الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فريدة.. رؤية سيكولوجية بالتمثيل من خلال الظل والنور- هل للبجعة أغنية رحيل أم صيحات استغاثة؟

أحمد محمد الشريف

2023 / 6 / 23
الادب والفن


(نقد مسرحي)
فريدة..
رؤية سيكولوجية بالتمثيل من خلال الظل والنور
هل للبجعة أغنية رحيل أم صيحات استغاثة؟
بقلم/ أحمد محمد الشريف
حينما ينسحب النور من على الوجوه لا تبقى سوى ظلال. تبقى الظلال مجرد ذكريات لا يشعر بها سوى صاحبها . هو فقط يدركها ويتعايش معها. هي سلاه الوحيدة في أغوار نفسه يستعين بها كي يقوى على مواصلة الحياة بعد ان كسره النسيان. في تلك المرحلة يحاول أن ينادي أن يصرخ أن يغني أغنية شجية تلفت إليه الانتباه لعله يجد من ينقذه أو يجذبه نحو شعاع النور بلا جدوى.
هكذا كانت "فريدة" التي جسدتها وعاشتها وعاشت معها وبداخلها وعشنا نحن أيضا معها، الفنانة القديرة/ عايدة فهمي. في عرض شجي أعده وأخرجه/ أكرم مصطفى بقاعة صلاح عبد الصبور في مسرح الطليعة، وقد أعده مسرحيا من خلال قراءة سيكولوجية فنية لقصة الكاتب الروسي أنطون تشيكوف (رقصة البجعة) والتي كتبها مستلهما فكرة أن طائر البجع عندما يشرف على النهاية يصدر عنه أغنية جميلة هي أغنية النهاية بعد أن قضى حياته في سكينة وهدوء. إذا كان تشيكوف قد كتب قصته عن ممثل مشهور انحسرت عنه الأضواء ويجد نفسه وحيدا في إحدى غرف المسرح ليجلس حزينا مجترا همومه بعد ان قضى عمره كله في ترف من الشهرة والنجومية وعشرات الأعمال والبطولات على خشبة المسرح لطالما صفق له الجمهور وكتب عنه النقاد وكم أدى من الأدوار الكبيرة والصعبة, فقد قام المعد والمخرج/ أكرم مصطفى هنا بتحويل الشخصية إلى أنثى هي الفنانة "فريدة" كما أسماها وعنون بها العرض في إشارة لكونها فنانة متفردة في أدائها وفي شخصيتها الفنية. ولعل هذا التغيير في العنوان له أفضلية وأفلت به من الوقوع في فخ أغنية البجع الأخيرة. فبطلة العرض لم تكن في حياتها صامتة أو ساكنة ومنزوية مثل البجع بل شهدت حياة صاخبة ازدانت بالشهرة والبطولات الدرامية وإعجاب الجماهير وتهافت المخرجين عليها. وها هي في النهاية بعد التقدم في العمر تعاني الوحدة والبطالة وإهمال الجميع لها.
في بداية العرض تتسلل فريدة إلى خشبة المسرح التي يكسوها الإظلام وحدها بعد انتهاء بروفة لمسرحية كانت مدعوة لمشاهدتها . تبدو ملامحها من خلال العلاقة بين الظل والنور فتبدو كشبح يتسلل في الظلام ومن خلال إضاءة الموبايل على وجهها نستشعر أننا امام ملامح نحتتها سنوات العمر بكل ما تحمل من ذكريات وشجون, ملامح هزمها الهرم وتقدم السن حتى صارت مثل شقوق الأرض التي بارت ونسيتها خضرة الأيام وأهملها الناس. تتحدث فريدة إلى صديقتها الوحيدة إلهام عبر الموبايل والهام تمثل الشخصية المجادلة لزرع بعض المعلومات واستثارة فريدة للحديث عن بعض الموضوعات . تبدي الهام قلقها وخوفها على فريدة وتطالبها بالانصراف فورا والذهاب إلى المنزل لأن الوقت قد تأخر. لكن حب فريدة لخشبة المسرح يجذبها للمكوث واسترجاع الذكريات ويشدها الحنين لأدوارها العظيمة التي قامت بها في أوج شهرتها. فهي يغلبها النعاس أحيانا وتستفيق أحيانا. وفي كل مرة تستثيرها ذكريات العمل وصوت المخرج او مساعده وهو ينادي عليها لبدء البروفة او لحلول موعد رفع الستار وأداء دورها أمام الجمهور. مما يزيد من نشاطها وتبدأ في التحول والخروج من حالة السيدة العجوز المنحنية الظهر المتقوقعة حول شجونها المستسلمة للألم وانكسارات السنين لتتبدل إلى حالة مذهلة من النشاط والحيوية وتسترجع مشهد ماستر سين لأحد الشخصيات التي قامت بأدائها من قبل. فتارة نراها في ليدي ماكبث تبدع في أداء مونولوج (اختفي أيتها البقعة الملعونة.. أقول لك اختفي. الساعة تدق الواحدة.. الثانية.. الجحيم مظلم... إلخ).. لتختمه بجملة (لكني ما زلت أشم رائحة الدم). فتستمع إلى صوت التصفيق والإعجاب من الحاضرين ومن المخرج..
وهكذا تتعايش فريدة مع أجمل لحظات مجدها حتى تكسر لها رنات الموبايل المزعجة تلك الحالة لتعود إلى محادثة صديقتها إلهام اللحوح كي تعود إلى المنزل.. لكن فريدة مازالت بعنادها وعشقها لشبابها الزائل يجذبانها للبقاء في المسرح. وقد يصيبها الوهم أحيانا انها في عمل حقيقي من دافع رفضها الداخلي للخروج من الحالة الفنية والتقمص التي يعشقها الممثل.
من خلال تلك المعايشة تجلس فريدة أمام المرآة القديمة المتهالكة ذات الضوء الضعيف كي تضع الماكياج استعدادا لأداء دور ميديا مؤكدة أن هذا الدور ذو طبيعة خاصة وله استعداد خاص مرددة (ميديا دي أساسا هاتجنني).. ثم تبدأ التقمص لميديا ببراعة قائلة (إننا معشر النساء أتعس الكائنات الحية طرافة.. علينا أولا ان نشتري زوجا بثمن باهظ لننصبه سيدا على أجسادنا... إلخ) .. وهكذا حتى تعاود صديقتها إلهام إفاقتها من حالتها مرة أخرى بجرس الهاتف. وتكرر تلك اللعبة عدة مرات. فتؤدي فريدة مرة دور نعيمة ومرة دور الفتاة حبيسة مستشفى المجانين و العاهرة.. وهكذا تتشكل عدة شخصيات معبرة عن ملامح أداء تلك الممثلة الكبيرة التي طواها نسيان الزمن الباهت وأطفأ جذوة شهرتها ونجوميتها على خشبة المسرح. فلا يبقى لها سوى بعض الذكرى تتمثل في صور لا قيمة لها حيث تعبر عن ذلك في قولها ( هي حياتي كده.. صور .. حياتي صور الناس
اتصورتها معايا زمان.. عارفة لما باشوف صوري وأنا صغيرة مع أي حد.. كأن حد مسك قلبي وبيدوس عليه جامد وبيعصر فيه قوي .. بازعل. بازعل قوي). هذا كل ما صارت عليه حياتها مؤكدة أنها تقضي أياما وليالي طويلة في وحدتها لكن ما يعزيها هو سعادتها بأنها قضت حياتها سعيدة وفي تألق بين بريق الشهرة والمعجبين والمعجبات وأنها سافرت إلى كل دول العالم. هي حزينة الآن فخطابات المعجبين لم تعد سوى أوراق قديمة بلا جدوى فلا أحد يسأل عنها الآن بعد أن كانت حلما للبعض. ومما يزيد حزنها وشجونها أنها بقيت وحيدة دون أبناء وحرمت من مذاق حياة الأمومة.
وهكذا تظل فريدة منغمسة في أغوار حياتها حتى يلحظ أفراد الأمن في المسرح وجودها ويطالبونها بالرحيل لتأخر الوقت ليلا. وفي تلك أيضا إشارة إلى أن من كبر في السن لم يعد ذو فائدة لدى الناس بل هو عبء ثقيل وعليه الرحيل من حياتهم.
هذا النص لم يضعنا أمام حدث درامي متصاعد وإنما جذبنا إلى مجرد حالة درامية متوحدة ذات إطار واحد ومضمون واحد بدأت بظهور فريدة وانتهت بخروجها وما بينهما وصف لحالتها وسرد لنقاط مضيئة في حياتها تشابهت كلها بشكل تكراري دون تصاعد درامي . لكن عوضا عن ذلك كان التصاعد المطلوب للتأثير على المتلقي تم من خلال أداء فريدة وتطور حالتها النفسية بالتصاعد طوال فترة العرض وهذا ما نجح فيه المخرج المعد للنص أكرم مصطفى بالتناول السيكولوجي المعبر بسبر أغوار شخصية فريدة بكل شطحاتها وكينونتها وانهزاماتها بالتدريج حتى وصل بنا إلى مرحلة الإفاقة عن طريق صوت موظف الأمن.
هذا العرض وإن كان مونودراما تكون فيه البطولة لممثل واحد إلا أن الموسيقى التي رسم ملامحها وأبدعها محمد حمدي رؤوف كانت بطلا ثانيا للعرض. فقد عبرت تعبيرا صادقا عن الحالة النفسية والمزاجية لفريدة سواء بالحزن او بالنشاط أو بالحلم واستدعاء الذكريات وغيرها من الحالات المختلفة موظفا آلاته الموسيقية توظيفا جميلا وسلسلا وصادقا في كل موقف. منها عندما تبدأ فريدة في شرب الخمر كي تستعيد ذكرياتها قبل الدخول في مونولوج ليدي ماكبث تبدأ معها الموسيقى بنغمات حزينة من آلة الكمان وقليل من البيانو ثم تتصاعد مع حالة النشاط الذهني مع الشرب ليتدخل إيقاع الرق بصهللة صاجاته مع تزامن صوت الأكورديون ليظهر حالة النشوة التي انتابت فريدة وبالتدريج يختمها بآلة التشيلو بفخامة صوتها تمهيدا للدخول في المونولوج الفخم لليدي ماكبث. وهكذا تسير الموسيقى طوال العرض بالتنوع في توظيف الآلات على فترات في تعبير تأثيري عن كل الحالات المختلفة دون إسراف. فكان مما ميز الرؤية الإخراجية هنا أيضا هو التعامل الذكي مع لحظات الصمت وترك مساحة التعبير كاملة لبطلة العرض لتوصيل أحاسيسها كاملة للمتلقي وحدها دون تدخل موسيقي زائد مما أضفى بهاء وألقا حسنا على أدائها وعلى التأثير على المتفرج.
وقد عبرت السينوغرافيا بشكل جيد عن مضمون العمل من خلال أولا تكوين كلاسيكي لمنصة التمثيل بالقاعة بتوظيفها كعلبة إيطالية فالبطلة ممثلة كبيرة في السن وكانت كل أدوارها كلاسيكية إذن فارتباطها العملي وبالتالي النفسي هو بمسرح العلبة وهنا يؤكد المخرج على مدى تعلقها وعشقها لتلك الخشبة التي قضت فيها حياتها (أذكر هذا لأن المتفرج غالبا يتوقع توظيف مختلف عن الخشبة التقليدية في مثل تلك العروض. لكن المخرج نجح في اختيار الشكل الأنسب). ثانيا لم يكن هناك قطع ديكور تذكر فخشبة المسرح خاوية فارغة مثل حياة فريدة الحالية فهي تعبر عن الخواء الذي تعيشه. حائط خلفي للكواليس من الطوب الأحمر مستند عليه باب قديم مخلوع وجزء من شباك أرابيسك قديم مكسور معبرين عن الانكسارات التي تعاني منها فريدة. بينما تناثر على المسرح بعض الأثاث المتهالك وكأنه بقايا ديكور قديم مهمل تسريحة ومرآة انطفأت معظم مصابيحها للدلالة على انطفاء بريق الشهرة والنجومية عن فريدة، أمامها كرسي ذو جلد متهالك ومقطوع. وفي اقصى اليسار كوميدينو صغير كساه الغبار وهو غير مستعمل في العرض. وعلى يمينه يقف مانيكان للملابس وفي يمين المسرح شيزلونج هو الأكثر استعمالا مع جلوس فريدة عليه وقد كسي باللون الأسود لزيادة التأثير في جرعة الحزن والهموم التي تعيشها فريدة وعليه وسادتان.
الجو العام لشكل الديكور الذي صممه الديكور عمرو عبد الله كان لابد له من إضاءة خاصة لتكتمل السينوغرافيا المأخوذة من سيكلوجية فريدة وقد صممها أيضا عمرو عبد الله بإضاءة خافتة للمشهد ككل مع بعض التأثيرات من خلال تبادل علاقات الظل والنور مع كل شخصية تؤديها فريدة ومع كل حالة نفسية تعبر عنها فنجد مثلا إضاءة اللقطة الأولى ودخول فريدة للمسرح من خلال سقوط ضوء الموبايل على وجهها ليظهر شحوب السنوات مع تجاعيد الوجه المنحوت بتقاسيم عضلاته مكتسيا بهموم وأحزان الشخصية. كما يضع في الخلفية بروجيكتور متعدد الألوان تتغير بتغير الحالة وقد وضع في مواجهة عين المتفرج مما يعطي تأثيرا ضبابيا للمشهد التمثيلي للشخصيات المختلفة التي تتنوع فريدة في تقديمها وبالتالي يسهم في فكرة ترحيل الزمن إلى زمن ذكريات في زمن قد فات. وهنا أقول إن اللعب بالظل والنور هو ايضا بطل آخر للعرض .
تعددت زوايا التمثيل في هذا العرض فنحن أمام فريدة الممثلة الكبيرة التي خبت عنها أضواء المسرح الذي قضت عمرها كله فيه كبطلة وتعاني من اهمال الناس ونسيان الجمهور واختفاء الأصدقاء والركون إلى البطالة.. وقد استطاعت الفنانة عايدة فهمي التعبير الصادق عن كل مشاعرها وهمومها وشجونها وأبرزت انفعالاتها بصدق يصل بسهولة إلى قلب ومشاعر المتفرج من خلال نبرة الصوت العميق المكتسي بخبرة الزمن وكأن اتربته قد غطته من الاهمال بعد الكبر. ثم نسمعها وقد استعادت نبرتها الشابة الجميلة وتتلون فيه مع كل حالة وكل شخصية لتعبر عما يجيش بها متقمصة أغوارها. كما كان التعبير الجسدي أحد ادواتها الصادقة في معايشة الشخصية بانحناءة الظهر وتقوس الجسم والخطوة البطيئة المتثاقلة حتى تنتفض وتنشط وتتحول بمهارة بتقمص مختلف الشخصيات بين ليدي ماكبث وميديا ونعيمة وغيرهن وتعطي كل شخصية منهن أبعادها الجسدية والنفسية الملائمة لها. وتنتزع بخبرة وسهولة بعض الضحكات والبسمات من الجمهور في بعض المواقف كما جذبت تعاطفه مع قضيتها وأحزانها وعايشته معها بين الإحساس بالمرارة والخواء وبين البكاء والأسي. حقا أبدعت عايدة فهمي في طرح وأداء شخصية فريدة ومعها شخصياتها وذكرياتها بكل جوارحها ومشاعرها.
عرض فريدة هو حالة نفسية شديدة التأثير . وهو عرض منضبط ومؤثر رسمت كل ملامحه بدقة وحرص ووعي من المخرج وكل مبدعيه. بقي فقط أن أؤكد ثانية أن النص رغم جودته وتماسكه لكنه بحاجة إلى الفعل الدرامي حتى لا يكون أقرب إلى سرد الخواطر والذكريات. بل ليكون نصا مسرحيا دراميا مكتملا. ولعل هذا العيب يظهر غالبا (وليس دائما) عند تحويل قصة قصيرة إلى نص مسرحي لأن لكل منهما أسلوب خاص به شكلا وموضوعا. ولعل هذا ما حاول تجاوزه أكرم مصطفى ونجح فيه إلى حد ما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب