الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ورقة جموح

عبد الرحيم العلاوي

2023 / 6 / 26
الادب والفن


كل صباح يقصد محل القمار، حاملا معه جريدة تحتوي أسماء الخيول، ومرات فوزهم، يجلس على كرسي، أرقام يدونها في مسودته، كأنه يسعى لحل نظرية أعجزت علماء الرياضيات.

الدخان يعلو السقف، وجوه مكفهرة، وأخرى مشدوهة مركزة على الأوراق، كل وقلمه، لا حديث بينهم، كأنها قاعة امتحان.

لقد قضى عمرا طويلا محاولا الإمساك بأحلامه، انتقال من عالم الفقر الذي يقبع فيه، إلى عالم الترف، هروب من واقع يراه أليما بين ظهراني غرفة صغيرة مع أسرته، ولكي يلج عالم الأحلام ذاك، يتوجب عليه دفع ثمن التذكرة، خمسون درهما لكل يوم، نصف أجرته اليومية في عمل البناء، يتصبب عرقا ساخنا ليضعها بين يدي صاحب المحل، الذي لا يبذل أي جهد إلا تسليم أوراق الوهم، وتسلم أوراق نقدية.
لو تأمل في حال الكثيرين لعلم أنه في نعمة لم يحس بها، فمن يفقد ما يملك يرجو جزءا بسيطا مما هو فيه.

يقصد المقهى القريب من سكناه، منتظرا سباق الخيول، كأنه من يركض، وحال انتهائها ينهج، ثم يمزق الورقة ساخطا على حاله، مقسما ألا يعاود الكرة، تتبدى له الورقة التي مزق ورقة الخمسين درهما.

ما إن يستيقظ في صباح اليوم الموالي حتى يعيد نفس الأمر، نفس التركيز على الأرقام والأسماء، نفس السخط، نفس الندم، بعدها إلى عمله تحت حر الشمس، يحمل الطوب على كتفيه، يبني الأسوار التي يرجو أن تنهد من طريقه ليتأتى له ولوج عالمه الذي بناه في فكره.

مثقلا يرجع ٱخر النهار، متعب الجسد والروح، متطلبات بيته يوفرها بشق الأنفس، ولولا القمار لكان في سعة أحسن مما هو عليها.

ليله يرسم فيه ما شاء، يهيم مع وقائع يشكلها كما يريد، بيت فخم واسع، سيارة من نوع " المرسيدس" كلاسيكية غالية، ألبسة من " ماركات عالمية "، ساعات ومجوهرات، وجيوب ممتلئة بالمال دافئة.

في العادة لا يهتم لأمره أحد، وكيف سيهتم به الناس! فالفقراء صداقاتهم قليلة لكنها صادقة، لا مصالح فيها، من أحبهم أحبهم لذاتهم فهم لا يملكون شيئا، أو هذا ما يظنون، فلا قيمة لشيء بقدر قيمة الإنسان نفسه.

بعد محاولات عدة، استنزفت كل قواه، وكذا ماله، أخيرا ورقة المراهنة التي يمتلك هي الرابحة، لم يتمالك نفسه مع رؤيته للخيول الفائزة بالسباق، ونفس ترتيبها ما في الورقة بين يديه، نظرات بعين مركزة للأرقام على الشاشة، صاح دون أن يشعر : لقد فزت.
التفاتة جماعية لكل من بالمقهى نحوه، قبض بعدها راحته على مستقبله، وضعها في جيبه، فر فرار ريمٍ من أنياب مفترس، صعد لغرفته، أغلق الباب.
نادى على زوجه ليخبرها بالأمر، ولم تتأخر كثيرا لتسأله:
- كم ربحت؟
- ستمائة مليون.
تمددت أمامه مغميا عليها، لم تسمع من قبل رقما كهذا، قسم بصلة لنصفين، أكل نصفا، والنصف الٱخر قربه من أنفها، أفاقت من إغماءتها الخفيفة، عانقته كأنها للتو عرفته.
- تعلم أنني أحبك، واعذرني فالحياة هكذا، ولو علمت أنك ستفوز يوما لصبرت على شظف الحياة وقسوتها.
ثم صمتت قليلا لتردف:
- ماذا لو لعبت بمائة درهم؟
- سيتضاعف المبلغ ليصير مليارا ومائتا مليون.
جبدت رداءه بشدة:
- يا لك من غبي، كان عليك أن تغامر أكثر.
أفلت منها بعدما تردد صدى كلامها اليومي وتذمرها من قلة ذات اليد، تجشأ ليفوح من فمه نفَس البصل الذي ابتلع، أومأ لها برأسه، برزت أسنانه:
- عجبا، أأنت التي لم يهدأ لسانك يوما عن الرفرفة!
- لقد كنت أعاتبك فقط على تضييعك المال في القمار، ويا ليتني شجعتك.
أوقف نقاشهما الذي بدأ يحتدم طرق الباب، استغربا من ذلك، فالوحيد الذي يزوره صاحب المنزل من أجل أجرة الكراء، لكن الشهر لا يزال في منتصفه.
قام لفتح الباب، إنهم جيرانه أتوا لتهنئته على مكسبه، هذا يحمل صحن حلوى، وذاك جلب الفطائر، وتلك بشوشة الوجه على غير المعتاد، مشهد غريب لم يألفه من جيران لم يلقوا عليه التحية يوما، ولا باركوا له عيدا.
ظل واقفا أمام الباب، وهي إشارة واضحة بعدم الترحيب، لضيق غرفته التي تأويه هو وزوجه وثلاثة من أبنائه، خاصة أن عدد الزوار كثير، وأيضا لا شيء عنده يقدمه لهم.

انصرفوا بعد تسليمه ما جلبوا له، تساءلت زوجه:
- هل عرفوا أنك ربحت؟
- نعم، لم أتمالك نفسي في المقهى، صحت لما علمت أنني الفائز.
- لم لم تصبر حتى تأتي إلى هنا، وافرح كيفما تشاء!
- وهل يصبر الفقير على ربحه المال؟
انقلب حال زوجه فجأة، مبدية ضرورة تغيير المسكن، تعلم أن الناس لن تتركهم بسلام.
وافقها أيضا، ولا تزال نشوة الربح تجول في خلَدِه.
سمعا طرق الباب من جديد وهما منهمكان في ترتيب حقائبهم، أسرعت زوجه فأحكمت قفل الباب، جلبة أناس كثر يتحدثون، انتقلت الجلبة للزقاق، اختلس النظر من شق النافذة ليذهل مما رأى.
كل ساكنة الحي مرابطة قرب باب المنزل، نظرهم إلى نافذة غرفته، صياح باسمه كأنه زعيم ثورة.
تراجع بضع خطوات للوراء، ولا يزال الطرق على الباب، ومن حسن حظه أنه طلب من مالك الدار تغيير الباب الخشبي بباب حديدي، بعد أخذ ورد اتفقا على اقتسام التكلفة، يؤديها له على دفعات كل شهر.
- ما العمل الٱن، هؤلاء القوم لا أدري ماذا يريدون مني؟
عاد للنظر من شق النافذة، لا يزال الكل في مكانه، رجع للوراء، نظر لزوجه جاحظ العينين، ثم تمتم:
- كيف سنخرج الٱن؟
- سنظل هنا إلى الليل، الأكيد أنهم سينصرفون، بعدها نتسلل، ولا داعي أن نحمل كل الأمتعة، أنت الٱن ذو مال، يمكنني شراء ما نريد.
شارد الذهن أجاب:
- وإن لم ينصرفوا؟
- لا بد أن يقصد كل واحد منهم داره.
- هؤلاء يطرقون الباب، وأولئك يراقبون المنزل، ولا أدري أين سأجد أيضا المتربصين بي!
لم يهدأ بيته طول اليوم، وما فكر فيه حدث، لم ينصرف أحد بالليل، بل وضعوا الموائد في الطريق، وأحضروا الفراش، الكل ينوي المبيت قرب غرفته.
إلى تلك اللحظة ما درى طلبهم، ولو أن ما يتبادر إلى ذهنه هو محاولة سرقتهم لورقة المراهنة.
لم ينم طول الليل، فكل تلك الليالي الحالمة استحالت لكابوس واقعي لما أمسك بطرف حلمه.
كانت إغفاءته في الصباح بعدما تعب، أما زوجه فقد نامت ساعات قليلة، ثم استيقظت لتكمل جمع الحقائب.
أطفالهم الصغار يتضورون جوعا وقد أخفيا عنهما الأمر، بدعوى أن في الحي مشكلة ولا يجب مغادرة البيت.
بعض الخبز والزيت، شاي حضرته على عجل، أسكتوا جوعهم على أمل انفراج قريب.
نداء من وراء الباب التقطته أذنه:
- افتح الباب، نريد الحديث معك فقط.
انسل ليقترب :
- من أنت؟ وماذا تريد؟
- أنا مبعوث ساكنة الحي، أريد أن أقدم لك عرضا، وأنا أضمن حمايتك.
- عرض! أي عرض هذا، ألهذا الحد من الدناءة بلغتم!
- تريد الساكنة نسبة 30٪ فقط مما ربحت، ولتنعم أنت بالباقي.
برزت عروقه، صاح غاضبا:
- تبا لك ولكل الساكنة، لا شيء لكم عندي، هو مالي أنا.
أحس الأطفال بخطب ما غريب، لكن والدتهم طمأنتهم:
- هو نقاش عادي بين والدكم وأحد الجيران، أكملوا فطوركم.
قامت لتمسك يده:
- ماذا يريدون؟
همس في أذنها:
- يريدون نسبة من المال وإلا لن نخرج من هنا بسلام، يا لهم من أوغاد!
- لنتصل بالشرطة، لن نتحمل أكثر، الأطفال أحسوا بخطب ما، وموعد دراستهم اقترب.
أخذ هاتفه متصلا بالشرطة، لكن مشكلا في الشبكة حال دون إجراء المكالمة.
انتفض، ولكم فكر أن يحمل ساطورا يشق به كل من اعترض طريق خروجه، أو هراوة ينهال بها على رؤوسهم، لأن قبح سلوكهم لا يوصف، هذا ولا يزال لم يصرف جائزته، هي ورقة بيضاء فيها أرقام.

في الزقاق نقاش على مدى ساعات جلوسهم، الرجل بجلبابه يظهر عليه الوقار، ما ترك أحدا إلا وأقنعه بأنهم لا يفعلون حراما، فهو ابن حارتهم، وحقه كحقهم.
وتلك امرأة تخبر الجالسات معها أنها جادت على زوجه مرارا بما تحتاجه، وما سبق لها رؤيتها.
ومن كان في محل القمار يقسم أنه من أشار له على الأرقام.
دنيا غريبة فعلا، وجيران أغرب منها، الكل يتهافت خلف المال، يريد أخذ ما ليس له، ربما لو كان شريرا لما حدث هذا، ولا تجرأ أحد عليه، هذا ولم يفكر أحد أن القمار حرام.

جلس على كرسي في زاوية الغرفة، بينما هو يفكر في حل، اقترب أبناؤه منه، جلسوا بقربه، مرر يده على شعر كل واحد منهم، حدق في وجوههم البريئة محدثا نفسه: " في الماضي القريب جدا ما كنت لأتعب هكذا، تلك الأجرة على بساطتها عشنا بها، لكن كنت في غنى عن موقف كهذا، ما ظننت يوما أن الخطر سيحيط بي لمجرد علمهم بكسبي للمال، فهل السعادة التي حسبتني سأعانقها بالمال مجرد وهم تسلل لفكري فاستلبه، أم أن الحرام هذه طريقه".

تنبه لسماع صوت سيارة الشرطة، هرعوا ليطلوا من النافذة، فوجدوا الناس قد وسعوا الطريق لهم للمرور.
بدأوا الصياح: النجدة، لقد حاصرونا، نطلب منكم الحماية.
كل من يرابط في الزقاق ينظرون تجاه النافذة، اقترب بعضهم من ضابط الشرطة ليتحدثوا معه.

صعدوا للغرفة، فأسرع لفتح الباب، وما إن رٱه الشرطي حتى صفد يديه، سقطت زوجه مغميا عليها، وبكى أطفاله بكاء شديدا.

أخرجوه من المنزل، الناس بدأت بالتصفير، ونعته البعض بالسارق، رمق الشرطي وٱثار الصدمة بادية عليه، قال بصوت خافت: لست سارقا، هؤلاء من اجتمعوا لسرقة ورقة المراهنة مني.
أجابه الشرطي :
- سنسمع أقوالك، إنهم يتهمونك بسرقة الورقة من رجل مسن.
ارتخى فمه غير مصدق، توقف لينادي بأعلى صوته:
أأنا السارق يا قوم السوء! تبا لكم جميعا يا عبيد المال.
إنه أمام تهمة السرقة، يؤمن أنه بريء، لكن القانون لا يعترف إلا بالأدلة، والدليل شهود عددهم كثير جدا، توحدت كلمتهم وخطتهم ضد الرجل الفقير.

في قسم الشرطة لم ينفعه قسمه أنه صاحب الورقة، فالمدعي أيضا يقسم، فأي قسم في نظر القانون هو الحق.
قال الضابط:
- يمكنكم حل خلافكم دون كتابة المحاضر، وعفا الله عما سلف.
أبدى المدعي استعداده للتنازل عن الشكاية شريطة إرجاعه للورقة الرابحة.
تملى جيدا في وجه الجالس أمامه، لا يعرفه، فمن أين ظهر، وقد أحسنوا اختياره، فوجهه بريء، ونظراته لا يشك أحسن خبراء قراءة تقاسيم الوجه في صدقه.

سمع بكاء زوجه التي تيقظت من إغماءتها وقد تبعته لقسم الشرطة، وكذلك أنين أطفاله الصغار، حنى رأسه والدمع تدافع لينهمر من عينيه في صمت، الخطأ هو من يتحمله، فقد الوازع الديني الذي لو تبعه لما رمى بنفسه إلى طريق الحرام، عشر سنين وهو على تلك الحال، ولو وفر الخمسين درهما كل يوم لجمع مالا حلالا بركته ستدوم زمنا أطول من مال حرام لم يمسكه حتى، ومعه أهوال عظيمة عاشها في يوم واحد.
أخرج الورقة من جيبه، سلمها قائلا :
- هذا المال لعنة ستلاحقكم، اقتسموه بينكم، وأخبرهم أن ما فعلوا بي أعظم من امتلاكهم لمال حرام.
غادر مع أسرته، عانق زوجه وقد تنزلت على قلبه طمأنينة أراحت باله، نظر نحوها ضاحكا:
- حمدا لله، كل هذا ولم نحصل بعد على المال، فما ندري ما كان سيحدث لو حصلنا عليه.
أجابته وقد قطبت حاجبيها، واشتعلت عيناها في غضب:
- كنا لنصير أغنياء لو أنك أغلقت فمك في المقهى يا غبي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال


.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب




.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي


.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء




.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان