الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البيداغوجيا النقدية في عصر السياسات الفاشية(2من 3)

سعيد مضيه

2023 / 6 / 19
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


لا يتوقف الأكاديمي الأميركي، هنري غيروكس، عن التحذير من أخطار الفاشية على الثقافة والتعليم ، والإهابة بالمثقفين وجميع انصار الديمقراطية بان يتعاملوا مع التربية قضية سياسية بامتياز؛ فالتربية محور الصراع الاجتماعي في الوقت الراهن، ذلك أن الصراع يدور لكسب وعي البشروالتحكم في ردرود افعالهم ومعاييرهم والقيم الموجهة للسلوك.
يتناول الباحث البيداغوجيا ، وهي الوسائل والأساليب المعتمدة في التعليم ، مثل التعليم التلقيني والعنف المدرسي ونهج الأوامرية والعقوبات المستعملة ضد الطلبة فهذه يعتبرها غيروكس بيداغوجيا لنظم القمع والاستبداد، تمهد الطريق للفاشية كنظام سياسي. مقابل هذه البيداغوجيا يقدم الباحث بيداغوجيا نقدية وتعليم حواري.

في هذا البحث المتعمق يعرض الأكاديمي أزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة مقرونة بازمة التعليم العام والعالي، يفاقمها هجوم الفاشية، كما هو جار بصورة متعمدة ومنهجية في الولايات التي يحكمها جمهوريون. يجري بالولايات المتحدة إرساء ظواهر فاشية في التعليم المدرسي والجامعي وفي السياسة والقضاء والثقافة والإعلام والجوانب الأخرى من الحياة الاجتماعية. ولا يتبقى غيران يفوز الفاشيون بالأغلبية في الانتخابات كي يباشروا بإدارة نظام فاشي مكتمل الأركان. وحيث ان الديمقراطية تتطلب جماهير مطلعة وواعية فإنه يحذر من أن "النشاط السياسي يفقد إمكاناته التحريرية إن هو عجز عن تقديم الشروط التعليمية لتمكين الطلبة وغيرهم من التفكير في المجهول، والتحقق من ذواتهم أفرادا مطلعين نقديين ومنخرطين بالعمل. فلا وجود لنشاط سياسي للتحرير بدون بيداغوجيا قادرة على إيقاظ الوعي وتحدي الإدراك العام وإبداع انماط للتحليل يكتشف الناس من خلالها لحظة إدراك تمكنهم من إعادة التفكير بالظروف التي تشكل حيواتهم".
البلدان العربية تخضع حاليا لنظم حكم أشبه بالفاشية، ثبتت نظما تعليمية باتت تقليدية بتعاقب العقود، وظيفتها تخريج أجيال لا تنتمي لوطن او مجتمع، نفس النمط الذي يدأب الفاشيون بالولايات المتحدة ودول اخرى على الحط من نظمهم التعليمية ليبلغ مستواه . فكل ما ترمي اليه قوى الفاشية بالولايات المتحدة سياسيا وتربويا وثقافيا ويحذر من أخطاره البروفيسور هنري غيروكس قائم وطيد الأركان في مجتمعاتنا العربية. قسم البحث الى أجزاء ثلاث كي يمكن التمعن في القراءة واستيعاب مقصد الباحث المتمر في شئون التربية والتعليم.


التعليم قوة ثقافية

من الأمور الحثيثة ان يعلم المربون ان التعليم والتدريس بالمدارس ليسا نفس الشيء؛ يجب النظر الى المدرسة مجالا متميزا عن قوى التعليم العاملة في الثقافة الأوسع. بالطبع نقطة الانطلاق ان طيفا من الأجهزة الثقافية ممتدا من السوشيال ميديا ويقدم الخدمات لظهور الذكاء الاصطناعي ومنابر الميديا الخاضعة للاحتكارات يشكل أيضا آلية تعليم ذات قوة ونفوذ هائلين؛ والمشترك بين المدرسة والمجال الأوسع للتعليم انهما في الأغلب يعملان بالترابط فيما بينهما لتشكيل وتنسيق علاقات اجتماعية مهيمنة تمثل الأفكار الشائعة للإدراك العام وتفتحان آفاقا مفاهيمية وانماط الهويات والعلاقات الاجتماعية من خلالها تتشكل الهويات والوعي وتأخذ مشروعيتها. في عصر البربرية الراهن وسحق المعارضة هناك حاجة لأن يعترف المربون كيف تعمل الثقافة والبيداغوجيا الأوسع كقوى تعليمية وسياسية في خدمة النشاط السياسي الفاشي والأنماط الأخرى للاستبداد ؛ في ظل هذه الظروف على المربين وغيرهم ان يتساءلوا ليس فقط ماذا يتعلم الأفراد بالمجتمع بل ماذا يتوجب ان لا يتعلموا ، وأي المؤسسات تقدم لهم الشروط لذلك. مقابل تلك الأجهزة الثقافية التي تقدم بيداغوجيا الأبارتهايد ، بيداغوجيا الاضطهاد والتمثل – المتجذرة في الرقابة والعنصرية وقتل التخييل – تلح الحاجة لمؤسسات نقدية وممارسات بيداغوجية ترفع من قيمة ثقافة التساؤل ، وتنظر الى المهارة النقدية الشرط الجوهري الأساس للحياة العامة وترفض الأدلجة لصالح البحث عن العدالة داخل الحيزات التعليمية العاملة كمجالات ديمقراطية عامة .

دعوة للانتقال بالوعي

أي بيداغوجيا مقاومة قابلة للحياة تتطلب ابتكار رؤى وأدوات تعليمية وبيداغوجية تفضي الى انتقال جذري، يجب ان يكون بمقدورها التعرف على كل من سياسات الأرض المحروقة لليبرالية الجديدة والإيديولوجيا الفاشية الملتوية التي تدعمها؛ هذا الانتقال بالوعي لا ينجز إلا بتدخلات بيداغوجية تخاطب الناس بوسائل تمكنهم من التعرف على انفسهم، والتماهي مع القضايا المطروقة، وإحلال خصخصة متاعبهم ضمن سياق منهجي أوسع . يجب على تعليم موجه لتعزيز القدرات، ويعمل كممارسة للحرية ان يوفر بيئة غرف صفية صارمة ونقدية معرفيا بينما تتيح للطلبة التعبير عن خبراتهم وتطلعاتهم وأحلامهم. يجب ان تكون حيزا واقيا وشجاعا ، يتمكن الطلبة فيه من التحدث والكتابة والتصرف من موقع الذهنية المتفتحة والأحكام القائمة على المعرفة . يجب ان تكون الغرف الصفية الحيز الذي يؤدي فيه التعليم دور الجسر، يربط المدرسة بالمجتمع الأوسع، ويدمج الذات بالآخرين، ويقارب قضايا اجتماعية وسياسية هامة . كذلك يجب ان تتوفر بالصف المدرسي الظروف لكي يتعلم الطلبة كيف يعقدون الصلات بإحساس متزايد بالمسئولية مقرونا بإحساس بالعدالة. تتجذر بيداغوجيا ممارسة الحرية في مشروع اوسع لديمقراطية متجددة وثورية- ديمقراطية لا تكف عن توجيه أسئلة من صنف الممارسة العملية ، وانماط المعرفة الصادرة عن التعليم العام والعالي.

