الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روسيا من الداخل (2): سيبيريا — الجماعات العرقية (ب)

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2023 / 6 / 23
السياحة والرحلات


في إطار نظرتنا على روسيا من الداخل، نستكمل حديثنا عن إقليم سيبيريا باعتباره من أشهر المناطق في روسيا؛ ومن ثم يصلح نقطة انطلاق للحديث عن روسيا، وإلقاء الضوء على هذا المجتمع المثير للتساؤلات، وتوضيح بعض المفاهيم التي ربما تكون مغلوطة في أذهان البعض. ومعنا في حديثنا اليوم الجماعات العرقية التي تعيش في إقليم سيبيريا شمال الاتحاد الروسي.

الأصول والتاريخ
تُعَدًّ سيبيريا؛ تلك المنطقة الشاسعة والوعرة في الشمال الروسي، موطنًا لمجموعة متنوعة من الجماعات العرقية. وتتمتع هذه المجتمعات، التي يُعتبر أبناؤها السكان الأصليين للمنطقة، بتاريخ ثري يعود إلى آلاف السنين؛ إذ يمكن العودة بأصول هذه الجماعات العرقية إلى أنماط الهجرة المختلفة والحضارات القديمة التي ازدهرت في المنطقة. ويعتبر فهم أصولهم مدخلًا بالغ الأهمية للنظر السليم إلى تقاليدهم وعاداتهم وطريقة حياتهم الفريدة.
يرتبط تاريخ هذه الجماعات العرقية في سيبيريا ارتباطًا وثيقًا بالأرض نفسها؛ فلقرون، جابت القبائل البدوية سهول سيبيريا الشاسعة، لتتكيف مع المناخ القاسي، والتضاريس الوعرة. وبنى هؤلاء السكان الأوائل علاقة عميقة بالأرض؛ حيث هي المستقر ولو مؤقتًا، ومصدر الغذاء؛ إذ اعتمدوا على الصيد، وجمع الثمار، إلى جانب صيد الاسماك من أجل الحصول على القوت. وبمرور الوقت، مع انتشار الممارسات الزراعية، انتقلت بعض الجماعات إلى أسلوب حياة أكثر استقرارًا.
من بين أقدم الجماعات العرقية المعروفة في سيبيريا جماعة البوريات، الذين سكنوا المنطقة لأكثر من 3000 عام، ويُعُرَفون بلغتهم وثقافتهم الفريدة. ومن الجماعات الأخرى البارزة جماعة الياقوت (ساخا)، الذين يُعتقد أنهم هاجروا إلى سيبيريا من آسيا الوسطى في حوالي القرن الثالث عشر، ويسكنون منطقة ياقوتيا (ساخا) في الشرق الأقصى. شكلت هاتان الجماعتان، إلى جانب العديد من الجماعات العرقية الأخرى، المشهد الثقافي لسيبيريا من خلال تفاعلاتها وتجارتها وخبراتها المشتركة.

الجماعات الرئيسية
كما أوضحنا، فإن سيبيريا موطن لعدد متنوع من الجماعات العرقية، ولكل منها هويتها الثقافية المميزة. وبين هذه الجماعات تأتي البوريات كواحدة من أكبر مجموعات السكان الأصليين في المنطقة؛ حيث يسكنون في الغالب جمهورية بوريات الواقعة جنوب المنطقة الوسطى من سيبيريا على طول الشاطئ الشرقي لبحيرة بايكال؛ وهم معروفون بثقافتهم وتقاليدهم الشفوية الثرية، ومعتقداتهم الشامانية. كذلك هناك الإيفينكيا؛ وهم رعاة الرنة الرحل الذين يعيشون في غابات التايجا الشاسعة شرق سيبيريا، ولديهم علاقة عميقة بالطبيعة، ويعتمدون على الرنة في النقل، والملابس، والطعام؛ أي في كل شيء تقريبًا.
تبرز كذلك جماعتا التشوكشي والنينيت؛ فأما التشوكشي فيعيشون في الجزء الشمالي الشرقي من المنطقة، لديهم تقاليد ثرية في رعي الرنة وصيدها، ويشتهرون بمنحوتاتهم التي تتسم بالتعقيد، وملابسهم النابضة بالحياة والمزينة بالخرز الملون والفراء. وأما النينيت، فيسكنون شبه جزيرة يامال غرب سيبيريا، ولديهم أسلوب حياة شبه بدوي، ويعتمدون على رعي الرنة في معيشتهم. ويتسم النينيت بالشعور القوي بالانتماء للمجتمع، كما أنهم معروفون بسباقاتهم التقليدية لزلاجات الرنة، والتي تسمى النارتي.
هذه مجرد أمثلة قليلة على الجماعات العرقية المتنوعة التي تستوطن سيبيريا، ولكل جماعة تقاليدها وعاداتها ولغتها الفريدة؛ مما ساهم — على مر القرون — في صنع النسيج الثقافي الحيوي في المنطقة.

العيش في درجة حرارة شديدة الانخفاض
يحمل العيش في سيبيريا تحديات فريدة بسبب المناخ القاسي للمنطقة؛ حيث تشهد فصول شتاء قاسية مع درجات حرارة دون الصفر؛ وهو الطقس الذي يمكن أن يستمر لعدة أشهر. لذلك طورت الجماعات العرقية التي تعيش في سيبيريا طرقًا مبتكرة للتعامل مع هذه الظروف الصعبة.
تتمثل إحدى الاستراتيجيات الرئيسية التي تستخدمها هذه المجتمعات في بناء مساكن تقليدية مصممة لتحمل البرد؛ فعلى سبيل المثال، يبني الياقوتيون منازل شبه تحت الأرض تسمى "اليورت"، أو الخيام؛ وهذه الهياكل مصنوعة من مزيج من الخشب والطمي وجلود الحيوانات. تساعد الجدران السميكة والأسقف المعزولة على حبس الحرارة، وتوفير العزل ضد درجات حرارة التجمد بالخارج.
من بين أنماط التكيف الأخرى مع درجات الحرارة المنخفضة استخدام الملابس التقليدية المصنوعة من فراء الحيوانات وجلودها، وتوفر هذه الملابس عزلًا ممتازًا، وتحمي من البرد القارس. يرتدي التشوكشي، على سبيل المثال، سترات مميزة مصنوعة من جلود الرنة؛ وهي فعالة للغاية في إبقاء أجسادهم دافئة في درجات الحرارة التي تصل إلى درجة التجمد في التندرا.
بالإضافة إلى ذلك، تلعب ممارسة الرعي والصيد دورًا مهمًّا في بقاء هذه المجتمعات خلال أشهر الشتاء. ويعتبر رعي الرنة، على وجه الخصوص، مصدرًا حيويًّا لتوفير القوت، ووسائل النقل للعديد من المجموعات العرقية في سيبيريا؛ لأن الرنة تتكيف جيدًا مع المناخ البارد، وتوفر مصدرًا موثوقًا للغذاء من خلال اللحوم، والحليب، إلى جانب الفراء.

من التقاليد السائدة: تقاليد الزواج والصيد
لتقاليد الزواج أهمية كبيرة في النسيج الاجتماعي للجماعات العرقية السيبيرية. وتختلف هذه التقاليد باختلاف المجتمعات، لكنها غالبًا ما تعكس الطبيعة المجتمعية لهذه الجماعات. وفي العموم، يُنظر إلى الزواج على أنه وسيلة لتقوية الروابط بين العائلات، وضمان استمرار الممارسات الثقافية.
في مجتمع البوريات، على سبيل المثال، هناك تقليد يُعرف بـ"اختطاف العروس". وتتمثل هذه الممارسة في اختطاف رمزي للعروس على يد العريس وأصدقائه. ويُنظر إليه على أنه اختبار لالتزام العريس، ويُجرى بموافقة العروس. كذلك فإن حفل الزفاف في ذاته حدث احتفالي، يشهد عزف الموسيقى التقليدية والرقص والاحتفالات جيدة الإعداد.
ومن بين التقاليد الأخرى تأتي تقاليد الصيد التي تتسم بأنها متأصلة بعمق في الهوية الثقافية للجماعات العرقية في سيبيريا؛ فبالنسبة للعديد من هذه المجتمعات، لا يُعَدُّ الصيد وسيلة للبقاء فحسب، بل أيضًا ممارسة مقدسة تتشابك بشدة مع معتقداتهم الروحية؛ فعلى سبيل المثال، ترتبط جماعة الإيفينكيا بعلاقة قوية مع حيوان الرنة الذي يصطادونه، وكذلك يؤمنون بأهمية الحفاظ على علاقة متناغمة مع الطبيعة، وأداء طقوس لتكريم أرواح الحيوانات التي يصطادونها.
ويتمتع شعب التشوكشي بتقليد صيد فريد يُعرف باسم "صيد الحيتان". تمثل هذه الممارسة مسعىً جماعيًّا يتطلب المهارة والقوة والتعاون في صيد الحيتان، ويجري فيها استخدام قوارب الكاياك والحرابون التقليدية. ولا يُعَدُّ صيد الحيتان وسيلة لتأمين الغذاء فحسب، ولكنه أيضًا وسيلة للحفاظ على التقاليد الثقافية، ونقل المعرفة إلى الأجيال القادمة.

العلاقة بالحكومة الفيدرالية
للجماعات العرقية في سيبيريا علاقة معقدة مع الحكومة الفيدرالية الروسية. وعلى مر التاريخ، كانت هناك فترات من التعاون وأخرى من الصراع بين هذه المجتمعات والدولة.
وكان للعهد السوفييتي، على وجه الخصوص، تأثير كبير على الشعوب الأصلية في سيبيريا؛ ففي ظل حكم الاتحاد السوفييتي، تعرض العديد من الممارسات التقليدية وأشكال التعبير الثقافي لهذه المجتمعات إلى القمع؛ حيث كانت النظرة الغالبة في دوائر الحكم السوفييتية إلى أنماط الحياة البدوية أنها غير متوافقة مع الرؤية السوفيتية للتقدم؛ ومن ثم بُذلت الجهود لإضفاء الطابع "السوفييتي" على هذه المجتمعات، وإكسابها نوعًا من الاستقرار.
لكن الأمر اختلف، في السنوات الأخيرة؛ حيث ظهر اتجاه يتمثل في الحفاظ على ثقافات السكان الأصليين في سيبيريا، وإحيائها، ونفذت الحكومة الروسية سياسات تهدف إلى حماية الحقوق وتعزيز رفاهية هذه المجتمعات. وبُذلت جهود لدعم المبادرات الثقافية، وتعزيز اللغات الأصلية، وإشراك قادة الشعوب الأصلية في عمليات صنع القرار.
ولكن على الرغم من هذه الخطوات الإيجابية، لا تزال هناك تحديات؛ فلا تزال قضايا؛ مثل حقوق الأرض، والاستمتاع بالموارد، والمخاوف البيئية تشكل مصادر توتر بين الجماعات العرقية والحكومة. لكن الطرفين يحرصان على الحوار والتعاون؛ بما يؤدي إلى بناء علاقة متناغمة تحترم حقوق وتقاليد هذه المجتمعات الأصلية، وتحقق مصالح الدولة.

إذن، تتمتع الجماعات العرقية في سيبيريا بتراث ثقافي ثري ومتنوع يمتد لآلاف السنين، وقد تجذرت أصولهم وتقاليدهم وأساليب عيشهم بعمق في الأرض التي يعيشون عليها. وعلى الرغم من التحديات التي يفرضها المناخ القاسي، فقد طورت هذه المجتمعات استراتيجيات فريدة للتكيف والازدهار، إلى جانب بناء مجموعة من التقاليد والعادات التي لا تساهم فقط في الحفاظ على هويتهم الثقافية، ولكن أيضًا تقوي الروابط الاجتماعية، وتضمن استمرار تراثهم الفريد. لذلك كله من الأهمية بمكان الاعتراف بالتميز الثقافي واحترامه، من خلال الاحتفاء بتقاليدهم ودعم حقوقهم؛ وهو ما يسعى إلى تعزيزه كل من الجماعات العرقية والدولة الروسية في إطار مسعى متبادل لإضفاء التعاون على العلاقة بين الطرفين بعد سنوات من التوتر أثناء الحكم السوفييتي.
يمكن الرجوع إلى الجزء الأول من هذه الموضوع على الحوار المتمدن من خلال الرابط:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=782633








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و