الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البيداغوجيا النقدية في عصر السياسات الفاشية(3من3)

سعيد مضيه

2023 / 6 / 22
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


لا يتوقف الأكاديمي الأميركي، هنري غيروكس، عن التحذير من أخطار الفاشية على الثقافة والتعليم ، والإهابة بالمثقفين وجميع انصار الديمقراطية بان يتعاملوا مع التربية قضية سياسية بامتياز؛ فالتربية محور الصراع الاجتماعي في الوقت الراهن، ذلك أن الصراع يدور لكسب وعي البشروالتحكم في ردرود افعالهم ومعاييرهم والقيم الموجهة للسلوك.
يتناول الباحث البيداغوجيا ، وهي الوسائل والأساليب المعتمدة في التعليم ، مثل التعليم التلقيني والعنف المدرسي ونهج الأوامرية والعقوبات المستعملة ضد الطلبة فهذه يعتبرها غيروكس بيداغوجيا لنظم القمع والاستبداد، تمهد الطريق للفاشية كنظام سياسي. مقابل هذه البيداغوجيا يقدم الباحث بيداغوجيا نقدية وتعليم حواري.

في هذا البحث المتعمق يعرض الأكاديمي أزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة مقرونة بازمة التعليم العام والعالي، يفاقمها هجوم الفاشية، كما هو جار بصورة متعمدة ومنهجية في الولايات التي يحكمها جمهوريون. يجري بالولايات المتحدة إرساء ظواهر فاشية في التعليم المدرسي والجامعي وفي السياسة والقضاء والثقافة والإعلام والجوانب الأخرى من الحياة الاجتماعية. ولا يتبقى غيران يفوز الفاشيون بالأغلبية في الانتخابات كي يباشروا بإدارة نظام فاشي مكتمل الأركان. وحيث ان الديمقراطية تتطلب جماهير مطلعة وواعية فإنه يحذر من أن "النشاط السياسي يفقد إمكاناته التحريرية إن هو عجز عن تقديم الشروط التعليمية لتمكين الطلبة وغيرهم من التفكير في المجهول، والتحقق من ذواتهم أفرادا مطلعين نقديين ومنخرطين بالعمل. فلا وجود لنشاط سياسي للتحرير بدون بيداغوجيا قادرة على إيقاظ الوعي وتحدي الإدراك العام وإبداع انماط للتحليل يكتشف الناس من خلالها لحظة إدراك تمكنهم من إعادة التفكير بالظروف التي تشكل حيواتهم".
البلدان العربية تخضع حاليا لنظم حكم أشبه بالفاشية، ثبتت نظما تعليمية باتت تقليدية بتعاقب العقود، وظيفتها تخريج أجيال لا تنتمي لوطن او مجتمع، نفس النمط الذي يدأب الفاشيون بالولايات المتحدة ودول اخرى على الحط من نظمهم التعليمية ليبلغ مستواه . فكل ما ترمي اليه قوى الفاشية بالولايات المتحدة سياسيا وتربويا وثقافيا ويحذر من أخطاره البروفيسور هنري غيروكس قائم وطيد الأركان في مجتمعاتنا العربية. قسم البحث الى أجزاء ثلاث كي يمكن التمعن في القراءة واستيعاب مقصد الباحث المتمر في شئون التربية والتعليم.

بصدد تعليم الأمل

على المربين، لدى الاضطلاع بهذا المشروع، إبداع الظروف التي تمكن الشبان من النظر الى الذاتية حالة غير مقنعة ولا تمنح الأمل. فالأمل في مثل هذه الحالة حصيلة التعليم، المتخلص من فانتازيا مثالية لا تعي القيود المانعة للنضال من اجل مجتمع الديمقراطية الراديكالية. الأمل المتعلَّم ليس دعوة لتجاهل الظروف الصعبة التي تشكل المدارس والنظام الاجتماعي، لا وليس طباعة فوتوغرافية انتزعت من سياقات ونضالات محددة. بالعكس من ذلك انها الشرط الواجب توفره لتخيل مستقبل لا ينسخ كوابيس الحاضر كي لا يغدو الحاضر مستقبلا. الأمل المتعلَم يوفر القاعدة لتكريم عمل المعلمين؛ يقدم معارف نقدية مرتبطة بالتغيرات الاجتماعية الديمقراطية، الأمل تأكيد للمشاركة بالمسئوليات وتشجيع المعلمين والطلبة على وعي التناقض واللايقين أبعادا أساس للتعلم. حتى في أحلك الأوقات، لن تتوفر الإمكانية للمقاومة والمعارضة والنضال. توفرالذهنية المتفتحة شروط النضال، والأمل هو شرط الذهنية المتفتحة ؛ الأمل يوسع حيز الممكن ويغدو سبييلا للتعرف على وتسمية الطبيعة غير المكتملة للحاضر. امل كهذا يقدم الإمكانية للتفكير في ما وراء المَعلوم .
كما تحدث مارتن لوثر كينغ وجون ديوي وباولو فريري ونيلسون مانديلا، ما من مشروع للحرية بدون تعليم ، وان تغيير المواقف والمؤسسات متداخلان في جديلة واحدة. في مركز هذه الرؤية تنتصب فكرة طرحها بيير بوردو[ عالم اجتماع فرنسي بارز، رحل أواخر القرن الماضي] تقول ان اهم أشكال الهيمنة ليست اقتصادية فقط ، إنما ثقافية وبيداغوجية كذلك، وتكمن بجانب المعتقد والقناعة. يشير هذا القول الى ان الأكاديميين يتحملون مسئولية معينة هنا في الوعي بأن الكفاح الدائر حاليا ضد السلطوية البازغة وضد قومية البيض عبر الكرة الأرضية ليس فقط نضالا حول البنى الاقتصادية او الذرى المتحكمة لسلطة الاحتكارات؛ الكفاح الدائر حاليا نضال حول الرؤى والآراء والوعي، وهو القوة المحولة للثقافة بالذات؛ وهو أيضا ، وكما أشارت حنة آرندت ، نضال نخوضه ضد " خوف واسع الانتشار من إصدار الأحكام"؛ فبدون المقدرة على إصدار الأحكام، يصبح من المستحيل استعادة الكلمات ذات المعنى، أو تخيل مستقبلا لا يتبين بوضوح الأيام الحالكة التي نعيش، ولا نبدع لغة تغير كيف نفكر بصدد ذواتنا وبصدد علاقاتنا بالآخرين. يتعذر قيام اي نضال من أجل نظام ديمقراطي راديكالي إذا ألغت الأكاذيب عقلنا، وفكك الجهل بنية الأحكام المبنية على المعرفة، وإذا انهارت الحقيقة تحت وطأة النداءات الديماغوجية من أجل سلطة لا كابح لها. وكما حذر فرانسيسكو غويا [رسام ونقاش إسباني عاش في بدايات القرن التاسع عشر. عكس فنه الاضطرابات السياسية والاجتماعية في أوقاته] " نوم العقل ينتج الكواسر المرعبة".

تبدأ الديمقراطية بالسقوط وتغدو الحياة السياسية مفقرة في غياب المجالات العامة الحيوية مثل التعليم العام والعالي ، حيث القيم المدنية والبعثات العلمية العامة والانهماك الاجتماعي تسمح لمزيد من الإمساك المتخيل بمستقبل يأخذ بجدية مطالب العدالة والمساواة والشجاعة المدنية . بدون مدارس مزودة بالمال ، ونماذج نقدية من التعليم ، ومعلمين مقبلين على المعرفة يتميزون بشجاعة مدنية ، يحرم الصغار من عادات المواطنة وانماط نقدية من ذهنية منفتحة ومن نحو(قواعد اللغة) المسئولية الأخلاقية. يجب ان تكون الديمقراطية اسلوب تفكير بصدد التعليم يثري من ربط البيداغوجيا بممارسة الحرية، والمسئولية الاجتماعية والصالح العام. اود ان اختم بتقديم بعض المقترحات، غير مكتملة على كل حال ، تتعلق بما يمكننا عمله كمربين كي ننقذ الجمهور والتعليم العالي وربطهما بالنضال الواسع من أجل الديمقراطية بالذات.

عناصر الإصلاح

اولا، في غمار الهجوم الراهن على التعليم العام والعالي يتوجب على التعليم إعادة تأهيل وتوسيع مهنته الديمقراطية ، ومن ثم يلتزم برؤية تعانق رسالته كمصلحة عامة.
وثانيا على المربين التسليم بفكرة انه بدون مواطنين مطلعين وباحثين عن المعرفة لا توجد ديمقراطية، والعمل بقوة في هذا السبيل.
ثالثا، يتوجب ان يكون التعليم مجانيا وممولا من خلال صناديق فيدرالية تضمن التعليم للجميع. والقضية الأعظم هنا ان التعليم ليس بمقدوره خدمة المصلحة العامة في مجتمع سمته أشكال صادمة من اللامساواة؛ بدلا من بناء القنابل وتمويل الصناعات الدفاعية وتضخيم موازنة عسكرية تلحق الموت، نحتاج الى استثمارات ضخمة في التعليم العام والعالي، تمويل يضمن مستقبل الصغار، ولا يقفون امام احتمالية حرمانهم منه.
ورابعا، يحتاج المربون ، في عالم تسيره الأرقام والمقاييس واستبدال المعرفة بزخم هائل من المعلومات، ان يدرّسوا طلبتهم اختراق الحدود ، وأن يتقنوا التفكيرالجدلي، والتفكير المقارن والتاريخي. على المربين تعليم الطلبة الانخراط في دراسات متعددة تمتد من الثقافة المطبوعة والمرئية حتى الثقافة الرقمية . يطلب من الطلبة تعلم كيف يفكرون بتداخل الأجزاء وبشمولية و بارتباط القضايا ، وفي ذات الوقت يملكون المقدرة أيضا بان ينتجوا الثقافة ولا يستهلكونها فحسب.

وخامسا على المربين الدفاع عن التعليم النقدي سعيا وراء الحقيقة وممارسة للحرية ؛هذه المهمة تعني ان على البيداغوجيا النقدية تحويل ليس فقط أسلوب تفكير الناس، بل يشجعونهم كذلك على تشكيل العالم الذي يجدون انفسهم فيه نحو الأفضل. وشأن ممارسة الحرية تبرز البيداغوجيا النقدية من القناعة بأن المربين وغيرهم من شغيلة الثقافة يتحملون مسئولية زعزعة السلطة وإزعاج الإجماع وتحدي الراي العام. تلك رؤية للبيداغوجيا يتوجب ان تزعج طيفا واسعا من الأفرد والجماعات ، تلهمها وتمدها بالطاقة؛ ممارسات بيداغوجية كهذه يجب ان تمكن الطلبة من استجواب الرأي العام وإدراك العالم ، تغامر بتفكيرها مهما كان صعبا ، وراغية باتخاذ موقف من اجل التساؤل الحر بحثا عن الحقيقة ، وسلوك سبل متعددة للتعرف ، الاحترام المتبادل، والقيم المدنية في البحث عن العدالة الاجتماعية. يحتاج الطلبة لأن يتعلموا كيف يفكرون بخطورة، يندفعون نحو تخوم المعرفة ودعم فكرة ان البحث عن العدالة لن ينتهي وان اكتمال العدالة مستحيل في أي مجتمع . هناك ليس مجرد اعتبارات منهجية، بل كذلك ممارسات اخلاقية وسياسية لأنهم يفترضون سلفا إبداع الطلبة الذين بمقدورهم تخيل مستقبل فيه تكتسب أهمية العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية، ويمكن التمتع بها .

وسادسا ، يحتاج المربون ان يدافعوا في حواراتهم عن فكرة ترقب التعليم برؤية سياسية موروثة – رؤية لا تني تتساءل عن أنواع العمل والممارسات وأشكال التدريس والبحث وانماط التقييم المعمول بها في التعليم العام والعالي. وإذ لا توفر الضمانات لهذه البيداغوجيا، فإنها تعرف نفسها ممارسة سياسية واخلاقية مضمنة على الدوام في علاقات السلطة لأنها تنتج أصنافا ورؤى خاصة للحياة المدنية ، وكيف نعد العُروض لأنفسنا وللآخرين ولبيئتنا الاجتماعية والفيزيقة وللمستقبل بالذات.

سابعا، في عصر يخضع المربون للمراقبة والطرد و يتعرضون في الحالات ذاتها الى عقوبات جرمية ، من المهم للغاية ان يكافحوا كي يكسبوا السيطرة على ظروف عملهم؛ فبدون سلطة يجري الحط بالكفاءات الى عمل عادي، وتحرم( الكفاءات ) من التأثير في عملية الحكم، وتنشط في ظروف تقارن بكيفية معاملة الشغيلة في الأمازون ووالمارت . المربون بحاجة الى رؤية جديدة والى لغة وملكة و استراتيجيا جماعية جديدة لكي يستعيدوا السلطة والنفوذ بحق والسيطرة وتامين شروط العمل والمقدرة على تقديم إسهامات ذات معنى لطليتهم وللمجتمع الأوسع.
من المهم للغاية تذكر ان لا ديمقراطية بدون مواطنين مطلعين ولا عدالة بدون لغة نقدية للعدالة؛ والسؤال المركزي هنا ما هو دور التعليم في الديمقراطية وكيف بمقدورنا تدريس الطلبة لكي يَحكموا لا ان يُحكمو؛ الخطر الأعظم المحدق بالتعليم في أميركا الشمالية وفي أنحاء العالم يكمن في الإيديلوجيات غير الديمقراطية وقيم السوق التي تؤمن بأن التعليم العام والتعليم العالي يفشلان بسبب عموميتهما ، ولا يجب ان يعملا وفق مصالح تمكين وعد الديمقراطية وإمكاناتها. إذا كانت المدارس تفشل فذلك بسبب اتها تمول، ويجري خصخصتها وتكييفها وفقا لمآلات الأدلجة طبقا لقومية البيض.

أخيرا، اود ان اشير بان من القسوة على المربين، في مجتمع تخضع الديمقراطية فيه للحصار، ان يتذكروا ان الأزمنة القادمة البديلة ممكنة وان التصرف وفقا لهذه المعتقدات شرط مسبقٌ كي يغدو التغيير الاجتماعي ممكنا . في عين الخطر الآن الشجاعة لقبول التحدي حول أي صنف من العالم نريد –أي صنف من المستقبل نريد تشييده لأطفالنا ؟ أصر الفيلسوف العظيم إيرنست بلوخ ان الأمل يقبع في أعمق تجاربنا وانه بدون الأمل لا تتفتح قوى العقل والعدالة. يضيف الروائي جيمز بالدوين في روايته " النيران في المرة التالية" الدعوة للتعاطف مع هذه الفكرة عن الأمل كمسئولية اجتماعية، فكرة مدينة لأولئك الذين سوف يتبعوننا . كتب : " لا تكف الأجيال عن التوالد، ونحن مسئولون عنهم ...وفي اللحظة التي نفقد الثقة ببعضنا البعض يحيق بنا البحر والضوء يخفت ". والأن أكثر من اي وقت مضى على المربين ان يرتفعوا الى مستوى التحدي لإبقاء نيران المقاومة ملتهبة بكثافة محمومة. حينئذ فقط يكون بمقدورنا الاحتفاظ بالأضواء ساطعة. يضاف لذلك نداء بليغ ، اود القول ان التاريخ مفتوح وحان الوقت لأن نفكر بأسلوب مغاير ، خصوصا إذا أردنا كمربين تخيل مستقبل ديمقراطي بديل ونكافح من اجله ونبني أفقا جديدا للممكن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جهود مصرية لتحقيق الهدنة ووقف التصعيد في رفح الفلسطينية | #م


.. فصائل فلسطينية تؤكد رفضها لفرض أي وصاية على معبر رفح




.. دمار واسع في أغلب مدن غزة بعد 7 أشهر من الحرب


.. مخصصة لغوث أهالي غزة.. إبحار سفينة تركية قطرية من ميناء مرسي




.. الجيش الإسرائيلي يستهدف الطوابق العلوية للمباني السكنية بمدي