الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إهداء كتابي (الطريق إلى الناصرية) إلى روح أبي

طارق حربي

2023 / 6 / 25
الادب والفن


فُجِعتُ برحيل أبي المبكّر في عام 1974، وكنتُ حينذاك ابن ستة عشر عاماً، وهو ابن ستٍّ وخمسين! بعد احتضارٍ وصمتٍ في مستشفى الناصرية الجمهوري داما ثلاثة أيام، كان فيها أحياناً يمسك بيديَّ، مغمض العينين نتيجة جلطة دماغية، على الأرجح أنه يوصيني خيراً بأمي وأشقائي الثمانية، حرَّرَ الموتُ أبي، وتركني وحيداً حائراً حتى اليوم بين معنى الحياة والموت، وأسئلة الوجود والعدم!
أصْرَرتُ في نهار الفجيعة رغم معارضة أعمامي لحداثة سنّي، على أن أرافق جثمان أبي بالسيارة إلى مثواه الأخير في مقبرة وادي السلام في النجف، لأقف على جلال الموت وغموضه وأتدبَّرَ معانيه، ولم أتدبرها حتى اليوم!
شاهدتُ الدفّانَ والأعمام يُنزلونَ قُبيل المساء جثمان أَعَزّ الناس في القبر بِتَؤدَّةٍ ثم يَلحدونَهُ، بكيتُ بكاءً مُرّاً وأنا أُلقي عليه آخر نظرة خَلَلَ دموع حَرّى، ودفنتُ معه أجزاءً من نفسي إلى الأبد!
رمزية الأب ودوره المحوري وحضوره المبكر في حياتي كان لها الأثر الكبير، والكثير من المعاني، بينها الحماية والرعاية والسلطة والقدوة والإرشاد، وهذه كلها فقدتها في لمح البصر - وا أَسفاه - عندما شاهدتُ الهازلَ الضحوكَ ملفوفاً في قطعة قماش بيضاء، مُسجّىً في حوش الدار وأمي تبكي عليه مرَّ البكاء!
كان يُحبني كثيراً أنا ابنه البِكْر ويحرصُ على أن يضع في جيبي درهماً في الطريق إلى المدرسة أو السينما، ويشتري لي - والسعادة تملأ قلبه - كِسوة العيد، ويحملني بين يديه طفلاً ثم صبيّاً إلى المستشفيات في الناصرية وبغداد، كلما اشتدَّ عليَّ رُعاف الأنف نتيجة مرض في الدم، وعندما تكلُّ يداه يحملني على ظهره!
فتح لي عمله سائق حافلة لنقل الركّاب بين مدينتيَّ الناصرية وبغداد، باب السفر معه خلال العُطل المدرسية، والتأمل في الطريق الطويل والخلاء الفسيح والبساتين والأنهار ووجوه الناس في المدن التي نمرُّ بها، حبَّبَ أبي السفر إلى نفسي وها أنذا منذ ثلاثين عاماً أسافر إلى مشارق الأرض ومغاربها.
يوقظ الباسمُ الشَّهمُ من النوم أمي وأشقائي وأنا، كلَّما عاد من العمل ليلاً حاملاً أكياساً مملوءة بما لذَّ وطاب من الفاكهة، وأجود أصناف التمور العراقية المطعَّمة بالجوز واللوز لنأكل سويَّة، وكم كان يشعر بالسعادة وهو يرى إلى وجوه أطفاله ويمازحهم حتى يغلبهم سلطان النوم، وعندما نستيقظ في صباح اليوم التالي لا نجده لأنَّ الكادح نهض إلى العمل فجراً، وكان ذلك بالنسبة للطفل الذي كنته حلماً، مثل حلم رحيله المفاجىء، الذي ما يزال منذ حوالي نصف قرن أقوى الصدمات في حياتي على الإطلاق!
تركتُ المدرسة بعد رحيله مُحطَّماً نفسياً، وأعاني من الرُّعاف وسوء التغذية وضعف البنية، لا رغبة لي في الكلام مع أحد، ولا قدرة على حمل جسدي الذي أنهكه المرض، وفوق ذلك أصبتُ بكآبة قال لي الطبيب النفسي بأنها انفعالية! على الرغم من كل ذلك وقفتُ مثل كل الصبيان والشبّان الذين يفقدون آباءهم مبكراً في مسطر عمال البناء، وكانوا رجالاً مفتولي العضلات أقوياء البنية معظمهم من أبناء القرى والأرياف.
صيَّرني قدري العجيب مبكراً رجلاً وربَّ عائلة، وعليَّ واجب أن أعمل لأنفق عليها من عرق جبيني وأدفع إيجار بيتنا الشهري! في تلك الأيام الصعبة فتحتُ عينيَّ من نافذة الفقر والجوع على الكتب، أنهل منها ما يُعزّيني عن فقدان أول صديق مخلص لم تدم صداقتي معه سوى ستة عشر عاماً، وفهم كُنْهَ الوجود وجمال الحياة وقصر وقتنا على الأرض وغموض الموت!
أهدي هذا الكتاب إلى ذكرى أبي الطيب الحنون لروحه الرحمة والطمأنينة والسلام الأبدي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل