الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقنية التماثل ورمزية التشاؤم وتعدّد العقد في رواية /أفاعي النار/ للكاتب جلال برجس دراسة طبقًا لاسترتيجية التعضيد للمنهج الذرائعي بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

عبير خالد يحيي

2023 / 6 / 26
الادب والفن


• مقدمة إغنائية:
إن الميتاسرد meta-narration ما وراء السرد, رواية عن الرواية أو رواية داخل الرواية : هو جزء من انفجار ال ( ما وراء -meta ), وتناسلها الذي شمل جميع العلوم والمعارف الاجتماعية والفكرية.
وهي تقنية ما بعد حداثية, تتيح للروائي الوقوف على الزمن الماضي بأحداثه وشخصياته بفهم جديد يتناسب مع الزمن الحاضر, وبوعي ذاتي, حيث يختلط التاريخ مع الذاتية, حينها تصبح الأحداث الماضية بشخصياتها القديمة عناصر حيّة فاعلة في الرواية الحاضرة, تشكّل جزءًا هامًّا ورئيسيًّا في بنائها الفني وعالمها التخييلي, والأحداث الماضية لا تأتي بذات الحال المضطربة التي عرفناها أو قرأناها, وإنما تتحوّل عبر هذه التقنية السردية إلى حال جديد كليًّا, ويكون لها طابع جديد يتمثّل بالسخرية والخدش والتحوير بحسب مقتضى الرؤية التي يريدها الروائي منطلقًا وتأسيسًا لعمله الروائي, فنحن أمام صراع بين ماضٍ بحدود واقعيته, وحاضر بحدود المتخيّل السردي, أو العكس, هذا الصراع سيخلق أداة أيديولوجية ستعمل في مجال الهدم والبناء, تهدم بنية الماضي ( بأحداثه وشخصياته), وتعيد تشكيله وبنائه من جديد, على ضوء الضرورات التي يفرضها النص السردي الحاضر, أي أن مهمة الميتاسرد هي اختراق الماضي, وهدمه, ثمّ محاولة بنائه من جديد, وهذا يتطلب العديد من الإبدالات لكي تظهر الانطباعات الجديدة مختلفة عن سابقاتها في الماضي, برونق خاص يبعث على المتعة, هذه الإبدالات تجري ضمن مجرى سياق التوظيفات المخبوءة الذي يشكّل عصب هذه المهمة, والميتاسرد, بهذا المعنى يعتبر آخذًا وناقلًا ومحوّرًا ومجدّدًا في الوقت نفسه.
والرواية وعاء مفتوح على الثوابت والمتغيرات في آن واحد, والتنافر الحاصل بين الثابت والمتحول هو الذي يضفي على الخطاب الروائي بهاء الحضور والتميز, لكن يبقى أسلوب الامتصاص والتوليد والتحويل الأهم في المعادلة.
إذن, "الميتاسرد, في الجوهر, وعي ذاتي مقصود بالكتابة القصصية أو الروائية يتمثّل أحيانًا في الاشتغال على إنجاز عمل كتابي أو البحث عن مخطوطة أو مذكّرات مفقودة, وغالبًا ما يكشف فيها الراوي أو البطل عن انشغالات فنية بشروط الكتابة, مثل انهماك الراوي بتلمّس طبيعة الكتابة الروائية" .
إن ثقافة ما بعد الحداثة لم تفرز أجناسًا سردية جديدة فقط , بل أفرزت أيضًا أنماطًا سردية جديدة, أغنت أسلوبية الروي, منها "الميتاسرد".
وإلى هذا النمط من الكتابة السردية تنتمي رواية ( أفاعي النار ) للأديب الأردني جلال برجس والفائزة بجائزة كتارا 2015, وهي حكاية وراء الرواية أو حكاية داخل الرواية. وسأعرض, من خلال دراستي الذرائعية لهذه الرواية, لهذا النمط السردي الجديد, وتمظهراته البصرية والأسلوبية, وآليات وديناميكية استخداماته في الروي.
