الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في رواية :ماتيلدا تغير قميصها

عائشة التاج

2023 / 6 / 25
الادب والفن


قراءة في رواية "ماتيلدا تغير قميصها"
لمصطفى الحمداوي


لوحة الغلاف : عقد ازدياد مغربي بلون أخضر ،تظهر منه كتابة جزء فقط تبين المكان ( إقليم الجديدة ) ،,تمبر أخضر عليه ختم رسمي أحمر ،ألوان الراية المغربية ،واسم "عبد الله "كإحالة على اسم نكرة لأب مجهول ،فكلنا عباد الله أولا وأخيرا .
الجزأ الآخر من اللوحة ممحي ولا تظهر منه إلا حروف مبعثرة ، دون معنى كدلالة على واقع مبعثر لماثيلدا .
فوق هذه الوثيقة وجه بدون ملامح ، فقط دائرة بها عين تنز ، وعنق وأكتاف وفوق الوجه كتابة بلغة أجنبية ،بلون أحمر ....
وجه دون ملامح ،أي دون عناصر انتماء واضحة .

العنوان : "ماتيلدا تغير قميصها " : يشكل العنوان العتبة الأولى لفهم الرواية .القميص هو لباس قد يغطي الجسد كله أو جزءا منه ،حسب نوعيته وثقافة البلد
واللباس هو ما يعطي للجسد تلك الحمولة الثقافية ، فاللباس خطاب كما قال السسيولوجي بول "بورديو" ، إذ يدل على بعض ملامح شخصية الإنسان
قبل أن يتكلم .
اللباس هنا بمعنى "الهوية " التعريفية
فماتيلدا في سعي محموم لمعرفة نسبها الحقيقي كي تغير القميص / الاسم هوفمان الذي تم إلباسه لها كي لا تبدو عارية تماما حتى وإن كان لها شعور دائم بالعري



أبطال الرواية : ماثيدا و فريديك .
شخصية ماتيلدا هي البطلة الرئيسية ، يليها في الدرجة الثانية فريدريك . عشيقان بمشاعر معطوبة نتيجة لفقدان الهوية ،فهما معا لا يعرفان والدهما,
وهناك شخصيات ثانوية كالأم أستريد ، عشيق الام : ماتياس كافال , روبن هاسمان الشاب الذي تعرفت عليه ماثيلدا بداية مراهقتها ,أختها أنوك وهي من والد آخر هي بدورها لا تعرفه .
المكان : الشقة والنهر وهناك أمكنة ثانوية ترتبط بشخصيات ثانوية أو بأمكنة متخيلة . ترتبط بعالم التخيل في اللامكان واللازمان الذي كان يحضر لدى البطلة ما بين الفترة والأخرى في محطات حاسمة

تيمة الرواية : سؤال الهوية في بعده البيولوجي .

يشكل سؤال الهوية ، من منطلق السلالة من جهة الأب حجر الزاوية في هندسة الرواية ، وذلك من خلال شخصيتين رئيسيتين هما بطلا الرواية بامتياز :
ماتيلدا ابنة أستريد هوفمان : وهوفمان هو الاسم العائلي للأم ،
وفريدريك ،صديقها الرسام . كبر أيضا في حضن أم مطلقة و لا يعرف شيئا عن أبيه.
لم تستطع ماتيلدا انتزاع أية معلومة من أمها تخص والدها إلا كونه مغربيا ، قبل أن تلج المستشفى
أما فريدريك فلا يعرف عن أبيه شيئا إلا أن شعره أشقر ويبدو أنه لا يهتم بالأمر بتاتا
عندما دخلت أمها المستشفى وشارفت الموت ، حرصت على إعطائها الاسم الحقيقي لوالدها :" مبارك كارامي " وكانت تلك أجمل هدية من أمها إذ ستشكل لحظة حاسمة في حياتها .
فترديد هذا الاسم ، مع بعض الأوصاف مثل شعره الأسود وسمرة بشرته سيمكن فريدريك من رسم بورتري ، وستتعامل ماثيلدا مع تلك اللوحة بكثير من الاهتمام وستفجر لديها بعض مشاعر البنوة كلما عانقتها بين الفينة والأخرى ,بل ستخلصها نسبيا من بعض مشاعر المرارة التي كانت تسكنها في السابق

التيمة الثانية : العنف الجنسي واغتصاب الأطفال وآثاره النفسية

العنف الجنسي :

يختار الكاتب بطليه الرئيسيين ضمن فئة مهمشة يحترم فيها مقاربة النوع في هذه الفعلة الشنيعة ، إذ لا يكتفي بإبراز الأنثى كضحية للاغتصاب ،بل يتكلم أيضا عن اغتصاب الطفل من أنثى ،فكلاهما يتعرضان للاغتصاب وللعنف الجنسي ولو بدرجات متفاوتة
فالأنثى ليست ضحية لاغتصاب الذكور بالمطلق ،بل قد يكون هناك ذكور يغتصبون من إناث شرسات هذا ما حرص على إبرازه الكاتب ،لكن إلى أي حد تستقيم هذه المقارنة علما أن اغتصاب النساء لللأطفال الذكور لا يشكل ظاهرة بتاتا ،وإن حصل هنا أو هناك فهو حالات نادرة والاستثناء لا حكم له.
الاغتصاب و العنف الجنسي بالضبط ،فعل ذكوري بامتياز ،ويحضر لللأسف في كل المجتمعات والثقافات بنسب متفاوتة حسب اختلاف المنظومات .
الطفلة ماتيلدا ، تم اغتصابها من طرف ماتياس كادار ،زوج أمها مرتين .
و هذا الأخير كان يعنف شريكته آستريد ،يوميا حسب اعترافات ماتيلدا للشرطة .
ماتيلدا : تتعرض لعنف أخطر على شكل "اغتصاب جماعي "عندما راحت تبحث عن الكوكايين في مكان خال جدا ،إذ ابتليت به نتيجة لعشرتها مع شريكها الأول روبير هالسن الذي يكبرها ب 16 سنة ،استهلكها وهي طفلة ورماها عندما لم تعد قادرة على أداء الفواتير كما ترمى القطط .
الطفل فريدريك : اغتصب من طرف صديقة أمه "ديانا" المرأة البدينة الخشنة الشريرة عدة مرات ،طوال ثلاث سنوات مهددة إياه بقتل أمه وقتله هو أيضا لو باح بالأمر وكذلك فعل ماتياس مع الطفلة "ماتيلدا " إلا أن هذه الأخيرة كانت أقدر على المقاومة وصد المغتصب رغم الجروح النفسية التي سببتها فعلة الهجوم في حد ذاته .

الاثنان سيعانيان من تداعيات هذا العنف البشع ،من حيث القدرات الجنسية والعاطفية وحتى الاجتماعية ,
أجساد موشومة بآثار هذا الاغتصاب الوحشي ، الذي تسرب لنفسيهما كي يحدث جروحا جد غائرة ،إذ بنيت لديهما حواجزمع الجنس الآخر ، ومع الناس عموما نفسيات يسكنها الخوف والنفور من الجنس المقابل ،بل انكمشت لديها الرغبة الجنسية إلى أبعد مدى ,,,واحتمت بالعزلة القاتلة .
ستجد ماثيلدا في القراءة التي تعلمتها في مركزالعلاج من الإدمان ملجأ أمان لها ،وسيحتمي فريدريك بالرسم الذي علمته إياه مغتصبته عندما كانت تتكلف برعايته أثناء غياب والدته .
ولأن الشيء قد يجذب نظيره ، سيتعاشران دون أن يعرفا متعة الجنس ،ويتكاملان ويتآنسان ضد العزلة والوحدة من عراء الانتماء العائلي والاجتماعي المفقودين ، رغم الجروح العميقة .
فإذا كانت ماتيلدا تعاني من الخوف الدائم ،ففريدريك يعاني من تصحر المشاعر ،فهو عاجز عن التعاطف مع الآخر بما فيه ماتيلدا التي تقطن معه ،إذ لم تتحرك مشاعره حتى وهي تخبره بوفاة أمها ، بقي جامدا كالصخر ولم يواسها أو يقتسم معها هذه المحنة ،بل بقي محايدا كما هو الأمر في عدة محطات حاسمة

سيتعاشران بشكل شبه عادي إلى أن يأتي حدث مفصلي ،سيفجر لديهما معا ذلك التجاذب الحقيقي بين الجنسين المختلفين....ويكتشفان معا المتعة الجنسية المرتبطة بالثقة والإحساس بالأمان فتتوطد مشاعر الحب ويكتشفا معا هذا العالم البهيج الذي سيضفي لونا آخر على حياتهما السابقة ذات اللون الرمادي الكئيب.
سيعالجان بعضهما البعض , من أعطاب الجسد والنفس و من غربة الانتماء الاجتماعي المفقود .إذ سيجد كل منهما السكن النفسي لدى الآخر ...

هندسة الرواية وحبكتها الفنية :
استعمل الكاتب عدة رموز دلالية لإضفاء نوع من الجمالية على أحداث الرواية الكئيبة دون شك وتبدو حنكة الكاتب في تقديمه تيمة ذات حساسية و وقائع دراماتيكية في حبكة فنية مثيرة لمتعة القراءة بالإضافة إلى الرسائل المتوخاة .

العري : يشكل العري أحد الرموز الدلالية في الرواية ، يوازيه مصطلح اللباس ، من خلال عنوان ماتيلدا تغير قميصها .
إذ تبدأ الرواية بكون ماثيلدا تطل بجسدها العاري من النافذة ، تنظر صوب النهر وعباراته ،تتأمل بعمق ما يحدث فوق النهر ،تحيل العبارات على السفر ، فتفكر في بلدها الأصلي وتتمنى لو يحمل لها الهواء الربيعي عبق الزعفران والنباتات البرية ذات النكهة المشرقية من بلدها الأصلي الذي يجلس على حافة المحيط الأطلسي بكل أنفة و خيلاء ص 8

يتكرر مشهد العري كلما دخلت ماثيلدا مونولوج مع ذاتها، تسبر اغوار متاهاتها الداخلية بتساؤلات مؤلمة حول انتمائها الفعلي .
لوحة تشكيلية بليغة ،إذ تظهر ماتيلدا عدة مرات عارية تمارس تأملات حول واقعها وهي تنظر للوحة أو عبر النافذة ,إذ تحضر ثنائية الداخل والخارج
أي الذات ، التي تشكل تيها والعالم الخارجي ، الذي يوحي لها بالعراء
والإحساس بقشعريرة البرد ،فوحده الانتماء يشعر الإنسان بالدفء .كما يوحي لها الخارج بالهروب عبر ذلك الامتداد مطية عبارة ما عبر الخيال .

و تنتهي الرواية كذلك بمشهد العري :
وقفت ،وكان الماء يغمر نصفها ،ولم تعد تفصلها الا خطوات عن عالم اخر.....وفي لحظة .....وجدت نفسها ........ص 153 .
بعد ان قرأت كتابا حول الانتحار ، حاولت التعري من واقعها بهذا الشكل أو ذاك
ثم عادت وهي عارية بالكامل الى مقر سكناها ص 157 ,
تخرج عارية بمعطفها البني لترميه وتعود عارية للشقة ولا أحد يهتم بها
المعطف البني ،يرمز لماضيها الحزين الذي تسعى لرميه في الخارج
وتكررت لازمة العري عدة مرات ، ونفس الطريقة لجأ إليها فريدريك

خروج فريدريك عاريا :
كذلك فريدريك ، وهو يسترجع ذكريات اغتصابه من طرف تلك المرأة البدينة "ديانا " ،التي أثارتها حركة ما من ماثيلدا وهما يستحمان معا .....
يهرب عاريا من الحمام ، يخرج من العمارة ويجلس جنب النهر ، يرتعش جسده كله من شدة البرد و قسوة الانفعالات الداخلية ،يتقوقع على ذاته المجروحة فوق كرسي ،يسرح في ماضيه التعيس ، لا يتحمل لسعات البرد القارس ثم يعود ,,,,ولا أحد ينتبه إليه وهو عار تماما ص 83
كلاهما يصادفان أثناء رجوعهما كهلا يجر كلبه ، فهل يدل ذلك على الزمن ودورانه ؟
دلالة العري : يمثل الهوية الغائبة ،عدم الانتماء فلا أحد اهتم بها وهي تخرج عارية ،ونفس الشيء بالنسبة لفريدريك ،فقط يلتقيان عجوزا يتجول هو وكلبه العري: رمز يحيل على الخواء الداخلي ،انعدام لباس الهوية الذي تشعرك بدفء الانتماء

الحبكة الفنية :
القطبية الثنائية : يعتمد الكاتب في تحريك الأحداث والشخوص على قطبية ثنائية
اعتمادا على عنصر التضاد أو الموازاة , إذ تجد الشيء و نقيضه وقد لا تفصل بينهما إلا شعرة معاوية .
الداخل والخارج ،النور والعتمة ، القوة والضعف ، الواقع والخيال
الإيمان والكفر ، اليقظة والنوم ،الصحو والإغماء ، المجرم والضحية ،العطف والقسوة ، البرود العاطفي والتدفق الوجداني .

فالانتقال ما بين النور والعتمة قد يتم بسلاسة ، انزياحية بلاغية تعبر عن تحكم الكاتب في تغير الأمزجة أو الأحداث باستعمال الضوء كتعبير مجازي أو لوحة تشكيلية تعتمد عنصر الضوء أو النور،دون إغفال لللألوان المناسبة حسب السياق

الداخل والخارج : المكان الرئيسي الذي تدور فيه أحداث الرواية هو شقة فريدريك والنهر، فماثيلدا أو فريدريك يتحركان ما بين الشقة والنهر ،
إذ تمثل الشقة أو الغرفة الذات في حواراتها الداخلية أو البينية ما بين البطلين والنهر : يمثل الحياة الخارجية المنسابة ، بعباراته وصياديه ومائه الهاديء أو المتماوج وشخوصه :الصيادين العجزة كما وصفهم ، هل يدل ذلك على الزمن المترهل يتجاعيده والذي يبدو أنه يتغير ببطء ، فالحياة كئيبة وثقيلة لديهما معا اللهم إلا بانفراجات قليلة ما بين الحين والآخر .

الطريق الرئيسية وطريق مرور الدراجات :

تمشي ماتيلدا في الطريق الجانبية للدراجات ،رمز هامشيتها ـ
تتماهى مع الحصى التي توقعت أن تسقط أحد المارة ،تفكر في الضرر المحتمل على الآخرين ولا أحد فكر فيها هي ...
الشعور بالنقص : تتماهى في العمق مع هذه الحصاة التي لا دور لها غير أنها تعرقل سير الآخرين .

الزمن :
يتغير زمن الرواية يتغير الأحداث وحتى الأمزجة ،يتعاقب الليل والنهار ومعهما النور والعتمة ، والحزن و شيء من الفرح .
في اللحظات الحرجة ،يلتبس عليها الزمن ولا تدري إن كانت نائمة أو مستيقظة وغالبا ما تعتمد آلية الهروب إلى المستقبل ،إلى اللازمان و اللامكان ، لعلها تنجو من عذاب هذه التساؤلات الملحة التي تحاصرها دون أجوبة مقنعة .
عندما تركب سرج الخيال وتسافر عبر تأملاتها وصمتها الكئيب المتكرر.


تمثل الأنوثة عند الكاتب :
الأوصاف التي يغدقها على بطلة الرواية تعبر عن تمثله للأنوثة ذات الطابع المحلي ، فلأن دماء الوطن تجري بشكل ما في عروق ماثيلدا ،ولون شعرها الأسود وبشرتها السمراء فجمالها جد مميز ،بل إن الكهل الذي صادفها وهي راجعة لم ير جمالا أخاذا بهذا الشكل ،انبهر ليس بالعري بل بتلك الأنوثة المتدفقة
رغم حالتها النفسية آنئذ .
وكذلك جاء على لسان فريدريك الرسام ، إذ وجد في ماتيلدا جمالا أخاذا يتجاوز بكثير جمال جاكلين ،عشيقته السابقة .
صورة متأرجحة ما بين القوة والضعف , قوة الإرادة والبحث عن الانتماء وإحساس الضحية الذي يشعرها بالكآبة
ومع ذلك فهي تلك المرأة ذات الأنوثة الطافحة ، مصدر الإغواء والمتعة ،ونافذتها نحو عالم الفرح .
يتغنى السارد بأنوثة المرأة ، عبر غزل يرفعها إلى مقام الأميرة ، أنوثة طافحة ومتدفقة لدى ماثيلدا ،بطلة الرواية ،ذات السمرة الشرقية والشعر الأسود ،
جسدها بلون العسل ،والعسل يمثل أعلى درجات الحلاوة

يرى السارد بأن جمال المنتوج المحلي ،المغربي هو أرقى من الجمال الغربي
إنها مؤثرات الهوية و الانتماء ، فالإنسان دوما يعتبر منتوج بلده أحسن وأغلى وأرفع قيمة .
فماثيلدا أجمل من جاكلين ، عشيقة فريدريك سابقا .
صورة المرأة في الرواية هي صورة المرأة الضعيفة ،الضحية والمفعول بها إلى أبعد الحدود ،فهي موضوع للاغتصاب وللعنف الجنسي , ماتيلدا تعرضت للاغتصاب من طرف عشيق أمها وسبب لها ذلك جروحا
أمها آستريد : تتعرض باستمرار للاغتصاب الزوجي من طرف شريكها غريب الأطوار والاستغلال المادي و المعنوي ولا تقاوم بأي شكل من الأشكال ,
آستريد : أم مازوخية ،تتحمل الاستغلال إيذاء شريكها الذي يهدر ماله في الخمر والقمار وتتكلف هي بكل المصاريف ، تتحمل الذل مخافة أن تفقد ه ويذهب لأخرى علما أنه يجمع من الصفات أرذلها
تتنكر لواجبات الأمومة انصياعا لشهواتها ،ولا تحمي بنتها في أحلك الظروف ,وتتركها فريسة للذئاب

صورة الرجل : جاء فردريك مبدعا ، رسام تشكيلي ، يتسامى عن
جروحه الداخلية من خلال الرسم ,,,,,ولا يطرح مشكل الهوية بتاتا ، ربما لأنه من أصل غربي والأمر ليس بتلك الحدة الموجودة في الثقافة الشرقية .
ومع ذلك فرجولته ناقصة ببروده الوجداني وعجزه الجنسي .
جاكلين : هي من قامت بالخطوة الأولى تجاه زميلها فريدريك ، إذ بدأت بعناقه في إحدى حجر مكان العمل ،فبدأت علاقتهما ثم تخلت عنه نتيجة لعجزه الجنسي
امرأة مشاكسة لم تتوان ى في التخلي عن فريدريك لما وجدت بديلا أفضل

التحام العملية الجنسية بالإبداع : إعادة الخلق

تقابل ريشة الرسام العضو الذكري الموقوف عن التنفيذ
مشهد غرائبي ، حيث تجري العملية الجنسية ما بين ماتيلدا وفريدريك بطريقة غريبة.
تنخرط ماثيلدا في تأوهاتها الجنسية وفي نفس الوقت تنطق باسم والدها "مبارك كارامي" وببعض الأوصاف التي تمكنت من معرفتها من والدتها أستريد وفي نفس الوقت ،فريدريك يرسم بريشته كلما نطقت ماتيلدا بحرف من حروف اسم والدها ،حوله لخطوط وألوان ،سوف تعطي في الأخير بورتري بملامح تعكس تلك الأوصاف
إلى أن يتمكن من إنجاز لوحة سمتها : الأب ،ثم تحولت "لمرآة الأب " أضحت تشكل تمثلها للأب المبحوث عنه .
المرآة المشروخة :

ستسقط اللوحة ويتكسر الزجاج لتصبح لوحة مشروخة ، تعكس التمثل المشروخ الذي تحمله عن أبيها

إذا كان الجنس هو آلية من آليات ا إنتاج النسل ، فالإبداع أيضا نوع من الخلق
و إعادة إنتاج الخلق ,ماتيلدا بذرة زرعت في بطن آستريد إثر لحظة جنسية هاربة
من زمن مختل ،لا ثوابت له ،جعل منها كائنا مختل التوازن ..."فداوني بالذي كان هو الداء "
بالجنس ستستعيد ماتيلدا هويتها ، وستخلق من جديد ،ستستفيق فتاة جديدة ،إذ استعادت نوعا من الطمأنينة والهدوء عندما تخلقت ملامح والدها على صفحة ورق الرسم ولم يعد مجهولا تماما ،وباتت تعانقه بين الفينة والأخرى
وعبر هذه العملية الجنسية الغريبة ،سيستعيد فريدريك أيضا شيئا من فحولته
بفضل هذه اللوحة ستتدفق لديها مشاعر البنوة ،لأنها كلما حملتها وعانقتها شعرت بدفء الأبوة وشيء من الانتماء .
ومن خلال هذا التفاعل القوي سيستعيد فريدريك "فحولته "

عناصر الانتماء : تتلمس ماثيلدا خيوط هويتها من خلال العناصر التالية : لوحة "الأب المرآة "،" لوحات فنانين مغاربة كبار مثل المليجي وبلكاهية الذين أخبرها عنهما فريدريك وعن فوزهما بالجوائز ثم المسجد و هندسته المعمارية وفسيفساؤه وألوانه ومكتبته وإمامه وخصوصا كتابا القرآن والسنة المترجمين الذين قرأتهما بنهم كي تندمج بشكل ما في هذا الانتماء الذي يمثل أصل والدها .


الإغماء واليقظة : ثلاث مرة : عندما علمت باسم أبيها وهي راجعة بدراجتها ،تفكر في جمع الحصاة فتسقط ويغمى عليها وتفقد جزءا من الذاكرة ,اذ لا تعرف أين هي ولو للحظات
يغمى عليها عندما ذهبت للمسجد ،وتتهيأ للتكلم مع الإمام ,,,,مواجهة صعبة
يغمى عليها : عندما وجدت والدها ،وقبل المواجهة سيغمى عليها .
تعبر حالة الإغماء ،عن رهبة اللحظة ،لكن أيضا عن تلك الرغبة العميقة في محو ماض تعيس يشعرها بالدونية والنقص والالتباس من خلال النسيان والفقدان المرحلي للذاكرة .
اليقظة : ذلك المجهود الذي ثقوم به وهي تستل من واقعها المعقد خيوطا للانتماء تغطي بها ذلك الشعور بالعري الملازم لها .وأيضا ذلك الأمل الذي يجعلها تواصل الحياة وتسرق منها لحظات فرح إلى أن يتحقق حلمها : أي إيجاد والدها .

الحلم :

الحلم أثناء اليقظة : كانت تنظر من النافذة وترى نفسها رفقة فريدريك يتنزهان أو يصيدان السمك ،داخل عبارة جميلة لكنها في الأخير تكتشف انها داخل غرفة و لا ترى الا عبارات تحمل رمالا ،
فهل تكون احلامها من رمال ، سرعان ما ستتهاوى. على رأسها ؟
العبارة هنا رمز لحياة مشتركة مع فريدريك تراها رومنسية وجميلة ،كيف لا وهو حب حياتها ، لكن سرعان ما ستنتقل مشاعرها إلى النقيض الآخر ،الإحباط إذ تعرف أنها أضغاث أوهام , ص 89
هناك أيضا أحلام نوم على شكل رؤى تبشربأحداث أو تحث على أفعال ما ،مثل حلمها بالإمام يحثها على زيارة والدها ويلح في ذلك .و أحداث أخرى تشعرها بها عبر الحلم قبل أن تحدث .


تاثير الفن التشكيلي في الرواية :

تحضر الألوان في الرواية بشكل لافت للانتباه عبر لوحات تعبيرية ،
-عاشت حياتها دوما بلون رمادي كعنوان على الحزن
-لباس روبين هالسمان وشعره بلون الجزر تعبير عن غرابة الاطوار ،فاللون البرتقالي نادرا ما يلبسه الرجال .
الاضاءة : ثنائية النور والعتمة في المكان ليس فقط كعنوان على الزمن بل أيضا على نوعية الحدث وانعكاسه على المزاج ، بداخلها حزن لا يخلو من ضوء الامل
-الأبعاد : يحضر البعد الداخلي والخارجي بشكل جدلي و متواتر .انفتاح وانغلاق
يعبر عن نوع من الحركية في الرواية حتى وإن كانت بطيئة .
حضور الرسم والألوان عبر مختلف الأحداث و اللوحات عموما ولوحة الأب
ودلالتها داخل الرواية .

مفهوم الأبوة والأمومة أو الوالدية : هل تختزل الواالدية في الإنجاب ؟
سؤال جوهري تتمحور حوله الكثير من أحداث الرواية وتشعباتها ,
هل قامت أستريد " بواجبها في تربية ابنتها والعناية بها كما يجب ؟ عندما نعلم أنها كانت تقضي سهراتها مع عشيقها ماتياس وتترك بنتها فريسة للوحدة والخوف والاستغلال الجنسي ؟
في هكذا شروط اصطادها شريكها الأول والذي يكبرها ب16 ذي الأطوار الغريبة ،والذي عبث بطفولتها ،بل دنس براءتها بعنفه وتعليمه إياها شرب الخمر والمخدرات .
فماتيلدا ، رغم كل شيء ومن فرط براءتها ، وهي تسترجع شريط ماضيها تشعر كانها خانت فريدريك حتى قبل ان تعرفه وهي تتذكر كيف مارست الجنس مع روبين هالسمان بعد شرب الخمر واحساسها بالألم الذي احست به لأول مرة ص 19
أين مشاعر الأمومة عندما تركت أستريد إرثها المادي لشريكها الأحمق رغم أنه أيضا في المستشفى وتركت لبنتيها معا وصية رماد جثتها المحروقة ؟
أين تتجلى مسؤولية الوالدية عندما يأتي جنين إثر جنس عشوائي ،إذ لا يعلم الفاعل بما تركه في أحشاء امرأة وحتى لو علم تنصل من المسؤولية وهرب وتركها تواجه مصيرها لوحدها ؟
وحتى عندما حدثت المواجهة مع ماتيلدا بنته من نسله ، كان باردا تماما
ولم تتجاوز مشاعره مستوى التعاطف السطحي الذي لا يقدم ولا يؤخر

ستصل ماثيلدا لهذا الاستنتاج وتتساءل ،هل يستحق الأمر فعلا كل ذلك العناء
إذ لا شيء تغير فعلا عندما وجدت هذا الوالد الذي لا يرقى لأن يكون أبا .

نفسيات معطوبة :
اختار الكاتب شخصيات روايته ضمن الفئات المعطوبة وجدانيا ، فئات لها مشاعر مختلة ومرتبكة بل أحيانا شبه ميتة ،فئات هامشية ومهمشة ،ينخرها الانحراف والتفكك العائلي والعاطفي .
فئات تعيش الضياع والتيه ،وتعيش حيا ة دون طعم أو رائحة تطغى عليها الكآبة أو الاكتئاب عموما .
أستريد امرأة مازوخية تتلذذ بعشرتها مع شريك سادي يعذبها كل ليلة جنسيا ويصرف أمواله في الخمر والقمار وهي تؤدي الفواتير ....شخصية ذليلة بدون كرامة في بلد يضمن حقوق الإنسان وحقوق النساء ومن حدة تيهها لا تستفيد من هذه الإمكانيات .
امرأة فاقدة للبوصلة جملة وتفصيلا إذ ستنجب فتاتين خارج الزواج ، ولا ترعاهما كما يجب .
أختان لا روابط بينهما ،تغيب بينهما مشاعر الأخوة إذ لا يلتقيان إلا عند وفاة أمهما و استلام رماد الجثة المحروقة بالتساوي ،أي لا يربط بينهما إلا رحم محروق .
فريدريك : رجولة مخصية جسديا وحتى معنويا فهو بارد عاطفيا وعاجز عن التعاطف ولو في أحلك الظروف
ماتيلدا : فتاة مضطربة المشاعر تتقاذفها أمواج الحياة كما تيسر ،وتصارع لاستخراج إرادة للمقاومة من دهاليز اليأس .
مغزى اختيار الفئة موضوع الرواية ؟
لماذا اختار الكاتب يا ترى هذه الفئة كموضوع لروايته ،هل تعكس أحداث الرواية واقعا معيشا بهولندا ، أم تمثلا يحمله المغاربة والعرب عموما عن ذلك الآخر المختلف عنا دينيا وثقافيا وانتقاما من تفوقه التكنولوجي فنتمثله غارقا في المجون بأنواعه أو ربما هو إمعان في التركيز على هذه الفئة لإحداث الدهشة لدى جمهور عربي مسلم يعتبر نفسه محصنا أخلاقيا بفضل الدين والتقاليد التي لازالت تحتفظ بمستوى من التماسك ؟

رماد الجثة المحروقة
لا أظن أن حرق جثت الموتى ممارسة موجودة بهولندا مكان أحداث الرواية ،ولكن الكاتب دفع بالجانب الدراماتيكي إلى مداه الأقصى
رماد الجثة ، هو ذلك الانتماء البيولوجي الميت ،والذي لا يسمن ولا يغني من جوع ،فهو ورقة محروقة إذ ستحرص ماثيلدا على نثره عبر النافذة كي يذروه الريح بعيدا بعيد وينتشر في الفضاء ويتبدد بشكل نهائي كي ينبعث من جديد بطريقة جديدة .
أي كنوع من الخلاص من والدية دون مسؤولية .

عائشة التاج ،الرباط ،المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب


.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري




.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات