الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرامُ آينور هانم: عاصفةٌ عاتية

دلور ميقري

2023 / 6 / 26
الادب والفن


1
الخريفُ السويديّ، يلتهمُ شهراً وبعض الشهر من الصيف؛ فعلُ الذئب بليّة خروفٍ، لم يتوصل إلى إفتراسه بسبب هروع أحدهم للنجدة. ويهجمُ الخريف غالباً في منتصف شهر آب/ أغسطس، وبالطبع مع ريحٍ باردة تنزحُ من القطب الشماليّ القريب أو من سيبيريا القصية. تتعرى الأشجارُ رويداً من أوراقها، ولكن ليسَ قبل أن يُسبغ عليها ألوانٌ فاتنة من الأصفر والأصهب وما بينهما من رونق النحاس. إذاك تتزاحمُ السماءُ بالسُحُب، المُضفى عليها بدَورها ألوانٌ وردية وبنفسجية من أشعةٍ كامنةٍ خلف الأفق، أينَ تنحسرُ الشمسُ. سلاسلُ سوداء، مائلة قليلاً، تظهرُ بشكلٍ دوريّ في الفضاء: إنها أسرابُ الطيور، وهيَ في طريقها إلى الهجرة جنوباً نحوَ البلدان الأفريقية الحارّة. أما أقبح الطيور وأنكرها صوتاً، الغراب، فلا يبرحُ الشمالَ: إنه روحُ الخريف.
وإنما في الثلث الأخير من ذلك الشهر، وجدَ دارين نفسه لأول مرةٍ في إحدى القاعات الأرضية من قصر " فيك "، المُشكّل من ثلاثة أدوار، مُتوّجة بسطح مُهيب أشبه بسطح كاتدرائية ذات برجٍ وحيد. القصر، في ضباب ذلك الصباح، لاحَ لعينيّ الشاب الثلاثينيّ كأثرٍ يَغشاه الغموضُ والألغاز ـ كما السفنكس في الأساطير الفرعونية والإغريقية. وعليه كانَ، في يومٍ آخر مُشمس وصافٍ، أن يصعدَ عبرَ الدرج الرخاميّ إلى الدور الثاني، لكي يرى بحيرة " إيكولن " وهيَ تمتدُ ثمة في الأسفل كلسانٍ أزرق قاتم. وكانت دوحاتُ الأشجار، المُنحدرة من حول القصر إلى ضفاف البحيرة، ما تفتأ إلى ذلك اليوم مُحتفظة تقريباً بإخضرارها.
لقد سُجّلَ القصرُ كعلامةٍ مُتميّزة في عالم السياحة لشبه الجزيرة الإسكندينافية، وكانَ في الوسع القدوم إليه في رحلةٍ لطيفة على متن القارب الكبير. ولكن دارين، في المقابل، لم يكن سائحاً. كانَ طالباً في المعهد العالي للفنون، المُتخذ لنفسه جانباً من مساحة الدور الأرضيّ للقصر. دوامُ المعهد، كانَ يشملُ أربعة أيام في الأسبوع؛ من الثامنة إلى الرابعة مساءً. وكانَ الطالبُ يَحظى بالمنامة في إحدى حجرات الكُريدور، الكائن في بناءٍ أكثر حداثة، ملحقٍ بأبنية القصر. إلا أن دارين بقيَ مُحتفظاً بشقته، ثمة في حيّ " غوتسوندا " بمدينة أوبسالا. وكانَ موئلُ دراسته هذا يقعُ في الجنوب الغربيّ لريف المدينة، يبعُد عن مركزها بنحو ربع ساعة ركوباً بالحافلة الكبيرة. الخريفُ، هنا في أوبسالا، وإن يكن أقل فتنة من الريف، فإنه بطبيعة الحال على شيءٍ كثير من البهجة والتسلية. كيفَ لا، ومركز المدينة بمثابة الكرنفال ليلاً، يؤم المحتفلون في خلاله، حتى ساعةٍ متأخرة، الملاهي والباراتِ والبوباتِ. قسم كبيرٌ من مرتادي تلك الأماكن، كانوا من الطلبة الجامعيين، الأغراب، الذين خبروا العلاقات العاطفية السريعة، المُفضية إلى المخادع. على خلاف ذلك كانَ دارين، قد سئمَ آنذاك أماكنَ اللهو وعدّها تافهة. نظرَ إليها أيضاً في ريبةٍ، كبؤر لتجار المخدرات، وقد عرفَ إثنين منهم كونهما أقاما معه فيما مضى بنفس المسكن؛ وهوَ كُريدور على طرف مركز المدينة، يأخذك إليه الشارع الكبير ( ستور غاتان ): أحدُ ذينك الشابين، أضاعَ بالبودرة رشدَ " جوليا "، حبيبة دارين. والآخرُ كان سبباً مُباشراً في موتها، وهيَ لما تبلغ بعدُ سنّ الثانية والعشرين.
وكانَ هناك، في عام مضى، " ماهو " و" ميديا " و" جيني ".. كنّ أيضاً فتياتٍ أجنبيات، كحبيبته الراحلة، الإيطالية الأب. ومثل هذه الأخيرة سواءً بسواء، أختفينَ من حياته الواحدة تلوَ الأخرى. كذلك حالُ صديقين، كانا مقربين إليه، ثم أرتجلَ كلٌ منهما طريقه بإرادته أو بغيرها. " نورو "، عادَ إلى أرضه الواسعة في شمال سورية، وكانَ قد غابَ عنها لموسمين متتالين، قضاهما في الملاهي الليلية، برفقةٍ بلا طائل لسويدياتٍ أربعينيات وخمسينيات. أما الآخرُ، " رمّو "، فإنه دارى خيباته النسائية في الروليت، لدرجة أنه أضحى خبيراً في اللعبة، ومن ثم على رأس إدارتها في ملهى " فلوستريت ". هذا الملهى، المُتربع بجلال عند مدخل حديقة الملك، كان بمثابة حافظة جلدية لدفتر لقاءات الأصدقاء الثلاثة. فوق ذلك، كانَ مكاناً حميماً سكنته ذكرياتُ دارين النسائية، على قلّتها.
ومن بين مقاهي المدينة، على كثرتها، كانَ قد استأثر أحدها بحضوره الدوريّ. إنه مقهى " الحجرة الحمراء "، وكان في حقيقته متجراً للكتب، رواده من المثقفين اليساريين. مدبّرة المقهى، في خلال العامين المنصرمين، كانت إمرأة ثلاثينية، سمراء ومشيقة القامة. إنها إمرأةُ ذلك الدبّ البليد، صاحب المتجر الشرقيّ في الشارع الكبير، أينَ وُجد في نهايته الكُريدور. على بلادته، كانَ شديدَ المكر لو تعلّق الأمرُ بجني المال بأيّ طريقةٍ كانت. ودأبَ على إزعاج دارين بتطفّله، وكذلك بمحاولاته المثيرة للشفقة لاستمالة صديقته الإيرانية، ماهو. هذه الأخيرة، مثلما أشرنا آنفاً، إختفت من حياة بطلنا. ذلك كانَ عقبَ علاقة عاصفة، تواصلت بشكلٍ مُتقطّع لمدة تناهز السنة. كانت فتاةً غريبة الأطوار، وإلى ذلك عانت من مرضٍ نفسيّ على خلفية إعتقالها في وطنها وتعريضها للتعذيب والإغتصاب. لكنها في الربيع الماضي، عادت لتظهر فجأة لليلة وحيدة في شقة دارين، وما أن حل الصباح إلا وأقسمت على ألا تعود إليه أبداً: " إنك دمّرتَ حياتي بأنانيتك، لا يحق لك من بعد الإتصال معي! ".
