الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب -في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟- لمؤلفه عزمي بشارة

صلاح الدين ياسين
باحث

(Salaheddine Yassine)

2023 / 6 / 21
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


كتاب بمثابة دراسة بحثية للباحث الفلسطيني ذي المنزع القومي الليبرالي عزمي بشارة، تتوزع مضامينه على أربعة فصول (توترات الديمقراطية بين المساواتية والحرية، الشعبوية: الخطاب والمزاج والأيديولوجيا، مسألة عدم الثقة بالمؤسسات الديمقراطية، هل فقد النظام الديمقراطي جاذبيته؟)، إذ تناول من خلالها الظاهرة الشعبوية من حيث هي خطاب سياسي وممارسة في آن واحد، فمن شأن عدم تحديد معنى المصطلح بدقة أن يُطلق العنان لهذه التسمية من دون قيد، كما انبرى المؤلف لبيان مصادر الشعبوية ومضارها على النظام الديمقراطي:
جوهر الشعبية
بحسب الكاتب، الشعبوية هي استراتيجية سياسية تستثمر في مزاج شعبي غاضب، وقد تتحول من محض خطاب إلى أيديولوجيا في الحالات القصوى، وذلك حين تفضي إلى استقطابات حادة تنعكس في المقابلة بين الشعب "الطاهر – النقي" والنخب "الفاسدة". فالسياسي الشعبوي يزعُم بأنه وحده الممثل الحقيقي للشعب على الضد من النخب التقليدية، مع التنبيه إلى أن خطاب الأخيرة لا يخلو أيضا من مسحة شعبوية وإن بدرجة أقل حدة. كما ينهض الخطاب الشعبوي على الاعتقاد بأن الشعب هو مستودع كل الفضائل، وهو دوما على حق، فيما يجنح إلى شيطنة النخب ("أعداء الشعب") وتسويد صحيفتها في نظر الجمهور.
وقد عبر المفكر الألماني كارل شميت (1888-1985) بوضوح عن تلك النزعة حين طعن في الديمقراطية التمثيلية، القائمة على فكرة تمثيل الأحزاب، التي لا تجسد – في اعتقاده – إرادة وتطلعات الشعب، بحيث نادى شميت بحكم فرد دكتاتور في مكنته اتخاذ قرارات حاسمة لا تذعن لسطوة المواضعات النخبوية، على نحو يضمن تحقيق مبدأ السيادة الشعبية. وبينما لا ينكر عزمي بشارة أن أطروحة محدودية الديمقراطية التمثيلية تنطوي على قدر من الوجاهة، فإنه يلح – بالمقابل – على أن فرادة الديمقراطية الليبرالية تكمن في إتاحتها وسائل للرقابة الشعبية والقضائية على النخب الحاكمة، في إطار مبدأ علوية القانون، وهي الضمانات التي تهدد الشعبوية بالنيل منها.
كما لعبت وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة دورا ملموسا لجهة الإسهام في بروز سياسيين شعبويين يتوسلون خطابا ديماغوجيا يضمن لهم الظفر بالنجومية، والحال إن شعبويتهم لا تنبع من انتمائهم إلى أوساط شعبية، بقدر ما ترتكز على حديثهم بلسان الشعب أو لغة الشارع بتعبير الكاتب، مما يفضي – بالتبعية – إلى محاصرة فضاءات الحوار العقلاني. وليس يخفى أن الديماغوجيا الشعبوية تستغل مشاعر التذمر الشعبي إزاء أداء النخب الحاكمة مع النزوع إلى تضخيمها. على أن الظاهرة الشعبوية لا تنحصر في أمزجة أفراد الشعب والساسة، بل تخترق أيضا الأوساط الأكاديمية ("مثقفين تخصصوا في نقد المثقف والعقلانية"... إلخ).
ويُجمل الباحث الفلسطيني مميزات الشعبوية اليمينية على النحو التالي: التوكيد على حكم الأغلبية الخالي من قيود المؤسسات اللامنتخَبة (القضاء... إلخ)، رفض العولمة في بعديها الاقتصادي والثقافي، الإسلاموفوبيا ومعاداة الهجرة، رفض سلطة مؤسسات إقليمية ودولية تنتقص من السيادة الوطنية (الاتحاد الأوروبي، منظمة الأمم المتحدة... إلخ). وكمخرج من المأزق الذي تطرحه الظاهرة الشعبوية، يشدد الكاتب على وجوب إعادة التوافق بين الديمقراطية الليبرالية والعدالة الاجتماعية من طريق لفظ نموذج النيوليبرالية المتوحشة التي نالت من المكتسبات الاجتماعية لدولة الرفاه، دون إغفال راهنية حل قضايا الهوية بحسبانها وقود شعارات اليمين الشعبوي الذي يناصب العداء للتعددية الثقافية. كما ينبه المؤلف إلى أن الشعبوية المعاصرة ما انفكت تُبدد التمايزات الكلاسيكية بين اليمين واليسار، فالحركات الشعبوية أكانت من اليمين أو اليسار تتشاطر المواقف إزاء جملة من المسائل (معارضة العولمة والنخب التقليدية، الطعن في الديمقراطية النيابية/ التمثيلية ومن ثم المناداة بتوسيع المشاركة الشعبية... إلخ)، برغم بعض الفروق التي ما تزال قائمة بينهما، إذ يتبنى اليسار منظورا أكثر انفتاحا حيال قضايا الهوية والهجرة مقارنة باليمين الشعبوي المدفوع بتصور ضيق للهوية المحلية.
مصادر الشعبوية
يذهب الباحث إلى أن الشعبوية هي تعبير عن توترات بنيوية ملتصقة بالديمقراطية: التوتر بين البعد الديمقراطي ذي الصلة بالمشاركة الشعبية والبعد الليبرالي المتعلق بالحقوق الفردية (حق الملكية... إلخ)، التوتر بين السيادة الشعبية (أو "حكم الشعب لنفسه") وضرورة التمثيل الحزبي (أخذا بالاعتبار صعوبة تطبيق الديمقراطية المباشرة في مجتمعات كبيرة ومركبة)، التوتر بين حق الأغلبية المنتخَبة في صنع القرارات والنفوذ الذي تحظى به قوى غير منتخَبة في صنع القرار أو عرقلته (القضاء، البيروقراطية... إلخ). على أن هذه التوترات تتغذى من صراعات أخرى ذات طبيعة سوسيواقتصادية (غياب العدالة التوزيعية، الفوارق الطبقية الفاحشة... إلخ)، وأخرى ثقافية تحيل إلى تَراجع مكانة الثقافة والتقاليد التي تؤلف النسيج الهوياتي للمجتمع من جراء العولمة والهجرة.
وهكذا يقر عزمي بشارة بأن التوتر بين مكونَيْ الديمقراطية، ونريد بذلك الحرية والمساواة، قد استفحل على خلفية تلاشي إجماع ما بعد الحرب العالمية الثانية حول نموذج دولة الرفاه، الذي كان يزاوج بين المبادرة الاقتصادية الحرة وتَدَخل الدولة لدعم الفئات ذوي الدخل المتدني، بحيث شهدت فترة السبعينيات تغلغل النموذج النيوليبرالي المتوحش، الذي قوض المكتسبات الاجتماعية السابقة، وبلغ ذروته في التسعينيات في سياق نظام القطب الواحد الأميركي والعولمة الاقتصادية (التي أدت إلى نقل الاستثمارات والمصانع إلى الخارج حيث العمالة الرخيصة ومن ثم فقدان العديدين لوظائفهم في دول الغرب الصناعي)، الشيء الذي تَوَلد منه تضرر شرائح شعبية واسعة من الطبقة الوسطى، والتي ما عادت تجد ضالتها في أحزاب اليسار المعتدل (يسار الوسط) التي أمست بدورها جزءا من النظام السائد، إذ باتت تستهويها وعود اليمين الشعبوي رغم افتقاره إلى برنامج اجتماعي واضح.
الشعبوية وضررها على الديمقراطية
يشير بشارة إلى أن الديمقراطية تفترض حدا أدنى من الإجماع حول الدولة ومؤسساتها الذي لا يلغي – قطعا – الاختلاف حول الرؤى والبرامج، والواقع أن الأيديولوجيا الشعبوية تضمر تهديدا للديمقراطية بنزوعها الانقسامي والإقصائي في خطابها وممارستها. وهنا يعتقد صاحب الكتاب بأن الديمقراطيات الليبرالية الراسخة (في دول الغرب الصناعي) في مكنتها احتواء الشعبوية والحيلولة دون إضرارها على نحو جذري بالنظام، بفضل ما في حوزتها من أدوات رقابية يقظة (قضاء، إعلام "مستقل"... إلخ) وثقافة ديمقراطية متجذرة. لكن الأمر خلاف ذلك بالنسبة للديمقراطيات حديثة النشأة، في تقدير الكاتب، والتي يفضي فيها سقف التوقعات الشعبية المرتفع وفشل النخب الجديدة في تحقيق وعودها الاجتماعية (تحسين المستوى المعيشي للمواطنين) إلى فقدان الثقة في النظام، وفشو خطاب شعبوي تيئيسي، مما يشكل خطرا على استمرار النظام الديمقراطي الوليد، بخاصة في ظل الخلط السائد في وعي الشعب بين أداء الحكومة والنظام نظرا إلى قصور الثقافة السياسية.
ولئن كان المؤلف نفسه يورد معطيات إحصائية تشي بارتفاع مستوى المعيشة والتعليم في الدول السلطوية، إلا أن ذلك لا يقوم دليلا – في حسبانه – على انحسار جاذبية النظام الديمقراطي، إذ أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تحول تلك الدول (الصين، روسيا، سنغافورة... إلخ) إلى نظم ديمقراطية ليبرالية بفعل تَمَدد حجم الطبقة الوسطى وانتشار التعليم، الشيء قد يسفر عن إشهار مطالب بالإصلاح السياسي. وهنا في وسعنا انتقاد الكاتب الذي يغالي في تقدير مزايا الليبرالية، التي هي في جوهرها أيديولوجيا الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج، إذ يحسب الحقوق والحريات "إنجازا ليبراليا"، وبينما ينتقد سعي قوى دولية (= روسيا والصين) لتصدير نموذج حكمها "الأوتوقراطي"، يتعامى عما تقوم به أميركا من تكريس هيمنة نظام القطب الواحد متوسلة بأسلوب القوة والابتزاز، دون إغفال الدعم الذي تغدقه على دول تحكمها أنظمة تسلطية حليفة لها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصام لطلاب جامعة غنت غربي بلجيكا لمطالبة إدارة الجامعة بقط


.. كسيوس عن مصدرين: الجيش الإسرائيلي يعتزم السيطرة على معبر رفح




.. أهالي غزة ومسلسل النزوح المستمر


.. كاملا هاريس تتجاهل أسئلة الصحفيين حول قبول حماس لاتفاق وقف إ




.. قاض في نيويورك يحذر ترمب بحبسه إذا كرر انتقاداته العلنية للش