إذا أريد إلحاق الهزيمة بالسلطوية البازغة والفاشية المعاد إحياؤها بالولايات المتحدة وكندا واوروبا واماكن اخرى ، تبرز الحاجة لجعل التعليم النقدي المبدا التنظيمي للانشطة السياسية، وذلك يمكن القيام به جزئيا بلغة تعري الأكاذيب ومنظومة الاضطهاد وعلاقات السلطة الفاسدة، وتنفلها؛ بينما توضح ان مستقبلا بديلا ممكن. كانت حنة آرندت[ فيلسوف ألمانية شيوعية] محقة في قولها ان اللغة عنصر جد مهم في إبراز "العناصرالمكررة " والمخفية على الدوام ، والتي تتيح إمكانية السلطوية.
Hannah Arendt, Origins of Totalitarianism (New York: Harcourt Trade Publishers, New Edition, 2001
لغة البيداغوجيا النقدية وإزالة الامية أدوات قوية في البحث عن الحقيقة والتنديد بالكذب والجور؛ كذلك من خلا ل اللغة يمكن تذكر تاريخ الفاشية ويوضح ان الفاشية، حتى في أوسع الديمقراطيات، ليست ماضيا سلف ولا يغط رسْمُها في سبات عميق. يتسيد الجهل اميركا في الوقت الحالي ؛ ليس الجهل البسيط ، ولو كان بريئا، هو ما يسفر عن تغييب المعرفة، إنما جهل مصنوع حقود تم اجتراحه أثناء عربدة رفض التفكير الجاد والنقدي في القضية، والانخراط في البحث عن العدالة. كان جيمز بالدوين[ روائي أميركي] محقا بكل تأكيد حين أصدر التحذير الصارم في روايته "لا أسماء بالشارع" من أن الجهل المتحالف مع السلطة هو العدو الأشد نكالا للعدالة". نُخَب الحكم والحزب الجمهوري الحديث يتصورون التفكير من اعمال الغباوة، بينما تكمن الفضيلة في عدم التفكير . تبرز آثار التفكير النقدي شيئا فشيئا على تخوم الثقافة ، كما يغدو الجهل المبدأ التنظيمي الرئيس للمجتمع الأميركي وفي عدد من البلدان الأخرى في المعمورة. إن ثقافة الأكاذيب والجهل تخدم الأن اداة للنشاط السياسي المكرس لمنع محاسبة السلطة.
في ظل هذه الظروف ينشب هجوم كامل العدة والنطاق على المنطق التفكيري، والتخييل المتعاطف.تشبه ديكتاتورية الجهل، بسبل معينة،"إبادة الأخلاق"، حسب رؤية جون بيرغر[كاتب سيناريو، ومؤرخ الفن، وكاتب، ورسام وروائي، وصحفي وشاعر، وناقد فني ومؤلف، كان أحد أبرز النقاد المعاصرين، وأكثر كُتّاب جيله تأثيرًا، من المملكة المتحدة، توفي عن عمر يناهز 91 عاما]، وعرّفها جوشوا سبيرلينغ[رسام تشكيلي]" "ثلم الأحاسيس تفريغ اللغة من المعاني وشطب الرابطة مع الماضي ، موات المكان والأرض والتربة ؛ وربما كذلك محوحتى مشاعر معينة مثل الشفقة، التعاطف، التعزية، السلو او الأمل ". جرى تشويه كلمات مثل الحب ، الثقا، الحرية، المسئولية والاختيار من خلال منطق السوق والسلطوية اللذين يضيقان المعنى الى مجرد سلعة او فكرة تبسيطية للمصلحة الذاتية ، او تفعيل لغة الكراهية والتعصب.
الحرية ، في هذا السياق(الموات) ، تعني نخليص الذات من كل إحساس بالمسئولية الاجتماعية ، وتسهيل عملية التراجع الى مدار مخصخص للانشغال بالذات ومع مجتمعات الكراهية. تكتسب مثل هذه التصرفات المشروعية من خلال نداء الحريات البشعة حسب إليزابيث آنكر[ أستاذة مساعد للدراسات الأميركية والعلوم السياسية بجامعة جورج واشنطون ومخرجة افلام سينمائية] ، يعني حريات مفرغة من اي مضمون يتخذها السياسيون من اليمين المتطرف والميديا الخاضعة لسيطرة الاحتكارات وسيلة لتشريع خطاب الكراهية والتعصب ، وفي نفس الوقت تعمل بنشاط لإبعاد الناس عن السياسة عن طريق إشراكهم في التواطؤ مع قوى معادية، تفرض البؤس والمكابدة على حيواتهم.
في ضوء الازمة الراهنة للنشاط السياسي والتاريخ والذاكرة يحتاج المربون لغة سياسية وبيداغوجيا جديدة لمقاربة السياقات والقضايا المتغيرة التي تواجه العالم ،حيث القوى المناهضة للديمقراطية تتزود من جماع مصادر غير مسبوقة – مالية، ثقافية، سياسية، علمية، عسكرية وتكنولوجية – كي تمارس مختلف أشكال السيطرة القوية.
تضم البيداغوجيا النقدية ، باعتبارها ممارسة سياسية واخلاقية، لغة نقدية وبصيرة بالامكانيات في كفاحها من اجل إنعاش المعرفة المدنية والنشاط المدني وفكرة عن مواطنة مشتركة وفاعلة. النشاط السياسي يفقد إمكاناته التحريرية إن هو عجز عن تقديم الشروط التعليمية لتمكين الطلبة وغيرهم من التفكير في المجهول، والتحقق من ذواتهم أفرادا مطلعين نقديين ومنخرطين بالعمل. فلا وجود لنشاط سياسي للتحرير بدون بيداغوجيا قادرة على إيقاظ الوعي وتحدي الإدراك العام وإبداع انماط للتحليل يكتشف الناس من خلالها لحظة إدراك تمكنهم من إعادة التفكير بالظروف التي تشكل حيواتهم.

الأكاديميون كمثقفين عموميين

مقابل الفاشية البازغة على المثقفين التكفل بدور المثقفين العموميين والمخترقين على نطاق أوسع للسياقات الاجتماعية . مثال ذلك تتضمن القدرة أيجاد السبل ، إذا امكن ، لمشاركة الأفكار مع الجمهور الواسع عن طريق الاستعانة بتكنولوجيا الميديا الجديدة وسلسلة من الأجهزة الثقافية الأخرى، وبشكل خاص تلك المنافذ الراغبة في المقاربة النقدية لسلسلة من المشاكل الاجتماعية. بمقدور المثقفين ، وهم يمارسون دورهم مربين للمواطنين، مخاطبة أعداد اكبر من الجمهور بلغة واضحة ، مقبولة وصارمة. وإذ ينتظم المعلمون بالمدارس العامة كي يؤكدوا دورهم كمربين للجمهور في الديمقراطية ، فإنهم يستطيعون اجتراح تحالفات وروابط جديدة لتطوير حركات اجتماعية تستوعب وتتوسع الى أبعد من العمل ببساطة مع النقابات. على سبيل المثال نرى بينة على مثل هذه الأفعال في أوساط معلمين وطلبة ينتظمون لمقاومة العنف والعنصرية المنهجية والقيام بذلك عن طريق عقد ائتلافات مع الآباء والنقابات وغيرهم، لكي يكافحوا ضد لوبيات السلاح وضد سياسيين يباعون ويُشترون من قبل صناعات العنف.
يأخذ التعليم موقعا مرموقا للسلطة في العالم المعاصر ، وللبيداغوجيا النقدية دور رئيسس تلعبه في فهم كيف يتم إقرار السلطة والمعرفة والقيم وتثبيتها ومقاومتها داخل وخارج الخطابات التقليدية ومجالات الثقافة، وكيف يتم تحدي كل ذلك. إن هذا يفيد بأن أخطر تحد يواجه المعلمين والفنانين والصحفيين والكتاب والآباء وغيرهم من شغيلة الثقافة يكمن في مهمة تطوير الخطابات والممارسات البيداغوجية التي تربط القراءة النقدية للكلمة وللعالم ، كما أكد باولو فريري من قبل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما أهمية معبر رفح لسكان قطاع غزة؟ I الأخبار


.. الالاف من الفلسطينيين يفرون من رفح مع تقدم الجيش الإسرائيلي




.. الشعلة الأولمبية تصل إلى مرسيليا • فرانس 24 / FRANCE 24


.. لماذا علقت واشنطن شحنة ذخائر إلى إسرائيل؟ • فرانس 24




.. الحوثيون يتوعدون بالهجوم على بقية المحافظات الخاضعة لسيطرة ا