غبّ مرور نحوَ عقدين، صادفَ ورأى صورةَ ماهو على وسائل التواصل الإجتماعيّ. كان وجهها الجميل ما فتأ على نقائه، بالرغم من بدانة صاحبته. العينان الكبيرتان السوداوتان، بقيَ فيهما ذلك البريق المُوحي بعلامات المرض النفسيّ.
كوننا انتقلنا على حين غرّة إلى زمنٍ أحدث، توجّبَ أيضاً القولُ أنّ ميديا كانت قد أضحت أماً لثلاثة أولاد. كانت الكبيرة فيهم على شبهٍ ملحوظٍ بالأم، وذلك في أوان تعرّف دارين بها؛ لما كانَ ينعتها بالبريئة الساذجة، التي لم تكن تعي آنذاك مقدارَ فتنتها النادرة. وكانت آنذاك لا تخرجُ إلا بالثياب الأنيقة، المكشوفة، بالنظر لتحرر والدها. بيدَ أنها الآنَ قد أخفت ذلك الحُسن تحت أكوام من اللحم والشحم، وتحت الجلباب الطويل القاتم، الملائم لونه لحجاب رأسها. زوجها اللبنانيّ، وكانَ تاجراً ورجل دين، إكتسبَ عندئذٍ لحيةً رمادية. ظلّ لسانه يتمتمُ طوال الوقت بالذكر والأدعية، مدعوماً بيدٍ تكرّ حبّات السبّحة. كانَ ليغدو غنياً بأيّ حال، ولو أعتنقَ مبدأ العلمانية ـ كمواطنه ذاك؛ الدبّ، الماكر والمتطفّل.
جيني الجميلة، السويدية من أصل فنلندي، إلتقى معها دارين وجهاً لوجه لمرةٍ وحيدة، في تلك الآونة المتأخرة. حينئذٍ، أدهشته أيضاً ببدانتها المُفرطة. ذك اللقاء الخاطف، جدّ في المخزن الكبير، " أولينز "، المنزوي على طرف ساحة المدينة الرئيسية. كانت برفقة فتاة، كمألوف العادة؛ هيَ السحاقية، العريقة. وقد رمقت يومئذٍ زوجتَهُ بنظرةٍ ملية، وكذلك ابنه البكر، المُستلقي في عربة الأطفال. قبل ذلك، لمحها ذات ليلة في دائرة الرقص بملهى فلوستريت، وبالطبع كانت مع إحدى رفيقاتها.
سبّحة الصديقات والأصدقاء، كانت أقلّ حظاً من سبّحة قرين ميديا. لقد إنفرطت مرةً واحدة، أبداً. يتعيّنُ عليه الآنَ، تحت سماءٍ أخرى وفي زمنٍ آخر، أن يُحاول إعادة تنظيم حبّات سبّحة الصداقة؛ إنما بوساطة الكتابة. الذكرى، تنهشه دونَ رحمة كما الذئب المفترس. بدأ يكتبُ ذكرياته في وقتٍ مُتأخّر، حينَ أمسى الجسدُ خرابةً أو تلاً أثرياً. لكنه مسحَ العديد من الصفحات من كومبيوتره، كونها أوحت بنيّة الإنتقام من بعض الذكريات. ما كانَ ليغدو سعيداً، لو أظهرته الكتابة أيضاً بمظهر الإنسان الأنانيّ.
أوبسالا، مدينةُ الذكريات. متى يعودُ للعيش فيها، مُجدداً؟

2
" نيازي "، قال له ذات مرة تحت تأثير إلهامٍ مباغت: " أوبسالا كالمومس، تمنحُ جسدها الرخِص لمن يدفع أو تبذله مجاناً لطالبٍ يخدعها بكلام الحب ". هذا الرجلُ الأربعينيّ، المُشوّهة تقاسيمه الجميلة بالإدمان، كانَ ما ينفكّ هائماً في الشوارع، ينثرُ حكمَهُ البليغة وأشعارَهُ الفطرية. في معطفه الشتائيّ الطويل، الذي يكسو به جسدَهُ النحيل طوال معظم أشهر السنة، كانَ يحتفظُ بصورةٍ شخصية ملوّنة من زمن الشباب، تظهره على كورنيش بيروت وكما لو أنه ممثل هوليوودي كلاسيكي. كانَ يعرضُ الصورةَ نهاراً على مَن يلتقيه في الشارع، وكذلك ليلاً على السويديات الأربعينيات في الديسكو. كنّ عندئذٍ يهتفنَ بصدق وإعجاب: " أنتَ هنا أجمل من بول نيومان، أيّها السكّيرُ الماجن! ". بيدَ أنهن كن غالباً يعتذرن عن الرقص معه، بالرغم من لطفه وسويديته الظريفة. كانَ قد اكتسبَ ثمة سمعة سيئة، بوصفه رجلاً يميل إلى افتعال المشادات والمعارك. إلى ذلك، كان يعتقدُ بالفعل أنّ له حقاً عند مواطنيه الكرد، ممن يمتلكون المتاجر في مركز المدينة. ليلاً، كانَ يعوّضُ بأريحية خسارةَ البعض منهم، عندما يتعهّد نقلهم بسيارته من الملهى إلى منازلهم.
كانَ نيازي يؤثرُ دارين بالودّ، كونهما من بيئة مدينية مُتماثلة تقريباً. ولأنه صندوقُ أسرار المجتمع الشرقيّ في المدينة، فاجأ هذا الأخير يوماً بالقول: " أكنتَ تعتقدُ، حقاً، أنّ حيدر سيعطي ابنته الأثيرة إلى شخصٍ مفلس؟ ". لقد سبقَ أن لمّحَ لدارين عن مشروع زواج، كانَ كلاهما على معرفةٍ بماهيّته. إذ أستطرد الرجلُ يومئذٍ، بالقول: " لقد كان يستقبلك بترحاب خاص في منزله، باعتبارك خطيباً مناسباً لشقيقة امرأته، العالقة في بيروت ". هذا علمه دارين قبلاً، وعلى لسان ميديا بالذات. مع ذلك، أنقبضَ قلب دارين على أثر معرفته أن أحداً من خارج آل ميديا، يعرفُ علاقته السابقة معها: " مَن أوهمك بأنني خطبتُ إحدى بنات السيّد حيدر؟ "، سأله مُداوراً. ضحك الرجل بفتور، وأجاب: " أنا لم أقل ذلك! "
" ماذا تعني، إذاً؟ "
" أعني، أنك وميديا كنتما على علاقة سرية "
" وكيفَ عرفت ذلك؟ "
" لا يُسأل رجلٌ مثلي، يقضي جلّ نهاره في شوارع المدينة! "، ردّ نيازي وهوَ يقرص خد دارين.
بعد بضعة أشهر، استقدموا خالة ميديا بعقد قران على أحد أقارب والدتها. إلا أنها لم تمكث معه لأكثر من ثلاث ليالٍ. في المقابل، كانَ الشابُ شهماً فلم يطلب من السلطات إعادتها إلى لبنان. " نادين "، وهوَ اسمُ الخالة، سيتعرّف عليها دارين ذات صباحٍ من أواخر الصيف حينَ كانا في طريقهما من غوتسوندا إلى مركز المدينة. كانت الحافلة الكبيرة مزدحمة، لما تنازل لها عن مقعده. شكرته مع ابتسامة عذبة، ثم انزلقت مؤخرتُها الممتلئة إلى المكان الفارغ. ملامحُها الذابلة، كانت تشي بمعاناتها من الحرمان الجسديّ. إلا أنها، مع ذلك، بهرته بحُسنها الساحر، الذي يمتّ بالقرابة ولا ريب لحُسنٍ تمتعَ به فيما مضى. في منتصف الطريق، عندما فرغَ المقعدُ المُجاور، دَعَته بلطف إلى الجلوس بقربها. لاحَ واضحاً من نظراتها، أنها على حياءٍ بسبب تدبير شقيقتها، الساعي لربطها بدارين حينَ كانت بعدُ في بيروت الحرب الأهلية. بدَوره، كانَ يُعاني إجمالاً من الحرمان، باستثناء مراتٍ قليلة اصطحبَ فيها نساءً نكراتٍ من البار إلى شقته.
" كيفَ حال شقيقتكِ والسيّد حيدر؟ "، سألها دارين بشيءٍ من الإرتباك. ثم استدركَ: " مضى وقتٌ ليسَ بالقصير على آخر مرةٍ، زرت فيها منزلهم ". باعثُ ارتباكه، لم يكن يتعلق بشكل خاص بالمشروع البائد لخطبتهما؛ لأنه أفترضَ جهلها به. دافعٌ خفيّ، لم يدرِ هوَ نفسه كنهه، جعله يستمرُ بالكلام مُوضّحاً: " السيّد حيدر، سبقَ ولامني بعدما نقل له أحدهم نميمةً مُلفقة على لساني، بشأن مسلك ابنته نسرين. مع علمه، بالطبع، أن علاقتنا الوثيقة كانَ سببها دفاعي عن تلك الابنة حينَ تناولها شخصٌ آخر باللمز "
" إنهم الآنَ على علم بوضاعة ذلك المَخلوق النمّام، الذي لفّقَ الكلامَ على لسانكَ "، قالتها نادين بنبرة إزدراء. فهمَ بالتأكيد، أنها تعني رمّو. لقد كانت قد رفضت هذا الأخير كخطيب، وهيَ ما زالت في بيروت، وذلك بعدما وصلتها صورته.
ثم تابعت نادين، مُغيّرةً من نبرتها: " صدقني، أنّ شقيقتي وزوجها يكنان لك كل إحترام ومحبّة ". في الأثناء، راحت ترمقه بنظرةٍ باسمة. كانت عيناها العسليتان من العذوبة، أن تجعلا المرءَ يهوي بسهولة ودِعَة في شباكهما. وكان دارين عندئذٍ مفتوناً بهما، فضلاً عما تحظى به صاحبتهما من جسَدٍ، مُفعمٍ بالاستدارات المُحببة والمُثيرة. فكّرَ أيضاً، سعيداً نوعاً ما: " ليسَ احتمالاً مُستبعداً، أن أكونَ أملاً يُراودها بعدُ، خصوصاً غبّ فشل زواجها ". ثم استدركَ في نفسه، المُنبعث فيها شعورُ الأنانية: " من ناحيتي، ليسَ ثمة ما آمله منها سوى العلاقة الجسدية العابرة. فهل يُعقل أن أقترنَ بها الآنَ، أنا من رفضتُ ذلك حينَ كانت بكراً؟ وفوق ذلك، فإنها خالة ميديا! ". ظنّ أنها كانت تقرأ أفكارَهُ. إذ ما لبثت أن أشاحت بوجهها إلى النافذة، لتلزمَ الصمتَ. أخيراً، وصلت لمحطتها المطلوبة. فإذا بها تقفُ متأهبة للنزول من الحافلة، دونَ أن تُحييه. قال لها بسرعة، ماداً يدَهُ بالكرت الخاص به: " هنا رقمُ هاتفي، وأتمنى أن أسمعَ صوتكِ قريباً كي نتم حديثنا ". تناولت الكرتَ، مومئة برأسها في حركة غامضة. ثم وقفَ دارين بدَوره، ليُفسحَ لها المجالَ بالمرور. مسّت حينئذٍ مؤخرتها وَسْطَهُ، الذي كان قد نمى فيه سلفاً إنتفاخٌ خفيف.
في الخلف، فيما كانت الحافلة تسيرُ، راقبت ثمة امرأةٌ شابة ما كانَ من المُمكن أن يدورَ من حديثٍ بين الرأسين، المُتقاربين. تلك كانت " نجوى "، المُقترنة بالشقيق الأكبر لزوج نادين السابق؛ وهما أيضاً على صلة قرابة بعيدة. كانَ دارين قد شاهدها لأول مرة في حجرة الغسيل، وتبادل معها حديثَ تعارف. في أثناء ذلك، كانَ قد قالَ لها مُداعباً في إشارةٍ إلى لحية رجلها المُتديّن: " لحيتي، خاصّة بالرسامين وليسَ بجماعة المسجد ". أطلقت عند ذلك ضحكة ابتهاج، وعلى الأثر طلبت منه أن يرسمَ صورةً شخصية لها: " وسأدفعُ لك، بالطبع، ثمنَ جهدك "
" أنا أرسمُ الوجوهَ بشكل مباشر، لا نقلاً عن الصوَر "، قال لها عندئذٍ. مع دخول إمرأة من مواطنيها إلى الصالة، إتقطعَ حديثهما ومن ثم انشغلا بما بينَ أيديهم من غسيل.
دارين، لم يُفكر قط بإغواء تلك المرأة المتزوجة حينَ أوضحَ لها طبيعة عمله كرسامٍ هاوٍ. إنه جربَ قبلاً محاولة إيقاع الفتيات بالشراك، وذلك بحجّة إيقاف إحداههن أمامه كموديل أو لكي يُنجز للأخرى بورتريه. إبتدأ بميديا، ثم بجيني.. وكرّت السبّحة.
وإذاً، مرت بضعة أيام ولم يتلقَ دارين الإتصالَ الهاتفيّ المَنشود. كانَ الوقتُ صباحاً، وقد خرجَ للتو من الحمّام، لما رنّ جرسُ الباب. لأول وهلة، ظنّ أنه ذلك الشاب، المدعو " حَمِيْ "، المعتاد على القدوم إليه دونَ أن يُخابره هاتفياً. كانَ شخصاً مُتطفّلاً، ولعله من التقتير أن يحسبَ ثمنَ المكالمة الهاتفية. لقد إلتصق بدارين كالعَلَق، وذلك مذ إشتراكهما في الربيع المنصرم بإضرابٍ عن الطعام تضامناً مع كرد العراق، المُنكّل بهم على أثر حرب الكويت ونشوب الإنتفاضة الشعبية، والمدفوع بهم من ثم إلى الهروب المليونيّ. كانَ الشابُ في حالةٍ يُرثى لها آنذاك، كون أسرته وأقاربه بين أولئك الهاربين إلى حدود الدول المجاورة.
حينَ تواصلَ الرنينُ، تقدّم دارين بحذر كي يتلصص من العين السحرية. وإذا هيَ نجوى. بمجرد دخولها، رمت ببساطة الحجابَ عن رأسها، واندفعت إلى الصالون كعاصفة عاتية: " هه، أنت كنتَ بالحمّام ولذلك تأخرتَ بفتح الباب ". إذاك، تألق جمالها بما أنهمرَ من الشعر الكثيف، الفاتح اللون، على كتفيها، فيما خصلات أخرى داعبت من الأمام صفحة وجهها. قالت له بنفس السجيّة: " جئتُ كي ترسمني، مثلما وعدتني! "
" ولكن، كيفَ عرفتِ عنوان الشقة؟ "
" من إسمك على لائحة المستأجرين، بالطبع، كما أننا جيران "، قالتها غامزة بعينها. ثم استدارت، وخطت نحو الأريكة ببعض التغنّج. كانَ على ثقة عندئذٍ، أنها جاءت بالبنطال الضيّق كي يزيغَ بصرُهُ بمرأى الردفين الرائعين. ما عتمَ أن انطلقت ضحكتها، حالما وقع نظرها على اللوحة الكبيرة، المُثبتة على الجدار فوق الأريكة الأخرى؛ وكانت عروقُ نبات اللبلاب، تحوطها من الأعلى. هذه الأريكة، كانت تُفتح ليلاً لتتحوّل إلى سرير نوم.
نقلت نجوى عينيها من اللوحة كي تثبتهما بعينيه، ثم خاطبته في جرأة: " أود لو أنّ رسمي سيكونُ مثل هذه الفتاة الشقراء، العارية ". اللوحة، كانت تجسيداً فنتازياً للأسطورة الكردية، " سيامند وخجي "، وقد سبقَ لدارين أن أستخدمَ فيها ميديا ـ كموديل لكلّ من الرجل والمرأة.
شاءَ دارين أن يتكلمَ، وإذا بالضيفة تدفعه في صدره ليهوي على ظهره فوق الأريكة: " إسمَعْ، يا عيني! سنقضي، أولاً، وقتاً ممتعاً! "، قالت ذلك حينما أضحت متمددة تقريباً فوقه.

3
بزغ الفجرُ، وما زالت الرؤى تُعذّب دارين. من جهة، الجسدُ الناصع كخنجر فضيّ، المُترنّح الردفين. ومن جهة أخرى، سحنةُ الزوج الكئيبة والكامدة، المُزوّدة بلحيةٍ مُعطّرة بمسك المسجد. تسمّرَ دارين أمام مرآة ذاته، عارياً مثل البدن الرخِص لتلك المرأة الميدوزا، التي أنطلقت منها كل ثعابين الرغبة والغلمة، المكبوتة دهراً. ربما هيَ تنامُ الآنَ مطمئنةً بجانب ذي القرنين، وليتسلّ العاشقُ بشعور الندم!
الشهوة وتأنيب الضمير، اللذة وتبكيت الذات، الفسق والفضيلة، الغش والوفاء، الكذب والصدق، الشر والخير: الحكاية الأزلية، الأكثر جدّة في كل عصر منذ تراجيديات أسخيلوس. أيمكنُ أنّ المدينة، ألقت بظلالها القرمزية الإباحية على مجتمع المهاجرين: أو أنه مجتمعٌ جاء يجرّ معه فسادَهُ وعقدَهُ ـ كما يجر القاربُ الخائب، شبكةً ذاخرة بنفايات البحر؟ أنّى له أن يعرفَ الجوابَ، هوَ المُنتعظ سلفاً لأجل لقاءٍ دَنِس آخر.
أفاقَ بعد الظهر، مُنتشياً نوعاً ما. أرادَ استعادةَ تفاصيل الحلم الأخير، لكنه خشيَ أن تنفجرَ حاويتا الماء السرّي. نجوى، الخبيرة بآلاء الباهة، كانت بالأمس قد وزنتهما بكفّها قبيل المُعاشرة: " فيهما ثقلٌ، أرجو أن يتجدد لحين لقائنا التالي! ". هل سيفتح لها بابَ الشقة عندئذٍ، أم يتجاهلها مثلما يفعلُ أحياناً مع حَمي المتطفّل؟ هذا الأخير، ما لبثَ أن حضرَ فعلاً على موعد الغداء.
" هيا بنا نتناولُ البيتزا في المطعم اليوغسلافي، لأنني لم ألحق أن أطبخ "، هتفَ دارين بطريقة مسرحية حالما استوى الضيفُ على الأريكة. انتصبَ هذا الأخير على قدميه مُجدداً، وليسَ بدون شيءٍ من التردد: كأنما شعرَ بالخازوق يُداعب فتحة أسته.
عقبَ فراغهما من تناول قطع البيتزا، دفعَ دارين الفاتورةَ بالإتجاه الآخر. لم يشأ حَمي حتى إلقاء نظرة عليها: " لا أحمل نقوداً "، نطقها بنبرة المتسوّل ومذيّلاً إياها بالقسَم الإلهيّ المعظم. مع أنه كانَ يتشدّقُ دائماً بالفكر الماركسيّ، المُتسرب إلى بالوعة رأسه على خلفية انتسابه سابقاً لإحدى التنظيمات الكردستانية. في مقهى " الحجرة الحمراء "، رفعَ حَمي صوتَهُ الغليظ ذات يوم بالقول في كثيرٍ من الإدعاء والزهو: " لم يكن جلال الطالباني يتوسّد لينام مطمئناً، إلا لو علمَ أنني مَن أتولى المناوبة عند مدخل الكهف ".
