الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توابل أخرى .. في شوارع الكلام و المدن المشجرة

عبدالقادر حميدة

2006 / 11 / 2
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


نزهة الدلفين ) للروائي السعودي يوسف المحيميد
توابل أخرى .. في شوارع الكلام و المدن المشجرة

الصمت جعل منا آلهة الحكمة ،
و كأنما الكلام سيسلبنا الكثير من الضوء " ص 107
رحلة تحتفي بتفاصيلها ، غوص في البحث عن المعاني الممكنة لتجليات الأشياء ، عبث ، بكاء ، صخب ، حزن ، عنف ، صدام ، حسد ، تملص ، سحر ، غيرة ، أجواء متباينة ، أمكنة تظهر عبر أمكنة أخرى ، ثم تغيب في زحام المعاني ، دلافين هنا و هناك ، ملساء و خشنة ، ظاهرة و مستترة ، ملطخة و نقية ، حاضرة و غائبة ، بسيطة و مزركشة ، بل مستحيلة و ممكنة ، إنها رحلة لا يمكنها أن تنتهي ، بعد أن تفرعت و تعددت بداياتها ، رحلة أبطالها ثلاثة : الرجل الطويل أحمد الجساسي ، و الرجل القصير خالد اللحياني ، الأول جريء حد الوقاحة ، و مهذار حد الصفاقة ، يعني الأشياء التي يقولها ، يمشي على أرض واقعية بلا خيالات زائفة ، يحب و يكره بطريقته المباشرة و البسيطة ، و يعرض نفسه من الوهلة الأولى بكل عفوية ، و تلقائية ، و انسجام ، أما الثاني ، و ما أدراك ما الثاني ، هل هو البطل أم الكاتب نفسه ؟ .. ، خجول ، شاعر ، يهيم في التفاصيل ، يعشق حد الجنون ، و يجن حد العشق ، يرى الأشياء التي لا يراها الآخرون ، يعي المعاني جميعها و يقول حين يعنيها ، يبصر الماء ، فيفرح ، لكنه حين الدنو يجد السراب .. " كم كان وحيدا بأناقته المفرطة و هو يقرأ قصائده على المنصة ، و يبحث عن وجه حبيبته دون جدوى ، حتى شعر في لحظة حاسمة أنه يقرأ أمام مقاعد خشبية فارغة ! .. " ص 15 .. إنه رجل هذه الرواية ، فهو إلى جانب ذلك " .. شاعر شفيف ، يحب البحر و الرقص ، و الغناء ، و القصائد .. " ص 27 .. و هو مدرس جغرافيا ، يؤجر غرفة صغيرة " .. في بلدة حقل الساحلية المطلة على جبال سيناء .. " ص 42 .. ، لكن الرواية لا تدور أحداثها في هذه البلدة ، حتى و إن كانت تشكل إحدى لوحاتها بانزياح مخيالي استردادي ، بل إنها حياة و صخب ، مطارات ، أجناس ، مومسات و مراهقين ، فضاءات شرقية و أخرى غربية ، توابل تحمل الدفء ، ذكريات صاخبة و أمنيات باردة .. إنها بلدة حقل ، و دبي ، ولندن ، والقاهرة ، و خصوصا القاهرة .. فالبطل هنا ليس مصطفى سعيد الذاهب إلى هناك ، إلى ما وراء البحار في موسم الهجرة إلى الشمال ، بل إنه خالد اللحياني الذاهب من هنا إلى هنا ، رحلة لا تعتد بالجغرافيا ، بقدر ما تعتد بالتاريخ ، سفر في المكان ، إنه الشرق ، هذا العصفور سيطير من عش إلى عش في فضاء شرقي بحت ، و بحثا عن معان لدلفين حمل ما لا يحصى من الأسماء و المعاني في هذه النزهة .. لكن على الرغم من ذلك فأجواء مصطفى سعيد لا تغيب عن هذه الرحلة ، بل تطل برائحتها من حين لآخر ، ألم يروي اللحياني ما جرى له في لندن ، هناك " .. حيث العشاق يضطجعون على عشب الحدائق ، و يدخلون في برزخ العناق الطويل في الشوارع ، و يقطفون قبلا طويلة و خاشعة في المتاجر أو على الطرقات العامة ، و هم لا يشعرون بالعالم من حولهم .. " ص 39 ..
أما هي .. فكانت البطل الثالث ، عليها تنافس المتنافسان .. و إن كنا في الحقيقة لا نعيش في الرواية إلا تفاعلات شاعرنا و أحزانه ، ارتباكاته و أشجانه ، و نرصد من خلاله كل اللحظات ، و خاصة البدايات الصعبة ، و المستحيلة أحيانا ، فهو يؤكد أن " .. كل الخطوات الأولى المنتظرة في العشق لها طعم التوت و رائحة الجوافة .. " ص 28
هي .. آمنة .. المرأة القادمة من مدينة بهلا إلى القاهرة في مهمة صحفية ، ابنة امرأة جميلة جدا إلى الحد الذي جعل والدها يترك تجارته و أمواله ليلاحقها ، يقول أولاده الكبار أن أم آمنة " .. صنعت له سحرا أسودا ، فهجر بيته و أولاده و زوجته الأولى ، و صار يلهج باسمها : فاطمة " ص 21 .. لأنها من " .. مدينة اشتهرت بالسحرة ، ذات جبل اسمه كور ، فيه نهر صغير ينساب أسبوعا للإنس و ينضب أسبوعا آخر .. لكنه كان ينساب بشكل لا مرئي للجن .. " ص 21 ..
هي آمنة إذن .. من سحرت شاعرنا بدلفينها القرنفلي فهام على وجهه في القاهرة .. ساحرة جعلت الرواية من بدايتها إلى نهايتها ، و إن كنا نجزم أنها لم تنته بعد ، بل نعتقد أن الروائي يوسف المحيميد سكت عن الكلام المباح ، لأنه سيتجلى حتما عند الصباح برواية أخرى ، فلا يمكن للساحرة أن تنضب أجواءها .. و ذاك ما شعرناه و شدنا ، فجعلنا نرمل وراء محطات الرواية ، و نغذ السير في حواري القاهرة و لياليها الصاخبة ، ترصدا لحركة الثلاثة .. ألم تبتدئ الرواية بعبارة كأنها الشعر ، عبارة تستحق أكثر من وقفة تأمل ، و أكثر من قراءة :
كانوا ثلاثة
امرأة و رجلين ..
و ربما هذه هي كل الحكاية .. و ربما هذه هي واسطة عقد الحكاية .. و ربما هذا هو المفتاح لقفل الحكاية .. أو شفرتها ..
و إذا كنا قد أدركنا سر الحكاية ، فلا مناص من أن نعرج على بعض ألوانها ، و زواياها ، و تجلياتها .. فأم خالد اللحياني " .. كانت تفتقده في تبوك كل عطلة نهاية أسبوع ، و تبكي ، حتى عرفت أنه ترك عمله في المدرسة الابتدائية ، و نسي خرائط جغرافية العالم ، و لم يبق أمامه سوى خريطة كفين سمراوين .. " ص 42
و لو أن المعركة بينه و بين الجساسي كانت لصالحه لهان الأمر ، و لكن آمنة تعترف في هدوء في أحد إلتواءات الرواية " .. لا أعرف إن كنت أحبه مثلك أو أقل من حبك قليلا .. " ف " .. كان خالد لا يكف عن البكاء الصامت ، لحظة أن اكتشف خيانة أنثاه الدلفين .. " ص 45 ..ثم ما نلبث أن نجد تأكيد ذلك في موضع آخر " .. يبكي بطريقة تشبه صمته .. " ص 78 ..
هذا الخجول ، المرتبك ، المتناقض ، بطل حقيقي ، نحس فيه ، صراع الشباب الحالي ، و نقائضه ، أحلامه ، و خيالاته .. بينما نجد في الجساسي صرامة رولان بارت ، و تفكيك دريدا ، إنه وجه آخر من وجوه التناقض " .. لقد وقف مرارا على منبر الجامع خطيبا في صلاة الجمعة مطلع الثمانينيات الميلادية .. " ص 97 .. و " .. كان سيصبح قياديا إخوانيا ، لولا أن وشى به زميله بأنه يسمع المنكرات في غرفة السكن ، حتى وبخوه حول سماع الموسيقى ، لكنه أصر .. " ص 98 ..
كان أحمد الجساسي إذن إخوانيا يحب فيروز ، و يعلن حبه بكل جرأة و في كل ظرف ..
أما خالد اللحياني فكان لا يخفي تعدد مشاربه و سعة اطلاعه ، بل و سلامة ذوقه و دقة نقده .. " أغوص ليلا في دواوين محمود درويش و سعدي يوسف أكثر مما أقرأ صفحات الرياضة و الثقافة في صحفنا البليدة .. " ص 66 ، و كان إلى جانب ذلك يكتب الشعر ، و تتجه قصيدته نحو التفاصيل اليومية الصغيرة ، مستعملا أشياء من محيط قريب ، كالزعتر البلدي و زيتون نابلس في بيت أم محمود ، والدة صديق طفولته الطفل الفلسطيني محمود ..
لكن على الرغم من كل ذلك فقد كان كل من أحمد و خالد ، متربصين ببعضهما ، متحفزين ، فقد " كانا محملين بالشك .. " ص 75
و ظلت رحلة يوسف المحيميد التي اعتبرها نزهة فقط ، ظلت تعتمل بصراع روحي وجسدي و فكري ، تعكس بصدق ما تموج فيه الأمة العربية بأكملها ، ممثلة في الأمكنة التي تظهر و تختفي ، و في هؤلاء الثلاثة ، الذين من خلال تدافعهم الإرادي و اللاإرادي فضحوا الأجواء ، و عروا الحقائق ، و نشروا الروائح الحقيقية ، فالقاهرة ليست سوى قلبا عربيا نابضا لجسد مترامي الأطراف ، به مس من فوضى و وهن ، و يعتريه ذبول و خمول ، و تداخل في المفاهيم و الإرادات ، عجينة ندركها حين نسافر مع الشاعر المرهف خالد اللحياني إلى أدق التفاصيل و الأحاسيس و الهواجس ، عوالم نحس فيها بوجود كونديرا و شاعره جاروميل في " الحياة هي في مكان آخر ) .. " هكذا هي يوميات القاهرة ، متقطعة و متصلة بخيط لامرئي ، كما لو كانت رواية لميلان كونديرا ، متناثرة الأنحاء كالشظايا ، لكن رؤيتها عن بعد تكشف خيوطها الخفية .. " ص 113 .. و نجد أيضا غارسيا ماركيز حاضرا بفراشاته الصفراء .. " في غرفته بالطابق الثالث بكى الشاعر حتى أربك الفراشات الصغيرة الصفراء على ستارة النافذة .. " ص 73 ..
إنها رحلة فلسفة و نقد .. " أليس العالم كله مجرد سجن مزين بأشجار و بيوت و مدارس و عربات و شوارع و جرائد و خطب .. " .. رحلة نقد جريء و خفي ، لم يسلم من حضور الوهج السياسي و انتقاده ، فنجد النكتة حول الرئيس و إشارات واضحة لأيمن نور ، بل فيها استثارة لهموم سياية واقعية حالية مثل مقتل الحريري .. و ربما هي الرواية الأولى عربيا التي تلقفت هذا الحدث .. " و هم يتهمون الآخرين في مقتل الحريري ، كل شيء كان مخزنا للهم ، بيروت و قلبه و بلدة حقل و المدرسة افبتدائية فيها .. ط ص 55 بل إن الهم لا يبقى في بلدة حقل و لا في حادثة واحدة ، فهو ممتد امتداد هذا الجسد العربي ، إنه " .. يمتد من ساحة الشهداء في بيروت حتى حي السلمانية في تبوك .. " ص 56 ..
و هي أيضا رحلة نقد اجتماعي ، و تعرية لبؤس ما .. " عند الإشارة شحاذة عجوز تحمل طفلا غزير الشعر و متسخه ، بثوب صوف عتيق رغم حرارة الطقس .. " ص 89 .. ، و رحلة نقد لواقع أدبي ، حيث يصف خالد نفسه بأنه " لم يدخل مساحات الشعراء المتكسبين من شعرهم .. " ص 86 ، و يلخص أن أقصى أمنية له و لجيله من الأدباء و الشعراء النزهاء قائلا : " أريد أن أكتب قصائدي و أسافر في العالم و احب و احيا .. " ص 92 ..
و إذا أردت أن تعيش خشوعا آخر ، و تنساب دموعك على الرغم منك ، فإن المقطع 24 من الرواية ، يحملك إلى أجواء أخرى ، أجواءفقد الأخ الصغير جمال ، يا لها من لوحة رهيبة ، رسمها الروائي بقلب شاعر و كلماته ،إنك سترتبك منذ بداية الحكاية حين شهق جمال الصغير " بغتة و بكى طوال اليوم " بعد تلقيه ضربة قوية على ظهره من قبضة والد خالد لأنه مد يد يده الصغيرة إلى الطعام قبل الآخرين .. لكن الوالد بعد أن ضربه لم يأبه به بل " قام يتجشأ في رعونة " ص 102 ..
من يومها لم يعد جمال الصغير يبكي ، بل أصبح يمر في أحلام خالد " و هو يضحك و يدور و يصفق بيديه .. " بل و يتحدث أيضا ليخبرنا أنه لم يمت " صحيح أن قبضة أبي ثقيلة جدا جعلت أمعائي تضطرب و قصبتي الهوائية تنخلع من مكانها ، إلا أنني قاومت الموت بقوة ، و ها أنت ذا تراني بجوارك أغني و ارقص : و هيلا يا رمانة .. الحلوة زعلانة .. " ص 103
لكن في الحقيقة لا في حلم الكاتب فجمال الصغير أغفى في اليوم السادس بهدوء و بكت أم خالد طويلا " و ما زالت تبكي حتى الآن " ص 102..
و لعل حكاية الصغير جمال ، تبرز بوضوح رغبة قتل الأب ، و عداءه ، عند خالد ، حتى أنه يلقبه صراحة بلقب بذيء ، يلقبه ب " حمار " في الصفحات 105 / 106 .. و هنا لا مناص من تذكر صاحب رائعة ( الخبز الحافي ) الراحل محمد شكري ، الذي يتقاطع مع خالد اللحياني بطل رواية ( نزهة الدلفين ) في هذه النقطة ..

من هو يوسف المحيميد ؟
من مواليد الرياض العام 1964 ، كاتب و روائي مميز الصوت و مرهف الحس ، له وعي كبير بمآسي المجتمع العربي الراهن ، قدم للمكتبة العربية المؤلفات التالية :
قصص قصيرة / ظهيرة لا مشاة لها .. الرياض 89
رجفة أثوابهم البيض .. دار شرقيات القاهرة 93
أخي يفتش عن رامبو .. م ث عربي بيروت دار البيضاء 2005
نصوص / لا بد أن أحدا حرك الكراسة .. دار الجديد بيروت 96
النخيل و القرميد مشاهدات من البصرة و نورج أدب رحلات ، دار السويدي أبوظبي معدن بيروت 2004

روايات / لغط الموتى .. دار الجمل كولونيا ألمانيا 2003
فخاخ الرائحة .. رياض الريس للكتب و النشر بيروت 2003
القارورة.. مثع بيروت دار البيضاء 2004
نزهة الدلفين .. رياض الريس للكتب و النشر بيروت 2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تحكم حلب هيئة انتقالية؟.. الجولاني يكشف خطته في سوريا


.. جندي كوري جنوبي ينحني معتذرًا لمواطن بعد نزولهم لفرض الأحكام




.. محللان: موسكو وطهران تضغطان على الأسد واجتماع الدوحة سيكون م


.. مصادر طبية للجزيرة: 36 شهيدا جراء الغارات الإسرائيلية على قط




.. ما حظوظ نجاح جهود التوصل لوقف إطلاق النار في قطاع غزة؟