الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


امود او الساقطة المتمردة: قراءة في مسرحية مونودراما.

الرفيق طه

2023 / 6 / 21
الادب والفن


في ظلمة حالكة،صوت نسائي يحاكي الاحزان على نغمات الجيتارة. كشف الستار الخشبة. يتوسطها جسد ملفوف في ثوب ابيض شبه شفاف. جسد يترنح و كأنه رضيع غادر لتوه رحم امه.
على نبضات ايقاعات شدت العيون الى ذلك الشيء الغريب و هو يتحرك قبل ان ينفجر بصوت ثائر.انها انثى تتمرد على الثوب الذي يلفها. تصرخ من الاختناق.و كأنها تبحث عن ان تتنفس هواء ناذرا. تهدد بالتخلص من اللباس. لباس ليس لباسا اصلا، تؤكد ان الاصل هو العري ، فلماذا لا نتحرر .هكذا تملأ الركح صراخا و هي تسير بين مربعات فارغة تشعرك انك تنظر في بوثقة عميقة. بين المربعات دروب طويلة في الزمان و المكان. في الخشبة شساعة الكون و ظلم ساكنته. هذه الانثى تملؤه كاملا و تسيطر على كل اركانه،هكذا يشعر المتلقى الذي يتابع الممثلة و قد احتلت الركح كله.
اخذت مكانا في مقدمة يمين الخشبة لتسرد حكايتها، عبر اطارات مستطيلة ، ابلغتنا انها وحيدة والديها بين ثلاث اخوة ذكور. لكل واحد منهم خصوصيات لكن اكتسبوا السلطة الفطرية عليها. سلطة الاخوة لا تقل عن سلطة استبداد الاب. الام تكتسب سلطة من الاب و الاخوة و كل المحيط. الفتاة وحدها لا سلطة لها ، الكل مستبد و هو مصدر سلطة ، هي وحدها لا حق لها ان ترد لا امر و لا طلب. مملوكة في جسدها و رغباتها و حتى في شهواتها و لما لا حتى في افكارها.
بسلاسة ذكية و نحن نترنح بين الاطارات المستطيلة و بين دروب المربعات وضعتنا الممثلة امام زواج طفلة بذكر ستيني. تجسد الممثلة الذكور بالسقيطة ( كلمة تتكرر مرات و مرات ،ترمز الى الذكور )،او الجسد المذبوح. اجساد بلا ارواح و لا عواطف.
اجبرت على الزواج من الستيني الذي لم تعرف معه غير الاغتصابات اليومية. طفلة مكان أم لشبان و شابات و اطفال تركتهم زوجة ماتت و اخرى هربت بلا رجعة.
زواج اجبرت عليه بدعوى ان الزوج له املاك و جاه و اشياء اخرى ، و المهم انه ذكر و كلمته مسموعة. كل ذلك لم يعد له وجود او معنى بعد اتمام الزواج. الطفلة ،الزوجة، تعيش في كنف عائلة متعددة الابعاد. كل شيء متناقض مع ذاته. و هي الوحيدة تعيش الكره على الحب و الابتسامة و صراع داخلي لا يطاق. تخدم الكل و لا تأخذ الا غير ما يرضيها. حضن الزوج جهنم كل ليلة.و اكراه الابناء طيلة اليوم.
تجرأ الاخ الاصغر للزوج بتقبيل الانثى المسكينة. كان الرفض الشكلي و الاعجاب الضمني. كان جسد المسكينة ينتظر كل لحظة يسقط بين يدي الخليل الجديد، تمارس زنى المحارم.
لكن رغبة الجسد اقوى من كل الحاضر و و المستقبل.
تخلت الممثلة عن الاطارات المستطيلة لتتيه بنا بين المربعات العميقة في ظلمة حالكة ببطن منتفخ و جنين متحرك في الرحم و خليل هارب. هذا الذي غاب بلا رجعة ، السقيطة غدر.
الكل في الاسرة ينتظر مولودا ذكرا يوشح به الزوج الستيني ذكورته بين الرجال و لا احد يعلم انه حمل محارم.
بين دروب المربعات تهرب بنا الممثلة بين الغابات و السهول لياتيها المخاض بلا جدع شجرة مثمرة و لا عين ماء تتدفق.
تم المخاض و كان المولود فتاة. لفت الام مولودتها في ثوبها الشفاف و ما بقي من الممثلة الا الجسد الحقيقي الممشوق. الجسد الانثوي يواجه الواقع بجرأة و شجاعة على خشبة المسرح. الجسد الانثوي الذي يضعنا امام اوهامنا و هواجسنا يسيطر على الخشبة و على الفضاء كله. نشعر بالضعف كما نشعر بالالم. نحن امام مرارة الحقيقة في جسد الانثى التي اختزلت كل القهر و الظلم و الاستبداد في ثوب اعادت لف المولودة به مرة اخرى.
الجسد الانثوي كان اقوى و اعلى من كل الابراج في عالم الخشبة. لطمتنا الممثلة بالوجه المكشوف و كأنها مرٱة نرى فيها حقيقتنا اجسادا بلا ارواح."سقيطة " نحن جميعا ،ذكورا و اناثا امام الجسد الانثوي في شكله و مضمون. هذا هو الجسد كوسيلة للجنس و هذا هو الجسد ككارثة للتعذيب و القهر و الاستبداد. هذا هو الجسد الذي نعشقه ،و هذا هو الجسد الذي نحبه عاريا و نكرهه عاريا. هذا هو الجسد الذي نريد تملكة و لا نريد الشعور بٱلامه.
نعم انه الجسد الانثوي الذي نعتقد انه يظلمنا بجماليته و هو نفسه الجسد الذي نغتصب حاجته و رغبته بلا رحمة و لا شفقة.
الجسد الانثوي وحده سيد على الركح، على الخشبة شامخ و قوي و سافر امام القهر و الاضطهاد. لكنه يحمل رضيعة انثى في احضانه و دفئه.
بين المربعات تتسكع الساقطة بين دروب المدينة بعد الهروب من قرية مولدها. لا هدف و لا سبيل لها الا ان تجد مبيتا يحضنها و رضيعتها في غابة الذئاب و الضباع التي تترصد نهش قدسية جسدها البريء. وحده حارس السيارات تجد فيه ملجأ لها ،لانه يوفر لها مبيتا هانئا في اي سيارة تحضنها و رضيعتها الى السابعة صباحا ،لتنتشر في الارض كالعادة .
اصوات فيضان هائج لمسيرات احتجاج تطالب بالحرية و رفع الاستبداد تسيطر على المكان، صرنا نحن نشعر اننا في الشوارع و الانتفاضة على اشدها.
التحقت الانثى الساقطة و بين ذراعيها رضيعتها تردد الشعارات ،تعرف معاني بعضها و تجهل اغلبها. لكنها تجد نفسها جزءا من الانتفاضة. تدخل القمع ، الجيش و الشرطة و البوليس السري ، هرولة المتظاهرين للنجاة برؤوسهم من نيران القنابل الموجهة للاجساد البشرية. السقيطة اصبحت جمعا و افرادا تشتم رائحة الدم و البارود. هرول الجسد الانثوي بين الدروب بلا وجهة او الهدف هروبا من القمع.
صدر الخطاب الواضح على كل امواج الاذاعة و التلفزة يتوعد كل الشعب بالاوامر التي صدرت. لا مأمن لاحد صغير او كبير ، تطبيق الاحكام الاستبدادية بلا تردد. وحده خطاب الدكتاتور لمحمود درويش يلخص ما سمعه الجمهور حين كان الجسد العاري في ظلمة حالكة يواجهنا بظهره ، اننا في عذاب القبر . هنا لا سائل و لا مجيب، لكن الخطاب مستبد بأوامره.
ٱلة الاعتقال تصفد الجسد العاري و تضعه امام قاض اصدر حكمه بعشرين سنة نافذة.
دخلت الممثلة بنا السجن و حكت لنا عن حنان التي تحن في السجينات و الاخرى التي تتقمص صفة الشيخ المفتي .
حنان انتفضت ضد موظف اعتدى على عذريتها، دمر حياتها بقطع ذكورته و دخلت السجن و كانت تخرج لتعود بنفس الجرم كل مرة، لكنها اطيب و احن السجينات على بعضهن.
اما المفتية فتردد ببغاوية ما تسمعه و تتلقاه من خطابات على مسامع الاخوات. بعضهن تدمع عيونهن لما تسمعن. و اخريات لا يكترثن لما يدور و لكنهن يتلذذن لحظات مع حنان. الساقطة المتمردة تتيه بنا في اغوار سجن الاجساد الانثوية. اتاها العفو قبل اربعة اشهر من نهاية محكوميتها، عشرون سنة. العبث. او العفو ، او العبث.
يعود الجسد العاري ليغتسل على الركح. اغتسال حقيقي بالماء و الصابون. جسد انثوي يتخلص من كل اوساخ التصقت به.
مونودراما امودو تسدل الستار بنهايتها . امود او الساقطة المتمردة اداء و تأليف فاطمة الزهراء السندادي.
اخراج خالد العقل
غناء سكينة السندادي
موسيقى نور الدين القصبة
اضاءة فريد الحاجي
مؤثرات صوتية محمد بومليك.
سي محمد طه. المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صراحة مطلقة في أجوبة أحمد الخفاجي عن المغنيات والممثلات العر


.. بشار مراد يكسر التابوهات بالغناء • فرانس 24 / FRANCE 24




.. عوام في بحر الكلام-الشاعر جمال بخيت يحكي موقف للملك فاروق مع


.. عوام في بحر الكلام - د. أحمد رامي حفيد الشاعر أحمد راي يتحدث




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت يوضح محطة أم كلثوم وأح