قال له دارين، مُفنّداً حجّته المُتهافتة: " لكنك تحملُ بطاقة البنك، أليسَ حقاً؟ سأنتظرك هنا ريثما تسحب النقود ". كشّرَ الآخرُ، وطفقَ يُحدّق برفيق الغداء. وعلى الأرجح، كانَ يودّ إلقاء اللثام كي يُظهر سوقيته، لولا أنه فكّرَ بتبعات ذلك. هكذا نهضَ ببطء، وما أسرعَ أن أختفى. ثم مضت ربعُ ساعة، نصفُ ساعة، ساعةٌ كاملة.. ولم يحضر الطفيليّ. بدَوره، نهضَ دارين فدفع الفاتورة ثم غادرَ المطعم. في خلال الطريق، كانَ يهمّ بالقسم المعظّم ألا يستقبل مرةً أخرى ذلك المخلوق، حينَ رآهُ مهرولاً باتجاهه: " اكتشفتُ عند الجهاز، أنني نسيتُ الكرتَ في المسكن. ومعلومك، كانَ عليّ عندئذٍ ركوبُ الباص إلى المركز، ومن ثم استبداله بباص آخر "
" لا عليك، في المرة القادمة سنأكلُ على حسابك بعد التأكّد من وجود الكرت في محفظتك "، قالها دارين مع ضحكةٍ حانقة. ثم خاطبَهً في سرّه: " ولن تكونَ ثمة، أيّها الخسيس، أيّة مرة قادمة في أيّ المطعم! ".
لكنّ حَمي دعا بعد نحو أسبوع صديقه إلى وليمةٍ في حجرته، الكائنة في الكُريدور الطلابي. لقد ضحّى بفَخذيّ فروج مع قليل من الخضار والأرز. كانَ الشابُ الثلاثينيّ يدرسُ في فرعٍ علميّ بالجامعة، ويأملُ بعد التخرّج الإنتقالَ للعيش في النرويج: " أستغني عن تسديد ديون الدولة السويدية من ناحية، وأكسبُ راتباً أعلى من ناحية أخرى "
" لقد أفدتَ من قراءتك لرأسمال ماركس، كي تغدو رأسمالياً! "، علّقَ دارين آنذاك على ما سمعه من المناضل السابق.
ومثلما ضعفَ أمام شعور الصداقة فسمحَ لحَمي بتجديد زياراته للشقة، كذلك كانَ الأمرُ مع نجوى؛ وبالطبع، مدفوعاً بشعور الحرمان الجسديّ. وكانَ عليه في أوان تأنيب الضمير، أن يعترفَ في نفسه بأنه لم يكن الحرمانُ، حَسْب، بل أيضاً إغواءُ الغلمة العارمة لروح وجسد عشيقته. سألها ذاتَ مرةٍ، عن أصل هذا الجنون الجنسيّ، الذي لا يهدأ فيها. ردت بالقول، وكانت إذاك في إحدى حالات هدأتها النادرة: " الزواجُ لا يُخفف كبتَ المرأة الشرقية، وإنما يُزيده ضراماً. إننا ننتقمُ لمراهقتنا، التي لم نستمتع بها حال المرأة الغربية. وعندئذٍ، لا محيص عن الخيانة الزوجية! ". تذكّرَ دارين عند ذلك قولَ صديقه نورو، المُعلّق على مسلك بنات السيّد حيدر قبل زواجهن: " لقد أضحت فتياتنا يُضاهينَ السويديات في التهتّك، ويتفوقن عليهن بالمكر والإخبات والنفاق ". دارين، من ناحية أولى، كانَ قد شددَ على عشيقته ألا تبوحَ بسرّهما لأحدٍ، كائناً من كان. إلا أنّ السرّ تسرّبَ، بطريقةٍ ما، إلى أكثر الناس ثرثرة ورغبة بتفجير الفضائح.
عن طريق نورو، كانَ دارين قد تعرّفَ عن قرب على ذلك الدب، صاحب المتجر الشرقيّ. بسبب فصلٍ سخيف، جدّ في عامٍ سابق، عزمَ دارين أمرَهُ ألا يقترب مرةً أخرى من المتجر. مع مرور الأيام، وتكرار لقاءاته بالرجل في " الحجرة الحمراء "، أين تعملُ إمرأته، تغيّر الحالُ بينهما نوعاً ما. في ذلك الوقت، وبفضل الصندوق الأسوَد، إنتقل الزوجان للعيش في فيلا على طرف حي غوتسوندا. في أوقاتٍ متباعدة، كانَ دارين يُدعى لزيارة الفيلا، أين يُضحّى ثمة بحفنة شاي أسود.
وهوَ ذا في طريقه إلى ذلكَ المكان، مَدْعوّاً هذه المرة لوليمة شواء. الفيلا، كانت تبعُد عن مسكن دارين بأقل من عشر دقائق مشياً على الأقدام. الطريقُ المُترب، المحفوفُ بالأشجار، كانَ يؤدي في نهايته إلى فيلا والديّ صديقته الراحلة. غبّ طلاقهما، الذي جرى بعيدَ وفاة جوليا، امتنعَ دارين عن زيارة الفيلا. كانَ الآنَ يُفكّر فيهما طوالَ الطريق، آسفاً على ما سبق من الأيام الجميلة. إلى أن انتصبت الفيلا الأخرى أمام ناظريه، بلون قرميدها الناصع المُبهج. أما الحديقة، فرأى كيفَ أنها تُركت نُهبة للحشائش والنباتات الطفيلية. عددٌ من أشجار التفاح والكمثرى والخوخ، اللائي تدينُ في بقائها على قيد الحياة لأمطار الصيف، تناثرت في الحديقة.
" عجباً! لا أشمّ رائحةَ شواء ولا أرى ناراً موقدة؟ "، فكّرَ دارين باستغراب حينَ أخذوه في جولةٍ عبرَ الحديقة المُحتضرة. أجلسوه من ثم تحتَ مظلّة عريضة، وما لبثوا أن وضعوا أمامه على الطاولة طبقاً صغيراً يحتوي على فاكهة الحديقة نصف العفنة. عندئذٍ، استهل صاحبُ الكرش العظيم بالثرثرة، " الأطول من ثلاثة أشهر بلا خبز "؛ على حدّ تعبير أحدهم. مرّت الدقائق، ثم الساعات.. ولا وليمة شواء ولا أيضاً من خبرٍ عن الغداء. على أية حال، فكّر دارين عندئذٍ، كان النهارُ صيفياً بعدُ وما أنفكّ على طوله. ثم أضحى الوقتُ بعدَ العصر، و المُضيفون غير مكترثين بصوت معدة الضيف، التي تُشبه كتكتة الصوص. أخيراً، نهضَ دارين ليخبّ في خجلٍ على أرض الحديقة، مُتجهاً إلى ناحية الباب الخارجيّ. شيّعه المُضيفان وعلى سحنة كلّ منهما، الصفيقة، ابتسامةٌ تشعّ بالتهكّم؛ وربما الظفر أيضاً.
" جارتك نجوى كانت أمس لدينا، وقالت أنها علمت منك في حجرة الغسيل أنك رسّامٌ "، خاطبت المرأةُ ضيفَها عند الباب بصوتٍ كالتمتمة. وأكملَ الدبُ كلامها، بنبرةٍ تتكلّفُ الإحتجاجَ: " لِمَ رفضتَ رسمَ صورتها، يا أخي، وقطعتَ بذلك رزقاً على نفسك؟ ". تأملَ دارين وميضَ المكر في عينيّ الزوجين، قبل أن يردّ: " هل ضيفتموها الشواءَ على الفحم، أم أنها شبعت من ثمار حديقتكم؟ ". قال ذلك ضاحكاً، ولم يلتفت مرةً أخرى إلى الخلف.
" إذاً أفتضِحَ سرّنا، أو يكاد، بسبب ولع نجوى المجنونة باللغو "، فكّرَ بحنق وقد أحتضرت الضحكة على شفتيه. بقيَ في خلال الطريق نهباً للهواجس، التي حملها معه من ثم إلى الشقة.

4
ما حدثَ، ألقى بالطبع ظلالاً قاتمة على علاقته بنجوى. إنها أنكرت قطعياً إفشاءَ سرّهما لأيّ كان، ولو أنها استدركت مُغمغمة: " أما حديثي عن لقائنا الأول في صالة الغسيل، فإنه لا يعني شيئاً ". أخرجه كلامها عن طوره، فسألها مُحتداً: " ولأيّ داعٍ كانَ ذلك الحديث، وما مناسبته؟ ". وإذا بها تهتاجُ بدَورها، فتصرخُ بغضب: " كفّ عن هذا التقريع، فهل من إمرأة تفضح نفسها؟ إنك رجلٌ ولن يضيرك شيءٌ لو أفتضحنا، ولكن التبعة كلها تقعُ على رأسي "
" مع ذلك، لم أسمع جواباً على سؤالي؟ "
" لِمَ فتحتَ التحقيقَ عقبَ المضاجعة، وليسَ قبلها؟ ألديك أيضاً جوابٌ على هذا السؤال؟ "، قالتها في هزء. ثم ما أسرعَ أن فاجأته بمعلومةٍ، كانَ قد غفلَ قبلاً عن التفكير فيها. ابتدأت بالقول: " قُلْ أنك مللتَ مني، وأنك تسعى للإرتباط بسِلْفتي المُطلقة "
" سلفتكِ المطلقة؟ مَن تكون هذه؟ "
" نادين! "، ردّت وهيَ تحدجهُ بعينين مُشتعلتين بالغيرة. بقيَ مبهوتاً مُحتاراً، طالما أنه لم يسبق أن فتحَ قلبه لأحد. فسألها وقد أجتاحه الفضول: " مَن أدخلَ برأسكِ هذا الكلام؟ "
" رأيتكما بعينيّ، ثمة في الحافلة الكبيرة، تتبادلان حديثاً حميماً "
" تبادلنا آنذاك بعضَ عباراتِ المجاملة، لا أكثر. وفي ذلك الوقت، كما أذكر، لم يكن لديّ علاقة بك "
" إنك شبعتَ مني، وستهرع إليها غداً! "
" دعكِ من هذه الغيرة، المجنونة. لقد تكلمتُ معها مرةً واحدة، وبالكاد كنتُ أعرفُ من تكون هيَ "
" لقد أعطيتها الكرتَ الخاص بك، على أمل مُواصلة الحديث هاتفياً "
" عندَ ذلك، قررتِ أنتِ أنك أحقّ منها بذلك الحديث؟ "، تساءلَ ساخراً. كأنما خجلت نجوى من التفوّه بذلك الإعتراف، فأمسكت عن الجواب. دونَ نأمة أخرى، بادرت إلى إرتداء ثيابها. تحوّطاً، كانَ من عادتها أن تمكثَ دقيقةً وراء باب الشقة للتلصص عبرَ العين السحرية. لكنها مضت الآنَ لا تلوي على شيء، صافقةً البابَ بعنف. شعرَ بنوعٍ من الراحة النفسية غبّ ذهابها، وتمنى لو أنها خرجت نهائياً من حياته: " كانت إمرأةُ نزواتٍ، تفتقدُ لأدنى حدّ من الثقافة. ولم تكن تترك في نفسي، كلّ مرةٍ، إلا الشعور بالتفاهة والخواء "، فكّرَ دارين على الأثر. لكنه طفقَ يستعيدُ كلامها عن نادين، وكانَ قد أقتنعَ بأنها عمدت إلى تدبيرٍ ما كي تجعلها على حَذرٍ منه.
مرّت الأيامُ، وطالت الجفوة بينه وبين عشيقته. في المقابل، لم يبدُ أنّ سرّ علاقتهما يُمكن أن تلوكه الألسنُ. عليه كانَ أن يطمئنَ، لولا أنّ حاجته الجسدية أضحت أكثر إلحاحاً. كانَ قد رسمَ لها عدة أسكتشات، وكل مرةٍ في وضعٍ عارٍ مُختلف. دأبا آنذاك على قطع الرسم بالقبلات، وأحياناً بالهجوع في السرير لمواصلة نوبات الجماع. في حالة الحرمان المَوصوفة، راحَ يُقلّب الدفترَ المُحتوي على تلك الرسوم. بالرغم من خفّة رأسها، فكّرَ دارين، فإنها كانت لا تُبارى بممارسة الحب. لم يسبق له أن عاشرَ إمرأة بهذا الشبق، ولا بمَن هيَ قادرة مثلها على إمتاع شريكها. قالت له ذاتَ مرةٍ، أنها ليست كذلك مع رجلها: " منذ البدء، أدركتُ أنّ حظي سيكونُ سيئاً. ففي ليلة الدخلة، وبينما كنتُ متأججة الجسد، عكفَ على القيام لأداء ركعتين. لقد دَعاها، صلاةَ الحمد على نعمة الستر. يا لهُ من أبله! ".
مع مضيّ الوقت، أمسى جسدُهُ أقلّ تطلّباً. لقد هدأت نفسُهُ بهذه الفكرة، وهيَ أنه في بداية الخريف سَيَحظى بالتعرّف على العديد من الفتيات، الزميلات في معهد الفنون؛ ويُمكنه عندئذٍ نسجَ علاقة مع بعضهن. لكنه توقّعَ سَلفاً، وليسَ دونَ شيءٍ من التشاؤم، أنهن على الأغلب سويديات. تجاربُهُ مع سليلات الفيكينغ، على قلّتها، لم تكن مُشجّعة. إنهن وكما لو صُهرنَ في بوتقةٍ من المشاعر العاصفة، المُتضاربة: المزاجية، القلق، العصاب، العاطفية، الإستهتار، المجون، العدمية.. الخ. كأنما الواحدة منهن تنظرُ إلى نفسها في مرآةٍ مهشّمة، لتنعكس فيها أجزاءٌ من تلك المشاعر، يستحيلُ لَحْمِها. إنه يستغربُ، حقاً، كيفَ كادَ أن يقعَ صريعَ إحداهن. تلك كانت جوليا، المثال الأوضح لإحدى دُمى البوتقة والمرآة. كانت من أبٍ إيطاليّ، بيد أنها أصرّت على سويديّتها عقليةً ومسلكاً وروحاً. حتى بعد رحيلها، بقيت جُرحاً مَفتوحاً في كرامة دارين: بالرغم من حكاية الحب التي جمعتهما، لم يتوصل أبداً لمعرفة حقيقة مشاعرها نحوه. الأكثر إيلاماً، أنها فضّلت عليه مخلوقاً رقيعاً ( تاجرَ مخدرات فوقَ ذلك! )، أوصلها إلى حتفها وكانت بعدُ في مستهل ربيع عُمرها؛ بل كانت أروعَ أزهار الربيع.
صباحاً كانَ دارين ما فتأ في الفراش، يستعيدُ مشاهدَ الحلم، حينَ رنّ الهاتف. إنسابَ على الأثر إلى سمعه صوتٌ غريب، ومألوفٌ في آنٍ معاً، صوتٌ يُخاطبه في نبرةِ خفّة تكاد أن تكونَ متهكّمة: " إنك انتظرتَ طويلاً كي أكلمك، أليسَ حقاً؟ "
" مَن معي؟ "
" نادين! "، ردّ الصوتُ ومن ثمّ إنطلقت ضحكةٌ مُغتصَبة. أدركَ حالاً أنها نجوى، مَن تعمدُ إلى هذه التمثيلية السخيفة. كانت مدفوعةً، ولا ريب، من غيرةٍ لا معنى لها. وكانت ردّة فعل دارين، أنه أعادَ سماعة الهاتف إلى مكانها. إنكفأ إلى الفراش، نافخاً بغيظ. وإذا به يتمنى لو أنها تقتحمُ عليه الحجرةَ في هذه اللحظة، كعاصفةٍ عاتية من الشبق والرغبة والغلمة. لكنها فعلت ذلك، حقاً، بعد ثلاثة أيام.
كانت الشمسُ قد انسحبت إلى ما وراء الأفق، تاركةً المكانَ للظلال، لما دخلَ دارين إلى المخزن الرئيس في سنتر غوتسوندا. بسبب غلاء المواد عموماً في هذا المخزن، فإنه قلّما تبضّعَ منه. إلا أنهم أجروا تخفيضاتٍ جيدة طوال الأسبوع، أملاً هذه المرة في كسب الزبائن الشرقيين، الذين كانَ أكثرهم من سوء الحال ( وبعضهم من التقتير ) أن تجاهلوا وجودَ المخزن في ظهرانيهم. بينما كانَ دارين يعبرُ صفوفَ الأرفف، المختص كلٌ منها بنوع معيّن من المواد الإستهلاكية، لمحَ دميةً كبيرة حمراء، شبيهة بإمرأة يعرفها. رآها تتمايلُ ثمة، في زاويةٍ يؤثرها الأطفال، كونها تحتوي على كل ما يطيب لهم من أنواع السكاكر والشوكلاتة. ما لبثَ أنّ ميّزَ هيئةَ الدُمية، وإذا هيَ نجوى. كانت تأتلقُ تحت أنوار السقف، القوية المُبهرة، بهيئةٍ غريبة وجديدة عليه كلّ الجدّة: رآها ببنطالٍ في لون قرمزيّ، وكانَ من الضيق أنّ ردفيها تكوّرا بطريقةٍ تخلبُ عقلَ مَن كانَ له عقلٌ بعدُ. وبنفس اللون، ظهرَ جاكيتها الصيفيّ القصيرُ ذو الجيب المُطرّز على كلّ جانب. أيضاً برزَ صدرُها في شكلٍ صارخ، بكبر النهدين واستدارتهما البديعة، بالرغم من أنهما أرضعا ثلاثة أطفال.
" لا تتكلّم معي أمام البنت، لأنّ والدها معتادٌ على استجوابها عندما تخرج هيَ معي "، قالت له بصوتٍ منخفض حينَ حاذاها وحيّاها. الإبنة، كانت في نحو السابعة من عُمرها. ولا شكّ أنها تُشبه أباها، ببشرتها الحنطية وقسماتها الكبيرة. قال دارين لمَن كانت عشيقته إلى الأمس القريب، بصوتٍ هامسٍ بدَوره: " أرغبُ برؤيتكِ، لكي نحاول إزالة سوء الفهم بيننا ". طرفت عينيها بحركة إيجاب، ومن ثم شيعته بابتسامة ساخرة: لقد انتبهت ولا ريب لصوته، المُختنق بالإنفعال تأثّراً بمرأى هيئتها الغريبة، المُثيرة.
أقبلَ الصباحُ، وكانَ دارين قد أفاقَ مُبكراً على غير العادة. عقبَ خروجه من تحت الدوش، شاءَ أن يستقبل عشيقته ببرنس الحمّام؛ هيَ من صادفته بنفس الهيئة، حينما جاءت شقته لأول مرة. كأنما حَدَسٌ في الأعماق، أبلغه عندئذٍ أن هذه ستكون المرة الأخيرة. وبالطبع، لو وفت بوعدها وحضرت. قلقاً ومتوتراً، أشغلَ نفسه بعدئذٍ بمشاهدة مسلسل كاوبوي إجتماعيّ أمريكيّ، سبقَ أن تابعَ بعضَ حلقاته اليومية. كانَ المسلسلُ في منتصف القصة تقريباً، لما صدرَ صوتُ رنين جرس الباب. هُرع ليفتح لها، وما أسرعَ أن أحتواها بحضنه. قالت له بدلالٍ وغنج: " مَهلاً، ألن نتكلم في مشكلتنا بادئ ذي بدء؟ "
" العشاق، معتادون على حل مشاكلهم في الفراش! "، ردّ وهوَ يلهثُ. عمدت عندئذٍ إلى خلع ملابسها، وذلك بعدما رمت عنه البرنسَ بطريقة من ينضو الغطاء عن سيارته كي يركبها. لكنه هوَ من سيتعهّد الركبَ طوال الوقت، من أمام ومن وراء. وفي الأثناء، كانت صيحاتُ شبقها تكاد تنتحرُ بالقفز عبرَ الحجرة إلى الشرفة ومن ثم إلى الشارع.

5
الصالون، المُستعمل أيضاً كحجرة نوم، كانَ مفصولاً عن الشرفة بأربع لوحات كبيرة منفصلة من الزجاج، تشكّلُ النافذة المزدوجة مع حيّز ضيّق في كل جانب للجدار. أيضاً باب الشرفة، كانَ قسمه الأعلى من الزجاج. كون دارين يُفكّر بعدُ في شراء ستائر مناسبة لتلك النافذة المزدوجة، فإنّ عشيقته كانت تتنقل بحذر في الحجرة كي لا تظهرَ لأعين سكان العمارة المُقابلة. عادةً، كانت لا تنهضُ من الفراش قبل مبادرة دارين لارتداء ملابسه. فإنها كانت شبقة لا ترتوي، طالما أنّ الوقتَ ما ينفكّ غير متأخّر للعودة إلى مسكنها. في غياب رجلها بالعمل، كانت هيَ من تتعهّد أمرَ مُصاحبة الأولاد إلى مدارسهم ومن ثم تعودُ بهم إلى البيت. تزّمُت الزوج، عليه كانَ أن يخفتَ تدريجياً فيما يخصّ الأمور العملية، لدرجة أنه باتَ يسمحُ لها بالذهاب لوحدها لتبضُّع التموين اللازم.
إذا بها اليوم تغيّرُ عادتها، فتنهضُ قبله لتكسي عُريها. وكانت في هيئة الأمس، التي سبقَ ولحظت كم أثارته حينَ التقيا مصادفةً في المخزن. قال لها، مُداعباً ردفيها المحشورين تواً في البنطال القرمزيّ: " يلوحُ أنكِ إلى الأخير قد نجحتِ في ترويض رجلكِ، حتى رضيَ أن تخرجي بهكذا ملابس؟ "
" دخلنا أولاً في معركة، لحين أن قبلَ ذلك على مضض. قلتُ له، أن نساءَ أخوته يخرجن على آخر موضة؛ ففيمَ أظلُ لوحدي مختنقة بالحجاب والجلباب، ونحنُ فوقَ ذلك في بلد الحرية "
" إنه من مُريدي شيخ المسجد، الذي يدعو الحريةَ باالشذوذ "
" إنهم بأنفسهم، يُمارسون الشذوذ مع نسائهم بين أربعة جدران "
" المُهم أن رجلكِ تنازلَ عن تزمّته بهذا الشأن، طالما أنك مُلتزمة بعدُ بالحجاب "
" الحجابُ أيضاً، سأجعله غداً خرقةً أمسحُ بها أرضَ الشقّة! "
" لا معنى أصلاً للتمسّك بالحجاب، وأنتِ تخرجين بهيئتك الجديدة "
" هدفي من تنكيده، أبعدَ من مسألة الملابس "، قالت ذلك فيما تحدّقُ بعينيّ عشيقها عن قرب. ثم أخذته على حين غرّة، بأن أوضحت ببساطة: " سأحمله على أن يُطلقني، لنعيش معاً أنا وأنتَ كزوجين سعيدين ". وجهُها المُتألق عندئذٍ بالبُشر والأمل، ما عتمَ أن إضطربَ بملامح القلق عند ملاحظتها لشحوب وجهه. إنّ كلمة واحدة، عليها كانَ أن تبلبلَ العاشق وكما لو أنها سيفٌ مُسلّط على رأسه: " لم يسبق لها حتى التلميح بموضوع الزواج، فماذا دهاها اليوم؟ "، فكّرَ في غمّ وتوجّس. كونها على شيءٍ كثير من الشراسة، فقد حقّ له أن يحذرَ من ردّات فعلها؛ بل وأن يخشاها.
تساءلت في هدوءٍ مُتكلّف، وقد استبطأت رأيه: " ما بك؟ لمَ لا تعلّق على كلامي؟ ". بسبب إنفعالها، غفلت عن وجودها عند النافذة، فبدت بقوامها المَشيق كأنها ستارة من الديباج الأحمر. قال لها، مُغيّراً دفّة الحديث: " تنحّي عن النافذة "
" لم أعُد أبالي بأيّ أحدٍ، كائناً من كان! "، ردّت بنزق. فهمَ ولا غرو معنى جملتها الأخيرة، المُتواشجة مع ما عرضته للتو. كانت ما تفتأ تنتظرُ جوابه، وإذا هوَ ينهضُ بعريه نحو الفترينا، المنتصبة في صدر الحجرة بوصفها قطعة الأثاث الوحيدة، المُعتبَرة. صبّ لنفسه قدحاً من الويسكي، ثم انتقلَ إلى الجلوس هذه المرة على الأريكة. كان نادراً ما يشربُ نهاراً، اللهم إلا لو كانَ الغداءُ يحتفي بصُحبة النبيذ. طفقَ ينهلُ من القدح، وكأنما هوَ الكائنُ الوحيد في الحجرة. قالت له على الأثر، بنبرةٍ ساخرة مع بسمة مغتاظة: " تحتاجُ إلى الشراب، لتقوّي قلبك. أليسَ صحيحاً؟ "
" الشيءُ الصحيح، لنا كلينا، أن تستمرَ علاقتنا كما هيَ "، ابتدأ يقول لها حينَ نبرت لمقاطعته في هياج: " إذاً أنتَ لا تحبني؟ إذاً أنا بالنسبة إليك، مُجرّد مَطيّة للجنس؟ ". شاءَ أن يُهدئها، باعتماد نبرة مُظهّرة بالإخلاص: " أنا أحبكِ، بالطبع. الزواجُ لا يعني الحب، والدليل هوَ نوعُ علاقتكِ مع رَجُلكِ "
" لا أفهمُ شيئاً من هذه الفلسفة "
" سأبسّط لكِ الأمرَ، يا عزيزتي، فاسمعيني دونَ انفعال. نحن نقيمُ في بلدٍ مُتمدن، وأنت نفسك قلتِ قبل قليل بأنّ المرأة الشرقية عليها أن تفيدَ من جو الحرية هنا. الكثيرُ من السويديات، كما تعلمين، يعشنَ حياةً مزدوجة؛ مع زوجٍ من ناحية، ومع عشيقٍ من ناحية أخرى! "
" هذه هيَ عاداتهم، والمرأة الشرقية ليسَ بوسعها فعلُ ذلك إلا لو أرادت أن تكونَ منبوذة من الجميع بما فيهم أولادها "
" حسنٌ أنك تفكرين بأولادكِ، وهم ثلاثة. لمَ لا تتكلمي أيضاً عن الرجل الشرقيّ، وهل هوَ مُلزمٌ بتربية أولاد رجلٍ آخر؟ "
" إنني مُستعدةٌ أن أرمي أولادي لأبيهم، لو رأيتهم أنتَ عائقاً أمام زواجنا "، قالتها بنبرةٍ قاطعة وصوتٍ مُصمّ. أمسك دارين عند ذلك عن الكلام، كونه وجدَهُ عبثاً. لقد سدّت عليه كل الطرق، إلا الطريق المُفضي إلى عقد النكاح بوساطة شيخ المسجد.. ذات الشيخ، الذي تمحضه هيَ الكراهية مع جميع مُريديه؛ وبالأخص زوجها.
مُجدداً، خرقت نجوى الصمتَ المُتطاول. قالت فجأةً بهدوء، فيما يدها تمتد إلى وسط عشيقها العاري: " حبيبي، أريد منك أن تفكّرَ في ما عرضته عليك بتؤدة؛ وبعقل أيضاً ". أستمرت في العبث ثمة، ولاحَ أن مرأى شيئه المُنتعظ رويداً جعلَ جسمها يتأججُ مرةً أخرى بالرغبة. في مقابل ذلك، كان دارين في خاتمة المُجادلة زاهداً بالمُعاشرة: كانَ سيقترفُ غشاً لا يقبله خلقه، لو بادرَ إلى تلبية رغبتها الجنسية فيما هوَ يفكّرُ جدّياً بهجرها إلى الأبد. وفي حقيقة الحال، أنه كانَ أيضاً مُرْتوٍ بعدَ أيامٍ من الظمأ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في