الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النزعة الصوفية في شعر الشاعر السوري منذر يحيى عيسى في مجموعته الشعرية / وحيدًا ستمضي / دراسة نقدية ذرائعية

عبير خالد يحيي

2023 / 6 / 24
الادب والفن


مقدمة:
في كتابه / دراسات في الأدب العربي الحديث/ يقول الدكتور مصطفى هدارة :
" إن النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث, لا ترتبط ارتباطًا عضويًّا بمذهب أدبي بعينه, فقد توجد في الكلاسيكية أو الرومانسية أو الواقعية أو الرومانسية أو الرمزية أو السريالية, أو أي أمذهب أدبي آخر" .
ويسند الدكتور ابراهيم محمد منصور في كتابه( الشعر والتصوف- الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر ...) هذا القول ويزيد عليه:
" فكذلك أرى أن الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر يُدرس عند كل شاعر منفصلًا من سواه" .
وعلينا أن نميز بين النص الشعري الصوفي الأصلي الذي سُجّلت فيه قناعات وأفكار ومعتقدات شعرائها كفرقة إسلامية لها طرقها وشيوخها ومريديها وألفاظها, مثل قصائد رموز الصوفية : رابعة العدوية والحلاج وابن الفارض وجلال الدين الرومي, ... وهي النصوص الصوفية الأصلية التي يتمترس خلفها الشاعر الصوفي الممارس, الذي يعمل على تفعيل خاصية الرمز والعمق الدلالي البليغ للمفردة, المفتوح على التأويل, مع الأسلوب العاطفي الخارج باتجاه الشجن والحنين, كما أن هذا الشاعر الصوفي الممارس يختلف بالتجذير عن الظاهرة الصوفية في النص المعاصر.
وعلينا أن نشير إلى حقيقة هامة فيما يخص التجربة الصوفية ( التصوّف), أو النزعة الصوفية بمعناها الإنساني العام, وبمعناها الإسلامي الخاص. فالتجربة الصوفية( التصوّف): بالمعنى العام "هي ظاهرة إنسانية عامة ليست محدودة بدين أو حدود مادية زمانية أو مكانية, فالتجربة الصوفية قد تنشأ بعيدًا عن الدين, كما في الفلسفة الأفلاطونية أو الهندية...ولا ينفي هذا المفهوم الإنساني العام للصوفية وجود تأثير المفهوم الإسلامي الخاص في الشعر العربي الحديث والمعاصر, بل وجوده في الاتجاه الصوفي العربي بصورة عامة" .
إن الشعر لم يكن في أي زمان ولا بأي لغة بعيدًا عن المفهوم الإنساني للتصوّف, من حيث أنه استنباط لتجربة روحية, ومحاولة للكشف عن الحقيقة, عبر التخطّي عن الوجود الفعلي للأشياء, والشعر في تطور دائم وحركة مستمرة, ومحال أن يصدر الشعر عن ثبات أو جمود, فهو تغير مستمر وصراع ومعاناة, وكذلك حال التصوّف, كما يقول صاحب الطبقات الصوفية : التصوف اضطراب فإذا وقع السكون فلا تصوّف.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أحوال الصوفية : كالمراقبة والمحبة, والخوف, والرجاء, والشوق, والأنس, والطمأنينة, والمشاهدة واليقين, وجدنا أنها تكاد تكون أحوال الشاعر في وضع الإلهام.
"والظاهرة الصوفية في النص تتحرّر من المرجعية الدينية, وتستبقي الجانب الإنساني والرغبة بالسمو البشري والسلام الداخلي, طبيعة النص الصوفي تلائم التعطّش البشري للتواجد بآليات سردها وفنّياتها البلاغية, ولا يمكن تصنيفها كأدب إسلامي بل كأدب روحي" . وهذه الظاهرة أوردها الكثير من العلمانيين وغير المسلمين في كتاباتهم, ك (باولو كويلو) وغيره.
إن الكتابات الشذرية والتجليات الصوفية والكتابات العرفانية اتخذت مع القرن الرابع الهجري شطحات وكتابات شذرية متشظية, كما يبدو واضحًا عند الحلاج في طواسينه, حيث يتكوّن كل طاسين من مجموعة من الشذرات , وابن عربي في تجلياته خاصة ....
انتقلت الكتابة الشذرية حديثًا إلى الشعر العربي المعاصر, فانصهرت في القصيدة النثرية كما عند أدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج ومحمود درويش في( يوميات الحزن العادي) و( حضرة الغياب).

فأين موقع شاعرنا منذر يحيى عيسى في مجموعته هذه التي حوت على قصائد نثر وشذرات صوفية بين شعراء الصوفية؟
سنعرف الجواب من خلال هذه الدراسة الذرائعية لمجموعته ( وحيدًا ستمضي)
السيرة الذاتية :
منذر يحيى عيسى :
*مواليد دير حباش - طرطوس ١٩٥٤م
درس المرحلة الإبتدائية والإعدادية في مدرسة القرية, والمرحلة الثانوية طرطوس.
*إجازة في العلوم الكيميائية الحيوية - جامعة دمشق ١٩٧٧م
*دبلوم تربية وعلم نفس - جامعة دمشق.
*عمل في حقل التربية والإدارة فترة.
*نقل بعدها إلى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش مفتشًا حتى التقاعد.
*عضو اتحاد الكتاب العرب.
*عضو جمعية الشعر.
*رئيس فرع طرطوس لاتحاد الكتاب العرب.
صدر له الكتب التالية :
١ رايات سوداء لها شكل الفرح - شعر عن اتحاد الكتاب العرب عام ٢٠٠٤م.
٢ الدخول في مدار الياسمين - شعر عن دار بحري عام ٢٠٠٥م.
٣ تحولات القلب - شعر عن دار بحري عام ٢٠٠٦م.
٤ حالات لعصف القصيدة - شعر عام ٢٠٠٨م عن دار عروة عام٢٠٠٨م.
٥ عابر إلى ضفة أخرى - شعر عن اتحاد الكتاب العرب عام ٢٠١١م.
٦ نديم محمد شاعر الألم والكبرياء - دراسة عن الهيئة العامة السوريه للكتاب عام ٢٠١٦م.
٧ لاتوقظوها ...حالمة- شعر عن اتحاد الكتاب العرب عام ٢٠١٧م.
٨ أوراق الوداع - عن الراحل الشيخ يحيى حسن عيسى - عام ٢٠٠١م.
٩ نديم محمد الشاعر المتمرد - دراسة صادرة عن دار المتن للطباعة والنشر في العراق عام ٢٠٢٢م.
١٠ وحيداً ستمضي - شعر - صادرة عن دار المتن للطباعة والنشر في العراق - فائزة بجائزة قصيدة النثر في العراق الشعر نبض الحياة لعام ٢٠٢٢م.
١١ بارقات تومض في المرايا- شعر عن اتحاد الكتاب العرب في سورية عام ٢٠٢٣م.
*لديه أكثر من أربع مجموعات شعرية مخطوطة.

تجنيس المنجز الأدبي: شذرات + قصائد نثر في الأدب الصوفي.

الرصد البصري لمكونات النص :
الرصد العيني أو البصري هو عامل مهم للناقد والكاتب والمتلقي البسيط على حد سواء, فإذا أُهمل الشكل البصري تعرّى النص من رداء الأناقة البصرية, وصار شكلُا عاديًّا لا ينتمي لجنس, أي فقد هويته الأدبية, كما فقد انسيابيته ودخل حيّز الإهمال في القراءة, حين يختلط ويضيع عند القارئ التسلسل في البناء الفني للمعنى والأفكار.

بالنسبة للغلاف:
باعتباره عتبة بصرية سيميائية, اللوحة تمنيتها أن تحمل رمزية القصائد والشذرات الصوفية التي حفلت بها المجموعة بشكل أعمق, وكذلك إيحائية العنوان( وحيدًا), الغلاف هنا حمل الثيمة الرومانسية, لرجل وامرأة مظلّلين , ينظران إلى قمر كبير وشجرة, فوقهما قبة ضياء, الثيمة الرومانسية, مع أنها موجودة في الأدب الصوفي بوضع خاص جدًّا, إلا أنها لم تكن هي الثيمة المسيطرة, الحقيقة أن الغلاف فصلني وضلّلني قليلًا عن متن العمل.
أول ما يلفت العين والنظر في متن هذا المنجز هو شكل النصوص, وتموضعها على الصفحة, كلها تشغل منتصف الصفحة, القصائد والشذرات, وتأخذ شكلًا أشبه ما يكون بالنقوش أو الزخرفات الفارسية على سجادة عجمية, عمود يتسع ويضيق, فقد يكون السطر جملة طويلة من عدّة كلمات, وقد يكون جملة متوسطة الطول, وقد يكون كلمة, وقد يكون سطرًا فارغًا. ومن هذا التباين في الاتساع والضيق يتشكّل سواد القصيدة في منتصف البياض, برسومات تجريدية:
تَتَجَلّى في مُنْتَصَفِ الوَقْتِ قَمَراً
يَسْكُبُ ماءَ فِضَّتِهِ في الأَحْداقْ...
تَتَراءَى لكُلِّ العُشَّاقِ دُوْنَ حِجابْ...
يَمْتَلِئُ اللَّيْلُ سُكُوْناً
وتَعُمُّ الرُّوْحَ سَكِيْنةْ...
والعَقْلُ يَسْبَحُ في بَحْرِ الإِشْراقْ...
القَلْبُ يَتَراقَصُ مِنْ فَرْطِ الوَجْدِ
وتَدُوْرُ كُؤُوْسٌ مُتْرعةٌ،
صافيةٌ كدَمْعِ العَيْنِ
وأَنْقى
والسّاقِي يَدُوْرُ برَقْصٍ مَجْنُونْ...
وأَرى
سِراجَ الظُّلْمةِ يَهْدِي
مَنْ ضَلَّ مَسْلَكَهُ وتاهْ
لَعَلَّ الصُّبْحَ قَرِيْبٌ
ولَعَلَّ الهُدْهُدَ يَؤُوْبُ مِنْ رِحْلتِهِ

وعلى جَناحَيْهِ خَبَرٌ
أَراهُ يُوْرِقُ فَرَحاً

وللنقاط البينيّة, التي شاهدناها بكثرة, دلالاتها, لننظر إلى أهميتها :
لا تَقْتُلُوْهــا... إنَّها الفَراشة
تلك النقاط البينية, دالّة بصرية محذوفة تفكيكيًّا, مع أنها تغوص في مدلولها الإيحائي إلى أعمق المضامين المخبوءة وغير المرئية في المعنى, وبمفاهيم مؤجلة مفادها: لا تقتلوها إنها لم ترتكب إثمًا ولا ذنبًا ولا جريمة تستوجب قتلها, كلكم تعرفونها وتعرفون رقّتها وبراءتها.
أمّا النقاط في آخر الجملة :
حِقْداً وغَيْرةً...
وتَصْعَدُ العاصِفةُ دُرُوْبَ السَّماءْ...
فهي دالّة بصرية لجملة سياقية محذوفة, تعوّض عن زيادة في تعداد, أو وصف, أو امتداد زمني لفعل في السياق, أو استمرار لحدث, لكَ أن تتخيّله.
لقد حوى العمل على عدّة قصائد, حوالي 16 قصيدة نثرية, متفاوتة في الطول, بين الطويلة المقسمة على مقاطع مرقمة, والمتوسطة, والصغيرة. عناوينها:
لا تَقْتُلُوْهــا... إنَّها الفَراشة, وللخمرة سرّها, ساحرة, عشبة الخلود, خربشات وأوراق قديمة, تقول التجربة, وشاح البهاء, مدار القصيدة, سطوة الإشارة, تداعيات خريف العمر, ظل عنيد, شمعة الكلام, تهطال الضوء, صرخة مايا, الجزيرة الوادعة, ماذا يفعل الشاعر في المقهى.
الشذرات: 80 شذرة, عناوينها:
هِجْــرةُ الــرُّوْح, نـارُ الغَيْـرةِ, ظِلٌّ، وجِدار, قصَبُ الرُّؤْيا, للوَقْتِ أَفْياءٌ, أَيْقُوْنــةُ الأَحْــلام, رُؤْيــا زَرْقــاء, بِطاقــةٌ حَمْــراء, حافَاتُ الرُّوْح, صَدْمـةُ الضِّيــاء, طائِــرُ الحـبّ, نـِداءُ القَصِيْـدة, أَمــانٌ مَجْـرُوْح, زَبَــدٌ ومـاء, مَـرارةُ الهِجْـران, سُـفُنُ الاشْتِيـاق, سَرِيْـرُ القَصِيْـدة, إِبْــراقة, مَرْفَـأُ القَلْب, رايــة, مَـطَرُ الـزُّرْقة, مَواقِـدُ الحَنِيْـن, صَيْـفٌ آفِـل, خَمْـرةُ الـمَعْنـى, سَـكْرةُ القَصِيدة, مَعَ اللَّيْلِ خَمْر, صُـوْرةٌ خالِـدة, شَـجَرةٌ عارِيـة, مـاءٌ مُـقَدَّس, مُخْمَلُ الظَّلام, مَرْكَبُ الرِّيْح, حُرِّيَّـةُ الجَسَـد, حَيْرة, حُزْنُ النُّجُوْم, مُحاولةُ الخَلاص, خُلُـوْدُ الـمَعْنـى, عَبِيْرٌ تائِه, مجَـرّةٌ مِنْ ضِيـاء, شَـغبُ الطُّفُوْلة, دُعاءُ الصَّباح, وَعْـد..., تَوْقٌ إلى البِدايات, ماءُ البِداية, دُمُـوْعُ الكَلِـمات, عَرائِـسُ الـمَـطَر, غُـرابٌ حَكِيْـم, مِـحْرابُ الجَمال, أَخْيِـلةُ الفُصُول, شَـغَافُ قَلْـبٍ حَزِيـن, حُلُمٌ رَيَّانُ أَزْرَق, غيمة الروح, قَنادِيْلُ اللَّيْل, قَرْيتي... دَيْرُ حباش, قُـرْبانُ الـدَّم, تَـوْقٌ ولَهْفَتان, أَمـانُ الضَّـوْء, شَـغَفُ النَّبِيْـذ, أَحْضـانُ الأَحْـلام, نَصِيْحة, عاصِفةٌ في كَأْس, مَوْتُ القَصِيْـدة, الطَّقْسُ الـمُسْتَحِيْل, عُرْيُ الـرُّوْح, مَنْ يُوْقِظُ القَصِيْدة؟, قَصِيْدةٌ في غَيْمة, نَهْرُ النَّار, حَضْرةٌ مُقَدَّسة, مِلْحُ اللَّهْفة, شَوْق, عَزْفُ الرِّيْح, الصُّـوْرةُ والحِجـاب, قَصِيْدةٌ مُشاكِسة, بَحْرُ عمْرِيْت, مِحْرابُ الـماء, مُلُوْحةُ البَحْر, خُرافةُ الزَّبَد, مَلِكُ الفُصُوْل, حِبْرُ اللَّوْعة.
والشذرات:
عبارة عن تأملات ماورائية صارمة حول الحياة, وتعبير شاعري عميق عن تجارب ذاتية وموضوعية وفنية, كما أنها بمثابة جمل أو ملفوظات أو مقاطع أو نصوص نثرية أو شعرية أو فلسفية أو صوفية أو تأملية أو غيرها, وهي كذلك متواليات مقطعية منفصلة عن بعضها البعض, بيد أنها قوية وجذابة, تحمل صورًا دلالية عميقة, قائمة على الانزياح, والمفارقة, والسخرية, والإيحاء, والترميز, والإرباك, والإدهاش, والعصف الذهني. ويتميّز تتابع هذه الشذرات بحركية إيقاعية قوامها: الحركة والنشاط, والدينامية, والدأب المستمر, ومن هنا فالشذرات هي كتابات ممزقة ومتفرقة تبدو أنها ضد النسقية, وضد النظام النصي الصارم .
وزّع الشاعر شذراته بين القصائد, إذ ابتدأ المجموعة بقصيدة وأنهاها بقصيدة, لم أجد كسورًا في الإيقاع الداخلي للقصائد, كما لم أجد أخطاءً إملائية أو نحوية, واستخدامه لعلامات الترقيم جيد جدًا, والمسافات بين الأسطر مناسبة وجيدة, وكذلك الفراغ بين فقرة وأخرى. وكان الشاعر موفقًا في اختيار عناوين القصائد والشذرات بما يتلاءم مع وحدة الموضوع في كل منهم.
وكذلك كان موفقًا في اختيار عنوان المجموعة( وحيدًا ستمضي) حيث أعطى دلالة جيدة عن الثيمة العامة لهذه المجموعة.

مستويات التحليل الذرائعي

أولًا- المستوى الفكري عند الشاعر منذر يحيى:
البؤرة الأساسية الثابتة Static core:
من صفات النص الرصين, المتكامل للشروط النصية البنائية والجمالية, احتوائه على استاتيكية التنصيص textualization motion في الأفكار والأيديولوجيات الإنسانية, وحتى في الشكل البصري, والبؤرة الثابتة تعني تلمس أيديولوجية الكاتب الأدبية واستراتيجيته الفكرية, ونظرته نحو مجتمعه, وهي رسالة إنسانية يتميز بها الأدباء, وبالخصوص, الكبار منهم, حيث تشكّل مرتكزًا ثابتًا, وبؤرة لا يمكن التلاعب فيها نقديًّا, تحمل البؤرة في داخلها ثيمة النص, وهي كروية التكوين تتدحرج على بقية المستويات لتنقل أيديولوجية الكاتب إلى كل المحاور, حيث منها ننتقل نحو التنوّع في مخبوءات النص ودلالاته السيميائية والرمزية.
متقمّصًا حال الشاعر الصوفي, وعلى مستوى المضامين الكلية, ينثر شاعرنا منذر يحيى عيسى شذراته وقصائده الشعرية بمواضيع فكرية وروحية تعكس تجربته الذاتية وانفعالاته الشعورية, في قالب فني غني بالجماليات البلاغية وعلم الجمال وسيميائية ورمزية الإيحاء, وهي مواضيع شديدة الذاتية, ولا تخرج عن علاقة الشاعر بذاته, وقد يتجاوز إلى العلاقة بالآخر, دون تمييز أو تخصيص, إضافة إلى علاقته بالذات الإلهية, والوجود كإطار مكاني يوجد ضمنه, في سياق هذه المواضيع نجده يركز على معاناته الروحية, دون أن يغفل عن تناول القضايا الكبرى ضمن ذات السياق, معطيًا الأولوية للأبعاد الروحية والوجدانية في التعبير عن جوهر الإنسان وحقيقة وجوده, إن معظم المضامين تتحرك في اصطلاحات البدايات ومقاماتها, اليقظة والتوبة والمحاسبة والإنابة والتفكر والتذكر والرياضة, ونظائرها في أبواب: الحزن, والخوف والإشفاق, والخشوع, والإخبات, والزهد والورع, والرجاء والرغبة, وقد يخوض الشاعر الصوفي في مضمار المصطلحات العامة كالحرية والحزن, لكن بدلالاتهم هم وليس بالدلالات التي يفهمها العامة, فالحرية والعبودية عند الشاعر الصوفي تعود للعلاقة بالشهوات والنفس والشيطان, فمن تولاها كان عبدًا لها, ومن أفلت من سطوتها كان حرًّا, والحزن لا يكون على الدنيا وما فيها كحال العامة, وإنما يكون بعيدًا عن الدنيا وما فيها.
من هذه البؤرة الثابتة, ننتقل إلى المستويات المتحركة التالية :
 المستوى اللساني
 المستوى النفسي :
- التناص
- السلوكي النفسي
- التقمص النفسي
 المستوى الديناميكي
 المستوى الأخلاقي

ثانيًا- المستوى اللساني : Linguistic Level
تتّسم اللغة الصوفية باللامحدودية وكثرة التخييل, واتساع الرؤيا, لأنها تصور تجارب ميتافيزيقية غيبية متعالية عن الحس والعقل, وتستجلي مواضيع الذات والروح والغيب والكشف.
وتأسيسًا على هذا الفهم يمكن القول: "إن لغة التصوير الصوفي لغة أدبية محضة, لا تختلف عن لغة الأدب سوى في نوعية الموضوعات التي يعالجها الصوفي, وفي درجة تفاعلها مع العالمين المادي الواقعي والميتافيزيقي اللذين تصورهما, وفي طرائق توظيفها للصيغ التصويرية, والأساليب التعبيرية المتاحة للصوفي, ومن هنا, تتسم بمفارقتها لهذه اللغة" .
الأسلوب في الشذرة هو أسلوب المقطع والنص الطليق, و" هو أسلوب معفى من كل ضرائب الطبخ والتحليل, ولا يلزم أحد بهزاته وعواقبه إلا من باب التواطؤ الوجداني والتطوع الإرادي. وحين يتيسر تحقيق هذين الشرطين نكون قد دخلنا عالمًا فكريًا لا أثر فيه لثقالة المعجم الفلسفي, ولا للغنائية الشعرية, أو النثر المفخم المتأنق, بل كل النصوص فيه محكومة فقط بتدفقات مقطعية, لا تروم إلا الكلمة المواتية اللازمة, والبلاغة المصادمة..."
والخلاصة: تجمع الشذرة بين الفلسفة والشعر, وتتأرجح بين الذهن والوجدان, والشعور واللاشعور, والعقل واللاعقل, والصحوة والهذيان.
من خصائص الكتابة الشذرية وسماتها: التركيز, والاختزال, والاقتضاب, والاقتصاد, والتحرك السريع, والتخلص من الحشو والإطناب والاستطراد, والاعتماد على بلاغة التكثيف .
أما القصيدة الصوفية المعاصرة, فهي تجربة في غاية التميّز, إذ أنها تفرغ المفردات اللفظية من دلالاتها السيميائية وتأخذها باتجاه المعاني الروحية, وتحمّلها بحمولات إيحائية تقصيها تمامًاعن التأويلات الأولية بدعوة صريحة لإعادة قراءة النص مرات عديد لاستجلاء معاني تلك الحمولات, والوقوف على القيم التي تحملها تلك الألفاظ التي تميّز اللغة الصوفية, وهذا ما لا يمكن أن يتحقّق إلا من خلال الاعتراف بتفرّد اللغة الصوفية المعاصرة بظواهر جمالية, وأنها تستدعي دراسة فونولوجية مختلفة للوصول إلى تلك الظواهر, وهنا تعرض لنا إشكالية معرفية مفادها: كيف نصل إلى جماليات اللغة الصوفية المعاصرة, سيما وأن النص المعاصر يقوم على لغة ألفاظها بسيطة ذات دلالات متعددة؟.
فما الذي يميّز النص الصوفي عن غيره من النصوص الأدبية؟
1- ماهيّته أو تولّده المختلف:
" إن أهم ما يميز النص الصوفي عن غيره من النصوص هو صعوبة تحديده كوجود وكفعل إبداعي, لاحتوائه على سياقات متنوعة ومرنة لا تخضع للمرجعية اللغوية ( المعجمية) بل يحتوي على دلالات معظمها عرفانية" .
ومن ذلك, فإن لغة النص الصوفي هي لغة خصوصية غير ثابتة, تتشكّل داخل إطار لغوي تشترك فيها الكلمات بأوضاع, وتستمد كيانها الوجودي من خلال العلاقات التي تربطها باللغة الدينية, وهذا يمنح النص الصوفي تولّد يختلف عن تولّد أي نص آخر.
الشاعر منذر يحيى, حين أراد تناول ظاهرة ( الغيرة), وهي ظاهرة إنسانية, تناولها بتناص ديني مع القرآن الكريم ( سورة يوسف):
نـارُ الغَيْـرةِ
أَلْقَوْكَ في ظُلْمةِ الجُبِّ وارْتَحَلُوا
وفي دَمِهِمْ نارٌ تُوْمِضُ
حِقْداً وغَيْرةً...
يَنْشُرُوْنَ دَمَ الأَشْجارِ
رايةً مُخادِعةً ودَماً كَذِباً
والقَلْبُ المُلَوَّعُ مِنْ مَكْرِهم
خَلْفَ أَحْزانِهِ يَحْتَجِبْ...
2- الإيحائية والرمزية والإشارية:
" استثمر الشعر الصوفي إمكانات الشعر المعروفة ناقلًا إياها إلى مستويات متعددة, إذ انطلق باللغة من سياقاتها المعهودة إلى مستويات جديدة عنيت بالطاقات الإيحائية "
فالأدب الصوفي يعتمد الأساليب الرمزية والمفردات والتراكيب الرمزية الغامضة, لأن " اللغة الصوفية مجموعة من الإشارات والرموز الموحية في قلب الصوفي من تجارب وجدانية وذوقية, ومن حقائق باطنية وذاتية بعيدًا عن الواقع المعاش" .

سندرس في هذا المستوى :
البنية الإيقاعية :
يُعد الإيقاع من أهم العناصر المكونة للشعر, حيث تنتظم فيه الأصوات وفقًا لأنساق إيقاعية مطردة من القيم الزمنية, وهو ما يميزه عن الكلام النثري حيث يكون فيه لحن وموسيقى على عكس الكلام النثري, وهو على قسمين :
إيقاع خارجي يتضمن الوزن والقافية والروي.
وإيقاع داخلي يضم التكرار بأنواعه إضافة إلى النبر والتنغيم.
وبما أن القصائد في هذه المجموعة هي قصائد نثرية, فالإيقاع فيها داخلي, قائم على :
• التكرار:
" أسلوب التكرار جاء بمعنى إعادة الكلمة أو العبارة بلفظها ومعناها, للتوكيد أو لزيادة التنبيه أو التعظيم, أو التلذذ بذكر المكرّر" , ويمتد التكرار من الحرف إلى الكلمة إلى العبارة.
ولقد رصدنا في القصائد تكرارًا لكلمات بعينها في المقطع الواحد أو في القصيدة الواحدة, كما في قصيدة ( لا تقتلوها, إنها الفراشة) , حيث كرّر الشاعر لفظ ( الفراشة) و( الشعلة) و( قلبي) وعبارة (الفراشة قلبي):
الفراشةُ قَلْبي مَعَ الشُّعْلةِ
سِرٌّ عَظِيمْ...
بَعْدَ أنْ يَسْرِيَ النُّوْرُ في القَلْبِ
يُصْبِحُ عاشِقاً لذاتِهِ
قَلْبي صارَ شُعْلَةْ...
هَلْ أَقُوْلُ: وَلَهٌ بَلَغَ الكَمالْ؟!
وهُنا هَلْ هِيَ نِهايةُ الرِّحْلةِ المُشْتَهاةْ؟!
-14-
الفَراشةُ قَلْبي
هذا التكثيف لتكرار هذه المفردات والعبارة ما هو نوع من المبالغة أرادها الشاعر لتأكيد غموض الحالة الصوفية التي يعيشها الشاعر, ورغبته في بلوغ المرتبة الروحية العليا التي ابتغاها للاقتراب من الذات العليا, فالفراشة هشاشة النفس, لكنها أيضًا عشق الرغبة والتوق إلى التطهّر بطاقة النور, فحين يغدو قلب الشاعر فراشة, تختفي الهشاشة وتصبح الرغبة قوة صاعدة باتجاه شعلة الحقيقة.
إن تكرار العبارة نمط يميز القصائد المعاصرة, "فإذا جاء هذا النمط في بداية القصيدة أو نهايتها, فإنه يساعد على تقوية الإحساس بوحدتها, لأنه يعمل على الرجوع إلى النقطة التي بدأ منها".

• التنغيم:
التنغيم هو التغيرات التي تحدث على الأصوات أثناء الكلام للدلالة على النفي والتهكم والاستفهام.
والتغنيم يختلف عن النغمة, فالنغمة تطرأ على مستوى الكلمة, أما التنغيم فيطرأ على مستوى الجملة أو العبارة, بحيث يحوّل الجملة من أسلوب خبري إلى أسلوب إنشائي.
في قصيدة مدار القصيدة, الشاعر, مستخدمًا فعل الأمر ( حاذر) في السياق الكلامي المنطوق, أنتج تنغيمًا تهكميًّا, فالقصيدة وشاح, والقصيدة قد تهرب, والقصيدة تشاغب :
وأَنْتَ تَتَدَثَّرُ وِشاحَ القَصِيْدةِ
وتَأْوِي مَعَها إلى كَهْفٍ
تُبَطِّنهُ أَعْشابٌ هارِبةٌ مِنَ الضِّياءْ
حاذِرْ...
قَدْ تَفِرُّ القَصِيْدةُ إلى فَضاءاتِ الشَّغبْ...
في قصيدة ( صرخة مايا) :
كانَ اللَّيْلُ بِساطاً مَطْوِيّاً
لا أَدْرِي مَنْ أَلْقاهُ قُرْبي وراحْ...
يتحوّل النفي بالكلام إلى سؤال بدون إشارة استفهام مكتوبة, تنغيم استفهامي صوتي أثناء الإلقاء .

• النبر:
علو الصوت وارتفاعه, وذلك بفعل الضغط المندفع من الرئتين ليبرز مقطع أكثر من الآخر. وهو الشدّة على المقطع والضغط عليه ليحدث إيقاع الحرف, ولا يكتفي بإحداث رنة موسيقية بل يتغلغل إلى المعنى لأن لكل حرف دلالة تختلف عن الآخر.
وعند دراستي لأحرف القصائد وجدت أن الشاعر أكثر من استخدام وتكرار الأحرف المجهورة(ء, ا, ب, ج, د ,ذ, ر, ز, ض, ط, ع, غ, ق, ل, م, ن, و,ي) أكثر من الأحرف المهموسة (ه, ح, خ, ك, ش, ت, ص, ث, ف, س), بمعنى أنه حرص على استخدام الأحرف الشديدة بنسبة مرتفعة ليعبّر عن حرقة بواطنه منتصرًا للذات العليا, وشدّة رغبته للاتحاد معه.

الظواهر الجمالية: الانزياح – المفارقة – الرمز الصوفي - التناص

 الانزياح :
وهو ظاهرة أسلوبية لها أثر جمالي عند المتلقي, " وهدفه فك بناء اللغة ورفض الوظيفة الاتصالية, والتحويل النوعي للمعنى الموصوف من معنى تصوري إلى معنى شعوري" .
ويقسم إلى نوعين : الانزياح الدلالي – الانزياح التركيبي
1- الانزياح الدلالي :
قائم على علم البلاغة من استعارة, وكناية, ومجاز مرسل.
الاستعارة المكنية:
استخدمها الشاعر معرضًا عن التصريحية, لأن الشعر الصوفي المعاصر يتصف بالغموض واللبس ليثير التساؤل والتأويل:
والعَقْلُ يَسْبَحُ في بَحْرِ الإِشْراقْ...
القَلْبُ يَتَراقَصُ مِنْ فَرْطِ الوَجْدِ

حذف المشبه به وهو الإنسان, وترك المشبه, مع صفة من صفات المشبه به وهي السباحة والرقص,

الكناية :
لفظ لا يقصد به المعنى الحقيقي وإنما معنى ملازم للمعنى الحقيقي, وهو غرض من الأغراض التي يعمد إليها الشاعر المعاصر ليشير بها إلى الوظيفة الدلالية للانزياح, وتكون : كناية عن صفة أو عن موصوف أو عن نسبة.
وقد لجأ شاعرنا إلى الكناية ليعطي قيمة دلالية تمكّنه من التعبير عن مشاعره بكل حرية دون أن يكشف أمره, كما يعطيه بعدًا تأمليًّا يجعله يضمن انفعال المتلقي وتأثره.
في قصيدته ( مدارات القصيدة):
تَعْبُرِيْنَ فَضائي كنَسْمةٍ ساحِرةٍ
حِيْنَها تَزْهُو القَصِيْدةْ...
يَغْرَقُ كُلِّي في يَنابِيْعِ أَجْزائي
وقدْ يَهْطِلُ بَعْدَ تَمَنُّعِ الغَيْمِ
مَطَرِي مَرَّتَيْنِ
كنّى عن نسبة, حيث نسب الشاعر رحابة أفقه إلى الفضاء, وجعل الحبيبة نسمة فيها, كما نسب فيوض شاعريته العرفانية إلى الينابيع التي يغرق فيها الكل في الجزء, وهذه النسبة كناية عن السعة التصويرية والتخييلية, وغزارة الدفق الشعري.
المجاز المرسل:
مختص باللفظ, إذ تستعمل فيه الكلمة في غير ما وضعت له في اللغة, مع قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي.
من قصيدة ( خربشات, وأوراق قديمة):
مطرٌ أكيدٌ قادمٌ...
الأرضُ تَسْتَعِدُّ لرحلةٍ جديدةٍ
وتَنْتَظِرْ...
العَرَباتُ بطيئةٌ جِدّاً
لمْ تَصِلْ بَعدْ.!.
استخدم الشاعر المجاز المرسل في علاقة سببية: تسمية الشيء باسم سببه, السبب مذكور والنتيجة محذوفة, فذكر السبب وهو المطر, وحذف المقصود وهو الأمل بالخصب والنماء والتجدد, اكتفى الشاعر بذكر لفظ
( مطر) وجعله محمّلًا بحمولات النتائج دون أن يذكرها.
استخدم الشاعر أيضًا التشبيه بأنواعه الضمني والتمثيلي في بعض القصائد والشذرات, والأمثلة ظاهرة في بعض الشواهد التي وقفت عليها عند دراسة المستويات الذرائعية المختلفة.

2- الانزياح التركيبي :
قائم على تركيب العبارة الشعرية بما يختلف عن تركيبها في الكلام العادي أو العلمي, أي " تشكيل اللغة جماليًا بما يتجاوز إطار المألوفات" , وهذا النمط قائم على ظواهر التقديم والتأخير والحذف.
- التقديم والتأخير:
" اللغة العربية تحفل بأسلوب التقديم والتأخير, الذي يقدم للشاعر المعاصر فرصًا كثيرة لانزياحات بين أجزاء الجمل وترتيبها داخل التركيب"
في اللغة العربية يتصدر الفعل في الجملة الفعلية بالترتيب المألوف ( فعل – فاعل – مفعول به), لكن بمقتضى التقديم والتأخير يفقد الفعل الصدارة ويُؤخر, لقد استخدم الشاعر هذا الانزياح التركيبي في قصيدته
( لا تقتلوها, إنها الفراشة), حيث قدّم جملة القول, وأخّر فعل القول:
هلْ مَوْتٌ
بَعْدَ مَوْتِنا الأَكِيدْ؟
أَمْ شَكْلٌ آخَرَ للحَياةْ؟!
تَسْأَلُ الفَراشَةُ:...
في مَوْتِها الذي لا يُشْبِهُ المَوْتْ...
وهدف الشاعر من ذلك إلى لفت انتباه المتلقي للعنصر المقدّم, لجملة القول, لينتبه إلى جملة التساؤلات الوجودية التي يطرحها على لسان الفراشة الرمز.
- الحذف :
يلجأ الشاعر إلى سمة الحذف, ويترك إشارة للدلالة على حذفه بتوظيف النقاط ليترك المجال للقارئ ليملأ الفراغ الذي تعمّد الشاعر تركه عن طريق القرينة التي تركها ليجعل الشعر يتصف بالنقص, وعلى المتلقي إكمال المعنى بتأويلاته المتعددة ليشترك معه في إيصال المعنى.
من قصيدة ( تقول التجربة), حذف الشاعر عبارة بعد (ولم أزل), وترك للمتلقي نقاط, وحرية الاستئناف, والاشتراك بوضع المعنى بتأويلاته:
في زاويةِ حَديقةٍ يَغْمُرها الضَّوْءُ
نَثَرْتُ بُذُوْرَ لَهْفتي
خَوْفَ الغَيْرةِ
وسَطْوةَ اللُّصُوْصِ
وانْتَظَرْتُ ولمْ أَزَلْ...
بأَناةِ ناسِكٍ
كي يَصِلَ إلى قِممِ الضِّياءِ

 المفارقة:
لقد اتجه كثير من الدارسين إلى أن كلمة Irony ترجمة للمفارقة وهي ( تعبير عن موقف ما على غير ما يستلزمه ذلك الموقف, كأن نقول للمسيءتهكمًا: أحسنت! أو نقول للمخطئ: يا للبراعة !, وتعني المفارقة هنا حدوث ما لا يتوقع) ، و Paradox ترمجة للتناقض أي ( أن يكون في العبارة تعارض ظاهري).
وبالعموم, ووفقًا لكلا التعريفين, نجد أن هذه الظاهرة تعني اختلاف الباطن مع الظاهر.
أجمع نقاد الغرب والعرب على أن المفارقة تعني التضاد, وذلك بإبراز المعنى الخفي في تضاد ملموس مع المعنى الظاهر, وكذلك اعتمدوا على نوع الاستهزاء والسخرية, أي قول شيء والرجوع فيه أو قول شيء عكس ما يستلزم, كأن يستخدم أسلوب الذم في صيغة المدح والعكس.
وهناك أنواع للمفارقة, وفقًا لمفهومَي الترجمة, استخدمها الشاعر منذر يحيى عيسى في قصائد هذه المجموعة, منها :
1- المفارقة التضادية: Paradox
حيث جمع الشاعرعناصر ثنائية متضادة عملت على كسر أفق التوقع في اجتماعها في سياق واحد, مثال:
في قصيدة صدمة الضياء:
في غيابِكِ... أكونُ أنتِ
وفي حُضورِكِ الطّاغي قدْ لا أكونْ...
أتى الشاعر بظاهرتين متضادتين لا يمكن أن تجتمعا, وهما ( الحضور والغياب), كما أتى بالكينونة وضدها, وكأنه يلفت انتباه المتلقي ليقوم بعصف ذهني وليتأمّل في هذه المرتبة الصوفية التي يكونها في الغياب, ويتمنى أن يكونها في الحضور.
2- السخرية : Irony
حيث يعمل الشاعر من أجل خلق توتر دلالي في القصيدة, باستخدام أسلوب الذم بصيغة المدح, بهدف رسم ابتسامة سخرية من المذموم على وجه المتلقي, وقد استخدم الشاعر هذا الأسلوب على سبيل المثال في قصيدة ( مرفأ القلب):
تُناوِرينَ للدُّخُوْلِ إلى مَرْفَأِ قَلْبي
بحَذاقةِ رُبّانٍ ماهِرٍ
أَدْمَنَ حَنَقَ الأَمْواجِ وقَساوةَ الأَنْواءِ
فمِنْ أينَ يَأْتِي كُلَّ هذا الدُّوارْ؟!.
يمدح مهارات حبيبته أو ذاته في المناورة لدخول مرفأ قلبه بغية السلام, ويشيد ببراعتها في ركوب الأهواء والبحر بكل أنوائه, ثم يستغرب الدوار الذي يعتريها حين تبتغي الوصول!. يلعب الشاعر لعبة المراوغة اللغوية بقصد الإيهام بالمدح, بينما هو فعليًّا يقوم بالذم, والسخرية من فشل هذه الحبيبة أو النفس التي تدعي المهارة.

 الرمز الصوفي:
يرى كرم أنطون غطاس في كتابه ( الرمزية والأدب العربي الحديث ) , أن أحوال العصر العباسي أتاحت اختلاط العرب بأقوام أخرى أعمق منهم حضاريًّا, وصهروا العناصر المتباينة من تراث الهند وفارس والإغريق في عناصرهم الأصلية, ونتج عن ذلك الامتزاج والانصهار أدب هو ثمرة من مزيج شعوب متباينة العادات والمقاييس والمذاهب والفكر, فبرزت مرحلة جديدة ذات لونين هما: الأدب الصوفي, والأدب المتأثر بالفكر اليوناني.
فالأدب الصوفي يلتقي جوهره بالنزعات الرمزية الفلسفية العامة في مواطن عدّة, ويشدّد الكاتب إن إيراده هذان اللونان من الأدب العباسي, في هذا السياق , لم يقصد به اعتبارهما رمزييَّن, بل لتقديره أن بينهما وبين مزايا الاتجاه الرمزي خيوط صلة,فثمة تشابه في الوسائل, لا في الجوهر, واشتمال شيء على بعض مزايا شيء آخر لا يجعله مطابقًا له.
فاللغة الصوفية تجنح للرمز والإيحاء لتصنع عالمها الخاص الذي يميزها عن اللغة المعتادة في الحياة اليومية, والرمز هو الخلاص, لأن اللغة العادية عاجزة عن احتضان التجربة الصوفية.
" إن اللغة الصوفية الرمزية هي المعراج النفسي للإبداع الفني في الأدب الصوفي, فهي لغة تنوء عن الفهم لسبرها أغوار التجربة الباطنية المستعصية على الفهم, فهي لغة ذوق وحال, فالرمز يوحي ويستر, فبقدر ما يوحي بما يخفيه من أسرار ودلالات عميقة, بقدر ما يخفي أيضًا بدلالاته تلك, لأن الرمز لا يدعونا إلى دلالة واحدة" . تتعدّد مفاهيم الرمز الصوفي بتعدد الآراء النقدية حوله من العرب والعرب, لكنه يبقى محصورًا بالوسيلة التي يعتمدها الشاعر الصوفي للتعبير عن حبه والرغبة بالاتحاد بمحبوبه بالاعتماد على الإشارة والإيحاء, وقد تنوّعت الرموز بتنوّع الأحوال والمقامات, والموضوع هو الذي يحدد استعمال رمز عن غيره.
ومن الرموز الصوفية : رمز للمرأة والخمرة والطبيعة.

رمز المرأة :
" تميّزت النصوص الصوفية بالتدرج في التعامل مع ظاهرة الحب أو رمز المرأة بعيدًا عن المألوف, حيث ابتعدت تلك النصوص عن القواعد المتوازنة, جاعلة من العنصر الأنثوي معادلًا موضوعيًّا للمحبة الإلهية" .
بمعنى أن موضوع المرأة يقابل موضوع محبة الذات الإلهية ويتطابق معه من حيث المحبة والجمال.
لقد نصّب الشاعر منذر يحيى عيسى المرأة رمزًا صوفيًّا ووضع لها قرائن عديدة, أدخلها في المقامات العرفانية, في فلسفة الحضور والغياب, فهي ذاته حين تغيب ( مقام الغياب), وهي حضور يسعى لبلوغه (مقام الحضور), كسعي المريد إلى بلوغ بهجة الحضور مع الذات الإلهية, وهي الضياء والنور حين التجليّ ( مقام الكشف والتجلي).
من شذرة ( صدمة الضياء) نلتمس الشاهد:
في غيابِكِ... أكونُ أنتِ
وفي حُضورِكِ الطّاغي قدْ لا أكونْ...
قوافِلُ الضَّوْءِ تَعْبُرُ خِفافاً
فتُشْرِقينَ كَوْكَباً يَرْفُلُ بالمَعاني
وتُعيدُكِ إليَّ صَدْمةُ الضِّياءْ...
في شذرة ( طائر الحب), نجد الشاعر يعطي للحب مفهومًا مختلفًا, سالكًا مسلك الصوفي, يحاول أن يرقى به من العالم الأرضي إلى العالم العلوي, في محاكاة لحادثة المعراج, فيوظّف العديد من الرموز, ( طائر – قفص- أمواج – ملكوت- زبد- صخور – جسد – سدرة), كلّها موظّفة في خدمة الرمز الأساس (المرأة), فالحب الأرضي موجٌ يضرب صخور الشاطئ ( المرأة), ليغدو زبدًا يذهب جفاءً, بينما تستحيل الصخور ( المرأة ) جسدًا يعرج إلى سدرة الذات الأبدية:
الحبُّ طائرٌ جميلٌ غادَرَ القفصَ
وتاهَ في حَضْرةِ النِّساءْ
شَهَواتُ النِّساءِ
أمواجٌ تَضْرِبُ بعُنْفِها شَغَفَ الشّاطئِ
تَسْتَحِيْلُ الأمواجُ في مَلَكُوْتها زَبَداً
وتَصْمُدُ الصُّخُوْرُ
جَسَداً يَمْتَدُّ إلى سِدْرةِ الأَبَدْ...
المرأة شاطئ بعيد تهفو إليه الذات المشتاقة إلى اللقاء بعد طول الغياب, أيضًا متلازمة ( الغياب, البعد, والشاطئ والاشتياق, اللقاء), من (سفن الاشتياق):

مُصادَفةٌ أنْ نَلْتَقِيَ..
وأنْ يَطُوْلَ الغِيابُ
ولكنْ...
لَيْسَ مُصادَفةً
أَنْ تُبْحِرَ سُفُني إلى شَواطِئكِ القَصِيّةْ...

والمرأة نور وبهاء, والعاشق عصفور يحوم على تخومها فيشعل في جوارحها شعلة الاشتياق فتضيء كهالة:

مُتَّشِحةً بالبَهاءِ كُنْتِ
وكانَ القَلْبُ عُصْفوراً
يَطيرُ برَشاقةِ فِكْرةٍ
يُلامِسُ جُدْرانَ الصَّدْرِ حِيناً
وأَحْياناً يُشْعِلُ في الحَنايا
جُذْوةَ تَوْقٍ وضِياءْ...
المرأة جزءٌ أرضي من الحب الإلهي, وهي الطريق إلى ذلك الحب السماوي, تشتعل ضياءً حين يمطرها الحب القادم إلى شواطئ قلبها, تتطهّر تطهّر الفراشة في أتون الضوء دون احتراق, فيغدو اللقاء فردوسيًّ البهجة والمقام.
في قصيدة ( تهطال الضوء) يوظّف الشاعر رموز ( الضوء- الخليج- الضوء – الدموع – الاشتعال- الهطل-المفاتن – الرحم- الماء- القداسة- السندس – الفراشة – المغازلة), لتكون قرائن لرمز المرأة:
قالَتْ:
لأنَّ صَدْري تَحَوَّلَ إلى خَلِيْجٍ
شَفَّ قاعُهُ
وقَدْ مَلَأَتْهُ الدُّمُوْعُ
ودَفَّأَتْهُ حَرارةُ أَنْفاسي
واسْتَكانَ وادِعاً كسَطْحِ مِرآةٍ حَزِيْنةٍ
وهَطَلَ على وَجْهِهِ الضَّوْءُ
وازْدادَ اشْتِعالي
لا يُفاجِئُكَ المَرْجانُ
المُعَرِّشُ في هذا السُّكُونْ...
ولأَنَّنا في حَدائِقِ اللهِ
تُسْكِرُنا المَفاتِنُ
وقَدْ يَغْمُرُنا الضَّوءْ...
عِنْدَها
نَعُوْمُ كفِكْرةٍ في رَحِمِ مِياهِها القُدْسِيّةِ
وعلى بِساطٍ سُنْدُسِيٍّ
نَسْتَرِيْحُ في الظِّلالِ
فَراشاً يُغازِلُ الضَّوْءَ
ولا يَحْتَرِقْ...

رمز الخمرة:
الخمرة في الشعر الصوفي هي الخمرة التي لا يتذوّق ويستمتع ويغبط لمذاقها إلا من توحّد مع الإله. وهي ليست الخمرة الحسية, بل رمز محمول على التأويل الناتج عن كسر حجاب الحسيات, فالسكر الصوفي هو سكر نفسي روحي, تغيب فيها الذات عن العالم الحسي دون الغشية, إن ما يبرّر استعمال الشاعر الصوفي للخمرة المسكرة التي حرّمها الله كرمز معنوي, هو معادلة موضوع الغياب عن العالم الحسي المليء بالألم والشقاء ليقع في عالم الأحلام والرؤى الحافل بالنشوة والسعادة, خمر معنوية ترجع الروح إلى الاتحاد مع المحبوب, الذي يمثّل حبّه أصل وجود المتعيّنات, والمعنى الحقيقي لحركة المتحركات.
ومما ورد في السكر في الموسوعة الصوفية : " يلحق المحب عند مشاهدة جمال المحبوب فيذهل الحس, ويلم الباطن فرح وانبساط لتباعده عن عالم التفرقة, وبذلك يصيب بالدهش في في النظر في جمال الحق, وتسمى هذه الحالة حينها سكرًا".
يستخدم الشاعر الصوفي العديد من المفردات والرموز المرتبطة بالخمر, للتعبير عن حالة الغياب عن الوجود ولقاء الحبيب, هذه المفردات يُرمز بها إلى الذات العليا, وهذه رموز هي تمظهر المحبة الأزلية بمظاهر الآثار الكونية التي تعكس هذه المحبة, فالضياء تجلّيات إلهية في قلوب الذاكرين, والشمس هي محبة الإله وإشراق لطفه, وعلى هذه الرموز اتكأ في قصيدته ( خمرة المعنى) ليؤكد معنوية وروحية السكر الصوفي, في حضرة صوفية شتوية :
يَسْتَحِيْلُ العَصِيْرُ ضِياءً
في حَبَّاتِ العِنَبِ
حَيْثُ الشَّمْسُ قد أَفاضَتْ على الكُرُوْمِ العَطايا
وفي أَماسِيِّ الشِّتاءِ الباكِيةِ
نَحْتَسِيْها صُحْبةً
حَيْثُ المَعاني الباذِخةْ
فتَصْحُو في أَعْماقِنا
جُذْوةٌ مُتَّقِدةْ...

إن فكرة الزمن مرافقة للوجود الشعري للخمرة, لذلك يكثر الشعراء الصوفيون من ذكر الزمن بمراحله العمرية والوقتية المختلفة, في قصيدة (مع الليل خمر), ذكر الشاعر الليل والصباح صحبة مع الخمر وكل ما يجاورها من رموز, من رنين الكؤوس التي ترمز إلى الدعوة إلى المقام الأعلى, والدّن التي ترمز إلى صدور ونفوس المريدين المتعطشة إلى التجلي للحقيقة العرفانية, والنديم والساقي,الدرويش الذي ينتشي بصعود المقامات,وما ينتج عنها من الفرح والشوق واللهفة والغرام والانتظار والظمأ لبلوغ المرام:
رَنِيْنُ الكُؤُوْسِ
يُشْعِلُ في المُخيَّلةِ الفَرَحَ
وفي القَلْبِ عَذاباتِ الصَّبابةْ
حاذِرْ يا نَديمي: قَدْ يَغْفَلُ السَّاقي
ويَفْرَغُ الدَّنُّ قَبْلَ الصَّباحِ
فيَقْتُلُنا في الانْتظارِ
مِنْ فَرْطِ لَهْفتِنا.. الظَّمَأْ...

في شذرة ( سكرة القصيدة), كان الزمن سهرة ليلية, سكرت فيها القصيدة من خمرة خابية, فاشتعلت حروفها حبًّا وإشراقًا, والإشراق كما جاء في الموسوعة الصوفية هو " أن مذهب الإشراق أساسه فكرة أن الله تعالى هو نور, بل إنه نور الأنوار, وكما جاء في كتاب الصهر وردي( هياكل النور) يقول يا قيوم, أيدّنا بالنور, وثبّتنا على النور, واحشرنا إلى النور, واجعل منتهى مطالبنا رضاك" :
ذاتَ سَهْرةٍ
قَرَّرَتِ القَصِيْدةُ مُعاقَرةَ خَمْرةِ الخابِيةِ
فاشْتَعَلَتْ وَجْداً وسَناً
عِنْدَها بَدَأَتْ طُيُوْرُ الوَقْتِ
رَقْصةَ الفَرَحْ...

في قصيدة( للخمرة سرّها), جمع الشاعر كل الدلالات الرامزة إلى رمز الخمرة, في حضرة صوفية تمظرت فيه الذات الإلهية وجوديًا بلا حجاب, قمرًا في منتصف ليل ساكن غمر ضوءه أحداق المريدين, وصلت العقول إلى مرتبة الإشراق والكشف النوراني, وذابت القلوب في محبة المعشوق, في حضرة صوفية, فعلت فيها الخمرة فعلها في أرواح كل المريدين, وبقي الدرويش يدور يسقيهم خمرة الرغبة الجامحة في الوصول إلى بهجة الكشف والتجلي والاتحاد والحضور:
تَتَجَلّى في مُنْتَصَفِ الوَقْتِ قَمَراً
يَسْكُبُ ماءَ فِضَّتِهِ في الأَحْداقْ...
تَتَراءَى لكُلِّ العُشَّاقِ دُوْنَ حِجابْ...
يَمْتَلِئُ اللَّيْلُ سُكُوْناً
وتَعُمُّ الرُّوْحَ سَكِيْنةْ...
والعَقْلُ يَسْبَحُ في بَحْرِ الإِشْراقْ...
القَلْبُ يَتَراقَصُ مِنْ فَرْطِ الوَجْدِ
وتَدُوْرُ كُؤُوْسٌ مُتْرعةٌ،
صافيةٌ كدَمْعِ العَيْنِ
وأَنْقى
والسّاقِي يَدُوْرُ برَقْصٍ مَجْنُونْ...

بالنتيجة, إن الخمرة هي رمز العشق الصوفي, يوظفه الشاعر الصوفي في الشعر المعاصر للتعبير عن رؤيته الوجودية في موضوع العشق والاشتعال بحريق الرغبة بالاتحاد مع الذات الإلهية, وهي تعبير عن مبدأ مهم جدًّا من مبادئ الصوفية, فهي توظيف ل" جملة من المواقف كطريقة التعبير عن الحرية الفردية, وقضية الاتحاد والحلول كأساس لحل الأزمة الاغترابية"

رمز الطبيعة:
" إن من الرموز التي رمز بها المتصوفة رمز الطبيعة التي شغلت فكرهم أكثر مما شغلت فكر غيرهم من المسلمين, وذلك لأنهم ينظرون إلى كل ما في الطبيعة على أنها مصادر للإعجاب ومظاهر لجمال الذات المقدسة"
بمعنى أن رمز الطبيعة هو تعبير عن جمال الذات الإلهية وجمال خلقها وإبداعها. وهي تشمل كل الرموز الكونية التي تستقي عناصرها من منابعها الطبيعية في عالمنا المحسوس: مثل الأرض, وما عليها من حيوانات ونباتات وأشجار وماء, إضافة إلى الطيور, تعتبر الفراشة أهم هذه الرموز وأميزها:

الفراشة :
انصهرت صورة الفراشة في الرمز الصوفي من خلال الظاهرة عشقها للضوء واحتراقها باللهب, وقد ارتبط تصرف الفراش المهلك هذا بالمعتقد الصوفي القائل بإمكانية الفناء والتوحيد في الذات الإلهية, وتجسيد رحلة روح المتصوف وتلاشيها في الجمال الإلهي رمزيًّا في رحلة الفراشة إلى اللهب, فالتحوّل في الصورة الشعرية وجهة الرمز تعد خفقة أساسية في النبض الإبداعي الأدبي, حيث تتجسد المجردات في صورة حسية ملموسة ومرئية.
لن نتطرق إلى الجدل والشرخ الذي طال الرأي الإسلامي عبر الفِرق الإسلامية من الاتفاق والاختلاف على معالم العدمية الحلاجية التي قرّبت التصوف إلى حافة الزندقة, لكن سنتكلم عن الموضوع باعتباره رمز صوفي فني جمالي يجسّد معاني الشوق والصبابة والفناء في عشق المحبوب, والفراشة بهذا المعنى تعتبر أيقونة الحب الصوفي ورمز الالتحام الحميمي حد الانصهار, وقد أورد الشاعر منذر يحيى هذا الرمز في العديد من القصائد والشذرات, وأفرد له قصيدة كاملة بعنوان : ( لا تقتلوها, إنها فراشة):
الفراشةُ قَلْبي مَعَ الشُّعْلةِ
سِرٌّ عَظِيمْ...
بَعْدَ أنْ يَسْرِيَ النُّوْرُ في القَلْبِ
يُصْبِحُ عاشِقاً لذاتِهِ
قَلْبي صارَ شُعْلَةْ...
هَلْ أَقُوْلُ: وَلَهٌ بَلَغَ الكَمالْ؟!
وهُنا هَلْ هِيَ نِهايةُ الرِّحْلةِ المُشْتَهاةْ؟!
-14-
الفَراشةُ قَلْبي

يَتَلاشى طَيَرانُها
مَعَ الوُصُوْلِ
حِيْنَها تَخْسَرُ سَوادَ أَجْنِحَتِها
ويَبْتَلِعُها البَياضْ...
بَعْدَ الوُصُوْلِ لَنْ تَقْرُبَ كَثِيْراً مِنَ الشُّعْلةِ
ففي ذاتِها يَسْرِي نُورْ...
لَيْسَتِ الشُّعْلةُ نُوْرَ قَلْبي
ولكِنَّ قَلْبي
نُوْرُ الشُّعْلةِ في الأَبَدِيّةْ...
-15-
هل مَوْتٌ هذا الانْصهارُ
الفَراشةُ في ضِياءِ الشُّعْلة؟!
إنَّهُ سِرٌّ عَظِيمْ...
الريح:
رمز صوفي استخدمه الشاعر أيضًا في العديد من القصائد والشذرات, أختار شذرة عنونها الشاعر ب ( مركب الريح), ربط حضور الريح, كدال رمزي, بالرحلة الصوفية إلى الذات الإلهية, باعتباره وسيطًا أو وسيلة أو مطية للإسراء ثم المعراج إلى السماوات ذات البروج:

بَيْنَ ثَغْري وحَقْلِكِ المُشْتَهى
فهَلْ مِنْ سَبِيْلٍ للوُصُولْ؟!..
تَطُوْلُ المَسافةُ، ويَنْبُتُ العُشْبُ
وتَنْأى الخَيالاتُ
في بُرُوْجِها العالِيةِ
مِنْ لَهْفتي أَمْتَطِي الرِّيْحَ مَرْكَباً
وأَسْرِي بلَيْلٍ تُزَيِّنُهُ النُّجُوْمُ

وفي شذرة ( عزف الريح): استخدم رمز الريح ورمز الشجرة, وأقام بينهما صراع كانت من نتيجته تبادل الخصائص للتدليل على قدرة الله المطلقة في خلقه:
كَيْفَ للشَّجَرةِ بسِحْرِها المُبِيْنِ
أَنْ تُحِيْلَ الرِّيْحَ
إلى أَصْواتِ حَفِيْفٍ شَجِيٍّ
تَسِيْلُ دَمْعةُ الرُّوحْ؟!
وكَيْفَ للرِّيْحِ
أَنْ تَكْسِرَ الأَغْصانَ
في لَحْظةِ غَضَبْ؟!

الماء:
رمز صوفي يوظّفه الشاعر بجميع أشكاله( بحر- مطر-سحاب...) للتدليل على قدرة الذات الإلهية, فالماء ظاهرة دالة على قدرته جل وعلا, خلقه وخلق منه كل شيء حي, في قصيدة ( ماء البداية), يدلّل الشاعر على هذا المعنى بتكثيف شديد, مختزلًا قصة الخلق من هذا الرمز الصوفي الطبيعي:

في نَهاراتِ القَيْظِ والغُبارِ
أَسْتَجْدِي سَحابةً عابِرَةْ...
حَدِيْقةُ حُرُوْفي عَطْشى
والأَزْهارُ بلا لَونْ
وعلى خَدِّ جُوْرِيَّةٍ يُعرِّشُ النُّعاسُ
أَمْطِرِي أَيَّتُها السَّحابةُ
ما يُشْبِهُ ماءَ طِيْنِ البِدايةِ
فكَلِماتي تَسْتَعِدُّ للوِلادةِ
بَعْدَ سُباتٍ، وطَقْسِ لَهْفةْ...
وها هيَ فَراشاتُ المَعْنى
كأنَّي بها _فَرَحاً_

الطير:

يعتبر الطير رمزًا صوفيًّا مميزًا في الأدب الصوفي, إذ يرمز لرحلة الروح نحو الانعتاق من سجن الجسد, وهي أساس رحلات الطير ورسائلها وقصصها, ويحضرنا فورًا معراج البسطامي, والحلاج في طواسينه, وابن سينا والغزالي في رحلة الطيور إلى ملكها, وقصص السهروردي والرسائل الرمزية, وتعد منظومة منطق الطير أبلغ مثال على تمازج رمز الطير بالمعراج الصوفي, فالطيور رمز للبحث والخلود, ولقد ذُكرت في القرآن الكريم كثيرًا.
لقد استخدم الشاعر الهدهد والغراب والعصافير في قصائده, في قصيدة ( غراب حكيم), استخدم الغراب كرمز صوفي, مستفيدًا من حادثة الدفن هابيل التي علّم فيها الغرابُ قابيلَ طقوس الدفن, مقاربًا بين حيرة قابيل أمام دفن هابيل, وحيرته أمام دفن شكوكه, فكان الغراب الرمز حلًّا حكيمًا بالمقاربة بين الحيرتَين:
كانَ عَلَيَّ والغُرابُ يُناوِرُ حَوْلي
أَنْ أَلْتَقِطَ بَعْضَ الحِكْمةِ
وكانَ لِزاماً عَليَّ
أَنْ أَدُقَّ بابَ مَدِيْنةِ الصَّمْتِ
فلَقَدْ ضاقَتْ بالضَّجِيْجِ أَرْضي
وتَقَطَّعتْ سُبُلُ الضِّياءِ
وغَرِقَتْ في لُزُوْجةِ الحَيْرةِ
سأَظَلُّ أَتْبَعُ هذا الغُرابْ...
فهلْ سأَتَعَلَّمُ منهُ أَمْراً
يُخْرِجُني مِنْ جَحِيْمِ الشَّكِّ؟!
أَمْ سأَبْقى إلى حِيْنٍ
في مُسْتَنْقَعِ الحَيْرةْ؟!

كانت تلك بعض الرموز التي حفلت بها المجموعة, والتي تجلت كرموز صوفية معروفة ومنتقاة بعناية, ما يشير إلى أن الشاعر على دراية ومعرفة أدبية عالية في هذا النوع من الأدب الشعري, تضعه في مرتبة الشاعر الصوفي المعاصر بكل جدارة.

 التناص :
أتناوله عادة في المستوى النفسي المدخل العقلاني التوليدي, ولكني هنا سأتناوله في المستوى اللساني المدخل الجمالي, لأنه تناص وتعالق بلاغي وجمالي خاص جدًّا, وسأوضح ذلك فيما يأتي. وسأترك للمستوى النفسي تناصًّا آخر يتبع للمدخل العقلاني التوليدي.
يعرّف التناص من أنه من أبرز الظواهر الفنية في الشعر, وله تأثيره البالغ في التشكيل الجمالي على النص الأدبي, وجذوره تضرب في عمق الماضي ,إذ يُعاد من خلاله اكتشاف الماضي أو قراءاته في ضوء الحاضر وإعادة تشكيله من جديد .
الخطاب النقدي المعاصر ينظر إلى النص الأدبي المعاصر على أنه نتاج تفاعلي للعديد من النصوص القديمة والحديثة, والتي تتناص على أنواع مع مختلف النصوص الأخرى المتشكلة من أيديولوجيات مختلفة, من هذذه الأنواع :
 التناص القرآني :
إن النص القرآني هو المصدر الأول للتناص عند الشعراء, "وهم يحاولون تحقيق وظيفة أساسية من خلال التناص القرآني, وهذه الشرعية تجد سندها القوي في الخطاب القرآني الذي لا يخلو خطاب شعري حداثي من استدعائه وامتصاصه" .
فكيف إذا كان الشعر صوفيًّا؟
إن الاصطلاحات الصوفية مردودة في أصلها إلى الفقه والتوحيد من علوم الديانة الإسلامية, وأكثرها مستمد من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف, إذ أن معظم الألفاظ قرآنية لمعانيها, لولا أن القوم أضافوا إليها أبعادًا اختصوا بها دون غيرهم,
لقد أعاد الشاعر كتابة العديد من الآيات من النص القرآني الغائب بتوظيف فني عبر امتصاص الآيات الكريمة:

قَصِيْدةٌ في غَيْمة

بعَصايَ.. أَهُشُّ على قَطِيْعِ قَصائِدي

هنا امتص الشاعر الآية الكريمة : ( هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي) الآية 18 من سورة طه.

حَضْرةٌ مُقَدَّسة
الآنَ.. وقدْ خلَعْتُ حِذائي
وإلى بَياضِ وادِيْكِ أَمْضِي
تُظَلِّلُني غَيْمةٌ تَغْسِلُ الرُّوْحَ
أُرَتِّلُ بسِرِّي وَصايا الأَرْضِ
وما أَوْحَتْ بِهِ السَّماءْ...
وهنا امتص الآية الكريمة( إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى) الآية 12 من سورة طه, ليدلّل على طريق السالكين, وأول الاستعداد للمضي فيه التأدب والطهارة .

الطَّقْسُ الـمُسْتَحِيْل
شمعة الكلام
تُنْصِتُ لِهَمْسِ الخَلْقِ
وغِناءِ القَصِيْدَةْ...
يَرْتَدُّ طَرْفُكَ
فتُوْمِئُ للعابِرِيْنَ على عَجَلٍ
ممتص من الآية الكريمة ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك), الآية 40 من سورة النمل, وهو موظّف فنيًّا في نفس المعنى, سرعة الإنجاز بإعجاز.

تَقُـوْلُ التَّجْـرِبة
يَتعايَشُ نَباتٌ معَ نَباتٍ
بعَقْدٍ مَتينْ...
كلاهما يَتعهَّدُ بمنفعةٍ يُقَدِّمُها للشَّريكِ
لا يَطْغى أحدُهما على الآخَرِ
ولا يُطَفِّفانِ المِكْيالْ...
وهنا امتص الشاعر من سورة المطففين الآيات 1- 2 -3 ( ويل للمطففين*الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون), وظّفه في نفس المضمون القرآني, المنفعة السلبية التي نهى عنها الله عزّ وجل.

زَبَــدٌ ومـاء

الزَّبَدُ ماءٌ، فكيفَ يَذْهَبُ جُفاءْ؟

تناص مع الآية الكريمة ( فأما الزبد فيذهب جفاء) سورة الرعد – الآية 17

للوَقْتِ أَفْياءٌ
أَقِفُ في أَفْياءِ الوَقْتِ طَويلاً
كَأَنَّني تِمْثالٌ قُدَّ مِنْ طِيْنِ البِداياتِ
والخَلْقِ الأَوَّلْ...
في ظِلِّي يَقِفُ الهارِبُوْنَ مِنَ الجَحِيْمِ
ويَحُطُّ على كَتِفي
طائِرٌ مَفْجُوْعٌ
يَسْأَلُني بحَيْرةٍ
كَيْفَ يُوارِي سَوْءَةَ أَخِيْهِ القَتِيلْ.!..
وهنا تناص مع القص القرآني, قصة قتل قابيل لأخيه هابيل, والغراب الذي علّمه الدفن, ( فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين), الآية 31 من سورة المائدة, لكنه وظّفه توظيفًا فنيًّا معكوسًا, الطائر المفجوع هو من يسأل الشاعر كيف يواري سوأة أخيه القتيل, ليصوّر لنا حجم الفاجعة المرتكبة وكأن الشاعر يشير إلى حرب أو تفجير.

نـارُ الغَيْـرةِ
أَلْقَوْكَ في ظُلْمةِ الجُبِّ وارْتَحَلُوا
وفي دَمِهِمْ نارٌ تُوْمِضُ
حِقْداً وغَيْرةً...
يَنْشُرُوْنَ دَمَ الأَشْجارِ
رايةً مُخادِعةً ودَماً كَذِباً
والقَلْبُ المُلَوَّعُ مِنْ مَكْرِهم
خَلْفَ أَحْزانِهِ يَحْتَجِبْ...
أيضا تناص مع القص القرآني, قصة يوسف, ووظفه في نفس الثيمة, غيرة الأخوة من حب الأب للابن الأثير.

لَعَلَّ الصُّبْحَ قَرِيْبٌ
ولَعَلَّ الهُدْهُدَ يَؤُوْبُ مِنْ رِحْلتِهِ
وعلى جَناحَيْهِ خَبَرٌ
أَراهُ يُوْرِقُ فَرَحاً
ويَعُمُّ الكَوْنَ عَبِيْرُ الإِيْمانْ...
تناص مع قص القرآني, قصة الهدهد والنبي سليمان, في سورة النمل.

 التناص الأسطوري:
إن الأدب الصوفي هو أدب إيحائي بالدرجة الأولى, جبلّته الأولى هي التراث الفني, ومن أجل ذلك يوظّف الشاعر الصوفي الميثولوجيا ليؤمّن الجانب الإيحائي الرمزي ليتخفّى به, فيتكئ على الأسطورة المتخمة بالرموز الميثولوجية للتعبير عن المكبوت الداخلي.
وعن دراية ومعرفة قام الشاعر منذر يحيى بتوظيف الميثولوجيا برموزها في نصه الشعري, جاعلًا النص مفتوحًا على الإيحاء والتأويل الدلالي الرمزي.
بعض الأمثلة على التناص الأسطوري:
عُشْــبةُ الخُلُـوْد
-1-
أو هَلْ أُلاقِي في طَرِيْقي
بَعْدَ فَجِيْعتي عُشْبةَ الخُلُودْ؟!.
-2-
أَيَّتُها الأَفْعى المُخاتِلةُ
ماذا صَنَعْتِ بتِلْكَ العُشْبةِ المُرْتَجاةِ
التي أَضْنَتْ "جلجامشَ" في مَسارِهِ الطَّوِيلْ؟.
مُؤَكَّدٌ، راقَكِ أَنْ يَلْحَقَ بصَدِيْقِهِ " أنكيدو"
فكانَ لكِ ما أَرَدْتِ
وكانَ المَوْتُ "هاذِمَ اللَّذَّاتْ"... (*)
تناص مع أسطورة جلجامش وأنكيدو في بحثهما عن عشبة الخلود, والأفعى التي سرقت الخلود, وبالتالي كان الموت مصير كل مخلوق.

 التناص الأدبي :
وهذا النوع الذي تؤكد الذرائعية انضوائه تحت المستوى السيكولوجي بمدخله التوليدي العقلاني, لذا سأتناوله في المستوى النفسي.

ثالثًا- المستوى السيكولوجي:
إن المنتج الأدبي بكل أجناسه ما هو إلا تمظهر إجرائي لانفعال داخلي نفسي مثار بمثير ومحفز محيط خارجي, فكيف إذا كان شعرًا؟ إن الشعر مشهود له بأنه ذاتي تشكّل في القلب, مكمنه الشعور, وليس في العقل, لكنه نضج في الفكر المتحرر من قيود الأنا, وانطلق في رحاب الكل.
إن الشاعر لا يغفل عن تعميق معاناته الداخلية, وهي يدرك أنه بذلك يعمل على إنضاج الفكرة, وهي عملية تتم بوعي وإدراك, لكن ضمن البعد النفسي الداخلي الذي ينظم الفعل ورد الفعل على مستوى الكون المحيط والإنسان, سندرس هذه العملية ضمن المداخل النفسية التالية :

 المدخل العقلاني التوليدي : التناص
ترى الذرائعية أن التناص شيء مهم يستفز الناقد, ويستطيع الناقد في هذا المدخل أن يلج إلى جميع الأفكار المتناصة مع الحياة والكاتب, وقد شكلت محورًا بين الكاتب وآخرين من الأدباء, لتسير الحياة في مجرى طبيعي متبادل في التعاون بين الأدباء كمنظومة ساندة للمجتمع, بأدب رسالي أخلاقي وأحداث الحياة المتواردة بالتكرار.
" إن الدارس للخطاب الشعري المعاصر يبدو له متن هذا الخطاب مسكونًا بذاكرة التاريخ والنصوص القديمة التي تفاعل معها شعراؤنا ووظفوها في نصوصهم المقروءة, ومن ثم تولدت فاعلية الخلق الشعري"
من هنا فإن الشاعر منذر يحيى, مفيدًا من ثقافته وقراءاته الكثيفة للمنتج الأدبي لمن سبقوه عبر حقب التاريخ, أو عاصرهم, ودرس تجاربهم الأدبية الناجحة, اختار أن يتناص معهم, عبر هذه التقنية الجمالية للتعبير من خلالها عن مكنوناته الشعورية والحسية, والأمثلة على ذلك عديدة نستعرض أمثلتها :

شَـغَافُ قَلْـبٍ حَزِيـن
على طَرِيْقةِ "سُوْفُوْكلِيْسَ"
لا تُوْقِظوا الحُبَّ بقَلْبي
فأنا الآنَ حُرٌّ أَسِيْرُ على هَوايَ
تَكْفِيْنِي الذِّكْرَياتْ...
وأَكْرَهُ الاشْتِعالَ مِنْ جَدِيدْ...
قَلْبي مُثْخَنٌ بالجِراحِ
ويَحْتَمِي بشَغافِهِ الحَزِينْ...
هنا يعيد الشاعر قول سوفوكليس الشاعر المسرحي اليوناني, وكانت السن قد بلغت به مبلغ الشيخوخة حين سأله أحدهم: " ما موقفك الآن إزاء الحب يا سوفوكليس؟" فأجاب: " صه, لا توقظه في قلبي من جديد, فكم يسعدني أن أراني قد فررت من حبائله, فأحس كأنما فررت من مستبد متوحش مجنون!"
فقد امتص الشاعر عبارة سوفوكليس ووظّفها في قصيدته ( تداعيات خريف العمر), تعبيرًا عن معاناته الحب, ورأفة بقلبه الحزين المثخن بجراحه.

في لَحْظةِ وَجْدٍ صُوْفِيّةْ
هذا ما تَمَنّاهُ الفَتى
"يا لَيْتَني حَجَرٌ"
تَمَنَّى أَنْ يَكُوْنَ حَجَراً
وأنا قَدْ تَمَنَّيتْ!
لكنْ في غيابِكِ الطَّوِيْلِ
ولُزُوْجةِ الغُبارِ
نامتْ قَبْضةُ الذِّكْرَياتِ
وتَدَحْرَجَ الرّأْسُ
وارْتَعَشَ في سُكُوْنِهِ الحَجَرْ...
هنا امتص الشاعر منذر يحيى ( الفتى - حجر) من قصيدة الشاعر الجاهلي تميم بن مقبل, التي بكى فيها زوجته التي فرقها عنه الإسلام, الذي ألغى العرف الجاهلي الذي يسمح بزواج الابن الأكبر من زوجة أبيه بعد وفاته, يقول :
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر
تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ
كما أجده متناصًّا مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش في رائعته المعنونة بنفس العبارة ( ليتني حجر) :
ليتني حجر
لا أُحنُّ إلي أي شيء
فلا أمسِ يمضي, ولا الغد ُيأتي
ولا حاضري يتقدم أو يتراجع
لا شيء يحدث لي!
ليتني حجر قلت يا ليتني
حجر ما ليصقلني الماء
أخضرُّ, أصفرُّ...أُوضَعُ في حجرة
مثل منحوتةٍ, أو تمارينَ في النحت
أو مادةً لانبثاق الضروريَ
من عبث اللاضروريّ
يا ليتني حجرٌ
كي أحنَّ إلى أي شيء

تناص في قصيدته ( تداعيات خريف العمر) :
وَحِيْداً ستَمْضِي
عِنْدَما يَصِيْرُ العُمْرُ خَلْفَ الضَّبابْ...
لَنْ يَبْقى بَعْدَ الغِيابِ
إلّا عَوِيْلُ الرِّيْحِ المُوْجِعُ
وظِلالُ يَدَيْكَ على الجِدارِ
مع أفكار نيتشه في شذرته الشهيرة:
"وحيدًا تمضي على طريقك إلى نفسك! عبرك أنت ذاتك وعبر شياطينك السبع .... ستريد أن تحرق نفسك في لهبك الخاص: كيف يمكن أن تغدو جديدًا إن لم تتحول أولًا إلى رماد؟".

 المدخل السلوكي النفسي :
يهتم هذا المدخل بالبحث عن جميع التساؤلات والإشكاليات والجدليات الاستفزازية التي يرفعها الكاتب في عمله الأدبي.
تضادية الموت والحياة:
تشكّل جدلية فلسفية تقترب من درجة الإشكالية, كما تتجلى في ذاتية الصراع بين المادة والروح, من قصيدة ( لا تقتلوها .. إنها فراشة) يقول:
هلْ مَوْتٌ
بَعْدَ مَوْتِنا الأَكِيدْ؟
أَمْ شَكْلٌ آخَرَ للحَياةْ؟!
تَسْأَلُ الفَراشَةُ:...
في مَوْتِها الذي لا يُشْبِهُ المَوْتْ...
-17-
هَلْ مِنْ حَياةٍ بلا إِيْقاعٍ
كما في الأَسْفَلِ كذلك في الأَعْلى
رُوْحي تَتَرَدَّدُ بَيْنَ قُطْبَينْ...
أنا في حَيْرةٍ
تَقُوْلُ الأَسْئِلةْ:...
ما هذه الأسئلة التي تبدو في ظاهرها وكأنها تساؤلات لطفل يكتشف الوجود بتسلسل الإجابات الغائبة؟! كل كلمة فيها محمّلة دلاليًّا بما يثقلها بحيرة التذبذب بين قطبي الأعلى والأسفل, بين الحياة والحياة أو بين الموت والموت ,أوبين الحياة والموت, على إيقاع روح لا يعرف السكون والأمان لها سبيلًا.

ساحِرَة
إذا مَرَرْتِ في مَيِّتِ الرَّوْضِ
قَدْ يَشْتَعِلُ عُشْبُ الحُبِّ، ويُعْلِنُ قِيامَتَهُ
وتَطْرَحُ شَجَرةُ اللَّوْزِ نُجُوْمَها
على قارِعةِ النَّهارِ
ومِنْ حِبْرِ الدَّهْشةِ والإشراقِ
ستُوْلَدُ قَصِيْدةُ وَجْدٍ
وستَعْرِضُ العُيُوْنُ عَسَلَها
على أَدِيْمِ مَراياها
ويُنْشِدُ قُدّاسَهُ سِرْبُ اليَمامْ...
الرَّوْضُ قَدْ شَرِبَ دُمُوْعاً
وضَيَّعَ في هَجِيْرِهِ القاسِي أَمانَهُ
فإذا مَرَرْتِ
فسَوْفَ يَعُوْدُ للرَّوْضِ السَّلامْ...

فلسفة الحب:
إن غاية الخلق أن تكون الحياة سفينة حب, فنوح عليه السلام لم يبنِ سفينة من خشب ومعدن, بل بنى حياة بين متضادين, بين متكاملين, وكان سر الخلق بأمر الرب, السر الذى احتوته هي وهو في قصيدة تعشق الحياة .
الحب الصوفي تغذية للروح وتذكية للنفس من كل الشوائب, كالكراهية والبغض, كما أنه اعتراف بالآخر دون قيد أو شرط, والحب ليس له وجه واحد, وإنما هو مراتب, فالحب هو منطلق كل خير, وهو الملهم والمحرك, وهو جوهر العقيدة العقيدة وروحها, لأن الله هو الحبيب وملهم الحب, وكل ما في هذا الكون من إشراق وجمال وبهاء وسلام وجنان ورياض هي من فيوضات حبه, فالمتصوّف يتجلى جمال حبيبه في كل شيء, ومحبة المخلوقات التي هي تجلٍ للحبيب تدخل ضمن التعبير الخالص عن العبودية والطاعة لله دون قيد أو شرط.

أَقِفُ في أَفْياءِ الوَقْتِ طَويلاً
كَأَنَّني تِمْثالٌ قُدَّ مِنْ طِيْنِ البِداياتِ
والخَلْقِ الأَوَّلْ...
في ظِلِّي يَقِفُ الهارِبُوْنَ مِنَ الجَحِيْمِ
ويَحُطُّ على كَتِفي
طائِرٌ مَفْجُوْعٌ
يَسْأَلُني بحَيْرةٍ
كَيْفَ يُوارِي سَوْءَةَ أَخِيْهِ القَتِيلْ.!..
هنا تبرز:
فلسفة البدايات:
مَن قُتِل قبل مَن؟ هابيل أم الغراب؟ يقلب الشاعر كأس التاريخ رأسًا على عقب, لتمتزج البدايات بجحيم الحاضر الذي يفرّ فيه كل مَن عليها, هربًا من أهوال بطش الإنسان ليس بأخيه الإنسان فقط, بل بكل من دبّ على الأرض أو طار في السماء, ليغدو الشيء ومقلوبَه واحد.

أَحْياءُ الغابةِ المُتَوَحِّشةِ
خَلَقَتْ بَيْنَها تَوازُناً
لم تُوَثِّقْهُ الدَّساتيرُ
نادراً ما يُنْتَهَكْ...
وشُعُوْبٌ مُتَحَضِّرةٌ
تَقْتَلِعُ شُعُوْباً أُخْرى
كأعشابٍ ضارّةْ...
- 3 -
أَيُّها الحَمْقى
على أَيِّ أَساسٍ قَسَّمْتُمُ الأَعْشابَ
بَيْنَ ضارّةٍ ونافِعةْ؟!.
هنا سؤال محمول على الاستنكار والشجب والتقريع, يتوجه به الشاعر إلى الشعوب الاستعمارية التي انزلقت إلى الدرك الأسفل من من مدرج الإنسانية, حين استعمرت أوطان الشعوب الضعيفة واقتلعتها منها وكأنها أعشاب ضارة, في الوقت الذي استقام فيه ميزان العدل في شريعة الغاب.

لماذا أَدْخُلُ في جَحِيْمِ المُعاناةِ
فأنتَ غائبْ...
الغِيابُ حقيقةٌ
لكنّني سأُحْضِرُكَ كلَّ حينٍ
بطَقْسِ الحَنينْ...
فلسفة الحضور والغياب:
وعبرها يسوق الشاعر لنا معاناته وصراعه بين يقين وحقيقة الغياب, ووهم الحضور, ليكون الحنين طقسًا يغري بالحضور.

حُرِّيَّـةُ الجَسَـد
هذا الجَسَدُ الغارِقُ بالشَّهَواتِ
كما أَقَرَّ الخالِقُ لَحْظةَ شاءَ
وقَدْ تَعَمَّدَ بالزَّيْتِ المُقَدَّسْ...
لماذا قَيَّدْتُمْ خُطُواتِهِ
نَحْوَ مُرُوْجِ حُرَّيَّتِهِ المَنْشُوْدةِ
وأَغْرَقْتُمُوْهُ بسَيْلِ دُمُوعْ؟!.
فلسفة الجسد:
فالتجربة الصوفية " تجربة ذاتية يتواجد فيها الجسدي مع النفسي تواجدًا قويًّا لم يستطع معها الصوفي ذاته أن يتخلص منها في خطابه" , فالجسد عند عند الصوفي في بداية تصوّفه هو بؤرة الغرائز والشهوات, منه تصدر الأخطاء والذنوب, والكمال لا يتحقق إلا بمعالجة غرائز هذا الجسد والعمل على توطيد العلاقة بين الذات والله, وهذه التجربة هي بمثابة " اكتشاف يتوخى تحويلًا جذريًّا للأنا النفسية إلى أنا عليا تستطيع أن ترتقي حتى الاتحاد بالله" , فالجسد يصبح ميدان نكشف من خلاله نقصان الذات وكمالها, وهو أيضًا السطح الذي يحدد موقع المتكلم الصوفي من حيث سلوكه الأخلاقي, أو هي" حالة متدرجة نحو تحقيق هذا السلوك, وهذا الحديث يمثل مرحلة ظهور الجسد في كلام المتصوف"

أَكْرَهُ أَنْ يَكُوْنَ التَّقْوِيْمُ أَوْراقاً يَوْمِيّة
حَيْثُ يَتَساقَطُ العُمْرُ وَرَقَةً إِثْرَ وَرَقَهْ
ويَهْرُبُ الفَرَحُ يَوْماً إِثْرَ يَوْمٍ
هَلْ مِنْ طَرْيْقةٍ نَعُدُّ بها أَيّامَنا؟!
ونَنْسَى في النِّهايةِ العَدَدْ؟!..
فلسفة العدد:
يتطرق الشاعر هنا إلى فلسفة قائمة بذاتها وحقيقة واقعية تشكل ركيزة أساسية في بنيان الإنسان والكون, وهي فلسفة العدد , فحسب فيثاغورث كل الأشياء أعداد, والأشياء تحاكي الأعداد, والأشياء صيغت على نموذج أعلى هو العدد, فهل ننسى العدد؟ بمعنى هل ننسى الأشياء؟ هل ننسى الركيزة ؟

سأَظَلُّ أَتْبَعُ هذا الغُرابْ...
فهلْ سأَتَعَلَّمُ منهُ أَمْراً
يُخْرِجُني مِنْ جَحِيْمِ الشَّكِّ؟!
أَمْ سأَبْقى إلى حِيْنٍ
في مُسْتَنْقَعِ الحَيْرةْ؟!
فلسفة الشك:
إن الخطاب الصوفي ينكر الشك المنهجي الذي يعتمد "إعمال العقل في كل الموجودات والممكنات لتمييزها والوصول إلى حكم قطعي فيها يطمئن به الإنسان ويشعر بالوصول إلى اليقين بطرق عقلية...." بينما تعتمد الصوفية على الحدس والمشاهدة, واعتبار الباطن والتأويل الباطني, "وتعتبر كل معرفة ناتجة عن العقل أو الحس معرفة ظنية, فالعقل عندهم إنما يكتسب العلوم عن طريق الحواس, وهي طريق غير مأمون في تلقي المعرفة" .
والشاعر منذر يحيى, متبعًا مسلك شعراء الصوفية, هو شاعر قلق لا يعرف السكون سبيلًا إلى أفكاره, رغم إثباتات العقل والحس واليقينيات الكبرى لحقيقة الموت فإنه مصر على استمرار المشاهدة والحدس, ومع ذلك هو في شك من وصوله إليها, ربما حتى يخوض تجربة الموت بنفسه, بعد عمر طويل بإذن الله.

في مُنْتَصَفِ الوَقْتِ إلاَّ قَلِيْلاً
تَذْوِي شَمْعةُ الكَلامِ
وتَرْتَفِعُ إشارةٌ مُفاجِئةٌ
كأنَّها عَصْفُ السُّؤالْ:
إلى أَيْنَ تَقُوْدُنا مُجَنَّحاتُ الرُّؤَى؟!
الأَرْضُ مُدَمَّاةٌ
ويُجَلْجِلُ في السَّماءِ
صَرِيْرُ الأَبْوابْ...
هَلْ يَأْتِي المَطَر؟
أَمِ اسْتَعاضَتْ عَنْهُ الأَرْضُ
بالدُّمُوعْ؟
نَشْتاقُ إلى المَطَرِ في مَواسِمِ القَيْظِ
فتَدْمَعُ العُيُونْ
نَحِنُّ إلى وَجْهٍ يُناوِرُ الغَيْمَ
لِيَهُلَّ كالقَمَرْ...
وإلى المَطَرِ نَزُفُّ عَرائِسَ، أو دُمىً كَذِباً
فهَلْ يَأْتِي؟!
أو لِتَأْتِ الدُّمُوعْ...
فلسفة الأخرويات- القيامة والبعث :
بكلمات معدودة, لكنها كلمات تنوء بثقل الحمولات الملقاة على جسدها الدلالي كألفاظ ( شمعة الكلام – إشارة مفاجئة- عصف سؤال- مجنحات الرؤى-الأرض مدماة – السماء- صرير الأبواب- المطر- القيظ- الدموع- العيون- الغيم –وجه- القمر—عرائس- دمى), والأفعال الإجرائية (تذوي – ترتفع – تقود-استعاضت-تشتاق- تدمع- يناور-نزف-...), يصوّر الشاعر مشاهد وأحداث يوم القيامة, بهذه الألفاظ والعبارات المعدودة بما يوازي التصور الأخروي لما بعد حياة البشر ونهاية العالم عند ابن عربي, الفيلسوف الصوفي الذي خصّص للموضوع عدّة أبواب طويلة من موسوعته الكبرى( الفتوحات الكبرى) .

مِنْ أَيْنَ يَأْتي الحُزْنُ
والأَرْضُ مُعْشِبةٌ
وقدْ كَلَّلَها في صَباحاتِها
النَّدى؟!

حُزْنُ النُّجُوْم
هل تَتْرُكِينَني في مِحْرابِكِ وَحيداً
أَشْرَبُ مِنْ فَيْضِ الدُّمُوْعِ
كَأْساً ساخِنةً
وتُراوِدُ الأَشْباحُ المَكانْ؟!..
وصارَ الخَوْفُ طَقْساً.. اقْتَرِبي...
فكأنَّ اللَّيْلَ طَوِيْلٌ طَوِيلْ
ونُجُوْمَهُ تَلْبَسُ مِنْ حُزْنِها السَّوادْ...
فلسفة الحزن:
"فالحزن هو زاد الصوفي وراحلته, والقلب الطروب في نظرهم هو قلب فارغ خرب, والقلب الحزين قلب مملوء بالإيمان والخشية والرجاء"
هنا نلمح فلسفة تشاؤمية تتمظهر باليأس والكآبة المنبثقين من الإحساس بالاضطراب وفقدان التوازن النفسي بين الذات الشاعرة والواقع المحيط والإحساس المريع بالفشل من تحقيق التصورات المثالية للذات في ظل الظروف الواقع الحياتي, ومن الإحساس بالوحدة والغربة والضياع, وعدم الرغبة بمعايشة الواقع غير المرغوب فيه.
كانت تلك بعض التساؤلات الجدلية والإشكالية التي ترصد جوهر الفلسفة الصوفية في العديد من المواضيع, أطلعنا الشاعر مشكورًا عليها بفنية مكثفة وجمالية شعرية رائعة, وهناك المزيد, أترك المجال لغيري باستخراج المزيد من الدلالات ودراستها في بنيتها السيمانتيكية السطحية والإيحائية العميقة.

 المدخل الاستنباطي النفسي:
وفيه يتقمص الناقد شخصية الأديب للبحث عن المفاهيم والدلالات من حكمة وموعظة فلسفية أو اجتماعية أو إنسانية, مادام الدب حالة وجدانية تصيب الأديب, يختلف فيها عن الإنسان العادي, عندما يقوم بتقمص شخصية غير شخصيته, ويسجل إرهاصات الكاتب الشخصية بأسلوب عميق ...
سنقف على بعض تلك المواعظ والحكم:
بحِكْمةٍ، وحُنْكةٍ
تَقْبَعُ البُذُوْرُ في تُرْبةِ الصَّقِيْعِ
والعَتَمَةْ...
وبَعْدَ قُدُوْمِ الدِّفْءِ
تُعْلِنُ اخْضِرارَها العَظِيمْ...
الصَّغِيْرُ مِنَ الثِّمارِ
أَزْكى طَعاماً وأَكْثَرُ حَلاوةْ...
فلا يَغُرَّنَّكَ الشَّكْلُ
تَقُوْلُ التَّجْرِبةْ...
في الحَياةِ كَثيرٌ مِنَ الأَشْياءِ
نَحْتالُ عليها لنَقْبَلَها
كحَبّةِ دَواءٍ مُرِّ الطَّعْمِ
فنُغَلِّفُها بالسُّكَّرْ...

الرِّيْحُ قَدْ لا تُلائِمُ أَشْرعةَ القَلْبِ في إِبْحارِهِ

لَيْسَ مِنَ الحِكْمةِ
وأَنْتَ في مِحْرابِ الجَمالِ
أَنْ تَتَجاوَزَ طُقُوْسَ العِبادةِ
وأَنْ تَجْعَلَ خَيالَكَ يَسْرَحُ بَعِيْداً
خَلْفَ السَّرابْ...
حاوِلْ
أَنْ تَكُوْنَ خاشِعاً كما في صَلاةٍ
إنَّهُ مِحْرابُ الجَمالْ...

نَصِيْحة
لا تَدَعُوا شُقُوْقَ الجُدْرانِ
تُفْسِدُ بجُرْأتِها مُتْعةَ الحَياةْ...
ففي كُلِّ شَيْءٍ صُدُوعْ
رُبَّما يَنْفُذُ شُعاعُ نُوْرٍ مِنْ صَدْعٍ رَحِيمْ...

رابعًا- المستوى الديناميكي:

إن الكتابة الصوفية كتابة شذرية وسيميولوجية لها آليات تكوينية خاصة بها, وهي تتفرد عن النص الأدبي في غلبة البعد الفكري والذهني والروحي والفلسفي على الكتابة الصوفية التي تبتعد كثيرًا عن الكتابة الإبداعية المتداولة. وهذا ما يجعل الخطاب الصوفي جنس مستقل بنفسه تمام الاستقلال, بكل آلياته الذهنية واللغوية والأسلوبية والجمالية, فالنص الصوفي هو نص معرفي وتعليمي وفكري أكثر مما هو نص إبداعي وأدبي, يتأرجح بين لغة تداولية يومية أو لغة تصويرية مجازية, وقد وصفها منصف عبد الحق قائلًا:
" إن الكتابة الصوفية ليست كتابة بيانية, وإنما تعتيمية أو ليلية, إنها تعمل عمل الحلم الذي يربط بين عنصر ومستويات وموضوعات لا تجمع بينها في غالب الأحيان أية رابطة أو قرينة منطقية أو عقلية, إنها تعتيم المعنى وتقديمه في الخفاء, أي في الليل, ... هي لعبة لاشعورية خفية, قائمة على التكثيف الرمزي الذي يجمع بين مستويات قد تنعدم الرابطة العقلية بينها, وبالفعل, إن ما تقوله تلك الكتابة يخفي قولًا آخر غير الذي تقوله فعلا ...."

المضامين :
على مستوى المواضيع الكلية, فقد تناول الشاعر مواضيع فكرية وروحية متنوعة, ناقلًا تجاربه الذاتية والانفعالية في قوالب فنية وجمالية وسيميائية موحية, وقد بين لنا علاقته بذاته وبالآخر وبالذات الإلهية وبالوجود الذي يوجد ضمنه.
وقبل الخوض بتفاصيل المواضيع علينا أن ننتبه إلى خصائص رئيسية يتسم بها الأدب الصوفي :
إن المطلع على الأدب الصوفي ينبغي له معرفة حقيقة هامة جدًّأ, وهي موقف التصوّف من العقل, فالقلب عند الصوفية أهم من العقل, بل ربما كان عندهم الأساس, حتى أن بعض متصوفة المسلمين جعلوه عرشًا للرحمن.
لذلك تأتي أهمية التصوير الروحي والوجداني في المرتبة الأولى في التصوير النثري عند الشاعر الصوفي لأن " التجربة الصوفية هي نوع من التجاوز لعالم الحس والعقل معًا, نحو عوالم روحية تخييلية واسعة وغير محدودة, هروبًا من عالم الشقاء والمعاناة والألم والحيرة والغموض" .
في شذرة ( هجرة الروح) يتجلى هذا النمط التصويري( التصوير الروحي) كمثال, مع سمته التكوينية الدرامية:
في مَقامِ الغِيابِ
أَقْرَأُ كُلَّ ما تَقُوْلُهُ الرِّيحْ...
لكي تَعُوْدَ الرُّوْحُ مِنْ هِجْرتِها
أَعْصِرُ عامِداً حَواسِّي لأَشْرَبَها
يَهُلُّ الغَيْثُ فَجْأةً
بلا سَحابْ...
وهنا لا يخرج هذا التصوير الروحي الصوفي عن حالة مخاض التجربة الشعرية, فهناك يصف الصوفي معاناته في رحلته إلى مقام ( الفناء) حيث يتعطل الإحساس عن كل موجود, عندها يتساوى معه الشاعر في حالة الإلهام أو الحدس. الشاعر هناك يتدرج في مراتب الرحلة الصوفية إلى الذات الإلهية, وقد بلغ مقام الغياب, ما يوازي مرتبة الفقد والحرمان الشعرية, وحين تؤوب الروح من رحلتها إلى الجوارح, ينتقل الشاعر إلى التصوير الحسي, ( أعصر عامدًا حواسيَ لأشربها), فيهطل عصيرها غيثًا ودموعًا, تروي عطش الذات في هذا المقام ( الغياب) .
ثم تأتي أنماط التصوير الأخرى: الواقعية اليومية, والباطنية المجردة المتعالية, والحالمة الخيالية.
وهي أنماط لا تقل أهمية من حيث الوظيفة التصويرية عن النمط الأول, لكنها تأتي روافد تصب في نهر الروح الخالد.
"وبهذا التنوّع في سمات التصوير وأنماطه, يحقق النص الصوفي جمالية فردية في التصوير والتعبير" , ولكل نمط من هذه الأنماط السمة التكوينية الخاصة به:
فها هو في شذرة( أمان مجروح), يوظف النمط التصويري الواقعي بسمته المأساوية التراجيدية, وهو يصوّر صراع الإنسان مع واقعه الذي تتناوشه مظاهر الشقاء, وانعدام الأمان, لا يخرج عن ذكر ( الروح) زاجًّا بها في أتون هذا الواقع الشقي:

وأنتَ تُصارِعُ الرِّيْحَ في زَمَنِ البَلْوى
حاذِرْ، الرُّوحُ تَئِنُّ تحتَ سِياطِ الحِقْدِ
والأمانُ المجروحُ يَهْجَعُ في رُكْنِهِ القَصِيِّ
كالأمِّ الثَّكْلى...
فِنْجانُ القهوةِ تَحَارُ العرَّافةُ في شَغبِ خُطوطِهِ
وتُبَشِّرُكَ رُغْمَ الخَديعةِ بالجلد...

وفي شذرة (سرير القصيدة), مستخدمًا التصوير الذهني المجرّد, بسمة المواربة واللغة المجازية الرمزية, فالنفس أو الروح عند المتصوفة هي جوهر مادي من طبيعة إلهية, لذلك يصارع الصوفي للعودة إلى المبتدى يدفعه الشوق والحب, مستحضرًا وضع الموت, بجسد عارٍ ونفس خاطئة, تتخذ من القصيدة سريرًا بوضعية قبر, هو المعبر, يجري على الجسد حكم الموت وحكم التحلّل, جسد يتشهّى الفناء ويتوق إليه للوصول إلى مبتغاه الأسمى, لقاء الذات الإلهية, ليظفر بالأمان متحضّرًا لقيامة خالدة:
عارِياً إِلّا مِنْ خَطيئاتي
أَسْتَلْقِي في سَرِيْرِ القَصيدةِ
كأنّي أَتَهَيَّأُ لعُبُوْرٍ أَكيدٍ
إلى مَمْلكةِ المَوْتْ...
بَطيئاً يَذُوْبُ جَسَدي الذي أَفْناهُ التَّشَهِّي
يُناوِرُ على طَريقتِهِ
كي يَصِلَ بأَمانٍ
إلى بَوّابةِ القِيامةْ...
من قصيدة ( خربشات, وأوراق قديمة), للخيال تصوير صوفي موظّف بدقّة في القصيدة, وهيمنة كبيرة لسمة الأمل والتحليق في الخيال على التصوير البلاغي, حيث القصيدة جسد قابل للاشتهاء, والحلم هوامش بكر, وهنا هيمنة واضحة للذات الشاعرة:

على جَسَدِ القصيدةِ
أَرُشُّ قَليلَ مِلْحٍ
وأَحْلُمُ بهوامشَ بِكرْ...

وفي قصيدة (قصب الرؤيا), هروب من الواقع الإنساني الشقي باتجاه الحلم والرؤيا, وهيمنة لسمة الأمل والحلم والتحليق الخيالي على التصوير البلاغي, فالشاعر هرب من عنت الواقع إلى أحضان القصيدة الحالمة, التي فتحت أفقها على جنّات فيها ما لذ وطاب, ووطرب وأغانٍ وبساط ربيعي موشى بقصب الأحلام وورد المجازات البلاغية, يعلن قيامة الأرض المرجوّة:

قَصَبُ الرُّؤْيا

لأَسْتَرِيْحَ مِنْ عَنَتِ الوَقْتِ
أَطْرُقُ بابَ قَصِيْدتِكِ
يُفاجِئُني اللَّوْزُ بطَعْمِهِ الباذِخِ
كأُغْنِياتِ الجِبالِ
ويُعْلِنُ الرَّبِيْعُ
قِيامةَ الأَرْضِ
بِساطاً مُوشَّىً بقَصَبِ الرُّؤْيا
ووَرْدِ المَجازْ...

والحلمية عند الشاعر منذر يحيى هي بؤرة أمان يأوي إليها كلما حزبته شدّة وامتنع عنه وجد, فهو في توتر وانتظار دائم لا يعرف الصمت ولا السكون, في ( أيقونة الأحلام ) يقول:

أَيْقُوْنــةُ الأَحْــلام

لأنَّ ساعِيَ البَرِيْدِ لَمْ يَأْتِ
ولا رَسائِلْ؟!
ولَمْ يَعُدْ للبُكاءِ حَدَّ الانْهِيارِ جَدْوى
أُكَدِّسُ أَحْلامي أَيْقُوْنةً للغَوايةِ والأَمانْ...
وأَرْتَمِي بحِضْنِ اللَّيْلِ
عَلِّي أَغْفُو قَلِيْلاً، أو أَنَام!...

تتجلى سمة الدرامية في شقاء النفس الشاعرة الصوفية, ومأساتها في علاقتها بذاتها وبالآخر والوجود, وتردّده بين المادة والروح, وتأرجحه بين الذات والواقع, وإحساسه بالمعاناة والتوتر والجدل, وشعوره باالمأساة المتولدة من وجوده.
" ولا يقف الصوفي في تصوير الواقع الإنساني عند حدود النقد وتقرير حقيقة الإنسان الكامنة في الحيرة والتوزع والسعي الدائب نحو الاطمئنان, وإنما يفسح أمام الإنسان إمكانية الأمل عبر المحبة والرثاء للمصير الإنساني. وهكذا كان جوهر التصوير الواقعي الصوفي يصب في دعوة الإنسان إلى سبيل الخلاص من هوة الحياة والوجود. إن التصوير الواقعي الصوفي يصور إمكانية تجاوز الواقع ذاته عن طريق الارتباط بالله والفناء في محبته" .
في قصيدة ( خربشات, وأوراق قديمة): يجسد هذا الواقع التعيس, إلى درجة أن يتمنى أن تباع الطمأنينة كالخضروات, ولكنه يدعو إلى رحلة عرفانية قادمة, يأمل فيها بقيامة جديدة يؤكّد حدوثها وإن طال الانتظار:
أرواحُنا المثقَلَةُ بالكثيرِ من الأوزارِ
كم هي شبيهةٌ بحجارةِ الرَّصِيفْ.!
هل مِنْ طُمَأْنِينةٍ مُشْتهاةٍ
تُباعُ على عَرَباتِ الشَّوارعِ
كالخَضْراوات؟!.
- 11 –
أَذْوي كنَباتٍ أَنْهَكَهُ العَطَشْ
تَنْهالُ عليهِ الشَّمسُ
بضَرَباتٍ مُسْتمرّةْ
وعلى المُنْعَطَفِ
يُمْعِنُ الصَّيْفُ في الانْتظارْ...
- 12 –
مطرٌ أكيدٌ قادمٌ...
الأرضُ تَسْتَعِدُّ لرحلةٍ جديدةٍ
وتَنْتَظِرْ...

القصيدة النثرية عند منذر يحيى تمتلك بناءها الفني السردي بتشابك سردي درامي بحبكة متصاعدة من العنوان إلى النهاية مرورًا بعقدة ينقلب من بعدها الصراع الدرامي انفراجًا نحو النهاية التي تنهي القضية التي تحملها القصيدة, كيف يسلسل سرد القضية؟ عبر دلالات يرتبها بشكل منظم لا يدع فيه مجالًا لتوقف أو خروج عن المحور العام لموضوع القصيدة, ودون أن يغفل الإيقاع الموسيقي الداخلي الذي درسنا آلياته وتقنياته التي اعتمدها لخلقه, إذن أسس الشاعر ديباجة القصيدة سيمانتيكيًّا, خالقًا بنيتها الدلالية السطحية, كما هو في المثال التالي من قصيدة ( لا تقتلوها, إنها فراشة):
حيث الاستهلال المكاني ( قلبي), والشخصية البطلة( الفراشة), وحدث البدء ( الهجرة), :
-1-
أَخْتارَ مَكاناً حَصِيْناً
وأَبَدِيَّ الدِّفْءِ
ليُمارِسَ عَمَلاً جَلِيْلاً
كنَبْضِ الحَياةْ...
إنَّهُ قَلْبي
هذهِ الفَراشةُ
وقَدْ بَدَأَتِ الهِجْرَةْ...
من دلالتين سميائيتين ( قلب) مسند إلى إنسان, و(فراشة) تحيل إلى الرقة والهشاشة وفعل الطيران بدأنا, ومن فعل الهجرة المحفز بدأ التشويق بإطلاق سؤال إلى أين ستهاجر ولماذا وكيف؟! وهنا يبدأ الشاعر القيام بدور السارد المشارك العليم.
ينتقلنا الشاعر منذر يحيى بعد بسط ديباجة القصيدة السيميائية, إلى الرموز الصوفية, أي يدخل الرمز الدلالي, لينقلنا إلى مستوى دلالي عميق, يشكل البنية الدلالية العميقة للنص, وهنا لا بد من دراسة الدلالات إيحائيًّا, أي اختراق البنية السطحية باتجاه العمق الإيحائي, فندرس البنية الرمزية للنص, مع بقاء الديباجة السيمانتيكية ساندة للتحليل الإيحائي بمستوياته كلها.
فالفراشة رمز صوفي يؤخذ بدلالاته المعروفة في الأدب الصوفي, والهجرة إلى الشعلة فعل إجرائي معروف تقوم به الفراشة الرمز, والرحلة هي رحلة عرفانية يقوم بها قلب الصوفي إلى الذات الإلهية بالتماهي مع هجرة الفراشة الرمز إلى الشعلة.
-2-
قَلْبي مِثْلُ فَراشةٍ تَعْشَقُ النّارَ
وُجُوْدُهَا يَكُوْنُ في البُعْدِ عَنِ الشُّعْلةِ.!
لكنَّ بَرِيْقَ الشُّعْلةِ يَدْعُوها
كي تُهاجِرْ...
قَلْبي فَراشةٌ تَطِيْرُ بأَجْنِحةِ هِمَّتِها
تَطْلُبُ ضِياءَ الشُّعْلةِ
تُقَشِّرُ طَرِيْقَها بوَهِيْجِ الضَّوْءْ...
-3-
فَراشةٌ سأُطْلِقُ هذا القَلْبْ...
لا تُطْفِئوا الشُّعْلةَ
قُلْتُ:...

يقرر الشاعر دمج القلب والفراشة الرمز معًا بدلًا من المقاربة بعد أن كشف الرمز, لكن تبقى المقاربة قائمة في حوارية الأسئلة الوجودية, أدخلنا الشاعر في بعد فلسفي, ووجب أن نغوص في مستوى أعمق, ندرس فيه البنية الفلسفية للنص:
-4-
قَلْبي فَراشةٌ
وهي في تَهْوِيْمِها تَعْبَقُ بأَلْوانِها
وبشَغَفٍ تَسْعى إلى الضِّياءِ
الفَراشةُ العاشِقةْ...
-5-
في الطَّرِيْقِ إليكِ
تُظَلِّلُني غَيْمةٌ غاوِيةٌ...
وهيَ تُخاطِبُ الشُّعْلةَ
قالَتِ الفراشةْ:...
-6-
الفَراشةُ تَغْرَقُ في لُزُوْجةِ حَيْرَتها
وهي تَشُدُّ الرِّحالَ إلى رِحابِ الشُّعْلةِ
اقْتَرَبَتْ...
هنا يحرّك الشاعر البعد النفسي, من مدخليه السلوكي بالتساؤلات والانفعالات النفسية, والتقمصي عبر الوعظ والحكمة, الفراشة تجهل مصيرها عند الوصول, والقلب يحثها يحذرها من عقابيل الهجرة وأخطار الطريق, ومع ذلك يحثها على الوصول:

أَيُّ مَصِيْرٍ ستَلْقى عِنْدَ الوُصُولْ.!
-7-
أَيَّتُها الفَراشةُ
هِجْرتُكِ مَحْفُوْفةٌ بالمَخاطِرِ
وأنتِ مِنَ المُرِيْدِينْ...
حاذِرِي مَخاطِرَ الطَّرِيْقِ
ولا بُدَّ مِنَ الوُصُولْ...
-8-
أَيَّتُها الفَراشةُ
أُوْبِي إلى فَضاءِ الشُّعْلةِ الرَّحِيْبِ
مَهْما يَكُنِ المَصِيرْ...
مِنْ فَيْضِها كُنْتِ
وإلى فَضائِها الآنَ تَسْلُكِيْنَ
دَعْوتي والرَّجاءْ...
عند الوصول, وهنا, يتصاعد الحدث باتجاه التأزم, طقوس عرفانية لا بد من تأديتها قبل الوصول إلى الشعلة, القلب والفراشة يؤديان طقس الطواف وهو طقس تطهري استهلالًا للوصول إلى نهاية الرحلة العرفانية:
-9-
مَعْذِرةً أَيَّتُها الشُّعْلةُ الباهِرةُ
قَبْلَ الانْصهارِ الكَبِيْرِ
لا بُدَّ مِنْ طَوافٍ حَوْلَكِ
ولن أَرْمِيَ اللَّهْفةَ بالجَمَراتِ
هكذا قالَتِ الفَراشةُ...
قالَ قلبي....
-10-
أيَّتُها الشُّعْلةُ العَظِيْمةُ
ستَتَوَقَّفُ الفَراشةُ عَنِ الطَّيَرانِ
بالوُصُوْلِ إلى فَضائِكِ الباذِخِ
هَلْ مِنَ الخَوْفِ .... سُؤال...


لحظة الوصول, لحظة التأزم, العقدة, تتوقف الفراشة عن الطيران, يزول وجودها المادي بأبعادها الكاملة, تتحول وتصبح ذات الشاعر, يسري فيها النور, تترافق ذات الشاعر وقلبه في الشعلة ويتوهجان بنور الأبدية, ستحب الذات نفسها بلا حدود, وقبل لحظة الكشف والتجلي تسأل هل بلغت الكمال؟:
-11-

الفَراشةُ قَلْبي
طَيَرانُها يَتَلاشى مَعَ الوُصُوْلِ
حِيْنَها يَزُوْلُ وُجُوْدُها...
بَعْدَ الوُصُوْلِ لَيْسَ لها مِنَ الشُّعْلةِ اقْتِرابٌ
ففي ذاتِها يَسْري نُوْرٌ
لَيْسَتِ الشُّعْلةُ نُوْرَ قَلْبي
ولكنَّ قَلْبي

نُوْرُ الشُّعْلةِ في الأَبَدِيَّةْ..

-12-
الفَراشةُ قَلْبي
لَحْظةَ الوُصُوْلِ ستُصْبِحُ هِيَ الشُّعْلةَ
ستَعْشَقُ ذاتَها
وهذا هو الكَمالُ
ولا حُدُودْ...
-13-
الفراشةُ قَلْبي مَعَ الشُّعْلةِ
سِرٌّ عَظِيمْ...
بَعْدَ أنْ يَسْرِيَ النُّوْرُ في القَلْبِ
يُصْبِحُ عاشِقاً لذاتِهِ
قَلْبي صارَ شُعْلَةْ...
هَلْ أَقُوْلُ: وَلَهٌ بَلَغَ الكَمالْ؟!
وهُنا هَلْ هِيَ نِهايةُ الرِّحْلةِ المُشْتَهاةْ؟!
بعد الانقلاب الكبير, بعد العقدة, سنشهد انفراجًا سرديًّا مبهرًا أيضًا, (الفراشة- قلب الشاعر), يخسر سواده, تخسر سواد أجنحتها, يبتلعها بياض وهج الشعلة, لن تقترب من الشعلة بعد أن سرى في ذاتها النور, وحتى في مثلث الانفراج, الشاعر في عمق البعد الوجودي الفلسفي, ينقلنا إلى الماورائيات, هل هذا الانصهار في وهج الشعلة موت؟ هل موت الفراشة موت أم شكل آخر للحياة؟
-14-
الفَراشةُ قَلْبي

يَتَلاشى طَيَرانُها
مَعَ الوُصُوْلِ
حِيْنَها تَخْسَرُ سَوادَ أَجْنِحَتِها
ويَبْتَلِعُها البَياضْ...
بَعْدَ الوُصُوْلِ لَنْ تَقْرُبَ كَثِيْراً مِنَ الشُّعْلةِ
ففي ذاتِها يَسْرِي نُورْ...
لَيْسَتِ الشُّعْلةُ نُوْرَ قَلْبي
ولكِنَّ قَلْبي
نُوْرُ الشُّعْلةِ في الأَبَدِيّةْ...
-15-
هل مَوْتٌ هذا الانْصهارُ
الفَراشةُ في ضِياءِ الشُّعْلة؟!
إنَّهُ سِرٌّ عَظِيمْ...
-16-
هَلْ مَوْتٌ
بَعْدَ مَوْتِنا الأَكِيدْ؟
أَمْ شَكْلٌ آخَرَ للحَياةْ؟!
تَسْأَلُ الفَراشَةُ:...
في مَوْتِها الذي لا يُشْبِهُ المَوْتْ...
وإلى النهاية المفتوحة, يأخذنا الشاعر, وهنا نسمع صوته بضمير الأنا, بعيدًا عن قلبه والفراشة, هل كان في رحلة موت؟ هل هو عالق في عالم البرزخ؟

-17-
هَلْ مِنْ حَياةٍ بلا إِيْقاعٍ
كما في الأَسْفَلِ كذلك في الأَعْلى
رُوْحي تَتَرَدَّدُ بَيْنَ قُطْبَينْ...
أنا في حَيْرةٍ
تَقُوْلُ الأَسْئِلةْ:...

بكل الأحوال, الشاعر يقرر حقيقة يقينية, الفراشة التي استجابت لغواية النورعاشت نشوة الوصول, حبًّا بالذات الإلهية, احترقت بالشعلة المقدسة, تطهرت بالفناء, يراها الشاعر تطير!
-18-
الفَراشةُ
التي أَغْواها النُّوْرُ
عاشَتْ نَشْوتَها
واحْتَرَقَتْ بالنَّارِ المُقَدَّسَةِ
إِنّي أَراها تَطِيرْ...
يا لروعة السرد! وروعة الصور! وصدق المشاعر! وبهاء الفكرة !.... يا لروعة القصيدة!.

خامسًا-الخلفية الأخلاقية:
إن شعور الشاعر الصوفي بالغربة على مستوى الذات والوجدان والمكان والواقع, جعله في عزلة عن الآخرين, ما تسبب في تكوين نوع شديد من التوتر استحكم كينونته الذاتية والواقعية والوجودية والروحية, فاتجه نحو التجريد, واختار الدخول في مقامات روحية وجدانية أخذته بعيدًا عن الحس الإدراكي والعقل, في محاولة منه للاتصال بالذات الإلهية والفناء في محبتها, وهذه العزلة ليست كلية لأنه يدعو الآخر للدخول في ذات المسلك, وهي دعوة للسمو بالذات بغية الكمال والوصول إلى السعادة الأبدية, بعيدًا عن الدنيا الدنيّة ومثالبها من تفاخر وغرور وعيوب ناسها وتفاهتهم, والدعوة إلى كسب الآخرة الآجلة, تتجلّى هذه الدعوة في العديد من قصائدالشاعر, والشاهد من قصيدة ( للخمرة سرّها):
وتَعُمُّ الرُّوْحَ سَكِيْنةْ...
والعَقْلُ يَسْبَحُ في بَحْرِ الإِشْراقْ...
القَلْبُ يَتَراقَصُ مِنْ فَرْطِ الوَجْدِ
وتَدُوْرُ كُؤُوْسٌ مُتْرعةٌ،
صافيةٌ كدَمْعِ العَيْنِ
وأَنْقى
والسّاقِي يَدُوْرُ برَقْصٍ مَجْنُونْ...
وأَرى
سِراجَ الظُّلْمةِ يَهْدِي
مَنْ ضَلَّ مَسْلَكَهُ وتاهْ
لَعَلَّ الصُّبْحَ قَرِيْبٌ
ولَعَلَّ الهُدْهُدَ يَؤُوْبُ مِنْ رِحْلتِهِ
وعلى جَناحَيْهِ خَبَرٌ
أَراهُ يُوْرِقُ فَرَحاً
ويَعُمُّ الكَوْنَ عَبِيْرُ الإِيْمانْ...

في الختام:

إن الشاعر منذر يحيى سلك مسلك الشاعر الصوفي بتوظيف الشذرات والشعر النثري الحر المعاصر, والتجريد الرمزي والإيحائي, مدعمًّا بالتقنيات التصويرية اللغوية البيانية والبلاغية, وأجاد في التصوير البلاغي بما حمّله من أمل وحلم إنساني مفتوح على الإيمان بالله والفناء في محبته و الدعوة إلى كسب رضاه, محققًا جمالية هائلة لنصوصه بلغته التعبيرية والتصويرية والتأثيرية والتواصلية, مع كل ما سندها من سمات التصوير الصوفي ومكوناته التجريدية والحسية والتخييلية والتشخيصية والتجسيمية, ما مكّنه من الإمساك بجوهر التجربة الصوفية في فرادتها وفي جماليتها.
أتمنى أن أكون قد أحطت برئيسيات هذا المنجز الشعري المتميّز, ولا أظنني فعلته على الوجه الأكمل, وعذري أن الكمال لله, والنقص عند العباد مهما أوتينا من علم لن يبلغ في علم الله إلا أقل القليل, أتمنى لشاعرنا الكبير المزيد من المنجزات الإبداعية المميزة, وأشكره على ما أمتعنا بدراسته, مع كل الاحترام والتقدير.

الناقدة الذرائعية السورية الدكتورة عبير خالد يحيي
الاسكندرية – 10 حزيران 2023



















المصادر
1. دراسات في الأدب العربي الحديث- د. محمد مصطفى هدارة – دار العلوم العربية -بيروت- لبنان- ط1- 1990
2. الشعر والتصوّف- الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر(1945- 1995)- د. إبراهيم محمد منصور- دار الأمن للنشر والتوزيع
3. النزعة الصوفية في الأدب المعاصر- نادية برادعي- مقال في موقع قربة – 21 يناير 2020
4. النص الصوفي وفضاءات التأويل- علجية مودع
5. التصوف في الشعر العربي الإسلامي – عبد الحكيم حسان
6. جمالية التكرار في الشعر السوري المعاصر- عصام شريتح- رند للطباعة والنشر والتوزيع- دمشق- ط1-2010
7. في بنية الشعر العربي المعاصر- محمد لطفي اليوسفي- سراب للنشر – تونس- 1985
8. الأسلوبية وخصائص اللغة الشعرية - مسعود بودوخة – عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع- أربد – الأردن- ط1-2001
9. الانزياح من منظور الدراسات الأسلوبية- أحمد محمد ويس
10. المستوى التركيبي عند السيوطي في كتابه الاتقان- سوزان الكردي- دار جرير للنشر والتوزيع- عمان – الأردن- ط1-2014
11. الرمزية والأدب العربي الحديث – كرم أنطون غطاس-دار المكشوف- بيروت- 1949
12. الذرائعية والعقل- عبد الرزاق عوده الغالبي- دراسات د. عبير خالد يحيي- منشورات اتحاد الأدباء- المكتبة الوطنية – بغداد- ط1 -2021
13. التأويل وخطاب الرمز- محمد كعوان
14. الموسوعة الصوفية – عبد المنعم الحفني- مكتبة مدبولي للنشر- القاهرة – مصر- ط1- 2003
15. الرمز الصوفي في الشعر العربي المعاصر- السعيد بوسقطة – منشورات بونة للبحوث والدراسات-ط2-2008- عنابة الجزائر
16. التجليات الصوفية في ديوان تحقيق الدين التلمساني- نجلاء يوجه
17. التناص في الشعر العربي المعاصر- ظاهر محمد الزواهرة
18. جمالية التناص – أحمد جبر شعث
19. الذرائعية بين المفهوم الفلسفي واللغوي – تأليف: عبد الرزاق عوده الغالبي- تطبيق د, عبير خالد يحيي- دار النابغة للنشر والتوزيع – طنطا- مصر- ط1- 2019
20. التناص وجمالياته في الشعر العربي المعاصر- جمال مباركي
21. الذرائعية في التطبيق – طبعة مزيدة منقحة- تأليف: عبد الرزاق عوده الغالبي- تطبيق د, عبير خالد يحيي- دار النابغة للنشر والتوزيع – طنطا- مصر- ط1- 2019
22. السياب يموت غدًا – د. عبير خالد يحيي- دراسات ذرائعية في شعر عبد الجبار الفياض- دار شعلة الإبداع – ط1-2017
23. الاكتشاف الجسدي للذات في التجربة الصوفية- الانتصار عبد المجيد- بحث في مجلة الفكر المعاصر – مركز الإنماء القومي- بيروت – لبنان- العدد50-51 -1988
24. الفكر العربي- آركون محمد- ترجمة عادل العوا- دار عويدات – بيروت- لبنان-1982
25. مفهوم الجسد عند الصوفية – د. عبد القادر موسى حمادي- مجلة كلية الآداب- العدد66
26. الشك أسبابه وآثاره وعلاج الإسلام له-أحمد بن إبراهيم محمد سامه عسيري- رسالة ماجستير – جامعة أم القرى - 2007
27. نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها- د.عرفان عبد الحميد- دار الجبل- ط1- 1993
28. يُنظر /الأخرويات Eschatologie عند محيي الدين بن عربي- مقال بقلم د. حامد طاهر - طوسين للتصوف والإسلاميات.
29. التصوف الإسلامي- د. حسن عاصي- مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر – بيروت 1994
30. الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية - تأليف: عبد الرزاق عوده الغالبي- تطبيق د. عبير خالد يحيي- دار النابغة للنشر والتوزيع – طنطا- مصر- ط1- 2019
31. د. منصف عبد الحق- الكتابة والتجربة الصوفية – منشورات عكاظ – الرباط- المغرب – ط2-2011
32. الكتابة الشذرية بين النظرية والتطبيق- جميل حمداوي
33. معهم حيث هم - د. بنسام حميش- بيت الحكمة- الدار البيضاء- المغرب- ط1- 1988
34. ديوان الحلاج, ويليه أخباره وطواسينه- جمع وتقديم الدكتور سعدي ضناوي- دار صادر بيروت - لبنان- ط2-2008
35. ابن عربي: رسائل ابن عربي- دار صادر - بيروت- لبنان-ط1- 1997
36. محمد المسعودي والصورة الصوفية- د. جميل حمداوي- مقال في موقع شبكة ألوكة- تاريخ
7/ 8/2014
37. د. محمد المسعودي – اشتعال الذات -مؤسسة الانتشار العربي- بيروت- الطبعة الأولى 2007م
38. وحيدًا ستمضي – منذر يحيى عيسى – دار المتن – بغداد – العراق -2022



المراجع

1. مقاربة النص الموازي وأنماط التخييل في روايات بنسام حميش- د. جميل حمداوي-أطروحة لنيل دكتوراة دولة – جامعة محمد الأول بوجدة- السنة الجامعية 2000-2001
2. بناء الأسلوب في القصيدة الصوفية في ديوان " غنائية آخر التيه" ل : ياسين بن عبيد أنموذجًا – أطروحة لنيل شهادة الماستر الآداب واللغة العربية – جويدة ساعد. جامعة محمد خضير بسكرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا