الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمينة الرحال بطلة من بلادي

عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)

2023 / 6 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


لا أحب الحديث عن الشؤون الشخصية، ولا حتى ما قد يبدو كذلك، أو إنه يصب بهذا الإتجاه أو التصور. خاصة بعد أن أصبح، في هذه المرحلة الموحشة، للواجب الوطني ثمناً. وبات الواجب ميداناً لزراعة الوهم، والإختلاق والتفاخر الزائف. لكن بالمقابل هناك مواقف إن لم أذكرها، أشعر بأني مقصر في انصاف مَنْ يستحق، أن أقدم لها أو له الإمتنان والتقدير البالغين. وإن سيرتها أو سيرته تقدم ضمناً درساً رائعاً في تعميق الوعي الإجتماعي، وإقتراناً للنظرة بالعمل، وتعضيداً للرفعة الأخلاقية.
تم اعتقالي في بداية استلام حزب البعث للسلطة عام 1968 في العراق. كنت حينها في السنة الأخيرة من دراستي الجامعية. تطوعت السيدة المناضلة أمينة الرحال للبحث عني، لدى كل الجهات المعنية، لإنقاذي دون طلب مني أو من عائلتي. قالت: امارس هذا الواجب، ليس من خلال دوري المهني كمحامية. ولكن المعتقل مثل إبني، وبهذه الروحية أدافع أبحث عنه.
تأكد لي أن الدافع الحاسم عندها، نزعتها في إحترام العمل النقابي، وبصفة خاصة الطلابي منه. وقد عَلِمَت حينها أني سكرتير إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية. الجدير ذكره أن الراحلة الكريمة بقيت متابعة نشيطة لأدق تفاصيل الحياة السياسية في البلاد، لآخر لحظة في حياتها الغنية والمثمرة، التي تميزت بالحيوية والإبداع والأصالة.
ربما لولا دورها الشجاع والنبيل، لما كنت موجوداً الى الآن بينكم، لأنحني لها إحتراماً وعرفاناً وتبجيلاً. علماً أنها حين تطوعت للبحث عني، لم تكن في وضع عمري وصحي مناسبين، هذا فضلاً عن معاناتها نتيجة لرحيل زوجها، قبل فترة غير طويلة في تشرين الثاني 1968. ربما احالتها على التقاعد لأسباب صحية بعد خمس سنوات في 19/3/1973 مؤشر على ذلك.
أعتبر دفاعها ومحاولتها البحث عني لإنقاذي، من المعتل مجرد مأثرة صغيرة، قياساً بالمآثر الكبيرة لتلك السيدة العراقية البطلة. هي بطلة بالمعنى الدقيق جداً للكلمة. لست وحدي أقدر نبل أمينة الرحال الشجاعة والمتحضرة والجليلة، بل كل زملائي الطلبة، كل عائلتي وكل مَنْ يعرف تلك الظروف الأمنية والسياسية.
قال لي أخي المحامي أحمد برتو: وجودك في المعتقل لمدة شهرين بكل أهواله، أعتبره برداً وسلاماً. لأن مَنْ رفعت راية حمايتك من الموت المحقق، هي السيدة أمينة الرحال. اعتبر اعتقالك قد عوضته السيدة الرحال بعظمة قدرها. خاصة أنها في تلك الفترة قد توقفت عن العمل تقريباً، بسبب العمر وبعض المتاعب الصحية. قال بالحرف الواحد: الرحال تمثل الضمير الحي للشعب العراقي. طبعاً، لم يسمحوا للرحال بمقابلتي، ولكن أحد الطيبين في المعتقل أسر لي بذلك. كان ذلك بمثابة شحنة قوة إضافية لي وأمل بالحياة من جديد.
إن مجرد عملية البحث عن معتقل سياسي، تحمل الكثير من المخاطر على الباحث، حتى ولو كان له بعض الحق بصفته المهنية، وفق "القوانين" المرعية. تشهد لهذه السيدة سيرتها الشخصية، وما إجترحته من بطولات استثنائية سابقة ولاحقة. هذا فضلاً عن القيم الفكرية والسياسية والتجارب العملية، التي تربت عليها وسط عائلتها الكريمة.
تنحدر السيدة والأم والرفيقة الرحال من أسرة متنورة في منطقة الرحالية بمحافظة الأنبار. سمعت في طفولتي الكثير من المفاخر، التي يتميز بها أهل الرحالية: النخوة، الشجاعة، الصدق ومحبة تقديم كل أنواع الدعم الضروري للآخرين.
عمل والدها علي صائب الرحال ضابطاً في الجيش العثماني. ثم تولى إدارة المدرسة الحربية في اسطنبول. وأخيراً عمل قائممقاماً مدنياً في عدة مدن، منها مدينة راوة. وصف الناس أباها بالرجل الأمين. لا تمنح الناس الألقاب الطيبة والمشرفة جزافاً.
حين بدأ العراق يلملم أطرافة، بعد إنهاك دام قرون. نهض بذلك الجهد الصعب في الربع الأول من القرن العشرين شباب طامح لمستقبل أفضل. يقف بين أبرزهم أخوها حسين الرحال من مواليد عام 1901. أجمع كل المهتمين والدارسين لتلك الفترة، على أنه شعلة في النضال الفكري والعملي. يكافح من أجل عراق متحرر وعادل إجتماعياً. كان من أوائل منظمي الحلقات الماركسية في العراق. أسهمت أفكاره وممارساته في تعزيز الوعي الإجتماعي بين الكادحين والمثقفين الحقيقين. أمينة هي الأخت الصغرى لهذا المناضل الوطني والمفكر السياسي والماركسي المعروف. لم يقل دورها النضالي وتأثيرها الإجتماعي الإيجابي شأناً عن دور أخيها. أما زوج السيدة الرحال، فهو الكاتب والصحفي والتربوي المعروف عوني بكر صدقي. ساهم صدقي بنشاط في إعداد المناهج الدراسية للمدارس العراقية. ومن مؤلفاته: الكشاف العراقي، عيون التاريخ، جغرافية بلاد العرب، مباديء دروس الجغرافية، الواجبات الأخلاقية والوطنية وجغرافية العراق وغيرها.
السيدة أمينة الرحال غنية عن التعريف. هي إنسانة متقدمة على فترة حياتها. على الرغم من أنها بحق أشهر من نار على علم. لكن ربما الأجيال الجديدة، قد لا تعرف الكثير عنها. لذا أسجل عنها هنا كلمات قليلة، حول بعض محطات حياتها، التي عززت طموحات شعبها وليس لمجدها الذاتي:
ـ ولدت يوم 23 أبريل 1915، وتوفيت في يوم في 15 فبراير 2002.
ـ تخرجت من دار المعلمات في بغداد. عملت معلمة لثمان سنوات، خلال الفترة الواقعة بين 1/10/1931 الى 1/10/1939.
ـ ترأست وفد المرأة العراقية، الى المؤتمر النسائي الشرقي الأول، المنعقد في تموز من عام 1930 بالعاصمة السورية ـ دمشق. وهي مازالت طالبة في دار المعلمات.
ـ استقالت أمينة الرحال من التعليم في 1/10/1939 لتدخل كلية الحقوق.
ـ دخلت كلية الحقوق في 6/11/1939. وتخرجت منها عام 1943.
ـ هي أول عراقية تنتمي عام 1943 الى نقابة المحامين، بعد مرور عشر سنوات على تأسيس النقابة. هي الأولى في ممارسة مهنة المحاماة في العراق.
ـ وصفت بالرائدة في ترسيخ قيم العمل التطوعي في العراق. إدراكاً منها بأن العمل التطوعي العام ينمي شخصية المتطوع، ويعزز ويوسع دائرة وتأثير القيم الإجتماعية الراقية بين المواطنين.
ـ حصلت في عام 1936 على إجازة سوق سيارة. وهي ما زالت في سن السابعة عشر من عمرها. إنها أول امرأة عراقية تسوق سيارتها الخاصة في شوارع بغداد. بعثت بذلك رسالة للمرأة العراقية، تدفعها للنضال من أجل حقوقها الخاصة والعامة. على الرغم من أن الإجازة تعتبر من أبسط حقوق أي مواطن، إلا أنها سجلت في حينها، ومن خلالها خطوة عملية كبيرة، للسير في طريق إلاقرار بحقوق المرأة المُستبلة قهراً.
ـ انغمرت في العمل المهني والسياسي، وهي لم تزل طالبة في الجامعة. شاركت مع الحركة الوطنية والحزب الشيوعي، بالوثبات والإنتفاضات ضد النظام الملكي ورموزه وخطواته السياسية. الجدير ذكره أنها أول امرأة، تصبح بين عامي 1941 ـ 1943 عضواً في لجنة الحزب المركزية.
ـ تخرجت من كلية الحقوق عام 1943. انتمت الى نقابة المحامين في ذات العام. لتكون أول محامية عراقية تنال عضوية النقابة. يأتي ذلك الإنتماء بعد مرور عشرة أعوام على تأسيس النقابة.
ـ اهتمت بالعمل الجماهيري المهني والديمقراطي أيضاً. عند تأسيس جمعية المرأة العراقية المناهضة للفاشية والنازية عام 1945، انتخبت أمينة الرحال عضواً في هيئتها الإدارية.
ـ اشتركت في المؤتمر العربي النسائي في القاهرة عام 1954.
ـ عينت بعد ثورة 14 تموز 1958 مشرفة تربوية في وزارة المعارف. لكنها بعد إنقلاب شباط 1963 فصلت من وظيفتها لأسباب سياسية.
ـ أحيلت على التقاعد لأسباب صحية في 19/3/1973.
طوت المربية والمحامية أمينة الرحال ذلك السفر المجيد، من النضال الصادق والتضحيات الكبيرة برحيلها عام 2002. لكن سيرتها أوقدت الضوء في طريق المرأة العراقية، للنضال ضد التقاليد الإجتماعية الفاسدة، القائمة على المظهرية، الكذب، التعسف والقمع. ها هو الظلام اليوم يغطي سماء البلاد. تشتد حلكته بصفة خاصة على المرأة. لكن بالمقابل رأيت بعض الأمل بنظيرات الرحال، حين وقفن في ساحة التحرير. يدركن كما أدركت أمينة الرحال، بأن التغير يتطلب وقفات تشد الصلابة لتكشف زيف أخطر الإدعاءات.
لكِ المجد أيتها الأم والأخت الكبيرة والمناضلة العنيدة أمينة الرحال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. كتيبات حول -التربية الجنسية- تثير موجة من الغضب • فرا


.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتفض اعتصام المؤيد




.. بصفقة مع حركة حماس أو بدونها.. نتنياهو مصمم على اجتياح رفح و


.. شاهد ما قاله رياض منصور عن -إخراج الفلسطينيين- من رفح والضفة




.. نتنياهو يؤكد أن عملية رفح ستتم -باتفاق أو بدونه-