• على المستوى البصري:
الغلاف الأمامي:
كعتبة نصيّة بصرية, في الطبعة المصرية الصادرة عن مكتبة تنمية, الغلاف عبارة عن لوحة تشكيلية بورتريه لوجه امرأة, بملامح صامتة, في جيدها قلادة من النوع التراثي, خصلات شعرها عبارة عن أفاعٍ متلوية, يغلب عليها اللون الأخضر الكفني, قتامة اللوحة في الخلفية تشي بمكنونها الحزين والمتشائم والمخيف. وربما الجنائزي.
اسم الكاتب بالعربي والغربي في أعلى الغلاف باللون الأصفر, وتحته مربع صغير كتب فيه تجنيس العمل (رواية) , ثم عنوان الرواية.
الغلاف الخلفي:
امتداد للخلفية القاتمة, وللوحة الغلاف, مع آراء انطباعية مقتضبة لبعض النقّاد عن الرواية.
العنوان:
عنوانان: الأول (أفاعي النّار), بالبنط العريض وبلون وجه المرأة, يخصّ الرواية, والثاني ( حكاية العاشق علي بن محمود القصّاد) يخصّ الحكاية, بهما نصب الكاتب أول فخ لجرّ اهتمام المتلقي, شدّه وتشويقه للولوج إلى متن العمل:
-عنوان الرواية (أفاعي النار), تخييلي بصري, نكتشف دلالاته الإيحائية والتخييلية داخل العمل الروائي. وهو كابوس مرعب راود بطل الرواية ( خاطر), أتى على ذكره للمرة الأولى في الصفحة 25 , ثم تكرّر ذكره حتى أصبح رمزًا استعاريًّا:
أصبحت مستباحًا من قبل كابوس مرعب, أرى فيه ألسنة النار استحالت إلى أفاع مخيفة, بت أخشى النوم جراءها, وهي تأكل جسدي, ولا تترك له سوى الرماد, وأنا أصرخ وأستغيث السماء أن ترسل أمطارها لتطفئ النيران, فتهرب تلك الأفاعي.
-عنوان الحكاية (حكاية العاشق علي بن محمود القصّاد) دلالي سيميائي مباشر, بإسناد إلى شخصية علَم (علي بن محمود القصّاد), والإحالة إلى الحكاية السيرية لبطل الحكاية.
وأرى أنه حين اختار الكاتب هذا الغلاف وهذا العنوان كان يؤسس لإشادة البناء الفني لعمله الروائي هذا, منطلقًا من فرضية (سيكولوجية العناوين) التي تعتبر العنوان ليس مجرد العثور على كلمات جيدة, إنما كلمات تثير ما في نفس الناظر إلى الغلاف ومركزه, أي العنوان, فالأسماء أدوات نفسية وهي وسيلة مرجعية أيَضًا لما قد يحتويه الكتاب, لأن العناوين وُجِدَتْ لتختصر, والعنوان أول لقاء نفسي بين الكاتب وقارئه.
لكن الكاتب أيضًا تخطّى هذا القصد الاعتباري نحو قصد آخر, أكثر خصوصية, وهو التأسيس للعبة الميتاسردية التي عقد العزم على لعبها مع القارئ, عبر اختيار العنوان الثاني السيميائي الذي يحوي ( الإسناد والإحالة), الذي يؤسس فيه لأن تبدو الرواية قريبة من السيرة الذاتية, والتي تعتبر من أهم التمظهرات البصرية للرواية الميتاسردية.

العتبات النصية الداخلية:
الإهداء:
إليكم, إن كنتم تحلمون..
إهداء عام مقتضب, بإسناد إلى ( أنتم) وإحالة إلى الحلم بكل دلالاته المنفتحة على آفاقه, أتبعه بتصدير دلالي فلسفي أكثر عمقًا, تجتمع فيه دلالات الإيحائية( الذاكرة – الحب- الغناء- الحريق- الدفء – الروح- البرد) بمدلولاتها العديدة, مقطع من قصيدة ل ( آنا أخماتوفا):
تصدير :
ثقيلة أنت يا ذاكرةَ الحُب!
في دخانك أغنّي وأحترق
أمّا الآخرون فلا يرون فيكِ إلا لهبًا
يُدفئُ أرواحَهم الباردة.
" أنا أخماتوفا"

مدخل:
فقرة نصيّة منفصلة عن متن العمل, احتلت بياض صفحة كاملة, تعتبر من الإبدالات الأولية, التي اعتمدها الكاتب بدلًا من الاستهلال التقليدي الذي ينغرز في مقدمة المتن الروائي, بما لا يتجاوز السطرين, قطعة نثرية تكثر فيها الصور الجمالية, والتداعيات الوجدانية دون أن تغفل مهمتها بذكر الزمكانية, وهي النهاية السردية التي انتهت عندها أحداث الرواية في زمنَي الماضي والحاضر, ومنها سيبدأ الكاتب استئناف لعبة الميتاسرد عبر تقنية التدوير, التي يحيل فيها الكاتب النهاية السردية إلى بداية الروي, وعبر تكرار لفظة ( الآن), يعطف الحاضر على الماضي, يشحن الذاكرة, ويبدأ الحكاية :
الآن وبعد كل ماجرى .....
الآن في لحظة العصاري هذه....
الآن في لحظة الصمت هذه.....
الآن أمان هذه الشاهدة التي تحمل اسمك, وتشير إلى اليوم الذي نطقتِ فيه كلمتك الأخيرة....
هناك أيضًا عتبات نصية بصرية داخلية, ساقها الكاتب كخاطرة سردية تصدّرت بداية كل فصل من فصول الرواية, وكل فصل من فصول الحكاية, حيث قسّم الكاتب العمل إلى فصول روائية, وفصول حكائية, وكانت النصوص النثرية المفتوحة تلملم الدلالات الفلسفية والأيديولوجية والنفسية لقائليها, وتلخّصها, فتغدو نصًّا داخل نصّ, بما لا تختلف عن تقنية الميتا, وبما ينضوي تحت مبدأ التجريب وتداخل الأجناس الأدبية.
تناوب على كتابة هذه النصوص, كل من :
بطل الرواية الواقعي الحاضر, الصحفي والروائي ( خاطر), الذي ألقاه الكاتب على مسرح أحداث الواقع الماثل الحاضر, وكان من نصيبه فصول القسم الروائي الثلاث, الذي جسّد ثيمة فقد الأم:
"عندما ترحل الأمهات, اتركوا باب القلب
مواربًا, إنهن يأتين ليلًا ويرتّبن ما خلّفته يد الخسارة".
خاطر
(خاطر) تقاسم, بالتوازي, دور البطولة مع (علي بن محمود القصّاد), البطل المتخيّل الغائب الذي غرسه الكاتب في ذاكرة الماضي, والذي استقى مادة سرده من مذكّرات ويوميّات كتبها كرسائل عشق لبارعة, وحكايات بارعة بنت عاهد المشاي, البطلة التي أطلّت من متخيّل الماضي إلى واقع الحاضر مع (لمعة) بنت الماضي التي وازت بارعة في عشقها لابن القصّاد, ثلاثتهم سكبوا خواطرهم على فصول الحكاية الستة, أربعة من نصيب ابن القصّاد, الذي جسّد ثيمة المستنير المحروق والمشوّه:
النار لا تأكل إلا ما تراه العين, لذلك تصاب بالجنون,
حينما لا تجد سبيلًا إلى ما نداريه في دواخلنا
علي بن محمود القصّاد
ما قبل الفصل الأخير للمعة: التي جسّدت ثيمة الوفاء
لا شيء يجعلنا أحياء أكثر من وفائنا لقلوبنا, التي لولاها, لأصبح العالم في أعيننا محض بيت يحترق. لمعة
والأخير لبارعة: التي جسّدت ثيمة الحلم والأمل بحيوات جديدة
نحن نحلم, إذن نحن بشر نفكّر بالتحليق
في سماوات جديدة .
بارعة بنت عاهد المشاي
إذن, نحن أمام متن ميتاسردي, احتل بياض222 صفحة من الحجم المعروف للرواية, قسّمه الكاتب إلى قسمين:
قسم روائي, لا يتعدى 40 صفحة, بثلاثة فصول بطلها ( خاطر) وعناوينها منتقاة بحسب الحدث الرئيس فيها:
ليلة ناقصة
كابوس غريب
ما حدث تحت شجرة التوت
القسم الثاني : قسم الحكاية, حكاية العاشق علي بن محمود القصّاد, وهو القسم السيَري الذي يذكّرنا بسيرة المهلهل, ستة فصول معنونة بترتيبها كما يلي:
مرابح الخاسر- ليلة ظهور الغول- ابن القصّاد- أصل الحكاية- صاحب الكرامات- آخر شهقة في الناي.
تنسيق نصي جيّد جدًّا, والقليل من الأخطاء المطبعية.
• بالنسبة للمستوى اللساني والجمالي:
علم الجمال:
مما لا شك فيه, أن فكرة أدلجة السرد وحمولة الكلمة تكنولوجيًا, وفق التغيرات الأسلوبية التي طرحتها ثقافة ما بعد الحداثة وخصوصًا بعد الثورة التكنولوجية في عالم الاتصالات والتطور الخيالي الذي ناله العلم تكنولوجيًّا, حيث وفّر اليسر والسهولة في البيت والشارع وجعل العالم الأرضي قرية صغيرة يحكمها المحمول, وهذا التغيير شمل اللغة تكنولوجيا, فما عادت اللغة أداة للتواصل بل أصبحت حيّزًا تكنولوجيًّا يتعامل مع العقل, ما عبّد الطريق تكنولوجيًّا لظهور الرواية السردية التي تتوافق زمكانيًّا مع هذا التغيير التكنولوجي الموسوم به هذا العصر, وهذا ما فرض معايير جديدة تُقاس عليها أسلوبية النص وجماليته الأدبية, حين خرج الجمال من مجاله الفلسفي القديم ودخل في مجال العلم, علم الجمال Aestheticsالذي, كما يقول (شارل لاولو), "لا يوجد في الطبيعة قيمة جمالية إلّا عندما ننظر إليها من خلال فن من الفنون, أو عندما تكون قد ترجمت إلى لغة أو إلى أعمال أبدعتها عقلية أو شكّلها فن وتقنية" , فهي "بحث عن قوانين التذوّق الجمالي, موضوعه تلك الأشياء التي نحبها لذاتها, فهو يبحث في أبسط الأشياء التي نحبها كالصوت, أو اللون, أو الخط, أو الإيقاع, أو الكلمة, ثم في مركبات هذه البسائط الأولية في الأعمال الفنية, من عمارة ونحت وتصوير وموسيقى وأدب" , و"إدراك هذه القيم ليست نتيجة معطاة, بل تحتاج إلى بناء وتوجيه" , بهذا المعنى تخرج الاستطيقا عن فلسفة الجمال التي هي مجرد أفكار نظرية عامة حول موضوعية الجمال.
لننظر كيف بنى الكاتب للجمال قيَمَه وهو يشكّل من عناصر الطبيعة لَبناتٍ يدسّها بين أحجار بنائه اللغوي, فيغدو الوصف صورة من الفن التشكيلي التجريدي Abstract Art حين جاءت الصور الجمالية الأدبية على هيئة محاكاة أو انعكاسات للعالم الباطني أو الخيالي للقصّاص أو الروائي.
أمثلتنا من خلال هذه الفقرة السردية:
الآن وبعد كل ما جرى, وفي غمرة هذا العشب والأزهار البرية, التي غمرت المقبرة, تحرس سكينة الموتى.
الآن في لحظة العصاري, والشمس تلملم شعرها, وتحشر في العروات أزرار قميصها الذهبي, ترشق الأشياء بماء الشفق, فتبدو الكائنات أسيرة رتم حزن شفيف, يعبث بالقلوب فيجهشها.
الآن قبالة نشيج هذا الناي الذي يتهادى من مكان خفي, وكأنه خلفية موسيقية لفيلم بدايته نهاية الحكاية ذاتها, وقبالة هذه السماء الزرقاء الصافية, كذاكرة عاشق أفرغ ما فيها واستراح من سطوة الذكريات.


ثقافة الكاتب الأدبية :
ولا شك أن للكاتب ثقافته الأدبية التي مكّنته من إتقان بناء عمله الفني هذا, كما مكّنته من خوض مغامرة التجريب, وتوظيف أجناس أدبية مختلفة, سردية ( النصوص المفتوحة, والمقالات الأدبية) وشعرية ( مقاطع من قصائد لأنا أخماتوفا) صفحة 114, كما مكّنته من إجادة مسك خيوط اللعبة الميتاسردية, مدركًا تمامًا أن هذا النمط الميتا سردي قد يقترب من نوع السيرة, والحكاية, ويقبل المقالة الاجتماعية, بل ويحتاج المذكرات المكتوبة أو المخطوطات أو المدوّنات والرسائل, كما أنه يفرّ إلى الحلم والتهويمات نافضًا عن كاهله مسؤولية المساءلة الفكرية والمحاكمة السلطوية, فالنائم لا يُساءل عن اللامنطقية ولا يُحاكم على الآراء.
كما أنه يدرك أن من الأهمية بمكان أن هذا اللون من ال ( ميتا) يفترض القبول بالعقد الافتراضي بين المؤلف والمتلقي, على اعتبار هذا النص لعبة كتابة صرفة, ولذلك كتب مدخلًا للرواية كعتبة نصية سابقة لمتن النص الروائي, مميزًا بين الرواية والحكاية :
الآن في هذه اللحظة, وبعد كل ما حدث, بإمكان ذاكرتي أن تستعيد كل التفاصيل, دون عناء, فتكون الحكاية...
ولذلك," يُفتَرض بمتلقي النص الميتاسردي أن يمتلك كفاية سردية narrative competence لإدراك الطبيعة البنيوية الافتراضية لهذا النص السردي, وتجنّب اللبس والإبهام "
• وعبر ديناميكية المستوى المتحرك, وإجرائية المستوى النفسي:
التقنيات السردية:
الملفت للنظر عند هذا الكاتب أنه ارتكز على خطأ أو أثر نفسي لحادث الحريق حرك في ذاته تقنية الاندماج بين الواقع الموضوعي الحقيقي والواقع الخيالي: وهذا الاندماج التقني أنتج مخرجات جديدة لتقنية أخرى وهي تقنية التوالد في الأحداث, فبدأ أحداث التقنية الأولى كأحداث جديدة في التقنية الثانية, وهذا ما زاد في درجة التشويق لكونه تفوّق إبداعي في وظيفة المفردات في السرد.
استخدم الكاتب محركات نفسية لاستذكار ما نساه من أحداث الرواية, ولم يكن أمامه من خسائر سوى روايته التي كتبها ومسحت من ذهنه, فأراد البحث عن مَرْوَد ينبش فيه ما نساه عقله وما حفظه على كمبيوتره, فلم يجد سوى الوضع النفسي بين مخزَني العقل, الوعي واللاوعي والفارق بينهم, فكان المرود الرابط بينهما هو ميثولوجية الحكاية التي نجدها في عقولنا جميعًا, سردتها لنا جدّاتنا وأمهاتنا على مواقد الشتاء, وبما أن الحياة أوسع من الأحداث فلابدّ لكل حدث منسي أن يمرّ علينا مرة أخرى بالتذكّر الحكائي, وهي طريقة " لإعادة بناء الذاكرة Memory Reconstruction" , لذلك اشتعلت عنده شعلة الحكايات حتى وصلت إلى نهايتها بتذكّر روايته كاملة عبر الحلم, وهذه الحالة أراد الكاتب توصيلها بشكل منطقي للمتلقي لكنها لا تشبه الواقع, لأنها تميل نحو الحلم أو الخيال, وهذه حالة سردية عميقة استطاع كاتبنا أن يوصل بها صوته الغارق في أعماق النسيان نحو وعي المتلقي بتقنية الحلم, وهي شبيهة بتقنية تيار الوعي, ومن خلال هذه التقنية نفذ الكاتب من المساءلة عن منطقية الأحداث, وهذا تخريج نقدي علمي¸يكشف التوازي بين كتابة القصة سرديًّا وكتابتها نقديًّا من خلال عقلانية التناص التوليدية .
استخدم الكاتب تقنية الشخصنة السردية: وهي تعني إعطاء عناصر السرد الأساسية (العقل, الذات, النفس, الخاطر, الضمير, اليد, أي الأشياء الثابتة التي تساهم بالكتابة, أي العقل ومكوناته), وما خرج عنها (القلم, الحبر, الورقة, كومبيوتر... أي محتويات أو أدوات الكتابة) مهمة أو وظيفة سردية, بمعنى أن (محتويات العقل+ محتويات الكتابة) حين نحمّلها وظيفة الشخصية في سياقات السرد, نعتبرها تقنية شخصنة سردية, وقد شخصن الكاتب جهاز الكومبيوتر وجعله بمقام الضمير وهو يواجه خاطر.
تقنية التماثل:
بنى الكاتب فنيًّا التشابك السردي بحبكتين, حبكة روائية وحبكة حكائية, وبالتالي كان هناك عقدتين رئيستين, عقدة الرواية تمثّلت بحدث الحريق الذي نتج عنه احتراق الكومبيوتر وصورة الأم, أعقبها حالة نفسية سيئة لبطل الرواية خاطر, نسي خلالها أحداث روايته التي كتبها على الكومبيوتر دون حفظ, فخلق حالة من التماثل بين الذاكرة البيولوجية والذاكرة الإنتاجية التكنولوجية, حيث مُسِحت الرواية من كلا الذاكرتين, وهي لعبة فنية, ليولّد الكاتب من خلالها أحداثًا جديدة تنقلنا إلى حبكة الحكاية, العقدة الرئيسة الثانية كانت في حادث الحريق الثاني الذي طال بطل الحكاية ( علي بن محمود القصّاد) وأدى إلى تشويهه في المرة الأولى وموته في الثانية, أراد الكاتب في الاحتراق الثاني خلق تماثل بين الكومبيوتر المحترق ورأس علي بن القصّاد بعد الاحتراق, ليتعمّق بخبايا الظلم, وليخلق تمازجًا أخلاقيًّا لرسالة ينقلها إلى المجتمع حول حالات الملاحقة للإنسان العليم, فلم تقتصر على خسارته الأولى التي دفعها كعربون للظلم من تشويه أعضائه الفيزيائية, والتي أحدث فيها مقارنة باحتراق الشخصية في مجتمع ليس فيه مكان للإنسان العالم المستنير, وبين منتجه العلمي الذكي الكومبيوتر, كلاهما, العقل التكنولوجي, ممثلًا بالكومبيوتر, مع العقل البشري وصاحبه الإنسان المستنير, لم يسلما من نيران الظلم وتشويهات الجهل.
تعدّد العقد السردية :
استطاع الكاتب في هذا العمل السردي أن يقوّي درجة التشويق بتقنية تعدد العقد, فقد استخدم حدث الحريق أربع مرات, وفي كل مرة, يزيد نار التشويق إوارًا بنقل الحدث السردي من حالة إلى أخرى من خلال حادثة احتراق معينة بدأها من احتراق الكومبيوتر التي غيّرت مجرى الأحداث الواقعية باتجاه أحداث خيالية, الحريق الثاني الذي أحدثه عند تنامي الصراع بين بطل الحكاية ( علي بن محمود القصّاد) مع أخوة بارعة الذي انتهى إلى إشعالهم النار في غرفته في عمّان, هروبه إلى فرنسا وتغيّر اتجاه الأحداث لينال الماجستير والدكتوراه, الحريق الثالث الذي طال غرفته في فرنسا من قبل جماعة متطرّفة, وأعطاه أزمة نفسية هي التشوه الخلقي التي حول مجرى حياته هناك تمامًا, وعودته إلى عمّان مشوّهًا فقيرًا يتسوّل معيشته, الاحتراق الرابع , الذي طال منزله في البستان وأعطاه الموت, العقدة الخامسة هي نوم خاطر تحت الشجرة واستغراقه في حلم أعطاه ذاكرة جديدة تذكّر فيها روايته حرفيًّا. فنرى مقدرة الكاتب وتمكّنه من تغيير مجرى الأحداث بتقنية راقية لم نألفها من قبل, هذا التعدد في العقد يزيد العمل الأدبي المحبوك تشويقًا, لكونه حالة فنية معصرنة تجعل المتلقي يتنقل بعقله من عقدة إلى عقدة وكأنه كتب عدّة روايات, تُحسب تلك الحالة للكاتب كعصرنة غير معروفة من قبل.
الرمز العام:
تكرّر حدث الحريق يدفعنا إلى اعتبار الحريق رمز, فبعد كل حريق هناك حدث سلبي, ينتج عنه تحوّل سلبي, يعطي رمزًا زمكانيًّا بديلًا للعقدة, القصدية من جعل الحريق رمزًا عامًا هو مواجهة لعبة الحظ السيء, في كل مرة يقدم البطل على عمل جيد يُواجه بحريق, وهي حالة سيئة عوّضت عن تعدّد العقد في الرواية ب:
تقنية العقدة الزمكانية أو الحدث الزمكاني بديلًا للعقدة يعطي توضيحًا بأن الحريق هو تغيّر حدثي رمزي استخدمه الكاتب كحالة تفاعلية عكسية, تعرض للمتلقي كمية البؤس والإحباط التي تواجهها شخصيات الرواية, ليعكس حالة اليأس والتشاؤم في الصراع مع الحياة.
هناك تقنيات سردية أخرى معروفة استخدمها الكاتب:
كتقنية التدوير, والمذكّرات, والحوار المسرود¸والديالوج¸
معادل موضوعي أقامه الكاتب بين صورة الأم المحترقة وبين الذاكرة الممسوحة التي اعترت بطل الرواية ( خاطر), فالأم ذاكرة الابن التي يستلهم من صورتها كل تفاصيل الحكاية, ارتأى المؤلف أن يقابل هذه الخسارة والغياب ب تعويض نفسي وهو الحضور عبر تقنية الأحلام لرأب صدع الذاكرة المصدومة بالخسارات.
إن الرواية المعصرنة هي رواية نفسية, تنطلق من تداعيات الوعي الذاتي, لا تحتمل وجود سارد عليم, لذلك, ومن خلال إدراك الأديب جلال برجس لهذه الحيثية, أعطى الشخصيات الساردة في الرواية ( خاطر) والحكاية ( علي بن محمود القصّاد- لمعة – بارعة) مساحاتها في تولي مهمة السرد الروائي والحكائي, ليكون السرد الذاتي بضمير الأنا ناسفًا لسرد الغائب العليم, وبذات الوقت يفسح المجال للشخصية للتعبير عن الثيمة أو القيمة الموضوعية التي تحملها من خلال الكسف عن أبعادها الجسدية والأيديولوجية والاجتماعية والنفسية.
فمن أهم مقومات وركائز الميتاسرد, ظاهرة الذاتية, أو المرجعية الذاتية auto – refrence, حيث يوظّف المؤلف ضمير المتكلم في الروي, فتبدو الرواية قريبة من السيرة الذاتية, وقد يبدو هذا النوع من التقنيات السردية نسفًا للراوي العليم, كما أسلفنا, وتدخلًا سافرًا من المؤلف الذي يقتحم سير الأحداث فارضًا صوته وفكره على شخصيات الرواية, ضاربًا عرض الحائط بتقاليد الكتابة السردية التخييلية, حتى أن البعض نظر إليه بوصفه رواية مضادة anti- novel, أو رواية مقالة أدبية واجتماعية .
• البؤرة الفكرية واستراتيجية الكاتب :
سبق وقرأت للروائي جلال برجس بعض الإصدار, وتأخذني الذاكرة نحو رواية ( دفاتر الوراق), ولاحظت أنه يستخدم نفس التقنية الميتاسردية, وهذا يدفعنا لاعتبارها استراتيجية سردية معتمدة من قبله في معظم أعماله. نستشف في هذا العمل أيديولوجية الكاتب, من خلال آرائه الفكرية التي طرحها على لسان الشخصيات الرئيسة, والتي تشكل دعوة واضحة لمقاومة الأفكار الظلامية ودعاتها, والوقوف في وجه الجهل والتجهيل, معتبرًا الكلمة الطيبة والفكرة النيرة سلاحًا نافعًا يمكنه اجتثاث العفن الذي استشرى في عقول معطّلة إلا عن الأفكار الهدّامة التي لا يقرّها شرع ولا علم ولا عرف, لكنه في النهاية, أيقن أن الظن لا يغني عن الواقع, وما جذّرته السنون العجاف لا يقتلعه قلم أو ريشة أو وتر.
هناك ثنائيات كثيرة تتواجه وتتصارع في هذه الرواية, الحب والكره, القبح والجمال, الظلم والعدل, العلم والجهل, التسامح والحقد, التطرّف والاعتدال, التحضّر والتخلّف......الخ, وكلها ثيمات متفرعة عن قطبي الثيمتين الأساسيتين, الخير والشر, والصراع الإنساني بينهما على مسرح الحياة.
• المستوى الأخلاقي Moral Level :
فنيًّا, كان من الممكن أن تنتهي الرواية عند حدث الاستفاقة من الحلم, وتعافي ذاكرة خاطر, وتذكّره أنه نام تحت شجرة التوت المعمرة, واكتشافه أن الحكاية كانت عبارة عن حلم طويل مات فيه ابن القصّاد, وأن الحكاءة هي أمه بارعة التي ماتت منذ سنين, لكن الكاتب أراد أن يرسل رسالة وجدانية إلى المتلقي, فأضاف حدث مضي خاطر إلى المقبرة لزيارة أمه, ورؤيته في الطريق لأطياف من شعبه الأردني, ويقصد الشعب العربي بالعموم, وشاشة تلفاز وهي تعرض حادثة قطع رأس لفتاة كتبت بضع كلمات عن الحب من قبل جماعة متطرفة, ثم فيلمًا عن الجماعة نفسها تهدم مساجد وكنائس, وطوائف ينحر بعضهم بعضًا, رسالة يشجب فيها الكاتب كل هذه الأعمال التي تخلّ بالمنظومة الأخلاقية الإنسانية العالمية, الطائفية والتطرف والإرهاب مرفوض بكل أشكاله, ومهما كانت مسوغاته, فهي جهل وظلامية لا تجرّ على المجتمع إلا الخراب والموت, ولن تكفي معها الكلمة, بل لابد من حلول أخرى, لم يصرّح عنها الكاتب لأنه يجهلها, تملك من القوة ما يمكّنها من السيطرة ومسك زمام الأمور.
- كل هذه الكتب ونرى رؤوسًا تُجز بكل هذه الوحشية! ثمة خلل إذن, خلل كبير.
• في الختام:
أشكر الأديب جلال برجس على ما أمتعنا به من خلال هذا العمل الإبداعي الميتاسردي, وسعيدة بدراسة تجربته الإبداعية ذرائعيًّا, متمنية له دوام الإبداع والنجاح والألق.
#دعبيرخالديحيي الاسكندرية – مصر 14 مايو 2023
المراجع والمصادر
1-ميتاسرد ما بعد الحداثة – فاضل ثامر – مقال في الكوفة: مجلة فصلية محكمة- السنة 1, العدد2, شتاء 2013
2- الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية - تأليف/ عبد الرزاق عوده الغالبي- تطبيق/ د. عبير خالد- دار النابغة للنشر والتوزيع- طنطا- ط1-2019
3- " سيكولوجية العناوين: عقلية المؤلف وعناوين كتبه" بحث للباحث في علوم التحليل النفسي كيفن توملينسون
4- "مدخل إلى علم الجمال والفلسفة"- أميرة حلمي
5- ستيفان كروبر
6- من فلسفة الجمال إلى علم الجمال.. مدخل عام إلى الاستطيقا – مقال ل مصطفى الزاهيد - صحيفة الشرق الأوسط – 22 يونيو 2016
7- الذرائعية والعقل- تأليف عبد الرزاق عوده الغالبي – الدراسات التطبيقية الناقدة د. عبير خالد يحيي- إصدار الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق- ط1-2021
8- الذرائعية بين المفهوم الفلسفي واللغوي-تأليف/ عبد الرزاق عوده الغالبي- تطبيق/ د. عبير خالد- دار النابغة للنشر والتوزيع- طنطا- ط1-2019-ص159
9- الذرائعية في التطبيق – طبعة مزيدة منقحة - تأليف/ عبد الرزاق عوده الغالبي- تطبيق/ د. عبير خالد- دار النابغة للنشر والتوزيع- طنطا- ط1-2019
10- رواية أفاعي النار – جلال برجس – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت- لبنان-
طبعة خاصة لمصر ط2- تنمية – وسط البلد – القاهرة- 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال