الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في غياب عربي فرحان

عبدالله الداخل

2023 / 6 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


كان أسفي كبيراً وحزني عميقاً لغياب عَرَبي فرحان.
كان عربي شخصية مهمة في فصل أساسي من ملحمة الشعب العراقي من أجل الاستقلال، فقد اختار مكانه الصحيح واللائق ضمن تعقيدات الاصطفاف الطبقي في العراق أواسط القرن الماضي، فكان أميناً لشعبه، مخلصاً لوطنه.
في أوائل الخمسينات، ربما عام 1952، رأيتُ صورة معلقة على جدار في منزل أحد أقاربي، وكانت لشاب بملابس رياضية محلِّق في الهواء في قفزة بـ"الطفر العالي"، وربما كانت تلك طفرة بالزانة (لقطة جيدة لقفزة ناجحة في ذروتها وفي جزء مهم من الثانية تدل على مستوى مهني عال لبعض مصوّري تلك الأيام). عرفتُ حينها أن الصورة لأحد الأقارب وأن اسمه عربي وأنها التقطت له في سباق رياضي عندما كان طالباً في الكلية العسكرية.
كما أتذكر جيداً، وكنتُ مختفياً عن الأنظار، كيف كان إسمُ عربي يُذاع من راديو الفاشست في الأيام الأولى من انقلابهم المشؤوم في 8 شباط 1963، فقد كان المذيع الخبيث إبراهيم الزبيدي (ثم قلده الأخبث قاسم نعمان السعدي) يقرأ إسمه الأول "عَرْبي" (أي بتسكين الراء) لكي يزوّر معنى إسم "عَرَبي" للإيحاء للشعب المظلوم بأن الفاشست هم فقط من يحق لهم أن يُسَمَّوا عرباً، وهذا يشير أيضاً إلى إحتقارهم لمن إعتبروهم وما زالوا يعتبرونهم "أعاجم" أو "دخلاء"، وغير هذه من المفردات والمفاهيم الرجعية التي كانت وراء السلوكية العدوانية التي أدّت إلى إضطهاد الشعب الكردي والكُرد الفَيليين والأقليات وإلى الحرب مع إيران والتعالي على الشعوب، حتى التي أكثر تقدُّماً منا نحن العرب، وغير هذا من المواقف في الفصول المشينة في التاريخ البعثي الرجعي المظلم في العراق.
فشلُ الفاشست في إلقاء القبض على عربي فرحان يعود إلى ذكائه وجرأته أولاً إضافة إلى عناده وتصميمه على مقاومة البعثيين في سعيهم لاعتقاله، وتفاصيل ذلك تشكّل قصة طويلة فيها الكثير من التفاصيل الفريدة أو التي لا تخلو من طرافة، لكنها من القصص التي لم تُروَ بعد، رغم أهميتها، وهي، كغيرها من القصص الكثيرة، إضافة إلى المآسي الرهيبة، تشير، هي أيضاً، إلى حالة غريبة كنا غافلين عنها لسنين، وربما، بالنسبة للبعض، لعقود، باستثناء بعض ما نوقش في قيادات الحزب الشيوعي العراقي بعد إسقاط الهيمنة البعثية من قبل العارفيين والناصريين في 18 تشرين الثاني 1963، وهي الآن تمنح الفرصة للإلتفات كي يدرك العراقيون ما حصل على وجه الدقة!
في الواقع عندما قرأتُ نعيَ هذا الرجل في بعض المواقع الخاصة وجدتُ نفسي منهمكاً، رغم انزعاجي الشديد للنبأ، ليس بمراجعة تاريخه كي أكتب عنه، فهو غنيّ عن التعريف، ولا باستعراض المواقف الصعبة والخطرة التي مرَّ بها في حياته، وهي كثيرة وتستحق التدوين، ولا عن معرفتي الطويلة به ولقاءاتي معه، لكني ركّزتُ على بعض كتاباته عن وضع العراق خاصةً ظروف ما قبل انقلاب شباط وأثناءه وبعده، ووجدتُ نفسي أركّز بشكل خاص على الأحداث التي سبقت الانقلاب وعلى بعض ما كتبه عموماً عن ظروف العراق في النصف الثاني من القرن العشرين، كما عمدتُ إلى ما كتبه آخرون أيضاً، فأوصلني هذا كله إلى نظرة جديدة أكثر دقة إلى ما كان يحدث آنذاك.
لذا سوف أقتصر هنا على توضيح تلك النظرة لأنني أرى أن هذا ما سيُرضي عربي لو أنه الآن على قيد الحياة.
فبعد تموز 1958 كان غالب المنخرطين في التنظيمات السياسية العراقية المتصارعة جمهوراً ضخماً متناقضاً من المغفَّلين! (وهم ما زالوا بالطبع لكن بصور وأشكال وأعداد متباينة!) وقد كان المؤرخون، بضمنهم أهم من كتبوا في تاريخ العراق الحديث، أعني الدجال حنا بطاطو، وما زال بعضهم، لا يستطيعون وضع النقاط على حروفها الصحيحة بل يعمدون إلى تشويه الحقائق بادئين قبل كل شيء بتثبيت مفردات طائفية أو عرقية في دراساتهم هدفها بث الفوضى الفكرية بخلط المفاهيم الدينية مع القومية، كمثال لنهج واحد فقط، في استعراض وتحليل سلوك المجموعات البشرية والأمم بدلاً من التحليل الطبقي العلمي! أحد الأمثلة على دجل بطاطو هو تقسيمه للشعب العراقي أساساً إلى شيعة في الجنوب وأكراد في الشمال! هذا تقسيم شبيه جداً بتقسيم الميديا الصهيونية والرأسمالية سكان ما يُسمّى بالأرض "المقدسة" إلى عرب ويهود! وقد أفلح هؤلاء في غش الجميع بضمنهم "المثقفين"، فكتاب حنا بطاطو الذي يُعِدُّه بعض "الشيوعيين" كتابَهم التاريخي المقدس يضم جداول بأعضاء ولجان وهيئات القيادات مصنَّفة على نفس الأسس حيث يذكر بالتفصيل "أصول" القادة الشيوعيين الدينية والطائفية والقومية موحياً بأنها "إنتماءات"، وهو ما لم يكن يسمح به أحد داخل الحزب الشيوعي. وللإنصاف لا بدّ من القول أن سلام عادل نفسه، رغم ضعفه كقائد ورغم وجود خونة وجواسيس تحت قيادته، كان نظيفاً ولم يكن يخطر بباله مثل هذه الأمور في خلق "توازن" وهمي، على تلك الأسس التي اعتمد عليها بطاطو، فالتوازن العرقي أو الديني في اللجان المركزية وما شابهها في المسؤولية والذي يوحي به الدجال بطاطو لم يكن يخطر في بال أحد على الاطلاق، بينما لا يمكن لأي مخلص أن يظن (مجرد ظن) بأي حال وبأي شكل أن الشيوعيين يمكن أن "يختاروا" رفاقهم في القاعدة أو يرشحونهم لنيل شرف العضوية، ناهيكم عن انتخابهم الديمقراطي في القيادة، على الأسس البطاطوية تلك! كان هذا مستحيلا. لم يحصل ولا كان من الممكن أن يحصل، بل حتى الجواسيس كانوا منهمكين في أمور آنية تهم سادتهم. تصنيف بطاطو هو ذاته تصنيف أساتذته في الجامعة الأميركية التي منحت الدكتوراه لأطروحته التي سبقت كتابه هذا وكانت حول العلاقات في الريف العراقي ابان الإقطاع، زمن الملكية والاحتلال الانكليزي! هذا وسوف أناقش بالتفصيل لاحقاً هذا الموضوع الهام.
فبينما كان البعثيون وباقي القوميين الرجعيين وقوى اليمين الأخرى والسعيديون والجواسيس يدربون مجموعاتهم، منذ خريف 1958، على الاغتيالات والجرائم البدنية الأخرى في المحلات المغلقة لهم كالأعظمية والجعيفر في بغداد وفي مدن أخرى، كان القادة الشيوعيون يعانون من إثنتين من المعادلات المتناقضة paradoxes
أ‌- الأولى، الأكثر وضوحاً: فلا هُم (من ناحية) قاموا بــ"تثقيف" أعضاء الحزب بما يسمونه "أخطاء" ستالين المطروحة من قبل الكذاب نيكيتا خروشجيف رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي وسكرتير الحزب الشيوعي السوفييتي آنذاك وذلك في خطابه "الختامي" في عام 1956 الذي ألقاه على وفود معينة تم اختيارهم بدقة وذلك بتأخيرهم لما بعد انفضاض المؤتمر العشرين للحزب وعودة الكثير من أعضاء الوفود الأخرى الى بلدانهم والذين كان يتوقع اعتراضهم على الخطاب، أمّا الباقون فقد أغمي على بعضهم لتصديقهم تلك الأكاذيب!
ب‌- ولا هم (من ناحية أخرى) وثبوا إلى السلطة وأزالوا المجرم عبد الكريم قاسم رغم قدراتهم الفائقة عسكريا وجماهيريا، ورغم الفرص السانحة لهم في انتزاع السلطة بوثوب ناجح وسهل.
أمّا البارادوكس (المعادلة المتناقضة) الثانية فتتعلق بالموقف من الدين، هذه المشكلة التي قامت الرأسمالية بتعقيدها على الإنسانية بعد الانهيار السوفييتي وذلك بتنفيذ ردّة كبرى في التأثير على أساليب وأنماط التفكير الحديث في العالم. وقد انعكس هذا حتى في مظاهر كثيرة، خاصة في الشرق، حيث طغت اللحى على مظاهر الرجال والشباب، في تظاهرهم بالتديُّن، وتم الإمعان في تغليف النساء وعدم الخجل من إعلان اضطهادهن بهدف إرهابهن في كثير من البلدان المتخلفة. وقد كان من المفترض أن يكون الموقف من الدين أكثر وضوحاً منذ بداية انهيار النظام الملكي في العراق، أي منذ الرابع عشر من تموز 1958، حين كان من الواجب اتضاح الموقف من رجال الدين والمواقع الدينية بأنواعها أو على الأقل التنديد بتلك الجهات الدينية التي كانت تؤازر الاحتلال والنظام الملكي والاقطاع ووضع حد لسلوكها وفضحها وسن القوانين التي تحمي حرية نقد الأديان أسوةً بما صنعته الثورات البورجوازية الأخرى في الموقف من هذه الآفة الفكرية الخطيرة كالثورة الأميركية (4 تموز 1776) التي كان موقفها واضحاً في العداء للدين بفضل فيلسوفها توماس بَين Thomas Paine وآخرين، وكذلك الثورة الفرنسية (بعد ذلك بـ13 سنة، أي في 1789)، بفضل فلاسفتها المعروفين، والتي طالبت بإلغاء الدين كلياً من حياة الشعب الفرنسي، لكن الأنظمة البورجوازية التي خانت مبادئ تلك الثورات، وكالعادة، لم يكن يهمها سوى مصالحها وأرباحها حتى وإن كان هذا على حساب المستوى العقلي والصحة العقلية لشعوبها. إن حساب الفارق الزمني بين 14 تموز 1789 و 14 تموز 1958 (169 سنة) وذلك بغض النظر عن الحرية النسبية في التعبير عن مظاهر العداء للدين في اوربا وحرية البحوث العلمية والكتابات بأنواعها أو حرية التعبير في الميديا وغيرها، يكشف لنا مدى تخلفنا في الشرق. وباختصار، رغم الفارق الزمني ذاك فإن الأمر يختلف بالنسبة لشعوب الشرق التي تدين بالاسلام. ولكن هل المسيحية أكثر تسامحاً من الاسلام؟ الجواب يأتي ممن يعرف تاريخ أوربا جيداً: كلا، بالتأكيد! كانت قد حصلت في أوربا مذابح همجية وصاحَبَتها أساليب منكرة ليس لها مثيل في التاريخ وحشيةً وقسوة، في التعامل مع غير "المؤمنين". لكن يبدو وكأن الظروف العقلية للسكان في الشرق تمر الآن بنفس المستوى الذي كانت عليه أوربا آنذاك، أي مرحلة تململ ومخاضات غير مكتملة ضد الآفة الفكرية التي تستخدم بوضوح من أجل إدامة التخلف العقلي للسكان. الدوائر الامبريالية سعيدة بهذه الحقيقة وشركات النفط، مثلاً، تعرفها جيداً، و"المثقفون" يدركونها لكن ليس مثلما يدرك العالِم الجيد إستحالة تحقيق تطوير حقيقي سريع وجاد لأية أمة إقتصادياً واجتماعياً وفكرياً من خلال التوفيق بين التديّن وبين السلوك الواقعي، بين العلم وبين العداء للعلم، بين الخيال والحقيقة، بين الصدق والكذب، بين الخرافة والواقع. ومثلما يستحيل هذا على أمةٍ فإنه يستحيل على الفرد. لكنّ إستحالته على الفرد اوضح وأشد ضرراً، خاصة الفرد الذي يفكر وينوي العمل على تغيير جاد، جذري، من خلال الانتماء إلى تلك المنظمة التي يدري جيداً أنها هي الوحيدة القادرة على صنع التغيير والأخذ بيد المجتمع إلى الأمام، نحو الحرية الحقيقية، نحو العدل الحقيقي وعلاقات شريفة بين الدولة والمجتمع، بين الفرد ومجموعته التي يحيا فيها وبين الأفراد وعلاقاتهم ببعضهم البعض، علاقات خالية من الاستغلال والخداع والغش، خالية من الجريمة ومن الدعارة والسرقة والخرافة والكذب.
(يتبع: بالتفصيل، حول كتاب الدجال حنا بطاطو "العراق")








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله