الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة تأملية متعجلة في قصيدة (الجنة الضائعة) للشاعرة التونسية المتميزة د-سعيدة الفرشيشي

محمد المحسن
كاتب

2023 / 6 / 27
الادب والفن


"تجلّيات من الإبداع وصلاة من العشق..فوق بواسق السحاب.."

تصدير : ما القصيدة إلا الفضاء الرمزي،الذي يعيد فيه الشاعر تكوين العلاقة العاطفية،التي عاشها بغية الوصول إلى الجنة الخالدة : "ما وراء الحب".وليس أعمق وأكثر أهمية من وراء الحب إلا لقاء الذات.

لم يعد يكفي أن تقول عن بيت من الشعر أو قصيدة أنها خفقة قلب أو دفقة شعورية كما كان يحلو لمن جعلوا الشعر من قبيل الوجدان المحض ولا شيء غير هذا،وقاسوا قيمة القصيدة بما تحتويه من وجدان صاحبها،وكان هذا القول في حينه ثورة على كلاسيكية شوقي وحافظ على أنه -أي هذا الرأي-لم يكن نبتا عربيا خالصا وإنما اتبعوا فيه المدرسة الإنجليزية في النقد إبان الربع الأول من القرن العشرين ثم أحدثت المدرسة النقدية الفرنسية ثورة نقدية على يد " كلود ليفي شتراوس " مذ أصدر كتابه الفذ " المدارات الحزينة " سنة 1955م متأثرا بنظرية " دي سوسير " في اللغة حيث جعلها نسقا قائما وحده مبرزا ثنائية الدال والمدلول..
ولم يقدر لهذه المدرسة الاستمرار في فرنسا إذ ماتت بالسكتة سنة 1968م وإن انتقلت إلى بلادنا العربية في العام التالي لموتها او قبل ذلك بقليل - لست أذكر بالضبط فأنا أكتب من الذاكرة - غير أني أذكر أن مقالا للأستاذ محمود أمين العالم هو الذي ابتعثها من مرقدها، وقوبلت بما يقابل به كل جديد وإن كان هذا الجديد في بقعة أخرى من بقاع الأرض جيفة لا أكثر ..
أقول : لم يعد مقبولا ان نقول عن قصيدة أنها نفثة مصدور أو خفقة قلب ولا شيء غير هذا خاصة إذا كنت أمام نص للشاعرة التونسية القديرة د-سعيدة الفرشيشي والتي تصل-في بعض قصائدها (وهذا الرأي يخصني) -إلى كنه الأشياء وحقائقها المجردة أو قل تصل إلى العلاقة بين الأشياء وقوانينها الجامعة وهذا غير كائن لغير الشعراء الكبار كجيتة وأليوت وطاغور وغيرهم من الكبار الذين يحلقون في فلك الفن الأعلى ..
في قصائدها بوح ناي وأنين وتر،يصدران نغماً واحداً يحمل نبضاً شعورياً شديد التشابه،يفيض من الجوانح نرجساً..
هي شاعرة من طراز خاص أسهمت في رفد الساحة الشعرية التونسية بإنتاجها الأدبي المميز، رائعة بكل ما تعنيه الكلمة،تجعل نبضات قلبك تخفق خاصة في قصائدها الوجدانية،قديرة ومتمكنة وهى تعزف تابلوهات فنية راقية في مشاهدها الفنية،بكل تميز وألق،وبنكهة خاصة تلامس آمالنا وآلامنا .
من خلال قراءة قصائد هذه الشاعرة التونسيةالسامقة د-سعيدة الفرشيشي،يُلاحَظُ أنها تؤمن أن الشاعر روح الأمة، ”وأن مهمته في أرضه ووطنه،أن يزرع بين أحشائها بذور الأمل (أنا لست دارية أين أمضي ولكنني ما فقدت بدربي الأمل..) حتى إذا سمت داخله وصارت ظلالها وارفة،أفاض بها على المجتمع،وهذا لا يتوفر إلا بالنص الجيد،الذي يتصف بتقنيات الشعر الرفيعة “، فالشاعرة تعمل على تطوير آليات نصوصها،ماهرة في اقتناص الفكرة والصورة، وَتَعَدُدِ طرق التعبير والتخيل،التي تميز الشاعر المتفوق عن غيره .
نتابع معا:
الجنة الضائعه
هي الساعة التاسعه
تدق لتأكل أيامي الجائعه
هي الشمس قد لونت بشفيف الضيا غرفتي الرائعه
أخاطفة أنا حلمين في لحظتي اليانعه
فحلم أمارس فيه انذلاقي عصفورة حرة وادعه
وحلم ستحملني الشمس فيه نهارا الى جنتي الضائعه
***
هي الساعة العاشرة..
أنا لست دارية أين أمضي ولكنني ما فقدت بدربي الأمل
فخذني اليك حبيبي لعلي اذا انت راقبتني سوف يوما نصل
وأحرى بنا ان نطول الفراديس في الآخره..
هي الساعة الصفر..
لا ترحل الآن عني
فأنت الذي قد زرعت الحقيقة في خلدي بعد شكي وظني
أنت الذي عشت منه كما عاش مني
أصارحك الآن أني..
أصير كلا شيئ ان أنت يوما تخليت عني
***
غدا سوف نكمل فصل الروايه
فنم يا حبيبي قرير العيون
فقلبي الذي بين جنبيك ينبض لا لن يهون
فقد صدق الوعد كي يلتقيك بأحلى نهايه

سعيدة الفرشيشي

تنتمي قصيدة «الجنة الضائعة»إلى الشعر الشفيف،أي غير المنغلق على معانيه ودلالاته،فهو يهبك منذ لحظة القراءة الأولى ما يُمتِع الوجدانَ،ومع القراءة الثانية والثالثة تتبدى جواهره ولآلؤه المضيئةُ بالمعاني،حيث يتمظهر الحب ويتبدى في تجليات متعددة ويتخذ أشكالا كثيرة،إذ يتجلى في شكل الشوق،وفي شكل الحنين،وفي شكل التوحد مع المحبوب،وهذا ملمح آسر في هذه القصيدة،خاصة أن الشاعرة د-سعيدة الفرشيشي عبّرت عن هذه المعاني بلغتها الشعرية الشفيفة والأخاذة.
ومن هنا فقصيدة «الجنة الضائعة»تترجم كتابةٌ تنطلق من الذات وتلوذ بها وتفيء إليها لتشيّد شعرية موسومة بالذاتية المفرطة،تنساب في دفق وجداني،اتخذ من التصوير والصورة الشعرية وعاء لتعبير الذات الشاعرة عن أحاسيسها ولواعجها،وهي صور تختبر هشاشة هذه الذات أمام واقع تتصادم معه.
تنطلق اللغة الشعرية في هذه القصيدة للتعبير عما يُفتعل في النفس من انفعالات،فنجد الذات الشاعرة تُملي على نفسها بعضا من مجازات دلالية متخطية اللغة المعجمية رغم مباشرة الحوار،وتظل لغة السهل الممتنع هي اللغة المهيمنة على النص الموسوم-كما أشرت- بـ”الجنة الضائعة”.
حين قراءتنا لهذا النص نلاحظ تصاعد المحتوى الشعري بقدرة الإحالة إلى ما هو أرحب شعرية وأكثر دفقًا في السياق الرمزي.أول ما نقرأ “العنوان” بوصفه أول مفتاح إجرائي يمنح المتلقي اختراق مغالق النص،إذ يمثل “علاقة دالة تكثّف البنية الكلية””1” للنص، تظل دلالته أعلى سلطة نصية باذخة الحضور.
ومن هنا يغدو العنوان دالا،فـ»الجنة الضائعة»ليست سوى ذلك المحبوب الذي ينبلج بين الغيوم كي يضيء درب الحبيبة ووجدان الشاعرة،و»الجنة الضائعة»هو العشق والمعشوق،فكلاهما وجهان لإحساس واحد.،والذات الشاعرة لا تستكين إلى المحبوب إلاّ في لحظات الوحدة.أمّا طيف العشق فهو طيف العاشق.
في مشهد قدسيّ يتجلّى العشق الرؤيويّ (Apocalyptique) أي المرتفع عن العالم والخارج عنه.هي رؤية العاشقة للمعشوق غير المرتبطة بالنّظر وإنّما المرتبطة بالإحساس العميق والبصيرة.العاشقان في العالم يهيمان في الحالة العشقيّة الّتي يرمز لها الحلم.ولو أنّهما ما برحا مكبّلين بعنصريّ الزّمان والمكان،إلّا أنّهما يستظلّان بأنوار الأبد كامتداد للحالة العشقيّة الكاملة. .."أخاطفة أنا حلمين في لحظتي اليانعه
فحلم أمارس فيه انذلاقي عصفورة حرة وادعه..وحلم ستحملني الشمس فيه نهارا الى جنتي الضائعة.."
العشق حقيقة مفعمة بالألم،والخوف،واللّهفة،والشّوق.مقتضياته شديدة،وأحكامه قاسية لطيفة، ومنطقه صارم قويّ عذب رقيق. لا تريد الشّاعرة المكوث عند الحدود الأرضيّة والاكتفاء بعاطفة مؤقّتة تشبع حاجة أو رغبة،بل تريد أن تحيا حياة عشقيّة كاملة متكاملة تعتقها والمعشوق من القيود الزّمنيّة."فخذني اليك حبيبي لعلي اذا انت راقبتني سوف يوما نصل
وأحرى بنا ان نطول الفراديس في الآخره.."
ولأن لغة الشعر تتجاوز العزلة لترتمي في أحضان المشاركة،فإن الذات الشاعرة تمنح المتلقي مشاركتها بوحا يختلج النفس بعمق يؤثت لمشاهدة تصويرية آنية حينا واسترجاعية حينا آخر، ويشيد حوارا روحيا يتجلى في عالم خاص تُشخّص فيه القصيدة لتكون هي المخاطَبة الحاضرة وحوارها هو المهيمن على النص.
من الجدير-في هذه القراءة المتعجلة-أن نتبيّن معالم البنية الصوتية للتشكيل اللغوي في هذه القصيدة في محاولة لربط هذه المعالم بما لها من دور في إنجاز التجربة،وفي تحقيق قدرتها التأثيرية،فالملامح الصوتية التي تحدّد الشعر قادرة على بناء طبقة جمالية مستقلة (1)، والبنية الصوتية للشعر ليست بنية تزينية،تضيف بعضا من الإيقاع،أو الوزن إلى الخطاب النثري ليتشكّل من هذا الخليط قصيدة من الشعر،بل هي بنية مضادة لمفهوم البناء الصوتي في الخطاب النثري، تنفر منه،وتبتعد عنه بمقدار تباعد غايات كل منهما،وهذا يعني أنّ إرتباط الشعر بالموسيقى إرتباط تلاحمي عضوي موظّف،فبالأصوات يستطيع الشاعر أن يبدع جوّا موسيقيا خاصا يشيع دلالة معينة،واللافت أنّ هذه الآلية الصوتية غدت في نظر النقاد مرتكزا من مرتكزات الخطاب في الشعر العربي الحديث،وهذا المرتكز يقوم على معنى القصيدة الذي غالبا ما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر ما يثيره بناء الكلمات كمعان(2).
لقد ستطاعت الشاعرة-د-سعيدة الفرشيشي-ومنذ بواكير قصائدها الأولى أن تحقق معطيات وخصائص أسلوبية من الفنون الحكائية والحوارية والسردية والدرامية،في شعرها كمظهر من مظاهر الشاعر الحداثي في الإبتعاد عن المرتكزات الغنائية في القصيدة،والإتجاه نحو التكوينات الموضوعية التي تحصر شعرية النص فيما تمثله من إطار فني أومضمون كلي في سياق من الإدراك الجديد لبنية القصيدة وهندستها،وتماسك وحداتها الشعرية والدلالية والإيحائية التي تفضي إلى فاعلية هذه المعطيات والخصائص التي إستخدمها الشاعر العربي المعاصر،وأفادت منها في شد نسيج تجربتها الشعرية وتكثيفها وتعميقها بالمواقف المتضادة والرؤى المتصارعة التي تتغلغل داخل فضاء القصيدة الكلي من خلال إثرائها بأساليب تعبيرية جديدة تستقيها من الفنون والأنواع النثرية المجاورة،والجميلة الأخرى ومن أهمها (القص والمسرح والدراما) فالقاص أو الدرامي عموما،يعرف بما يتملكه قدرات النقطة التي يدلف منها إلى موضوعه أوالحدث الذي يتحتم ألا يسبقه شيء..
على سبيل الخاتمة:
إنَّ القراءةَ المتأنية لقصيدة "الجنة الضائعة"،تظهر بشكلٍ جلي أنَّ عاطفةَ الحب الصادق المقرونة بمسحة الجمال تشكل أبرز الينابيع التي أثارت قريحة الشاعرة -سعيدة-الإبداعية، وحفزتها على البوح شعراً،إلى جانب تجسيد عواطفها رسماً؛ لذا كان الغزل حاضراً بقوة في أروقة القصيدة..إذ تعكس ما يخالج نفس الشاعرة من مشاعرٍ جياشة ومتدفقة بالوجد والحب، والتحرق عطشاً وشوقاً صوب الجمال.
وكما قلنا سابقا،فالقصيدة أشبه بالجدار ترسم عليه الشاعرة بورتريه لحبيبها،تختلط فيه ألوان الحلم والكون والمسافات.بالإضافة إلى التركيز على الموسيقى، فقصيدة"الجنة الضائعة" يمكن اعتبارها ملتقى الفنون الجميلة من شعر ونثر وتشكيل وموسيقى.وربما الغرض من خلط كل هذه الفنون،هو خلق فضاء شعري متعدد الأوجه،فاللغة الشعرية ذات الإيقاع الموسيقي الداخلي الرنان، جعلت من هذه القصيدة أغان للجمال والحياة والحب العاصف.فالموسيقى ليست حاضرة فقط كتيمة،وإنما حاضرة بقوة في إيقاع القصيدة الداخلي والخارجي،وكأننا أمام أغنية تنسجم فيها الأحرف مع القافية.
ختاما أقول:
قد لا أبالغ إذا قلت أنّي لست من الذين يتناولون القصائد الشعرية بأنامل الرّحمة ويفتحون أقلامهم أبواقا لمناصرة كلّ من ادّعى كتابة الشعر،إلاّ أنّي وجدت نفسي في تناغم خلاّق مع هذه القصيدة التي فيها كثير من التعبيرية وقليل من المباشرة والتجريد تغري متلقيها بجسور التواصل معها،مما يشجع على المزيد من التفاعل،ومعاودة القراءة والقول،فكان ما كان في هذه الصفحات من مقاربة سعت إلى الكشف عن بعض جماليات هذه القصيدة مربوطة بالبنية اللغوية التي عبّرت عنها..
وإذن؟
تناوبت إذا في هذه القصيدة السردية التعبيرية للشاعرة التونسية السامقة د-سعيدة الفرشيشي
لغة التجريد واللغة التعبيرية والسرد المشحون بالزخم الشعوري،وبلغة قاموسية بألفاظ تعكس ما في روح الشاعرة وما في روح القصيدة،فخلقت لنا بذلك صوراً حيّة برّاقة وببوح عميق.
وقصيدة«الجنة الضائعة» تنبض بملامح وجماليات فنية أخرى وتشابكات استعارية ودلالية عديدة مطرزة بالعشق،استطاعت بها الشاعرة أن تخلق عالما شعريا متناغما ومنسجما،مما يعد بقصائد أخرى آتية بزخم شعري أنضج.

محمد المحسن

الهوامش :
1- اللغة العليا ص:116جون كوبن.ترجمة أحمد درويش.ط2 القاهرة 2000
2- البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ص:38-ط-الإسكندرية 19903-اللغة العليا-ذُكٍر سابقا-ص:74








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تششيع جنازة والدة الفنان كريم عبد العزيز


.. تشييع جثمان والدة الفنان كريم عبد العزيز.. وتعديل موعد العزا




.. ما اقدرش اتخيل البيت من غير أمى.. كلمات حزينة من الفنان كريم


.. الفنان كريم عبد العزيز يمنع التصوير منعاً باتاً في جنازة وال




.. سكرين شوت | الذكاء الاصطناعي يهدد التراث الموسيقي في مصر