الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بابلو بيكاسو و«دورا مار»: عشق واستلاب

رويدة سالم

2023 / 6 / 20
الادب والفن


من بين السبع نساء اللاتي شاركنه حياته، تمكنت واحدة فقط وهي «دورا مار» من التأثير في بابلو بيكاسو وإن وقعت في شراكه وطبع حياتها بعده بشكل لا رجعة فيه.  ولدت من أب يوغوسلافي وأم فرنسية وترعرعت في الأرجنتين قبل أن تنتقل في سن التاسعة عشر إلى فرنسا وتستقر فيها. حين تعرفت على بيكاسو الرسام والنحات والفنان التشكيلي الإسباني وأحد أشهر الفنانين في القرن العشرين ومؤسس الحركة التكعيبية ، لم تكن هشة ولا معوزة لكن امرأة مشهورة وذات شخصية قوية، تتمتع بإرادة حرة وثقة كبيرة في النفس وتتحدى جميع الأعراف وتلبس ثياب الرجال كما كانت أنيقة جدا تهوى اعتمار القبعات التي كانت تتحوّل بريشة بيكاسو الى اشكال عدة تتراوح بين الفكاهة والبارودي. وكانت هذه الصديقة لبرتون ودو براساي – الذي دربها مع مان راي على التصوير الفوتوغرافي- تدير استوديو تصور فيه عارضات ووجوه شهيرة من كل باريس. وقد أنتجت عدة صور فوتوغرافية سريالية وبورتريهات وريبورتاجات مذهلة وصور موضة. إلى ذلك كانت منخرطة في العمل السياسي مع بعض الجمعيات اليسارية صحبة عشيقها الكاتب الاشكالي «جورج باطاي» والشاعر «بول ايلوار» Paul Eluard.
التقيا لأول مرة في ثلاثينات القرن العشرين وكان هو في ال54 وكانت هي في ال28، وتمّ لقاءهما في مقهى ال"دو ماغو". كانت «دورا » تجلس وحيدة وقد وضعت احدى يديها على الطاولة ثم تناولت سكينا حادا وشرعت في غرزه بين اصابعها بسرعة في خبطات متلاحقة ف"حققت نجاحا في معظم محاولاتها لكن اخفاقها في مرات قليلة جعل قفازها مخضبا بالدماء" على حد تعبير بيكاسو الذي احتفظ بالقفاز الدامي. وهكذا لفتت بصباها وجمالها وزينتها وتعاملها الحرّ مع الحياة انتباهه فطلب من بول صديقهما المشترك تعريفه عليها. عزز انبهار بيكاسو الفكري بها والذي يؤكده قوله:"يمكن الحديث مع «دورا» كما نتحدث إلى رجل" علاقة الحب العنيف والتراجيدي الذي جمعهما. وهو حب نغّم حياة بيكاسو مثلما وقّع الغضب والطاقة المتفجرة وغزارة الالوان والحرائق رسومه. لذلك كانت السنوات التي عاشاها معا سنوات ابداع وابتكار حضر فيها التاريخ بقوة ولعبت فيها تلك الملهمة والموديل والعشيقة التي كانت تجلس معه لساعات يتحاوران ويتناقشان دَورًا اساسيا وبالغ الرسوخ في حياته وفي فنه إذ اخذته إلى عوالم جديدة ومنحته طاقة فنية جددت ملكته الابداعية. كما انعشت انتماءه الوطني ودفعته إلى اتخاذ مواقف مؤيدة للجمهوريين الاسبانيين فانضم إليهم ومع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية شهدت «دورا مار» مولد الغارنيكا (1937) الأثر الفني الخالد الذي يتفق العديد من النقاد على أنه «رائعة القرن العشرين» في ميدان الرسم وقد تابعت اكتماله وهي تقوم بريبورتاج حقيقي عن اللوحة في طور التشكل مخلدة "معلمها" الذي وصفته بأنه "مبدع حقيقي" وهو يرسم وكان تصويرها له البادرة الأولى في صناعة المونتاجات في تاريخ التصوير الفوتوغرافي. وقد طلب منها الدخول هي ذاتها في العملية الابداعية فتركت التصوير وتعلمت الرسم واندمجا في العمل معا. وكان دَورُها هو تخمين نقاط القوة والضعف في اللوحة ومشاركته في رسم خطوطها السرية. بيد أن القصة لم تتوقف هناك.

بيكاسو المينوتور:
كان بابلو بيكاسو، صاحب مقولة : الرسم" ليس عفيفا مطلقا"، مغرما جدا، إضافة إلى الفن، بالنساء ولك يكن في علاقته بهن وفيّا وكان يدرك أنه متطلب في الحب وذو مزاج ذكوري متسلط وأنه عنيف وغريب الأطوار وغيور ومفرط في التملك. وقد كانت حياته شكلا من باليه متواصل، موسيقاه هي أثره الفني العظيم وراقصاته هن ملهمات وحوريات وزوجات وعشيقات وعاهرات. منحنه كلهن، من أولغا خوخلوفا إلى ماري تيراز والتر ومن فرنسواز جيلو والى جاكلين روك، القوة ليتقدم ودفعن ثمنا لذلك خسارتهن لأنفسهم أو حتى موتهن كما لو أن مرسمه كان يجب أن يتشابه مع حلبة قتال دامية يراقص فيها بيكاسو، المغرم بمصارعة الثيران وعمليات القتل التي تتردد كثيرا في لوحاته، من اعتبرهن مفاتيح لرسوماته ورحما لولادة ابداعاته وقنوات عبور لفضاءات مجهولة كان يحاول أن يجتازها حد الاستنزاف الكلي لرفيقته في فالس الفناء. ولقد أفعمت غريزته الوحشية تلك، والتي تختلط فيها الثقافة الاغريقية بطابعها التراجيدي مع الإسبانية بالإشعاع العمودي للشمس فيها، لوحاته مبرزة بشكل لا مراء فيه علاقته بالنساء. وهي علاقة يمكن أن نستشفها من خلال رسمه لهن ضمن ما يشبه إطارا يتكون من خطوط أفقية وعمودية تهيمن على خلفية اللوحة وتحتويهن داخل مساحة ضيقة. وهو كناية عن رغبة غير معلنة في إخضاعهن لهيمنته وسجنهن داخل عالمه الشخصي: ودليل ذلك قيامه بسجن فارناندا كما يقال في شقتهما.
لئن كانت هذه هي طبيعة علاقته بنساءه الأخريات، فمن المفترض ألا يسير الأمر على نفس الوتيرة مع «دورا مار» المصورة البارعة التي تابعت، لحظة بلحظة، عبر كاميراتها مراحل إنجاز لوحته الأشهر «الغارنيكا»، تلك الصرخة المدوية من أجل الحرية ضد الفاشية الهتلرية ودكتاتورية فارنكو. لكن الواقع كان قصة أخرى.

التشضى والجنون:
عند لقائهما، كان بيكاسو يتعافى بمشقة من انفصاله عن زوجته السابقة أولغا ويعاني من القلق لعدم قدرته على إنهاء مشروعه الفني كما أنه لم يكن حرا إذ أنه كان قد رزق حينها بابنته مايا من ماري تيراز والتر رفيقته الرسمية. ورغم دور «دورا مار» الريادي في حياته الشخصية والفنية يمكن المجازفة بالقول إن طبيعته المتسلطة ولّدت لديه، رغم معرفته بموهبتها وحزمها الطبيعي وتلك الحماسة الداخلية العنيفة لتي تضطرم في داخلها، رغبة غامضة ما في إذلالها. فهل كان هو من منعها من مواصلة التصوير الفوتوغرافي وطلب منها أن تضحي به لأجله؟ ما هو معلوم هو أنها كانت معجبة بفنه وببراعته وكانت تسحرها تلك النظرة في عينيه وذلك الذكاء المبدع في أنامله ولتأثرها البالغ به ولأنها كانت متفانية تماما في حبه، فقد ضحت بعشقها الأول التصوير الفوتوغرافي وتركت مجالها الذي أبدعت فيه وتعلمت الرسم لكنها لم تتمكن أبدا من بلوغ القدرة الخلاقة لعشيقها فوجدت نفسها شيئا فشيئا سجينة نجاحه وسيطرته. وبذلك المعنى بلغ تأثير بيكاسو شكلا من الاستلاب لدى «دورا مار» فلم تعد تقدر أن تعيش دون أن تكون جزء من تدفقه الإبداعي. هل كان ذلك إستراتيجيا شاذة للمعلم؟ لا شك في ذلك. فـقد ظلّت دورا في وضعية التابعة وهي وضعية وفرت المتعة لبيكاسو الذي كانت دورا :" بالنسبة [إليه] امرأة باكية. لسنوات رسمتها بأشكال مشوّهة، لكن ليس من باب السادية أو المتعة. لم أكن أستطيع إلا تجسيد الصورة التي حفرت في مخيلتي، وكان هذا الحزن الحقيقة الكامنة في أعماق دورا مار»"، وقد خدم يأسها، الناجم عن مضايقاته لها وما شهدته من خصامه مع ماري تيراز، أعماله فصارت أيقونة إسبانيا المتألمة المعذبة وجعلت منها عيناها الكبيرتان وشعرها الغزير رمزا. لوحته التي تعود إلى 1936 والموسومة بـ«دورا مار والمينوتور» يمكنها، أيضا، أن تكشف علاقة هذا الثنائي العاشق إذ أن تلك الاستعارة تعكس جيدا طبيعة العلاقة الوحشية بين الرسام والمصورة الفوتوغرافية: يبدو الوحش العنيف كما لو أنه يتحكم في ضحيته الشابة العارية المستلقية أمامه ويكسرها بعنف. لقد نجح المينتور في عمله وشيئا فشيئا ومنهجيا قام بتمزيق ضحيته التي غدت بشكل طردي عطوب وأكثر هشاشة. وبما أنها ليست بيكاسو فقد بقيت في الأخير محطمة وحيدة وغارقة في اكتئاب غير مسبوق بعد أن هجرها سنة 1945 من أجل فرنسواز جيلو التي رسمها مثل زهرة شمسية متألقة.
بعد بيكاسو، عاشت «دورا مار» سنوات حالكة هي سنوات الاكتئاب والمعاناة النفسية. وقع احتجازها في مستشفى الطب النفسي وعالجها صديقها جاك لاكان. بعد ذلك انعزلت في ليبيرون حيث اشترى لها بيكاسو بيتا وتحولت إلى الكاثوليكية وعاشت تجربة شبه صوفية. رسومها لسنوات ما بعد الحرب كانت تختزن المعاناة بألوان العشق التي تتجلى في ومضات من الضوء هنا وهناك في بعض الأحيان. سجنت نفسها ودونت ذكرياتها مع ذلك الذي اعتبرته دوما معلمها. لقد كانت «دورا مار» مرحلة رئيسية في الحياة العاطفية لبيكاسو لكن القوة الإبداعية والشرهة للمينوتور لم تكن قادرة على الاكتفاء بذلك الحب الفريد. ورغم ذلك يمكن لـها أن تفخر لأن تلك العشرية الحزينة كانت دون شك الفترة التي كانت فيها أعمال بيكاسو الأكثر تألقا وغزارة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل