكُريدور: إنه شاءَ ألا يفقدَ كرامته تماماً، ألا يتحوّل إلى رمّو آخر.
وفي ذلك السكون، المُطبق على المدينة والليلة باتت في منتصفها إلا قليلاً، فكّرَ بميديا على خلفية تعبير رمّو عن " العائلة المُنحلّة ". رجّحَ دارين عندئذٍ، أن الفتاة قد تكونُ مجرّدَ ضحيةٍ للنميمة مثلما كانت ضحية لنزواته: " ولعلها ما فتأت تنتظرني، بالرغم من يقيني بأنني لم أعُد الشخصَ المُرحبَ به ثمة، في منزل السيّد حيدر ". تلك الفكرة، بالتالي، لم تمنحه السلوانَ المطلوب وهوَ في غلواء غيرته وغضبه ويأسه وإحباطه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب