الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نَظَرِيَّة الدَّوْلَة

عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)

2023 / 6 / 27
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


(الصِّيغَة المُحَسَّنَة والمُحَيَّنَة رقم 10)
فيما يلي، سأعرض أطروحات في مجال نظرية الدولة. وقبل هذا المقال، نشرتُ دراسة سابقة تَحمل عُنوان «الدَّوْلَة كَحِزْب سِيَّاسِي سِرِّي». وَاِنْطَلَقْتُ فيها من دِرَاسَة رِسَالَة مُصَنّـفَة «سِرِّيَة». وهي وَثِيـقَة مُسَرَّبَة على شَبَـكَة الْإِنْتِرْنِيت. وهذه الرسالة هي في أَصْلِهَا وَثِيقَة صَادِرَة عن أحد المسؤولين في وزارة الدّاخِلِيَة، في جهاز المُخَابَرَات المُسَمَّى: "المُدِيرِيَة العَامّة لِمُرَاقَبَة التُـرَاب الوَطني" (DGST) بالمغرب. وَمِن خِلَال تحليل هذه الوثيقة، اسْتَنْتَجْتُ عَشْرَةَ اِسْتِنْتَاجَات نَظَرِيَة عَامّة. وَتَنْطَبِقُ هذه الاستنتاجات على مُجْمَل الدّول الرَّأْسَمَالِيَة في العالم. وَهذه الْاِسْتِنْتَاجَات هي بِمَثَابَة قَوَاعِد عَامَّة. وَتَدُور حَوْل طَبِيعَة الدّولة، وَآلِيَّات اِشْتِـغَالِهَا، كَظَوَاهِر مُجْتَمَـعِـيَة عَامَّة، وَمُتَكَرِّرَة، وَمُتَوَاصِلَة. وَمِن خِلال تَحْلِيل تلك الرِسَالَة السِرِّيَة، أَثْبَتْتُ أنّ الدَّوْلَة الرَّأْسَمَالِيَة (أو بعض أجهزتها) تَمِيل دَائِمًا، وَتِلْـقَائِيًّا، إلى أن تَـعْمَل كَأَنّها "حِزب سِيَّاسِي سِرِّي". (وَأَثْنَاء أَزْمَة الدَّوْلَة، تَـعْمَلُ هذه الأخيرة كَأَنّها مَنْظُومَة مِن الْأَحْزَاب المُتَنَاقِضَة والمُتَـعَارِكَة). وهذا السُّلُوك، هُو ظاهرة مُجتمعية، وَتَتَجاوز وَعْيَ وَإِرَادَة الأشخاص المُتَدَخِّلِين في هذه الظَّاهِرَة.
كَمَا أَثْبَتْتُ وُجُود : ظَاهِرَة تَدَخُّل الدّولة في الانـتخابات العامّة؛ وَظَاهِرَة مُحَاوَلَة إعادة تَوْجِيه أَصْوَات النَّاخِبِين، مِن الأحزاب المُعارضة، إلى الأحزاب المُنَاصِرَة للنظام السياسي الـقائم؛ وَظَاهِرَة تَسْرِيب عُمَلَاء أجهزة المُخَابَرَات داخل الأحزاب والنـقابات والجمعيات المُعَارِضَة، وذلك بِمُبَرِّر صِيَّانَة أَمْن الدّولة، وَبِهَدَف التَحَكُّم في تَطَوُّرِ القِوَى السياسية المُعارضة؛ وَكَذلك ظَاهِرَة مُرَاقَبَة الْآرَاء السياسية التي تَرُوجُ دَاخِل جماهير الشّعب؛ وَظَاهِرَة العَمَل على تَـغْيِير هذه الْآرَاء نَحْوَ الْاِتِّجَاه الذي يُـفِيد السُّلْطَة السياسية؛ إلى آخره.
والمقال الحَالِي يَسْتَـكْمِلُ الدِرَاسَة السَّابِـقَة. وَفي المقال الحالي، أَعْرِضُ أُطْرُوحَات تَـكْـمِيلِيَة في مَجَال نَظَرِيَة الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة. وَتَسْتَـعْـرِضُ هذه الأُطْرُوحَات القَوَانِينَ الأساسيةَ المُتَحَـكِّمَةَ في تَطَوُّر الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة (كَمُؤَسَّـسَات مُجْتَمَعِيَة). وَأَقْصِد بِـ «الدَّوْلة الرَّأْسَمَالِيَة» الدّولةَ القائمة في مُجْتَمَع يَسُودُ فيه نَمَط الْاِنْتَاج الرَّأْسَمَالِي (وَلَو كان تَبَـعِيًّا لِلْإِمْبِرْيَالِيَة). وهذه الْأُطْرُوحَات هي مُسْتَمَدَّة مِن التُرَاث الفِـكْـرِي الماركسي، وَمن تَجَارب عدد من الثَوَرَات المُجتمعية التي حَدثت عبر مُخْتَلَف بُلْدَان العَالَم. وَأَضَفْـتُ إليها بعض الْاِقْتِرَاحَات النَظَرِيَة التَـكْـمِيلِيَة. وفي ما يَلِي هذه الْأُطْرُوحَات :
1) مِن عَلَامَات الجَهْل السِيَّاسِي، وَضعُ تَطَابُـق بين مَـفَاهِيم «البِلَاد»، وَ«الشَّـعْب»، وَ«الوَطَن»، وَ«الدَّوْلَة»، و«النِظَام السياسي»، وَ«المُجْتَمَع». وَلَا يَخْلِطُ، وَلَا يُطَابِـقُ، بين هذه المفاهيم سِوَى مَن لَا يَسْتَوْعِبُ الفُرُوقَات النَوْعِيَة المَوْجُودَة فيما بينها.
وَمَوْضُوعُنا المركزي هو «الدّولة». وَرَغْمَ ذلك، يَجِب أن نُـقَدِّمَ هنا بعض الْإِشَارَات التَوْضِيحِيَة السَّرِيعَة، حَوْل كلّ وَاحد مِن الكِيَّانَات المَذْكُورَة سَابِقًا، وَلَوْ بِـعُجَالَة فيها قَدْر مِن التَجْزيء وَالتَبْسِيط. فَـأَقُول أنّ مَـفْـهُوم «البِلَاد»، أو «البَلَد»، يَـعْـنِـي مَنْطَـقَـة جُـغْرَافِيَة، تَتَمَـيَّـزُ بِحُدُود دُوَلِيَة مَـعْـمُول بها عَالَمِيًّا، وَيَسْكُنُهَا شَـعْب مُعَيَّن (أو عِدَّة شُعُوب).
وَمَـفْـهُوم «الشَّـعْب» يَـعْـنِـي مَجْمُوعَ سُـكَّان «بِلَاد» مُحَدَّدَة، أو رُقْـعَـة جُغْرَافِيَة مُعْتَرَف بها، تَجْمَعُهُم عَلاقات تَـفَاعُل مُرَكَّب، وَتَارِيخِي، وَمُتَوَاصِل. [وَلَوْ أنه في اللّغة السياسية الدَّقِيقَة لِلْيَسَار، يَشْمَل مَـفْهُوم «الشّعب» الفلَّاحِين الصِغَار والمُتَوسِّطِين، والعُمَّال، أي الكَادِحِين المَأْجُورِين المُسْتَـغَلِّين، وَكذلك الأشخاص اللّذين لَا يَسْتَـغِلُّون وَلَا يُسْتَـغَلُّون، والمَسُودِين المُهَمَّشِين؛ وَلَا يَشْمَل مَفْهُوم «الشّعب» الحُكَّام، والسَّائِدِين المُسْتَـغِلِّين الكبار].
وَمَـفْـهُوم «الوَطَن» هو تَصَوُّرَات سِيَّاسِية، تَرْبِطُ بين «بِلَاد» مُحَدَّدَة، وَ«شَعْب» (أو شُعُوب) مُعَيَّنَة، وَطُمُوحَات سِيَّاسِيَة وَتَارِيخِيَة دَقِيقَة. [وَلَوْ أنه في الوَاقِع المَلْمُوس، «الوَطَن» الذي يَعِيش فيه شخص ثَرِيٌّ، أو سَائِد، أو مُسْتَـغِلٌّ، ليسَ هو نَـفس «الوَطَن» الذي يَعيش فيه شخص مُخَالِف، كَادِح، وَمُسْتَـغَل، أو مُضْطَهَد، أو مُهَمَّش].
أَمَّا «الدَّوْلَة»، فَهِيَ مَنْظُومَة مُتَرَابِطَة مِن المُؤَسَّـسَات، والأَجْهِزَة، والإدارات، والعَلَاقَات، والسُلُوكِيَّات، والتَصَوُّرَات. وَتَشْمَلُ «الدّولة» عَلَاقَات سِيَاسِيَة، واقتصادية، ومُجْتَمَعِيَة، مُتَدَاخِلَة، وَمُتَنَاقِضَة. وَيُـفْتَرَضُ في «الدّولة» أنها تُدَبِّر جُزْءًا هَامًّا وَكَافِيًّا مِن قِطَاعَات حَيَاة المُجْتَمَـعِ المَـعْـنِـي، طِبْـقًا لِـقَوَانِين مُحَدَّدَة (رَسْمِيَّة وَمَخْفِيَّة). وَأَسَاسُ «الدّولة» هو المِلْكِيَة الفَرْدِيَة الخَاصَّة، ثُمّ الْاِسْتِـغْـلَال الطَبَـقِـي. وَبِـقَدْرِ مَا تَكُون «الدّولة»، في «مُجتمع» مُعَيَّن، مُتَضَخِّمَة، وَقَوِيَّة، بِـقَدْر مَا تَكُون التَنَاقُضَات الطَبَـقِـيَة في هذا «المُجتمع» حَادَّة، أو مُسْتَـعْصِيَة، أو صِدَامِيَّة، أو غَيٍر قَابِلَة لِلتَوْفِيق بَيْنَهَا.
وَيَخْتَلِفُ «النِظَام السِيَاسِي» عن «الدّولة». فَإِنْ كَان المُكَوِّن البَارِز في «الدّولة» هو إِدَارَات مُتَشَـعِّبَة، وَأَجْهِزَة مُنَـفِّذَة، وَعَلَاقَات سِيَّادَة وَخُضُوع، وَقَمْعٌ مُؤَسَّـسٌ، فَإِنّ «النِظَام السِيَاسِي» هو النَمُوذَج (le modèle) المُحَدِّد لِنَوعِيَة الدّولة القَائِمَة. وَيُوجد تَرَابُط نِسْبِي بين نَوْعِية «النِظَام السِيَّاسِي» القَائِم في «المُجتمع»، وَنَوْعِيَة «الدّولة» القائمة في كلّ مُجتمع مُحَدَّد. وَنَوْعِيَّة الطَبَـقَات المَوْجُودَة في كلّ مُجْتَمَع مُحَدَّد، وَكَذلك مَوَازِين القِوَى المَوْجُود فيما بَيْن طَبَـقَات المُجتمع، هي مِن بَيْن العَنَاصِر الْأَسَاسِيَة المُحَدِّدَة لِنَوْعِيَة «النِظَام السِيَاسِي» القَائِم. وَهذا «النِظَام السِيَاسِي» هو الذي يَحْكُمُ إِعَادَة إِنْتَاج «الدّولة»، وَتَطْوِير آلِيَّات اِشْتِـغَالِهَا. وَالْأَسَاس المَادِّي المُحَدِّد، سَوَاءً لِـ «النِظَام السياسي»، أم لِـ «الدّولة»، هُوَ نَوْعِيَّة مَنْظُومَة المِلْكِيَة الخَاصَّة، وَنَوْعِيَّة عَلَاقَات الْاِسْتِـغْلَال الطَبَـقِـي، القَائِمَة في المُجتمع المَـعْـنِـي.
أَمَّا «المُجْتَمَع»، فَهُوَ المُنْطَلَق، وَهُو المُعْطَى الْأَسَاسِي، وَهُو أَسَاس كلّ شَيْء. وَبِدُونِ «المُجتمع» يَنْتَـفِـي كلّ شَيْء. وَ«المُجتمع» هُوَ المَنْظُومَة الطَبَـقِيَة، أو الكَائِن الجَمَاعِي، أو المُرَكَّب العُضْوِي المُتَنَاقِض، الذي يَشْمَل مُجمل الكَائِنَات التي سبقَ ذِكْرُهَا. أي أن «المُجتمع» يَشْمَل «البلاد»، و«الشّعب»، و«الوَطَن» (أو الْأَوْطَان المُتَنَاقِضَة والمُتَصَارِعَة)، و«الدّولة»، و«النظام السياسي»، الخ. وَيُـفْـتَـرَضُ في كلّ هذه الكِيَانَات (المذكورة سابقًا) أنها مَوْجُودة لِخِدْمَة المُجتمع، وَلِتَحْـقِيـق مَنَافِعِه. وَتُوجَد بِالضَّرُورَة تَنَاقَضَات مُجْتَمَـعِيَة مُتَحَرِّكَة دَاخِل كلّ واحد مِن بَيْن هذه الكِيَانَات المذكورة. وَتُوجد كذلك تَنَاقَضَات فيما بَيْنَهَا. وهذه التناقضات هي مُحَرِّك التَطَوُّر المُجتمعي، وَصَانِعَة التَارِيخ السياسي. وَإذا لَم تَكُن مثلًا «الدّولة»، أو «النظام السياسي»، مُسَخَّرَين لِخِدْمَة «المُجتمع»، يُصْبِح مِن حَـقِّ «الشّعب» التَحَرُّر منهما. وَمَن يَزْعُم عَكْسَ ذلك، فهو عَدُوٌّ لِـ «الشّعب».
وَلِتَأْكِيد الفُرُوقَات النَّوْعِيَة فِيمَا بين مَفَاهِيم «البِلَاد»، وَ«الشَّـعْب»، وَ«الوَطَن»، وَ«الدَّوْلَة»، و«النِظَام السِيَاسِي»، أَكْتَـفِـي بِالْإِشَارَة إلى أنه يُمْكِن لِـ «شَعْب» مُعَيَّن أن يَكُون مَسْجُونًا في «بِلَادِه». كما يُمكن أن يكون «الوَطَن» مُجَرَّد تَصَوُّرَات وَهْمِيَة، بِدُون أن يَكُون لهذا «الوَطَن» المُتَخَيَّل وُجُودٌ فِـعْـلِـي على أرض الواقع. كما يُمكن لِـ «دَوْلَة» مُحَدَّدَة أن تَكون عَدُوَّة مُـفْـتَـرِسَة لِـ «الشَعْب» الذي تَحْـكُـمُـه. وَيُمكن، في نفس الوقت، أن نُـقَـدِّرَ «شَـعْـبًا» مُحَدَّدًا، وَأَنْ نَرْغَبَ في التَـعَاوُن معه، وَأَنْ نُـعَادِيَ «دَوْلَتَه»، وَأَنْ نُـقَاوِمَ أو أن نُصَارِعَ «نِظَامَه السِيَاسِي». إلى آخره.
2) يُمكن لِكَثِيرِين مِن المُوَاطِنِين أن يُلَاحِظُوا، وَأَنْ يُدْرِكُوا :
- أ) أنه لَا يُمْكِن لِلْفَرْد أن يُوجد بِدُون المُجتمع؛
- ب) أنّ أَسَاس كلّ شيء هو المُجتمع، وليس الفَرْد؛
- ت) وَأَنَّه لَا يُمْكِن إِنْتَاج أَيِّ شَيء في المُجْتَمَع، وَلَا إِنْجَاز أَيِّ شَيْء، إِلَّا إِذَا تَمَّ القِـيَّـام بِهذا العَمَل الْاِنْتَاجِي بِشَكْل جَمَاعِي، أو مُجْتَمَـعِـي، أو تَـعَاوُنِـي، أو تَـكَامُـلِـي، أو اِشْتِرَاكِي.
وَرَغْمَ كلّ مَا سَبَـق، يُصِرُّ الحُكَّامُ، وَالسَّائِدُون، والمُسْتَـغِـلُّون، والرَّأْسَمَالِيُّون، وَأَنْصَارُهُم، على أن تَبْـقَـى مِلْكِيَّة الثَرَوَات، وَالْأَرْبَاح، فَـرْدِيَّة، وَلَيْسَ جَمَاعِيَة، أو مُجْتَمَـعِـيَة، أو مُشْتَرَكَة، أو اِشِتِرَاكِيَة.
3) مَا هُوَ الْأَهَمُّ ؟ هل «سَعَادَة الفَرْد»، أم «سَـعَادَة المُجتمع» ؟ إنّ «سَـعَادَة المُجتمع» كَـكِـيَّان مُوَحَّد وَشَامِل، هي وَحْدَهَا التي تُوَفِّـرُ سَـعَادَة كلّ فَـرْد في المُجتمع. أَمَّا «سَـعَادَة الْأَفْـرَاد» المُشَـتَّـتِـيـن، وَالْأَنَانِيِّين، حَتَّى وَلَوْ فَـكَّـرْنَا أنها سَـتَـنْـتَـشِـرُ في المُسْتَـقْـبَـل إلى أَغْلَبِيَة أَفْـرَاد المُجتمع، فإنها لَا تَـقْـدِرُ على تَـوْفِير سَـعَادَة كلّ المُجتمع.
4) كُلّ كَلَام عن الدّولة (في مُجتمع رَأْسَمَالِي) يَنْكُر بِنَاء المُجتمع على أساس الْإِسْتِـغْـلَال الرَّأْسَمَالِي (أي على أساس اِنْتِزَاع فَائِض القِيمَة الاقتصادي)، أو يَطْمَسُ تَـكَوُّن المُجتمع مِن طَبَـقَات مُجتمعية مُتَنَاقِضَة، (بَعْضُهَا سَائِدٌ وَمُسْتَـغِلٌّ، وَبَـعضها مَسُودٌ وَمُسْتَـغَلٌّ، وَبَعـضها مَسُود وَمُهَمَّش)، سَيَبْـقَـى (هذا الخِطَاب عن الدّولة) كَلَامًا جَاهِلًا، وَبِدُون قِيمَة عِلْمِيَة، وَبِدُون فَائِدَة سيّاسية، أو مُجْتَمَـعِيَة.
5) كلّ مَن يَدَّعِي أنه بِإِمْـكَان الدولة الرَّأْسَمَالِيَة أن تَـكُون «مُحَايِدَة»، أو «عَادِلَة»، أو «دِيمُوقْرَاطِيَة»، أو «دَوْلَة قَانُون»، أو «دولة مُلْتَزِمَة بِحُقُوق الْاِنْسَان»، في مُجتمع طَبَـقِـي، مَبْنِى على أساس الْاِسْتِـغْـلَال الرَّأْسَمَالِـي، فَمَا هو سِوَى مُرَوِّج لِأَكَاذِيب مُدَوِّخَة، أو لِأَوْهَام سِيَّاسِيَة مُخَادِعَة.
6) مُنذ أن تَأَسَّـست الدولة (في إِطَار الرَّأْسَمَالِيَة النَّاشِئَة)، وَمُنذ بِدَايَة تَاريخيها إلى اليَوم، كان يَتَّضِحُ دَائِمًا أن العُنْصُر الحَاسِم فيها، أَيْ العُنْصُر العَمَلِي الْأَكْثَرٌ أَهَمَِّيَة فيها، هو السُّلْطَة السياسية، وَاحْتِـكَارُهَا لِـلْقُوَّة، وَتَـفَرُّدُهَا بِالسِّلَاح، وَاحْتِـكَارُهَا لِلْعُنْـف. ومنذ أن تَتَشَـكَّل الدولة الرَّأْسَمَالِيَة، يُصبح هدفها الأوّل، هو الحفاظ على قِيَّام هذه الدولة هي نَـفْسِهَا، وَضَمَان اِسْتِمْرَارِيَتِهَا. أَيْ أن الدّولة تُصبح هَدَفًا لِنَـفْسِهَا.
7) مِيزَة الدَّوْلَة الرَّأْسَمَالِيَة (كَآلِيَّات بِيرُوقْرَاطِيَة وَمُجْتَمَعِيَة)، هو أنها تَمِيل دائمًا إلى تَحْوِيل مُوَظَّفِيهَا (الكبار والمُتوسِّطِين)، مِن خُدَّام مُـفْـتَـرَضِين لِلشّعب، إلى أَشْخَاص يُمَارِسُون (بِالنِيَابَة) السِيَّادَةَ الطَبَـقِيَةَ على الشّعب، وَيَضْطَهِدُونه، وَيُنَظِّمُون إِخَضَاعَه لِلْاِسْتِـغْـلَال الرَّأْسَمَالِي.
8) الدّولة التي بدأ إنشاءها في الْأَصْل بِـمُبَـرِّر تَلْبِيَة حَاجِيَّات الشّعب، تَتَحَوَّل بِسُرْعَة إلى أجهزة لِاِخْضَاع الشَّعب، وَلِاحْتِـكَار السِّلَاح، وَالعُنْف، بِهَدَف ضَمَان اِسْتِمْرَار خُضُوع الكَادِحِين المُسْتَـغَلِّين لِهذه الدّولة، ولِلنِّظَام السياسي القَائِم فيها.
9) في الأصل، خُلِقَت الدولة لِخِدْمَة مَصالح الشّعب، وَصِيَّانَة أَمْنِه. لكن في إطار الرَّأْسَمَالِيَة (بِمَا فيها الرَّأْسَمَالية التَبَـعِيَة لِلْاِمْبِرْيَالِيَة، أو اللِّيبِيرَالِيَة)، تَنْـقَـلِبُ الأُمُور بِسُرْعَة إلى عَكْسِهَا. فَيُصْبِح الشّعب مُسَخَّرًا لِخِدْمَة الدّولة. وتُصبح الدّولة مُسَخَّرَة لِخِدْمَة مَصَالح طَبَـقَة المُسْتَـغِلِّين الكِبَار. وَتَـغْدُو صِيَّانَة «أَمْن الدولة» مُوجِبَة لِلتَضْحِيَّة بِـ «أَمْن الشّعب».
10) «الْأَمْن» الذي تُدافع عنه الدّولة، تَـحْصُرُه عَمَلِيًّا هذه الدّولة في حُدُود أَمْن الطَبَـقات السَّائِدَة. وهذا الأمن المُوَفَّر لِلطَّبَـقَات السَّائِدَة، يكون بالضَّرُورَة على حِسَاب أَمْن الطَبَـقَات المَسُودَة.
11) تَتَطَوَّر الدَّوْلَة الرَّأْسَمَالِيَة بِشَكْل لَا يُـقَاوَم نَحْو السَّيْطَرَة المُطْلَـقَة على كُلّ شَيء في المُجتمع. وَكُلُّ شَيْء يَـفْـلِتُ مِن سَيْطَرَة الدّولة الرّأسمالية، تَشْـعُرُ بِه هذه الدّولة كَـخَطَر «يُهَدِّدُ أَمْنَهَا الْاِسْتْرَاتِيجِي».
12) كانت دائمًا الفِئَات الطَبَـقِـيَة السَّائِدَة هي الْأَكْثَرُ تَأْهِيلًا لِلْإِشْرَاف على تَسْيِير الدولة، وَعلى تَنْظِيمها. وكانت دائمًا الدّولة، كَالمِغْنَاطِيس، تَجْذُبُ إِلَيْهَا بِـقُوَّة الفِئَات الطَبَـقِـيَة المُسْتَـغِـلَّـة وَالسَّائِدَة. كما أن الفِئَات الطَبَـقِـيَة المُسْتَـغِـلَّة وَالسَّائِدَة، تَجْذُبُ الدولةَ بِـقُـوَّة نَحْوَهَا. فَتُصْبِح الدّولة بِالضَّرُورة في خِدْمَة طَبَـقَة المُسْتَـغِلِّين الكِبَار، وَتَـعْمَل بِهَدَف إِخْضَاع الشَّعب، وَتَنْظِيم اِسْتِـغْلَالِه.
13) يَـفْتَرِضُ عَامَّةُ المُتَـكَـلِّمِين أنّ «أَسَاس الدّولة هُو القَانُون». وَيَـفْـتَـرِضُون أنّ «القَانُون القَائِم هُو تَـعْـبِير عن إِرَادَة الشّعب»، وَأنّ «القَانون وَسِيلَة لِخِدْمَة مَصَالِح الشّعب». لكن في الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، تَنْـقَلِبُ كثير مِن الْأُمُور إلى نَـقِيضِهَا. حيثُ تَحْرُص السُّلْطَة السِياسية على تَحْوِيل القَانُون إلى أَدَاةٍ لِمُمَارَسَة الصِرَاع الطَبَـقِـي. وَتَسْتَـعْمِل السُلطة السياسية القَانُونَ كَوَسِيلَة لِتَبْرِير الْإِكْرَاه، وَلِتَشْرِيع القَمْع، وَلِفَرضِ الْخُضُزع، وَلِضَمَان اِسْتِمْرَارِيَة الْاِسْتِـغْـلَال الرَّأْسَمَالِي، وَلِتَسْهِيل نَزْع الثَرَوَات مِن الشّعب وَمَرْكَزَتِهَا في مِلْكِيَّاتِ قِلَّة مِن الْأَثْرِيَّاء.
14) الْإِنْسَان، أو المُوَاطِن (سَوَاءً كان فَرْدًا، أم جَمَاعَات)، يَطْمَح إلى الحُرِّيَة، وإلى السّلام، وإلى الْإِنْتَاج، والوَفْرَة، والسَعَادة، والتَـعَاوُن، والتَـكَامُل، والتَضَامُن، وَتَشَارُك أَكْثَر مَا يُمكن مِن المَنْتُوجَات فيما بين عَامَّة المُوَاطِنِين. لكن الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة لها مَنْطِـقُـهَا الخَاص بها. وهذا المَنْطِق الخَاص بالدّولة يَدْفَعَهَا إلى أن تَكُون في صِرَاع حَادٍّ مع الشّعب، ومع المُواطن. حيثُ تَمِيل الدّولة الرّأْسَمَالِيَة بالضَّرُورَة إلى جَعْل حُرِّيَتِهَا أَقْوَى، وَأَعْلَى، وَأَسْمَى، مِن حُرِّيَة المُواطن. بَلْ تَـعْتَبِر الدّولة أن تَنْظِيم المُواطنين، وَتَـعَاوُنَهُم، وَتَـكَامُلَهُم، وَتَضَامُنَهُم، يُهَدِّد أَمْنَ الدّولة. فَتُـقَرِّر الدّولة تَشْتِيت المواطنين إلى أَشخاص مُنْـفَصِلِين عن بعضهم بعضًا.بَل تَحْكُمُ الدّولة على المواطنين الذين هؤلاء المواطنين كَـ «عِصَابَات تَمَسُّ بِأَمْن الدّولة». وَتُريد الدّولة من المُواطِنِين أن يَبْـقَـوْا مُجَرَّد أَفْرَاد مُشَـتَّـتِـيـن، وَمُنْـقَـسِمِين، وَمُتَنَافِسِين، وَضِعَاف، وَمُحْتَاجِين إلى رُخْصَة الدّولة في أَيَّةٍ مُبَادَرَة كانت.
15) الدّولة هي الأَدَاةُ التي تُمَارِسُ بِوَاسِطَتِهَا طَبَـقَة المُسْتَـغِـلِّـيـن الكِبَار سِيَّادَتَهَا الطَبَـقِـيَـة على المُجتمع، وَتُدَبِّرُ بِهَا مُمَارَسَة الصِرَاع الطَبَـقِـي ضِدَّ طَبَـقَة المُسْتَـغَـلِّـيـن، وَضِدَّ عُمُوم الشَـعْب(1). وَإِنْ كان الصِرَاع الطَبَـقِـي لا يُدَمِّر بالضَّرُورة المَبَانِـيَ وَالبِنْيَات التَحْتِيَة مثل الحَرْب، إِلَّا أنه يَضْطَهِد وَيُدَمِّر البَشَر كما لَوْ كان هذا الصِرَاع الطَبَـقِـي حَرْبًا مِن نَوْع خاصّ. وَلَا يَـقِـلُّ الصِرَاع الطَبَـقِـي شَرَاسَةً وَعُنْـفًا عن الحَرْب. وَالفَرْق بَيْنَهُمَا، هو أنّ الحَرْب مَرْئِيَة، بَيْنَمَا الصِرَاع الطَبَـقِـي غَيْر مَرْئِـي.
16) تَتَـكَاثَرُ بِاسْتِمْرار أَجْهِزَة الدّولة، وَتَتَنَوَّع، وَتَتَـقَـوَّى. وَتَتَضَخَّم على الخُصوص الْأَجْهِزَة القَمْـعِـيَـة (مِن جيش، وبوليس، وَقُوّات التَدَخُل السَّرِيع، والقُوَّات الخاصّة، والمُخابرات، الخ). وَالسِرُّ المُـفَـسِّـر لِلْإِفْرَاط في تَـقْوِيَة الأجهزة القمـعية يرجع إلى كَوْن السُّلطة السياسية تَشْـعُر بِاسْتِمْرَار بِضُعْف الدّولة، أو بِهَشَاشَة النظام السياسي القائم. وَتَحْدُث هذه الزِيَادَات في الأجهزة القمعية، حَتَّى وَلَم كانت الدولة في الواقع غَالِبَة، وَقَاهِرَة، وَقَوِيَّة جِدًّا. وَتَتَحَوَّل الدّولة إلى وَحْش مُجْتَمَـعِي ضَخْم. فَتَتَـعَمَّـقُ ظَاهِرَة تَحَوُّل الدّولة إلى جِسْم مُسْتَـقِل عن الشَّـعْب، بَلْ مُنَاقِـض لِه. لأن السُلطة السياسية تَرَى أنّ «أَمْن الدّولة» أَهَمَّ مِن «أَمْن الشّعب».
17) أَصْبَح بعض المسؤولين (الكبار والمتوسّطين) في أجهزة الدولة يَتَصَرَّفُون كأنهم يَعْتَبِرُون أن «أمن الشّعب» يَـتَـعَارَض، بَلْ يُهَدِّد «أمن الدَّوْلَة». لأنهم يعتبرون أن «الدّولة هي أَهَمّ وَأَوْلَى من الشّعب». وهكذا اِنْتَـقَل مُوَظَّـفُو الدّولة، دُونَ أن يَشْعُرُوا بذلك، من مَـقُولَة «مُبَرِّر وُجُود الدّولة هو خِدْمَة الشّعب»، إلى مَـقُولَة «مُبَرٍّر وُجُود الشعب هو خِدْمَة الدَّوْلَة». ثُمَّ أَصْبَح مُوَظَّفُو الدّولة يُؤْمِنُون بِـمَـقُولَة «كُلّ ما هو في مَصْلَحَة الدّولة، هو بالضّرورة في مَصلحة الشّعب، وَلَوْ لَمْ يُوَافِق الشَّعْبُ على ذلك».
18) غَدَى بعض المسؤولين الكبار والمتوسّطين في أجهزة الدولة يَـعْـتَبِرُون أن حِمَايَة «أمن الدولة»، تُبَرِّر شَرْعِيَةَ اِستـعمال الجَيش، والأجهزة الـقمعية المُتَنَوِّعَة، والمُخَابَرَاتِيَة، وَالْاِعْلَامِيَة، لِإِخْضَاع الشَّـعْب، وَلِسَحْـق الأشخاص والـفِئَات الشَّـعْـبِيَة المُنْتَـقِـدة، أو المُعَارِضَة، أو المُقَاوِمَة، أو المُحْتَجَّة، أو الثَائِرَة. وَبَـعْـدَمَا تَوَالَت «الْاِنْتِـفَاضَات الشَّـعْبِيَة» في المغرب، خَافَ المَلِك الحسن الثاني على سُقُوط عَرْشِه، وَقَال هو نَـفْسُه في إحدى خُطَبِه، (ما مَعْنَاه) أن «المَذْهَب الْإِسْلَامِي المَالِكِـي يُبَرِّر الـقَضَاء على الثُلُث الـفَاسِد مِن الشعب، لِإِنْـقَاذِ الثُلُثَيْن البَاقِيَّيْن». وكان المَلِك الحَسَن الثّانِي يَـقْصِد بِـعِبَارَة «الثُلُث الفَاسِد مِن الشّعب»، الجزء الثَّائِر منه ضِدَّ النظام السياسي القَائِم. وَدَافَع المَلِك الحسن الثّانِي عن فِكْرَة «التَضْحِيَة بِالثُلُث الفَاسِد مِن الشّعب»، وَلَوْ أنّ هذا «الثُلُثَ الفَاسِد» مِن الشَّعْب يُـقَـدَّر تَـعْدَادُه طَبْعًا بِمَلَايِين المُوَاطِنِين.
19) «الدّولة ليست سِوَى آلَة لِاِضْطِهَاد طَبَـقَـة مِن طَرَف طَبَـقَة أخرى»(2). وَكان دَائِمًا وُجُود الدّولة يَـقْتَرِن بِإِضْـعَاف، أو إِلْغَاء، التَنْظِيمَات السِيَادِيَة المُسْتَـقِـلَّة الخَاصَّة بِالْكَادِحِين المُسْتَـغَلِّين. وَيَـقْتَرِنُ كذلك وُجُود الدّولة بِإِضْعَاف الوَعْيِ السِيَاسِي لَدَى الكَادِحِين المُسْتَـغَـلِّين. بَلْ مُنْذُ أن تَنْشَأ الدّولة، يُصبح دَورها هو إِضْعَاف، ثمّ إِلْـغَاء، التَنْظِيمَات السِيَّادِيَة المُسْتَـقِلَّة الخَاصَّة بِالْكَادِحِين المُسْتَـغَـلِّين. ثمّ تعمل الدّولة على بِنَاء تنظيمات بَدِيلَة، تَـكُون مُهِمَّتُهَا هي قَمْع، وَإِخْضَاع، جماهير الشّعب الكَادِحَة وَالمُسْتَـغَـلَّة. وَوُجُود الدّولة، وَمَا يرتبط بها من سَيْطَرَة طَبَـقِـيَة، وَإِخْضَاع، يَتَطَلَّب حَتْمًا إِقَامَة تَنْظِيمَات مُسَلَّحَة، وَمُخَابَرَات، وَوَسَائِل دِعَايَة، وَسُجُون، وَهَيْئَات دِينِيَة تَدْعُو لِلْخُضُوع، وَمَرَاكِز لِلْعِـقَاب، وَلِلْعَزْل، وَلِلتَّـعْذِيب، وَلِلْـقَـهْر.
20) في إِطَار الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، لَا تَـقْدِر هذه الدّولة على ضَمَان اِسْتِمْرَارِيَتِهَا سِوَى بِوَاسِطَة القَمْع، والتَضْلِيل، والخِدَاع، وَالْإِخًضَاع، وَالقَهْر، وَإِرْهَاب الدّولة. وَتَمِيل بِالضَّرُورَة هذه الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة إلى تَوْسِيع سَيْطَرَتِهَا المُطْلَـقَة، لِتَشْمَلَ كلَّ قِطَاعَات الحياة في المُجتمع. وَتَـعْـتَبِرُ هذه الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة أن أَيَّ نُـقْـصَان في سَيْطَرَتِهَا على أَيِّ قِطَاع مِن بَيْن قِطَاعَات الْحَيَاة في المُجتمع، إِذَا مَا فَلَتَ مِن حُـكْمِهَا، فَإِنَّهُ سَيُهَدِّدُ «أَمْنَهَا»، أو «وُجُودَهَا». فَتُصْبِح هذه الدّولة مُجْبَرَة على إِحْكَام سَيْطَرَتِهَا المُطْلَـقَـة على كلّ قِطَاعَات الحياة في المُجتمع.
21) سواء كان صِنْـفُ الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة إِمَارَة، أم مَلَكِيَة، أم جُمْهُورِيَة، أم فِيدِيرَالِيَة، تَمِيل دَائِمًا هذه الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة إلى تَـقْوِيَة تَمَرْكُزِهَا (centralisation). وَيَكُون فيها رَئِيس الدّولة هو مَرْكَز السُّلْطَة السِيَاسِيَة. وَيَتَطَوَّرُ رَئِيس الدولة الرَّأْسَمَالِيَة إلى رَئِيس مُطْلَق على كلّ شَيْءٍ مَوْجُود في هذه الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة. حَيْثُ نَجِدُ أن رَئِيس الدّولة هو، في نفس الوقت، الرَئِيس الفِـعْـلِي لِلْحُكُومَة؛ وَالرَئِيس الفِـعْـلِي لِلْبَرْلَمَان (وَلَوْ بِشَكْل غَير مُباشر)؛ وَالرَئِيس الفِـعْـلِي لِجِهَاز القَضَاء؛ والرئيس الفِـعْـلِي لِوِزَارَة الدَّاخِلِيَة؛ وَالرَئِيس الفـعلي لِهَيْئَة الأركان العامة لِلْجَيْش؛ وَالرَئِيس الفِـعْـلِي لِمُخْتَلَف أجهزة البُوليس؛ وَالرَّئِيس الفِـعْلِي لِـقُوّات التَدَخُّل السَّرِيع؛ وَالرَئِيس الفـعـلي لِكُلّ قُوَّات القَمْع؛ وَالرَئِيس الفـعـلي لِأَجْهِزَة الْمُخَابَرَات؛ وَالرَئِيس الفـعـلي لِوَسَائِل الْإِعْلَام العُمُومية؛ وَالرَئِيس الفـعـلي لِـ «الْكَنِيسَة»؛ أو لِـ «هَيْئَة الفَتْوَى الدِّينِيَة»، أو لِـ «إِمَارَة الْمُؤْمِنِين»؛ والرَئِيس الفِـعْلِي لِبَنْك الدَّوْلَة المَرْكَزِي؛ وَالرَئِيس الفـعـلي لِلْاِحْتِكَارَات الاقتصادية والمَالِيَة التَّابِعَة لِلدّولة؛ إلى آخره. وَمِن وَقْت لِآخَر، يَتَّخِذُ رّئيس الدّولة قرارات ذَات بُـعْد اِسْتْرَاتِيجِي، وَلَوْ أنّه يُدْرِكُ جَيِّدًا أن هذه القَرَارَات هي مُنَاقِضَة لِمَصَالح الشّعب، وَلَوْ أنه يَـعْلَمُ أنّ الشّعب يَرْفُض تَمَامًا مثل هذه القرارات.
22) عِنْدَمَا يَحْـكُمُ رَئِيس الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، دُونَ أن تَـقْدِرَ على مُوَاجَهَتِه، لَا جِهَة نَاقِدَة، وَلَا هَيْئَة مُسَائِلَة، وَلَا سُلْطَة مُضَادَّة، وَلَا إدَارَة مُرَاقِبَة، وَلَا مُؤَسَّـسَة مُحَاسِبَة، وَلَا إِجْرَاءَات مُؤَهَّلَة لِإِقَالَتِه، فَهَذا الصِّنْـف مِن الحُكْم هُو بِالضَّبْط مَا يُـعَـرَّفُ بِـ «الْاِسْتِبْدَاد الفَرْدِي»، أو بِـ «دِّيكْتَاتُورِيَة الْأَقَلِّيَة»، أو بِـ «اَلْاُولِيغَارْشْيَا (Oligarchie)»، أو بِـ «حُـكْم القِلَّة». بِمَـعْنَى أَنَّ الرَّأْسَمَالِيَة تُؤَدِّي حَتْمًا إلى إِسْتِبْدَاد الْأَقَلِّيَة. وَهذا الصِّنْـف مِن الحُكْم المُسْتَبِدّ، هو في مَظْهَرِه اِسْتِبْدَاد شَخْصٍ حَاكِم، أو اِستبداد فِئَة حَاكِمَة، لَـكِنَّه في عُمْـقِـه اِسْتِبْدَاد الرَّأْسَمَال الجماعي، أو دِيكْتَاتُورِيَة الرَّأْسَمَالِيِّين الكِبَار. وهكذا، فإن «الدِّيمُوقْرَاطِيَة الرَّأْسَمَالِيَة» المَزْعُومَة، تُخْـفِـي دَائِمًا "دِيكْتَاتُورِيَة طَبَـقَة المُسْتَـغِـلِّين الكِبَار" (أي دِيكْتَاتُورِيَة البُورْجْوَازِيَة الكبيرة).
23) في «الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة»، وَعَلَى عَكْسِ ظُنُون كلّ الْإِصْلَاحِيِّين (réformateurs) السِيَّاسِيِّين، لَا يَـكْمُنُ المُشْكِل في «الدّولة»، وَإنَّمَا في «الرَّأْسَمَالِيَة». وَأَسَاس «الدَّوْلَة الرَّأْسَمَالِيَة» هو سِيَّادَة طبقة المُسْتَـغِلِّين الكِبَار. وَلَوْ أن طَبَـقَة المُسْتَـغِلِّين الكِبَار، وَسِيَّادَتُهَا الطَبَـقِيَّة، وكذلك الْاِسْتِـغْلَال الرَّأْسَمَالِي، يَـبْـقَـوْنَ غَيْر مَرْئِيِّين في المُجتمع بِوَاسِطَة العَيْن المُجَرَّدَة.
24) بِـقَدْر مَا تَكُون السُّلْطَة السِيَاسِيَة مُمَرْكَزَة (centralisée) في شَخْص وَاحِد (هو رَئِيس الدّولة)، بِـقَدْرِ مَا يُصْبِحُ سَهْلًا على القِوَى الْإِمْبِرْيَالِيَة العَالَمِيَة أَنْ تُـؤَثِّـرَ في عَـقْل، وفي قَرَارَات، هذا الشَّخْص. فَتَتَلَاعَبُ القِوَى الْإِسْتِـعْـمَارِيَة، وَالْـقِوَى الْإِمْبِرْيَالِيَة، بِـعَـقْـل رَئِيس الدّولة، وَبِـمَصِير البِلَاد، أو الشَّـعْب، وَتَـفْـتَـرِس ثَرَوَاتِه، وَتُسَخِّرُهُ لِخِدْمَة مَصَالِحِهَا الخُصُوصِيَة الْأَنَانِيَة.
25) مَهْمَا كان رَئِيس الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة مُسْتَبِدًّا، وَطَاغِيًّا، وَمُطْلَـقًا، يُمْكِن أن يَكُون، في نفس الوقت، مُسْتَلَبًا (aliéné)، وَفَاقِدًا لِوَعْيِه السِيَّاسِي، وَلِإِرَادَتِه، وَلِاسْتِـقْـلَالِ عَـقْـلِـه. فَيُصْبِح هذا الرَّئِيس لِلدّولة كَأَنَّهُ "آلَة مُسَيَّرَة" (robot)، أو مُبَرْمَجَة، أو مُسَخَّرَة، لِخِدْمَة مَصَالِـح طَبَـقَة المُسْتَـغِـلِّين الكِبَار الدَّاخِلِيَة، أو لِتَيْسِير تَلْبِيَّة مَنَافِـع القِوَى الْاِمْبِرْيَالِيَة والْاِسْتِعْمَارِيَة. وَلَا يُشَـكِّل هذا التَشْخِيص سَبًّا، وَلَا اِهَانَة، لِرَئِيس أَيَّة دولة في العالم؛ وَإِنَّمَا هو تَشْخِيص مُجتمعي، وَعِلْمِي، وَيَتَجَاوَز الأشخاص المَـعْنِيِّين.
26) تُسْتَـعْـمَلُ بِشكل شَائِـع في المُجتمعات الرَّأْسَمَالِـية عِبَارَةُ : «الدولة الدِّيمُوقْرَاطِيَة». وهذه العِبَارَة هي مُجَرَّد تَصَوُّر فِكْرِي. وَلَيْسَ لها وُجُود فِـعْـلِـي في الواقع. بَـلْ هي زَعْم مُخَادِع، أو وَهْم مُضَلِّـل. لأنها تَـعْـبِـيـر مُتَنَاقِض. لأن «الدّولة» و«الدِّيمُوقْرَاطِيَة» هُمَا شَيْئَان لَا يَجْتَمِـعَان. ولأن وُجُود «الدولة» في مُجتمع مُحَدَّد، يَـفْـتَـرِض بِالضَّرُورَة وُجُود طَبَـقَات مُجتمعية لَا يُمكن التَوْفِيق فيما بينها. وَلأنّ كلّ «دولة»، في مُجتمع طَبـقِي، هي بالضَّرُورة مُسْتَـقِلَّة عن الشعب، وَمُنْفَصِلَة عنه، وَمُنَاقِضَة له. وَلِأَن كلّ «دولة»، هي تَجْسِيد لِهَيْمَنَة طَبَـقَة سَائِدَة، تَمْتَلِكُ جُلَّ وَسَائِل الْاِنْتَاج المُجتمعي، وَتحْتَكِر السُّلْطَة السياسية. وَلأنه، كُلَّمَا وُجِدَت في المُجتمع طَبَـقَات مُتناقضة، فإن الطبقة الغَالِبَة، أو الطَبَـقَة السَّائِـدَة، سَتَـفْـرِض بالضّرورة دِيكْتَاتُورِيَتَهَا على باقي طَبـقات المُجتمع، بِوَاسِطَة أَجْهِزَة الدَّوْلَة. أَيْ بِوَاسِطَة اِحْتِـكَار السِلَاح، والعُنْـف، والمُخَابَرَات، وَالْإِعْلَام، وَالدِّين، الخ. وَيَبْـقَـى «البَرْلَمَان»، هو أيضًا، مُجَرَّد أَدَاة شَكْـلِيَة، وَطَيِّـعَة. وَبِدُون أَيَّة سُلطة فَـعَّـالَة. ولَا يَـسْتَطِيـع «البَرْلَمَان» أن يكون هَيْئَة مُسْتَـقِـلَّة، أو قَادِرَة على اِتِّخَاذ قَرَارَات حَاسِمَة في القَضَايَا التي تَهُمُّ المُجتمع. وَلِأَنّ «الدَّوْلة» هي مُجَرَّد أَجْهِزَة لِتَدْبِير الصِرَاع الطَبَـقِـي، عَبْرَ مُمَارَسَة القَمْع الـعَـنِيف، ضِدَّ الخُصُوم، وَضِدَّ الأعداء الطَبَـقِـيِّـيـن، وَضِدَّ المُعَارِضِين لِلطَّبَـقَة السَّائِدَة. فَـلَا يُمكن «لِلدّولة»، باعتبارها أَدَاة السِيَّادَة الطَبَـقِـيَـة، أن تَكُون «دِيمُوقْرَاطِيَة»، في مُجتمع تَجْمَـعُ فِيه طَبَـقَةٌ مُهَيْمِنَةٌ اِحْتِـكَارَ السُّلُطَاتِ السِيَاسِيَة، وَاحْتِـكَارَ مِلْكِيَاتِ الثَرَوَات المُجتمعية. ولأنه في كلّ مُجتمع طَبَـقِـي، يَسْتَحِيل التَوْفِيق فيما بين الطبقات المُتَنَاقِضَة التي تُـكَـوِّنُ هذا المُجتمع المَـعْنِـي. فَـلَا يُمكن تَحـقـيـق «الدِّيمُوقْرَاطِيَة» الحَـقَّـة إِلَّا عبر إِلْـغَاء أُسُـس وُجُود الطَبَـقَات المُجتمعية، المُتَمَايِزَة، وَالمُتَنَاقِضَة، وعبر إِلْـغَاء أُسُـس وُجُود «الدَّوْلَة» هي نَـفْسِهَا. وَكُلّ مَن يَدَّعِي أن «الدّولة» قَادِرَة على تَحقيق «الحُرِّيَة»، أو «الدِّيمُوقْرَاطِيَة»، أو «العَدَالَة المُجْتَمَـعِـيَـة»، أو «حُـقوق الانسان»، فَإِمَّا أَنّه يُخَادِع نَـفْـسه، وَإِمَّا أنّه يُخَادِع الشّـعب(3). وَمِن الوَهْم الاعتـقاد بِإِمْكَانِيَة وُجُود سَبِيل سِلْمِي لِإِصْلَاح الدَّولة الرَّأْسَمَالِيَة، أو لِإِصْلَاح النِظام السياسي الرَّأْسَمَالِي القائم.
27) في مُجْمَل الدُوَّل الرَّأْسَمَالِيَة، نُلاحظ أن حُرِّيَات التَـعْـبِير، وَالنَّـقْد، وَالتَنْظِيم، وَالتَظَاهُر، وَالْاِحْتِجَاج، تَظَلُّ مُبَاحَة في المَجَالَات التَّافِهَة. بَيْنَمَا في القَضَايَا المُجْتَمَـعِـيَة الْأَسَاسِيَّة، تَبْـقَـى فِيهَا حُرِّيَات التَـعْـبِير، وَالنَّـقْد، وَالتَنْظِيم، وَالتَظَاهُر، وَالْاِحْتِجَاج، مَمْنُوعَة، وَتُـعَاقِبُ عليها أَجْهِزَة القَمْع، والجِهَاز القَضَائِـي، بِـعُـقُـوبَات مُخِيـفَـة، تَتَـعَـلَّـقُ عُمُومًا بِـتُهْمَة «المَسّ بِأَمْن الدّولة».
28) في الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، تَتَنَافَـسُ الْأَحْزَاب الرَّأْسَمَالِيَة، على «مُمَارَسَة الحُـكْم»، وعلى «تَدْبِير المُجْتَـمَـع». لكن هذه الحياة السياسية (بِأَحْزَابِهَا، وَانْتِخَابَاتِهَا) تَدُور في حَلْـقَة مُـفْـرَغَة، وَتَبْـقَـى عَبَثِيَة. فَرَغْمَ تَـغَـيُّـر الوُزَرَاء، وَتَبَدُّل الحُكُومَات، وَتَوَالِـي البَرْلَمَانَات، تَبْـقَـى نَوْعِيَة السِيَاسَات الْأَسَاسِيَة المُتَّبَـعَـة مِن طَرَف الدّولة الرّأْسَمَالِيَة ثَابِتَة، أَيْ أنها لَا تَتَـغَـيَّـر في جَوِهَرِهَا الطَبَـقِـي. حَيْثُ يَظَلُّ مُحَدِّد سِيَّاسَات الدَّوْلة، هُوَ مَصَالِح طَبَـقَة المُسْتَـغِـلِّـيـن الكِبَار السَّائِدَة، وَحُلَـفَائِهِم الْإِمْبِرْيَالِيِّين.
29) هل يُمكن (مثلًا في المَغْرِب)، عبر «إصلاحات دِيمُوقْرَاطِيَة» مُعيّنة، جَعْل أَجْهِزَة الدولة (وخاصةً منها وزارة الدّاخلية)، تَتَخَلَّـى كُلِيًا عن التـَدَخُّل المُتَحَيِّز في تنظيم الانـتخابات العامّة ؟ وَهَلْ يُمْـكِن مَنْـع وزارة الدّاخلية من التأثير في الانتخابات العامّة ؟ وهل يُمـكن حَظْر مُرَاقَبَة وزارة الداخلية وَأَجْهِزَتِهَا لِـتَطَوُّر الْآرَاء والمُوَاقِـف السياسية، التي تَرُوجُ داخل جماهير الشعب ؟ وهل يُمـكن إِيـقَاف مُحاولات وزارة الداخلية وأجهزتها في مَجَال تَكْيِيـف الْآرَاء وَالمَوَاقِـف السياسية التي تَحْمِلُهَا جماهير الشَّـعب ؟ وهل يُمـكن مَنْع وزارة الداخلية وأجهزتها مِن تَسْرِيب عُمَلَائِهَا دَاخِل الأحزاب، والنـقابات، والجمعيات، المُـعَارِضَة ؟ لَا، هذه «الإصلاحات الدِّيمُوقْرَاطِيَة» سَتَبْـقَـى مُستحيلة الإنجاز في إطار الرَّأْسَمَالِيَة. ولماذا ؟ لأنه، ما دام النظام السياسي الرَّأْسَمَالِي قائما، يَسْتَحِيل على المسؤولين الكبار والمتوسّطين، في مختلـف أجهزة الدولة، الذين يَجْمَعُون بين السُّلْطَة والثَّرْوَة، وَيَغْتَنُون بشكل غَيْر مَشْرُوع، يَسْتَحِيل عليهم أن يتـركوا تَطَوُّر البلاد يَسِير في اِتِّجَاه أَوْضَاع جَديدة تَـقْـطَعُ عليهم مَنَابِـعَ اِغْتِنَائِهِم غَيْر المَشْرُوع. وهم يَرْفُضُون تِلْقَائِيًّا كلّ تَطَوُّر يُهَدِّد مَصَالحهم الشخصية الْأَنَانِيَة، أو الفِئوِيَّة، أو الطَبَـقِـيَة.
30) إذا لَم تَـكن تُوجد في الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة القَائِمَة، أو في النظام السياسي الرَّأْسَمَالِي القائم، لَا «دَوْلَة القَانُون»، وَلَا «حُرِّيَات سِيَاسِيَة»، وَلَا «دِيمُوقْرَاطِيَة»، وَلَا «حُقُوق الإنسان»، فَسَيَكُون مِن الوَهْم الْإِيمَان بِإمْكَانِيَة تَحـقِيـق «إِصْلَاحَات دِيمُوقْرَاطِيَة»، عَبْر نِضَالَات بَرْلَمَانِيَة، أو قَانُونِيَة، أو سِلْمِيَة. أمّا الاعتـقاد، في مثل هذه الظُّرُوف، بِإمكانية «التَطَوُّر السِّلْمِي نَحو الاشتراكية»، فَسَيَكُون جَهْلًا فَظِيعًا، أو حُمْـقًا سِيَّاسِيًا.
31) الْأَيْدِيُولُوجِيَّة السَّائِدَة في الدُّوَل الرَّأْسَمَالِيَة (وَلَوْ أنّها غَيْر مَنْطُوق بها، أو غَيْر مُـعْـتَرَف بها)، هي التَّالِيَة : «الرَّأْسَمَالِيَة هي الحَلّ الوحيد الواقعي». و«الاشتراكية هي وَهْم مُسْتَحِيل»، و«الدِّيمُوقْرَاطِيَة، والمُسَاوَاة، هي أيضًا أَوْهَام اِشْتِرَاكِيَة مُسْتَحِيلَة»؛ بَيْنَمَا «الوَاقِـعِـيَة الصَّحِيحَة، وَالْبْرَاغْمَاتِيَة الفَـعَّـالَة، هي الرَّأْسَمَالِيَة، والْاِسْتِـغْلَال الرَّأْسَمَالِي، والفَرْدَانِيَة، وَالْأَنَانِيَة، وَالْاِنْتِهَازِيَة»؛ و«أَحْسَنُ نِظَام سِيَّاسِي، هو الذي يَسْمَح لِلْأَفْرَاد الْأَكْثَرُ غِشًّا وَافْتِرَاسًا بِأَنْ يَـغْتَنُوا كَمَا يُريدُون». وَ«هَدَف الحَيَاة هو الْإِغْتِنَاء، وَجَمْع المَال بِلَا حُدُود، وَالْاِسْتِمْتَاع بِالْاِسْتِهْلَاك، وَبِالرَّفَاهِيَة، دُون أَيّ اِكْتِرَاث بِالمَبَادِئ، أو بِالْأَخْلَاق الْإِنْسَانِيَة، أو بِالقَانُون، أو بِالْبِيئَة، أو بِالتَضَامُن المُجْتَمَـعِـي». وَشِعَارات الرَّأْسَمَالِيَة هي : «النُمُوُّ الْاِقْتِصَادِيّ الْـلَّامَحْدُود»، وَ«الرِّبْح الفَرْدِي الْـلَّامَحْدُود»، و«الْاِغْتِنَاء الخُصُوصِي الْـلَّامَحْدُود»، وَ«الْاِسْتِهْلَاك الشَّخْصِي الْـلَّامَحْدُود».
32) يَـعْتَـقِدُ حُـكَّام الدَّوْلة الرَّأْسَمَالِيَة، أن الرَّأْسَمَالِيَة تَتَطَلَّبُ «القانُون» وَحْدَه، وَلَا تَحْتَاج إلى «الْأَخْلَاق». وَيُصَرِّحُ كَثِير مِن الْأَشْخَاص الرَّأْسَمَالِيِّين أنّ «كلّ مَا هُو غَيْر مَمْنُوع بِالقَانُون، فَهُوَ مُبَاح، وَمَشْرُوع». وهذا الظَنَّ خَاطِئ، لأنّه مُنْـغَـمِسٌ في وَاقِـعِيَّة رَأْسَمَالِيَة فَظَّة. وَلِأَنَّ نُصُوص القانون لَا تَـقْدِرُ (في أيّ مُجتمع كان) على تَجْرِيم كلّ الجَرائم، والجُنَح، والمُخَالَفَات، وُكلّ السُلُوكِيَّات الأخرى المُضِرَّة بِالجَمَاعَة، أو بِالمُجتمع. وَيَظُنُّ حُـكَّام الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، أنه بِإِمْكَانِهِم تَدْبِير المُجتمع، وَتَسْيِير الدّولة، بِوَاسِطَة القَانُون وَحْدَه. وَلَا يَهْتَمُّون بِالْأَخْلَاق كِـقِيَم مُجتمعية ضَرُورِيَة. وَلَا يُدْرِكُون أن الْأَخْلَاق مُرْتَبِطَة بِالقَانُون، وَمُلَازْمَة له. وَلَا يَـفْهَمُون أَنَّه، مِن بَيْن أَدْوَار الدَّوْلَة، أن تَـقُومَ بِـأَنْـسَـنَـة (humanisation) المُجتمع، وأن لَا تَتْرُكَ الْأَنَانِيَة الفَرْدَانِيَة تُحَوِّل هذا المُجتمع إلى حَظِيرَة مِن الحَيَوَانَات المُـفْـتَـرِسَة. وَيَتَهَاوَن حُكَّام الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، هُم أَنْـفُسُهُم، في مَجَال اِلْتِزَامِهِم الشّخصي بِالْأَخْلَاق. وفي مُعظم الدُّوَل الرّأسمالية في العالم، يُوجد حُكَّام، أو مَسْؤُولُون كبار في الدولة، تَتَّهِمُم الصَحَافَة المُسْتَـقِلَّة (إِنْ وُجِدَتْ) مثلًا بِـ : الكَذِب، أو الغِـشّ، أو التَزْوِير، أو الرّشْوَة، أو السُلُوك المُزْدَوِج، أو التَحَايُل الْاِنْتِهَازِي، أو الْأَنَانِيَة المُفْرِطَة، أو الخِدَاع، أو إِزْدِوَاجِيَّة المَعَايِير، أو الاختلاس، أو الخِيَّانَة، الخ. وَكُلَّمَا اِكْتَـفَـى الحُكَّام في الدّولة بِالقَانُون وَحْدَهُ، وَأَهْمَلُوا الْأَخْلَاق، لَنْ يَمْنَحَهُم المُوَاطِنُون وَلَاءَهُم، وَلَا تَـقْدِيرَهُم. وكلّ مَوْقِف سيّاسي يَنْـقُـصُ من قِيمَة الأخلاق، أو يَنْكُرُ ضَرُورَتَهَا، يَنْبَنِي على أساس تَصَوُّر نَاقِص لِلْقَانُون، وَفَاشِل في مَيْدَان السِيَاسَة. لأن كُلًّا مِن الفَرْد، والجَمَاعَة، وَالمُجْتَمَع، يَحْتَاجُون إلى الْإِلْتِزَام، ليس فَقَط بِالقَانُون، بَلْ يَحْتَاجُون أَيْضًا إلى التَـقَـيُّـد بِمَنْظُومَة مُحَدَّدَة مِن الْأَخْلَاق النَبِيلَة. كما يَحْتَاج المُجتمع إلى تَثْمِين قِيمَة الْأَخْلَاق(4)، وَإِلى نَبْذ الْأَنَانِيَة، وَإلى إِشَاعَة التَضَامُن المُجتمعي، وَالْـقِـيَـم الْإِنْسَانِيَة. وَبِدُون مُنَاصَرَة الْأَخْلَاق الحَمِيدَة، تَتَحَوَّل القَوَانِين هي نَـفْسُهَا إلى خُدْعَة سِيّاسية. بِمَـعْنَى أن عَدَم إِلْتِزَام أيّ مُجتمع بِالْأَخْلَاق، يَدْفَـعُـهُ إلى التَهَاوُن في مَجَال الْإِلْتِزَام بِالقَوَانِين هي نَـفْسِهَا. وَنُؤَكِّد على ضَرورة الأخلاق(5)، وَلَوْ أننا نُدْرِك صُـعُوبَة إِيصَال بعض الفِئَات مِن المُوَاطِنِين إلى الْاِلْتِزَام الكَامِل بِهذه الْأَخْلَاق الْإِنْسَانِيَة. وَرَغْمَ هذه الصُعُوبَة المَوْضُوعِيَة، يَبْـقَـى النِضَال الصَّادِق والمُتَوَاصِل من أجل تَـفْـعِـيـل الأخلاق، ضَرُورَة حَيَوِيَة في كل المُجتمعات(6). لكن، يجب أن نَتَوَقّـف عند هذا الحَدّ، وأن نَنْتَبِه : كَيْفَ يُمكن لِلدّولة الرّأسمالية، التي لَا تُرَاقِب، وَلَا تُحَاسب، وَلَا تُـعَاقب أعضائها على خَرقهم لِلْقانون، كَيْفَ يُمكن لهذه الدّولة أن تُـعَاقِبَهُم على اِنْتِهَاكِهِم لِلْأَخْلَاق الحَمِيدَة ؟ هذا وَهْم إِيضافـيّ، وَلَا يُمكن أن يَتَحَـقَّـق في الدّولة الرّأسمالية.
33) بَدَلًا مِن أن تَكُون الدولة مُجَسَّدَة في قَوَانِين، وَفي عُـقُـود مُجْتَمَعِيَة، وفي مُؤَسَّـسَات غَيْر مُنْحَازَة لِأَيّ فَاعِل سِيَّاسِي في المُجتمع، تَمِيلُ دَائِمًا الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة إلى أَنْ تُصْبِحُ مُجَسَّدَة في أَشْخَاص كَأَشْخَاص. وَيُكَيِّـفُ الْأَشْخَاص السَّائِدُون القَوَانِين القَائِمَة لِكَيْ تَخْدُمَ مَصَالِحَهُم الخُصُوصِيَة. وَيَتَمَيَّزُ هؤلاء الأشخاص الحَاكِمِين بِاحْتِـكَارِهِم، في نَفس الوَقت، لِلسُّلُطَات السياسية، وَلِلثَّرَوَات المادّية(7). وَلَا يَـعْبَأُ كثيرون من هؤلاء الحَاكِمِين بِوُجُود هذا التَضَارُب الصَّارِخ في المَصَالِح (conflits d’intérêts).
34) يُحِسُّ بعض المَسْؤُولِين الكبار والمتوسطين في الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، الذين يُسَيِّرُون الأجهزة الإِدَارِيَة، والـقمعية، والمُخَابَرَاتِيَة، والقَضَائِيَة، والاقتصادية، والْاِعْلَامِيَة، والدِّينِيَة، الخ، أنهم يَحْصُلُون على أُجُور سَخِيَة، وعلى اِمتيّازات مُـعْتَبَرة، ليس من عند الدولة، أو من عند الشّعب، وَإِنَّمَا مِن عند الأشخاص الحَاكِمِين، الذين يُمَارِسُون السُّلطات السياسية. وَمُقابل تلك الْاِمْتِيَّازَات، يَـعْـمَلُ هؤلاء المسؤولين في الأجهزةَ الإداريةَ، والـقمعيةَ، والمُخابراتيةَ، الخ، ليسَ بِهَدَف تَـقْوِيَة دَوْلَة القَانُون، وليس بِهَدَف خِدْمَة مَصالح الشَّعب، وَإِنَّمَا بهدف حِمَايَة، وَتَـقْوِيَة، الأشخاص الحَاكِمِين، والدِّفَاع عَن نِظَامِهم السياسي الـقائم. لأن هَؤُلَاء المَسْؤُولين المُسَيِّرِين لِلْأَجْهِزَة الـقمعية، والمخابراتية، وَمَا شَابَهَهَا، يشعرون تِلْقَائِيًّا، كَأَنَّهُم مُشَـغَّلُون، وَمَأْجُورُون، لَدَى الأشخاص الحاكمين، وليس لَدَى الدولة، أو لدى الشعب، أو لدى مُؤَسَّـسَات دَوْلَتِيَة غَيْر مُشَخْصَنَة.
35) يُصبح في ذِهْن المَسْؤُولِين الكبار والمُتوسّطين في أجهزة الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، أنّ مَصْدَرُ السُّلْطَة وَالسِّيَادَة، ليس هو الشّعب، وَلَا هُوَ مُؤَسَّـسَات دَوْلَتِيَة غَيْر مُشَخْصَنَة، وإنّما هم الأشخاص الحَاكِمُون. وَهَؤُلَاء الْأَشْخَاص الحَاكِمُون يَجْمَـعُون، في نـفس الوقت، بين السَّيْطَرَة على السُّلُطَات السياسية، والسَّيْطَرَة على الثَرَوَات الاقتصادية(8). أَمَّا «سِيَّادَة الشَّعْب»، التي كانت تَارِيخِيًّا، في البِدَايَة، هي الْأَصْل في خَلْق وَتَشْيِيد الدَّوْلَة، تَحَوَّلَت إلى «سِيَّادَة مُطْلَـقَـة» لِرَئِيس الدَّوْلَة وَحْدَهُ. وَ«حُرِّيَة الشَّعْب»، التي يُـفْتَرَضُ فيها أنها هي الغَايَة الْأَسْمَى لِلدَّوْلَة، تَحَوَّلَت إلى حُرِّيَة مُطْلَـقَة لِرَئِيس الدّولة، وَإِلى إِخْضَاع تَامٍّ لِلشَّـعْب. وَخُدَّام الشَّـعْب الذين كُـلِّـفُـوا، في البِدَايَة، بِمُهِمَّة بِنَاء الدَّوْلَة، بِهَدَف خِدْمَة الشَّعْب، حَوَّلُوا الدَّوْلَة إلى "حِزْب سِيَّاسِي سِرِّي" خُصُوصِي، مُسَلَّح بِأَجْهِزَة قَمْعِيَة، تُمَارِس إِرْهَاب الدولة. وَشُـغْـل هذا "الحِزْب السياسي السِرِّي" هو فقط إِخًضَاع الشَّعْب، وَتَـكْـيِيـفِـه، وَاسْتِـغْلَالِه. وهذا التَشْخِيص السّابـق، لا يُـشَكِّل لَا سَبًّا، وَلَا شَتْمًا، وَلَا إهانةً، وَلَوْ ضِمْنِيَّا، لأيّ أحد. وإنما هو تَشْخِيص عِلْمِي، وَتَوْصِيف نَظَرِي مَوْضُوعِي، لِظَوَاهر مُجْتَمَـعِـيَة، وَدَوْلَتِيَة (نِسْبَةً لِلدَّوْلَة). وَتَتَجَاوَزُ هذه التَشْخِيصَات أَفْرَادَ المُجتمع كأشخاص.
36) يَشْعُر تِلْقَائِيًّا الكثير مِن المسؤولين (الكبار والمُتَوَسّْطِين) في الدّولة، وَالمُسَيِّرِين لِلأجهزة الـقَمعية، والمُخابراتية، وَالْاِعْلَامِيَة، وَالدِّينِيَة، وَمَا شَابَهَهَا، بِضَرُورة الوَلَاء والإخلاص، ليس لِمُؤسّـسات الدولة كَمُؤَسَّـسَات مُحَايِدَة، أو لِلـقانون كَتَـعَاقُد مُجْتَمَعِي مُحَايِد، وَإِنَّمَا يَـعْمَلُون بِالوَلَاء والإخلاص لِلْأشخاص الحَاكِمِين كَأَشْخَاص.
37) في اِطَار الدَّوْلة الرَّأْسَمَالِيَة، يُصْبِحُ إِنْجَاز مَـفْـهُوم «دَوْلَة القَانُون» أَمْرًا مُسْتَحِيلًا. وَمَـفْهُوم «دَوْلَة القَانُون» يَنْطَبِـقُ على الدَّوْلة التي تَشْتَـغِل طِبْـقًا لِمَنْطِـق القَانُون وَحْدَه، دُون أَيَّة اِعْتِبَارَات، أو تَدَخُّلَات أُخْرَى. بينما الدّولة التي تُوَزِّعُ الْاِمْتِيَّازَات على أفراد الطبقات السَّائِدَة المُسْتَـغِلَّة، وَتُمَارِس القَمْع السياسي على أفراد الطَبَـقَات المُسْتَـغَلَّة أو المُهَمَّشَة، لَا يُمكنها أن تَكُون «دَوْلَة قَانُون». كما أنّ الدّولةُ التي تُمَارَسُ داخل دَوَالِيبِهَا الزَّبُونِيَةَ، أو الْمَحْسُوبِيَةَ، أو المُحَابَاة، أو التَحَيّز، أو اِمْتِيَّاز الحَصَانَة الضِمْنِيَة، أو تَضَارُب المَصَالِح (conflits d intérêts)، أو عَلَاقَات القَرَابَة العَائِلِيَة، أو القَبَلِيَة، أو العَصَبِيَة السِيَاسِيَة، أو العَلَاقَات الاقتصادية، أو تَـغْلِيب مصالح المَجْمُوعَات المِهَنِيَة، أو غيرها مِن المصالح الانتهازية، تَـغْدُو دَوْلَةً خَارِقَة لِلْـقَانُون، وَمُتَنَاقِضَة مَـعَـهُ.
38) في الدّولة الرّأسمالية، يَصِيرُ أيضًا تَطْبِيق مَبْدَأ «رَبْط المَسْؤُولية بِالمحاسبة» أَمْرًا يَسْتَحِيلً تَنْـفِـيذُه على أرض الواقع.
39) لَا تُوجد في العالم كلّه وَلَوْ دولة رأسمالية واحدة يَتَحَـقَّـقُ فيها ذلك الشِّعَار المِثَالِي المَشْهُور : «حُـكومة الشّعب، مِن قِبَل الشّعب، وَمِنْ أجل الشّعب» (Government of the people, by the people, and for the people.). وَفِي الدّولة الرّأسمالية، تُصبح مَطَالِب مثل «بِنَاء الدولة الوطنية الديموقراطية الشّـعبية والحَدَاثِيَة»، وَ«إِقَامَة دِيمُوقْرَاطِيَة حَقِيقِيَّة»، وَ«الديموقراطية المُبَاشِرَة»، وَ«الدِيمُوقْرَاطِيَة التَشَارُكِيَة»، وَ«المَلَكِيَة البَرْلَمَانِيَة»، وَ«دَوْلَة الحَـقّ والقانون»، و«التَدَاوُل السِلْمِي على السُّلطة»، و«حُقـوق الإنسان»، وَ«إِنْجَاز نَمُوذَج تَنْمَوِي اقتصادي وَطَنِي حَقـيقـي»، و«الإِيكُولُوجِيَة الاشتراكية» (écosocialisme)(9)، الخ، تُصْبِحُ كُلُّ هذه المَفَاهِيم، وَالطُمُوحَات، مُجَرَّد أَوْهَام سَاذَجة. لأنه يَسْتَحِيل إنجازها مِن دَاخل مُؤسّـسات هذا النظام السياسي الرَّأْسَمَالِي الـقَائِم، أو عَبْر قَوَانِينه القائمة.
40) في الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، مُعْظَم الْأَشْيَاء والقَضَايَا تَـكُون مَرْئِيَّة، وَوَاضِحَة لِعُمُوم المُوَاطِنِين؛ بِاسْتِثْنَاء «الرَّأْسَمَالِيَة»، وَ«الْاِسْتِـغْـلَال الرَّأْسَمَالِي»، وَ«الصِرَاع الطَبَـقِـي»، وَ«هَيْمَنَة الطَبَـقَة السَّائِدَة». حَيْثُ تَبْـقَـى هذه الْأُمُور خَـفِـيَّـة، وَمُمَوَّهَة. وَيَصْعُبُ على المُوَاطِن العَادِي أن يَرَاهَا، أو أن يَشْعُرَ بها، أو أن يَنْتَـقِدَهَا، أو أن يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا. وَعَلَى العُمُوم، لَا تَلُوحُ هذه المَوَاضِيع في عُـقُـولِ المُوَاطِنِين العَادِيِّين، وَلَا في أَحَادِيثِهِم.
41) في الدَّوْلَة الرَّأْسَمَالِيَة، مُعْظَم الْأَحْزَاب، والنَـقَابَات، والجَمْعِيَّات، والهَيْئَات، التي تَدَّعِـي الْاِلْتِزَام بِـ «الدِّفَاع عن مَصَالِح الطَبَـقَة العَامِلَة»، أَو طَبَـقَة المُسْتَـغَـلِّين، تَخْضَعُ لِتَأْثِيرَات قَوِيَّة، دَاخِلِيَّة وَخَارِجِيَّة، وَيَخْتَرِقُهَا الصِرَاع الطَبَـقِـي، وَتَتَحَوَّلُ إلى نَـقِـيضِهَا. أَيْ أنها تُصْبِحُ في الوَاقِع مُـعَـارِضَة لِمَصَالِح طَبَـقَة المُسْتَـغَـلِّين. وَتَـغْدُو مُهَادِنَة لِـ، أو مُطَبِّـعَـة مَعَ، الْاِسْتِـغْـلَال الرَّأْسَمَالِي.
42) كُلَّمَا تَكَرَّرَت، أو اِحْتَدَّت، أزمة الرّأسمالية، تَصَاعَد كلام بعض الشخصيّات عَن «الدِّيمُوقْرَاطِيَة»، وَعَن «الحُرِّيَة»، وَعَن «مَنَافِـع الرَّأْسَمَالِيَة»، وعن «الْلِّبِيرَالِية» (libéralisme)، وعن «النْيُو لِيبِيرَالِيَة (néo-libéralisme)»، وعن «الدَّوْلَة الاِجْتِمَاعِيَة (L’État social)»، الخ. لكن السُؤَال الذي يَـفْرِضُ نَـفْسَه هو : هَل يُمكن فِعْلًا لِلدَّولة، في إطار الرَّأْسَمَالِية (بِمَا فيها الرَّأْسَمَالِيَة التَبَـعِـيَة لِلْإِمْبِرْيَالِيَة)، أن تَكُون «دِيمُوقْرَاطِيَة» حَقًّا، أو «لِبِيرَالِيَة»، أو «اجْتِمَاعِيَة» ؟ إِجَابات أنصار الرَّأْسَمَالية هي دَائِمًا «نَعَم». لأن أنصار الرّأسمالية يُؤْمِنُون بِأَنّ الرَّأْسَمَالِية هي «الإِلَه الوَحِيد» الذي يَخْلُق كلّ الْأَشْيَاء، وَيُنْشِئ التَوَازُنَات المِثَالِيَة فيما بَيْنَهَا. لكن التَجَارِب التي حَدَثَت في مُختلـف البُلدان الرَّأْسَمَالِيَة عَبْرَ العَالَم (بما فيها التَابِـعَة لِلْإِمْبِرْيَالِيَة)، تُوَضِّح أن الدَّوْلة الرَّأْسَمَالِيَة تَتَطَوَّرُ بشكل لَا يُـقَاوَم نَحو الدِيكْتَاتُورِية المُمَوَّهَة (camouflée) لِطَبَـقَة المُسْتَـغِلِّين الكِبَار. وَتَمِيل دَائِمًا نَحْو تَـغْلِيب خِدْمَة مَصَالِح الرأسماليِّين المُسْتَـغِلِّين الكبار، وذلك على حِسَاب خِدمَة مَصَالح الكَادِحِين المُسْتَـغَلِّين، والـفَلَّاحِين الفُـقَـرَاء، وَالصِّغَار، وَالحِرَفِيِّين، والتُجَّار الصِغَار، وَالخَدَمَاتِيِّين، وَالمُهَمَّشِين، والمَحْرُومِين.
43) تَـدَّعِـي الدولة الرَّأْسَمَالِيَة «تَمْثِيل الشَّعب»، وَ«خِدْمَة مَصالحه». بَل تَزْعُمُ الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة أنها هي «رُوح الشّعب»، وَأنّها «فَوْق الشَّعْب»، وَأنها «أَسْمَى منه». وفي الواقع المَلْمُوس، تُسَيْطِر الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة على الشَّعب، وَتَخْنُـقُـه، وَتَـكْذِبُ عليه، وَتُخَادِعُه، وَتَـقْـمَـعُـه، وَتَسْتَـغِـلُّه، وَتَنْهَبُ ثَرَوَاتِه. وكلّ الأجهزة المُسَلَّحَة، أو العسكرية، المُتَنَوِّعَة، والمُتَـعَـدِّدَة، التي تُـعِدُّها الدولة، مِن أنواع البوليس، والعَسَاكِر، والمُخْبِرِين، وَالْاِعْلَامِيِّين، وَفُـقَـهَاء الدِّين، الخ، لَيْسَت مُعَدَّة لِمُوَاجَهَة قِوَى أَجْنَبِيَة غَازِيَة (مِثْلَمَا يَزْعَمُ البعض)، وَإِنَّمَا الهدف الْأَوَّل والأَخِير لكلّ هذه الْأَجْهِزَة القَمْعِيَة، هو قَمْع الشَّـعب، وَإِرْهَابه، وَمُـعَاقَبَة كلّ المُوَاطِنِين النَّاقِدِين، أو المُعَارِضِين، أو الثَّائِرين، مِن بين أفراد الشعب، وَهَدَفُهَا أيضًا هُو إِخْضَاع هذا الشّـعب لِطَبَـقـات المُسْتَـغِـلِّين، وَضَمَان اِسْتِمْرَارِيَة اِسْتِـغْلَالِ الشّعب الكَادِح.
44) تَسْتَوْجِبُ تَلْبِيَة حَاجِيَّات الشعب اِسْتِثْمَارَات مُنْتِجَة، وَهَائِلَة، وَمُتَتَابِـعَة. وَمَا دَامَت هذه الاستثمارات المُنْتِجَة غَائِبَة، أو نَاقِصَة، أو مُنْحَرِفَة، تُصْبِح نِسْبَة هَامَّة من المُوَاطِنِين لَا تَـقْـدِر على الوُصُول إلى مَصْدَر لِلُـقْـمَة العَيْش سِوَى عَبْر الْاِشْتِـغَال كَمُوَظَّـفِين في أَيّ جِهَاز كَان مِن بَيْن أَجْهِزَة الدَّوْلَة. وَخَوْفًا مِن تَـفَاقُم البِطَالَة وآثَارِهَا، تَلْجَأُ الدولة هي نَـفْسُهَا إلى خَلْق مَنَاصِب شُـغْل في إِدَارَاتِهَا. وَيَجِدُ جُزْء هَام مِن المُواطنين أَنْـفُسَهُم مُكْرَهِين على التَهَافُتِ، بِكُل الطُرُق المُمْـكِنَة، على الظَّـفَرِ بِشُـغْـل (أَيْ وَظِيفَة) في إحدى أجهزة الدولة. وَيَـغْدُو الحُصُول على مَصْدَر مُنْتِج لِدَخْل قَارٍّ (أي الوَظِيفَة) هو الهَدَف الْأَهَمّ. وفي إطار التَضَامُن العَائِلِي، أو القَبَلِي، يَـعْمَل سِرًّا كل شَخْص حَصَل على وَظِيفَة في إِحْدَى أجهزة الدولة بِهَدَف إِدْخَال أَحَد أَقْرِبَاءه إلى وَظِيفَة مُشَابِهة، في نفس الْاِدَارَة، أو في نَـفْس الجِهَاز الدَّوْلَتِي. فَتَمِيل بِيرُوقْرَاطِيَة الدّولة إلى التَوَسُّع، والتَضَخُّم، بدون تَوَقُّـف. ولا تَـقْبَل الدّولة تَرْقِيَة سِوَى المُوَظَّفِين الذين يُظْهِرُون تَـفَانِيَهُم في خِدْمَة المَلِك، أو رئيس الدّولة، أوَ خِدْمَة النظام السياسي القائم. وَيَتَبَيَّنُ في النِهَايَة، أنّ مُـعْظَم مُوَظَّفِي الدَّوْلَة، لَا يَهُمُّهُم، في دَاخِل سِرِّ أَنْـفُسِهِم، سِوَى اِسْتِـغْـلَال مَسْؤُولِيَّاتِ وَظَائِـفِهِم، لِتَحْـقِيق الْاِغْتِنَاء، وَلَوْ كَانت طُرُقُ هذا الاغتناء غَيْر مَشْرُوعَة، أو غَيْر أَخْلَاقِيَة. وهذه الظَوَاهِر، هي ظَوَاهِر مُجْتَمَـعِيَة، وَتَتَجَاوَزُ الْأَشْخَاص المَعْنِيِّين.
45) مِن أَبْرَز مُـكَوِّنَات الدّولة، نَجِدُ : سُلْطَة سِيَّاسِيَة مَرْكَزِيَة قَوِيّة، مِلْكِيَّة خَاصّة، جَيْش، بُولِيس، مُخَابَرات، بِيرُوقْرَاطِيَة إِدَارِيَة، جِبَايَة، عَـقْـلَنَة نِسْبِيَّة لِلْاِقْتِصَاد الدَّاخِلِي، لُـغَة مُوَحَّدَة، نَزْعَة قَوْمِيَة سَائِدَة وَمُوَحَّدَة، سُوق تِجَارِيَة دَاخِلِيَّة، مَذْهَب دِينِـي سَائِد أو مُوَحَّد، مَنْظُومَة دِعَائِيَة، الخ.
46) المُـكَوِّن الحَاسِم، أو الْأَسَاسِـي، في بِنْيَة الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة هُو الْأَجْهِزَة الـقَمْـعِـيَة. وهذه الأجهزة القَمعية هي الْأَدَاة التي تَحْتَـكِرُ الدَّولة بِوَاسِطَتها اِسْتـعمال القُوَّة، والسِلَاح، والعُنْف. وَتَتَكَوَّن الْأجهزة القَمـعية مِن مُخْتَلَف أنواع البُولِيس، والمُخَابَرَات، وَأَنْوَاع قُوَّات التَدَخُّل السَّرِيع، والجَيْش، الخ.
47) لِتَوْضِيح قِيمَة، أو مَرْتَبَة الْأَجْهِزَة القَمْـعِـيَة لَدَى الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، أَعْرِضُ هُنَا كَـيْفَ تَـعَامَلَت معها الدّولة، إِبَّان اِنْتِشَار وَبَاء "كُورُونَا كُوفِيد 19" القَاتِل. فَـقَد تَـفَـشَّى مَرَض "كُوفِيد" عَبْر العالم، منذ شهر دِيسمبر 2019. وبعد اِبْتِـكَار الْلِّـقَاحَات الأُولَى، ثُمّ اِنْخِفَاض أثمانها، إِخْتَارَت السُّلطة السياسية (في المَغْرِب) تَلْـقِيح مُجمل سُكَّان البلاد (بِأَمْوَال عُمُومِيَة). وقَرَّرَت السُلطة السياسية تَرْتِيبًا دَقِيقًا في لَائِحَة المُرَشَّحِين لِلْاِسْتِـفَادَة مِن هذا التَلْـقِيح. وَمَنَحَت الأسبقية (عَبْرَ قَرَار رَسْمِي)، أوّلًا إلى المَسؤولين الكبار والمتوسطين في الدولة، وثانيًّا إلى العاملين في «الأجهزة الأمنية» (أَيْ الْأَجْهِزَة الْقَمْـعِـيَة)، وثالثا إلى العاملين في مَيدان الصِحَّة، وَرَابِعًا إلى بَـقِيَة عُمُوم الشّعب. وَيُبْرِز هذا التَرتِيب أَوْلَوِيَّات السلطة السياسية في الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة(10). لأن الطبقات السّائدة تُدْرِك جَيِّدًا أن الْأَسَاس الرَّئِيس الذي تَسُود بِوَاسِطَتِه، هو الْأَجْهِزَة القَمْعِيَّة.
48) أَفْرَاد بِيرُوقْرَاطِيَة الدَّوْلَة هم أَصْنَاف. وَتَشْمَلُ بِيرُوقْرَاطِيَة الدولة : الْأَجْهِزَةَ القَمْـعِيَة، والأجهزة الْإِدَارِيَةََ التَنْـفِيدِيَةَ، وَالـقَضَائِيَة، وَالتَشْرِيعِية، والْاِقْتِصَادِيَة، والمَالِيَة، وَالْإِعْلَامِيَة، والدِيبْلُومَاسِيَة، وَالدِّينِيَة، الخ.
49) جُزْء هام من أعضاء بِيرُوقْرَاطِيَة الدّولة هُم شُرَكَاء في النظام السياسي الـقائم. وَيَـعْتَزُّون بِانْتِمَائِهِم إلى الدّولة الطبقـية الـقائمة. وَيَسْتَـفِيدُون (سَوَاءً بِشكل مُباشر، أم غير مُبَاشِر) مِن الْاِسْتِـغْلَال الاقتصادى، ومن السِيَّادَة السياسية، ومن الاستبداد السياسي، ومن الفساد، وكذلك مِن التَبَـعِيَة لِلْإِمْبِرْيَالِيَة.
50) تَمِيل بِيرُوقْرَاطِيَة الدولة الرّأْسَمَالِيَة إلى التَصَرُّف كَأَنَّهَا «طَبَـقَة مُجْتَمَـعِيَة» مُنْسَجِمَة، وَمُتَمَاسِـكَـة. وَيَتَضَامُن أعضاء بِيرُوقْرَاطِيَة الدولة فيما بينهم. وَيُوَاجِهُ أَفْرَاد بِيرُوقْرَاطِيَة الدَّوْلَة كُلّ نَـقْد مُوَجَّه إلى أَيِّ وَاحِد مِنْهُم. وَيَرْفُضُون التَـعَرُّض لِلْمُرَاقَبَة. وَيَـعْـتَرِضُون على أَيَّة مُحَاسَبَة. وَيَمْنَحُون لِبَعضهم بعضًا حَصَانَة مُطْلَقَة. وَيَتَظَاهَرُون بِتَبَنِّـي مَـفْـهُوم «دَوْلَة القَانُون». لكنهم يَخْرُقُونَه في الوَاقِع مَعَ سَبْق الْإِصْرَار. وَيَتَصَدَّوْنَ لِكُلّ مُحَاوَلَة لِتَشْيِيدِ «دَوْلَة القَانُون». كما يَتَضَامَنُ أَفْرَاد بِيرُوقْرَاطِيَة الدولة مع طَبَـقَـة المُسْتَـغِلِّين الكِبَار. وَيَتَضَامَنُون كَذَلِك مع الْإِمْبِرْيَالِيَّات الغَرْبِيَة المُهَيْمِنَة على البِلَاد. وَبَعْضُهُم يُحِبُّ إِسْرَائِيل، وَالصَّهَايِنَةَ المُسْتَـعْمِرِين. لأنهم يُدْرِكُون تَرَابُطَ مَصَالِحِهم مَعَ هَذه الْكِيَّانَات.
51) في إِطَار كلّ مُجتمع يَسُود فيه الصِّرَاع الطَبَـقِـي، لَا تَـقْدِرُ الدّولة، وَلَا مُـكَوِّنَاتُهَا الجُزْئِيَة، على أن تَـكُون مُحَايِدَة (neutre). وَمَهْمَا كانت الْأَخْلَاق الْأَصْلِيَة لَدَى المَسْؤُولِين (الكبار والمُتَوَسِّطِين) في الدّولة، وَمَهْمَا كانت نَوَايَاهُم الحَسَنَة الْأُولَى، فَإنّ الدّولة الرَّأْسَمَالِية (كَمَنْظُومَة عُضْوِيَة مُتَرَابِطَة) تَدْفَـعُـهُـم بِـقُـوَّة إلى أن يُصْبِحُوا، في قَضَايَا الصِّرَاع الطَبَـقِـي، مُنْحَازِين (biased people)، أو مُسْتَبِـدِّين، أو غَـشَّاشِين. وَيُمكن التَأَكُّـد مِن وُجُود هذه الظَّاهِرَة، وَلَوْ بِتَـفَاوُتَات نِسْبِيَّة، في مُعظم الدّول الرَّأْسَمَالِيَة القائمة في العالم.
52) يَحْصُل أَعْضَاء بِيروقْرَاطِيَة الدَّوْلة الرَّأْسَمَالِيَة على أُجُور سَخِيَّة، وَعلى اِمْتِيَازَات مَادِّيَة مُعْتَبَرَة. وَيَخَاف أعضاء بِيرُوقْرَاطِيَة الدولة من تَمَرُّدِ طبقة المُسْتَـغَلِّين، والـفَلََّاحِين الصِّـغَار، والجماهير الشعبية الخَاضِعَة، والمَحْرُومَة، وَالمُهَمَّشَة. وَرَغْم أن جُزْءً هَامًّا مِن أعضاء بِيرُوقْرَاطِيَة الدولة يَنْحَدِرُون هُم أَنْـفُسُهُم من فِئَات طَبَـقِيَة شَعْبِيَة فَـقِـيرَة نِسْبِيًّا (مِن فَلَّاحِين صِغَار، وَعُمَّال، وَحِرَفِيِّين، وَمُهَمَّشِين، الخ)، فإن أُصُولَهُم الـمُـعْوِزَة، وَانْتِهَازِيَتَهُم الشَّخْصِيَة، تَجْـعَـلُهُم يَـقْـبَـلُـون بِأن يَـعْـمَـلُـوا كَـخَدَم مَأْجُور لَدَى النظام السياسي الرَّأْسَمَالِي القائم. وبعضهم يَشـعر كَمَا لَوْ أنه يَعْمَل كَـ «مُرْتَزِق»، أو كَـ «عِيَّاش». لكنّهم يَتَدَبَّرُون أَمْرَهُم كما يَستطيعون، وليس كما يَتَمَنَّوْن. حَيْثُ أَنّه، في إِطَار النَّدْرَة الحَادَّة لِمَنَابِـع الدَّخْل المَادِّي، وَتَحْتَ ضَغْط خَطَر البِطَالَة، يَـكُون الهَمُّ الرَّئِيسِي لِلْمُوَاطِن هو الحُصُول على مَصْدَر قَارّ لِلدَّخْل، لِنَيْل لُـقْمَة العَيْش، وذلك بِغَضِّ النَظَر عن أَيِّ اِعْتِبَار أَخْلَاقِـي. وَيُدْرِكُ جَيِّدًا بعض المُواطنين أنهم يَبِيـعُـون ضَمِيرَهُم مُـقَابِل أُجْرَة شَهْرِيَة مَضْمُونَة. وبعضهم يَـقْدِرُ على الْاِحْسَاس بِـ «خِيَّانَتِهِ» لِشَـعْبِه. لَكِنَّهُم يَحْرُصُون على كَبْت هذا الْإِحْسَاس بِالذَّنْب مِن ذِهْنِهِم، بِهَدَف طَمْأَنَة ضَمِيرِهِم. وَقَدْ يَـقُولُون مثلًا داخل أَنْـفُـسِهِم: «لَا أَحَدَ يَتَصَرََّفُ بِحُرِّيَة. نَحْن كُلُّنَا مُـكْـرَهُون. هذا مَصِيرِي المُـقَـدَّرٌ عَلَيَّ. إِنَّهَا إِرَادَة إِلَاهِيَة». وهذا البَصِيصُ مِن الْإِحْسَاس المَوضُوعِي بِالذَّنْب، هو الذي قَدْ يَجْـعَلُ جُزْءًا مِن أَفْرَاد الْأَجْهِزَة القَمْـعِيَة تَـقْـبَلُ الْإِلْتِحَاقَ بِصُفُوف الثُوَّار، عِندما يَتَّضِـح أن الثورة المُجتمعية قَدْ أَصْبَحَت وَشِيكَة على الانتصار.
53) في مُجمل الصِّراعات السياسية، والاقتصادية، والثَـقَافِيَة، الجَارِيَة في المُجتمع، تَـعمل مُختلـف مُؤَسَّـسَات الدولة الرَّأْسَمَالِيَة، وفي نَـفس الوَقت، كَخَصْم، وَكَحَـكَم. وَتَنْطَبِـقُ هذه المُلَاحَظَة على الأجهزة الـقمعية، والمُخابراتية، والتَنْـفِـيـذِيَة، والتَشْرِيعِية، والقَضَائِيَة، والْاِعْلَامِيَة، الخ. وَيُـفْـتَرَضُ نَظَرِيًّا في كلّ مُؤَسَّـسَات الدولة الرَّأْسَمَالِيَة، أنها «مُسْتَـقِـلَّة»، وَ«نَزِيهَة». لكن مِن فَتْرَة لأخرى، يَتَـفَاجَأُ المُوَاطِنُون بِمُلَاحَظَة أن مُؤَسَّـسَات الدّولة هي مُنْحَازَة، أو خَاضِعَة، أو مُعَادِيَة لِلشَّعْب، أو أَنَّهَا تُـغَـلِّـبُ مَصَالِح خُصُوصِيَة، أو أنها تُمَارِس الغِشَّ، أو أَنَّ القَائِمِين عليها يُمَارِسُون الْإِغْتِنَاء غَيْر المَشْرُوع، أو الفَسَاد، أو التَضْلِيل، أو التَزْوِير.
54) الدِّينُ السَّائِدُ في المُجتمع، وفي الدَّوْلَة القائمة، هو الدِّين الذي تُـفَـضِّلُه الطَبَـقَة السَّائِدَة في المُجتمع. وَمَا يَهُمُّ الطَبَـقَةَ السَّائِدَة في تَـفْضِيل مَذْهَب دِينِـي مُحَدَّد بِالمُقَارَنَة مَع غَيْرِه (مِن المَذَاهِب الدِّينِيَة)، لَيْسَ هُو سَدَادَهُ، أو قَدَاسَتَه، أو شَرْعِيَتُه، وَإِنَّمَا هُو مَدَى تَـفَـوُّقِـهِ في بَـثِّ الخُضُوع، والطَّاعَة، وَالصَّبْر، في نُـفُـوس المُوَاطِنِين.
55) تُنَظِّمُ الدّولة القائمة بِنَاءَ مَسْجِد كَبِير في كلّ حَـيِّ صَغِير. (وَفي نَـفْس الوَقْت، تَرْفَضُ هذه الدّولة تَجْهِيزَ وَلَوْ مَكْتَبَة عُمُومِيَة وَاحِدَة في كلّ مَدِينَة، مثلما هو مَعْمُول بِه في بُلْدَان أَوْرُوبَّا وَأَمْرِيكَا). وَتَضَعُ الدّولةُ مُكَبِّرَات الصَّوْت القَوِيَة فَوْق جُدْرَان وَمَـآذِنِ المَسَاجِد. فَـتُـوقِضُ مُكَبِّرَات الصَّوْت سُكَّانَ كُلّ حَـيِّ في سَاعَة الفَجْر المُبْكِرَة (أَيْ قُرَابَة السَّاعَة 04:40). وَلَا تَسْمَح الدّولةُ لِلسُّـكَّان بِأَنْ يَـعْـتَرِضُوا على هذا الْاِزْعَاج. وَيَـقُول الْآذَانُ لِلسُكَّان : «الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّـوْم»! وَلَوْ أَنّ مُعْظَم سُكَّان الحَـيْ يَرْفَضُون الذَهَاب إلى المَسْجِد في سَاعَة مُبْكِرَة.
56) إذا كانت الدولة مُلْتَزِمَة بِـمَبْدَأ «الفَصْل بَيْن الدِّين والدّولة»، وَبِـ «الفَصْل بَين الدِّين والسِيَاسَة»(11)، تُصْبِح سِيَاسَة الدّولة عَارِيَة. فَيَحْـكُم المُسْتَـغِلُّون والمُسْتَبِدُّون «بِاسْم الشَّعْب»، أو بِمُبَرِّر شَرْعِيَة «الْاِقْتِرَاع العَام الدِيمُوقْرَاطِي». وَإِذَا كَان السِيَاسِيُّون يَسْتَـغِلُّون الدِّينَ في السِيَاسَة، أو إذا كانت الدولة «تَسْتَرْشِد بِشَرِيعَة الدِّين»، يُصْبِح المُسْتَـغِلُّون والمُسْتَبِدُّون يَحْكُمُون «بِاسْم الله»، أو «بِتَـفْوِيض مِنْه»، أو «بِدَعْم مِنْهُ». أو يَزْعُمُون أن وُجُودَهُم في الحُكْم هو «قَدَرٌ إِلَاهِي»، أو أَنَّ سِيَّاسَاتهم الشَّخْصِيَة الفَاشِلَة هي نَتِيجَة لِـ «إِرَادَة الْإِلَه». وَكُلّ دَولة تَدَّعِي تَطْبِيق الدِّين، يَتَحَوَّل فيها الحُكَّام إلى «وُكَلَاء يَنُوبُون عن الْإِلَه». فَتَتَطَوَّر الدّولة إلى اِسْتِبْدَاد الْأَقَلِّيَة. وَيَـفْتَح الخَلْط بين الدِّين والسياسة إِمْكَانِيَّات تَـفْسِير الْإِخْفَاقَات السياسية بِالخُرَافَات الدِّينِيَة التي تَطْمَسُ الوَاقِع، أو تُخَدِّر الذِّهْنَ، أو تُلْغِي العَقْلَ، أو تَمْنَعُ النَّـقْدَ، أو تُجَرِّم المُعَارَضَة السِياسية.
57) عِندما تَكُون الدَّوْلة القَائِمَة مَبْنِيًّة على أَسَاس طَوَائِـف دِينِية، أو عِرْقِيَّة، أو لُـغَـوِيَة، أو مَا شَابَهَ ذلك، تَـفْـقِـدُ بِالضَّرُورَة هذه الدّولة اِنْسِجَامَهَا النِسْبِي. وَتَتَحَوَّل هذه الدّولة إلى عِدَّة دُوَّيْلَات مُتَدَاخِلَة، وَمُتَشَابِـكَة، وَمُتَنَافِسَة، وَمُتَنَاقِضَة، وَمُتَحَارِبَة. وَتَلْجَأُ كلّ دُوَيْلَة إلى التَعْوِيض عن ضُعْفِها بِوَاسِطَة عَقْد تَحَالُفَات مَع قِوَى عُظْمَى عَالَمِيَة. وَتُصْبِحُ الدّولة الشَّامِلَة كَأَنَّهَا مُخْتَرَقَة مِن طَرَف عِدَّة أَحْزَاب سِيَّاسِيَة سِرِّيَة، مُتَصَارِعَة، وَمُتَنَاحِرَة. وَتَـفْـقِـدُ مُخْتَلَف قِطَاعَات الدّولة فَـعَـالِيَتَهَا. بَلْ يَـغْـدُو مِن شِبْه المُسْتَحِيل إِلْتِزَام مُخْتَلَف الفَاعِلِين السِيَّاسِيِّين بِالقَوَانِين القَائِمَة. وَتُصْبِحُ «أَزْمَة» الدّولة، أو «اِنْحِصَارُهَا» (blocage)، حَالَةً مُتَوَاصِلَة. وَقد تُؤَدِّي هذه «الأزمة» إلى اِنْشِطَار الدّولة القديمة، أو إلى حَرب أهلية.
58) من فتـرة لأخرى يَنْـفَضِـح أن أجهزة الدولة الرَّأْسَمَالِيَة تـعمل كَحِزْب سياسي سِرِّي، مُهَيْمِن، وَمُتَحَيِّز. وَلَوْ أنّ هذا الحِزب هو حِزْب مِن نَوْع خَاصّ. حيثُ أنه، لَا يَـعْـقِـد مُؤْتَمَرات، وَلَا يُنَظِّم اِنْتِخَابَات دَاخِلِيَة، وَلَا يَتَوَفَّـر على وَثَائِـق تَوْجِيهِيَة، وَلَا على هيئات تنظيمية واضحة وقارّة. وَرَغْم كلّ ذلك، تظهر الدولة في عَمَلِهَا، مِن حِين لآخر، كَأَنَّها حِزْب سيّاسي سِرِّي. وَتَتَصَارَعُ الدولة مع قِوَى سياسية مُخَالِـفَة، أو مُعَارِضَة، أو مُعَادِيَة. وَتُوَاجِهُ الدّولة قِوَى مُجتمعية مُنَاهِضَة. وَتُدَافِع هذه الدّولة عن بَرْنَامَج سياسي حِزْبِي خاصّ بها، وَخَاصٍّ بِـعَصَبِيَّة حِزْبِيَّة مُتَشَدِّدَة. وَتَـعمل الأجهزة الـقَمعية، والمُُخابراتبة، وَالبَرْلَمَانِيَة، وَالقَضَائِيَة، وَالْاِعْلَامِيَة، وَالدِّينِيَة، الخ، بشكل مُـعَاكِس لِلْـقَانون القائم، وَلِلدُّسْتُور. لكن العَـقْل السَّلِيم، يَنْتَبِه، وَيَنْتَـقِد، وَيُـعَارِض، التَحَوُّلَ مِن مَزَاعِم «الدفاع عن أَمْن الدّولة» إلى التَّضْحِيَة بِـ «أَمْن الشَّـعْب». وَيَرْفُض العَقْل السَّلِيم خَرق حقـوق المواطنين، أو الْإِضْرَار بِـ «أَمْن الشَّعب»، أو بِمَصَالِحِه.
59) عندما تَتَحَوُّل الدّولة إلى شِبْه حِزْب سيّاسي سِرِّي، تَظْهَر على شَكْل كَائِن مُجْتَمَـعِـي جَدِيد، هو «الدَّوْلة كَـحِزْب»، أو «الدّولة - الحزب». وفي هذه الحالة، تَتَصَرَّفُ الدَّوْلَة كَأُنَّهَا حِزْب سيّاسي سِرِّي. وَفي زَمَانِنَا الحَدِيث، لَا يُمكن أن تَـكُون «الدّولة - الحِزب» سِوَى نَـقِـيضًا لِلشَّـعْب. وَمَصِير الدّولة في إطار التَبَـعِيَّة لِلْإِمْبِرْيَالِيَّات، هو أن تَكُون رَأْسَمَالِيَة، وَاِسْتِبْدَادِيَة، وَمُسْتَـغِـلَّة، وَمُـفْـتَـرِسَة. بَلْ «الدّولة - الحِزْب» هي أَصْلًا نَتِيجَة لِاسْتِبْدَاد سِيَّاسِي سَافِر، وَقَدِيم. وَكُلَّمَا ظَهَرَت «الدولة - الحِزْب»، تُصْبِحُ بِالضَّرُورَة الانتخابات العَامَّة مُجَرَّد تَمْثِيلِيَة، شَـكْـلِيَّة، وَمَـغْـشُوشَة، وَعَـبَـثِـيَـة(12). والمُؤَهَّلُون، أَكْثَر مِن غَيْرِهِم، لِلْفَوْز في هذه «الانتخابات العامّة»، هم الأشخاص المَالِكُون لِلثَرَوَات، والمُـقَرَّبُون مِن السُّلْطَة السياسية.
60) خِلَال الفَتَرَات العَادِيَة، تَـعْـمَل الدولة الرَّأْسَمَالِيَة كَـحِزْب سِيَاسِي سِرِّي، وَاحِد، وَمُوَحَّد، وَمُنْسَجِم. لكن خِلَال فَتَرَات أُخْرَى خاصّة، أَيْ أثناء الفَتَرَات التي تَـكُونُ فيها التَنَاقُضَات السياسية، المَوْجُودَة في النظام السياسي القائم، قَدْ بَلَـغَت حَدًّا كَبِيرًا مِن التَـفَاقُـم، تَـعْمَل آنَـئِـذٍ الدولة الرَّأْسَمَالِيَة كَمَنْظُومَة مُرَكَّـبَـة، وَمُتَنَاقِضَة، وَمُـكَوَّنَة مِن عِدَّة أَحْزَاب سياسية سِرِّيَة، مُتَنَافِسَة، ومُتَصَارِعَة، وَمُتَنَاحِرَة. وَقَد تَتَحَوَّل هذه الصِرَاعَات إلى أَزْمَة حَادَّة، أو إلى فَوْضَى مُجْتَمَـعِـيَة، أو إلى شِبْه حَرْب أَهْلِيَة. وَقَد تَدُوم (هذه الأزمة، أو الفَوْضَى، أو الحَرْب الأهلية) إلى أن يُسَيْطِرَ طَرَفٌ وَاحِدٌ مِن بَيْن هذه الأحزاب السيَّاسية السِرِّيَة في الدولة، فَـيَـقْـضِـيَ، جُزْئِيًّا أو كُلِيًّا، على بَاقِي الْأَطْرَاف الأُخْرَى المُنَافِسَة.
61) تَحْدُثُ صِرَاعات مُتَكَرِّرَة، وَخَفِيَّة، داخل أجهزة الدولة، حول تَوْزِيع مُخْتَلَـف المِيزَانِيَّات المَالِيَة لِلدَّوْلَة فيما بين مُخْتَلَف قِطَاعَات الدّولة. وَفي مُعْظَم الحالات، تُحْسَمُ هذه الصِّرَاعات لِصَالح فِئَات مُوَظَّفِي الدولة (العاملين في مُختلـف أجهزتها). وهكذا فَرَضَت فِئَاتُ مُوَظَّـفِـي الدّولة تَـقْلِيصًا مُتَكَرِّرًا، وَمُتَوَاصِلًا، في مِيزَانِيّات التـعليم العُمُومِي، والمُسْتَشْـفَيَات العُمُومية، وَمِيزانيّات التَجْهِزَات العُمُومِيَة الْأَسَاسِيَة، وَالخَدَمَات المُجتمعية، وَالبِنْيَات التَحْتِيَة المُجتمعية، الخ. وَبِالمُـقَابِل، تَوَاصَلت الزِيَّادات في المِيزَانِيَّات العُمُومِيَة المُخَصَّصَة لِأُجور وَامْتِيَّازَات مُختلـف فِئَات مُوَظَّـفِي الدولة، وخاصّة منهم الموظّـفون في وزارة الداخلية، والإدارات، والأجهزة الـقمعية، والأجهزة المُخابراتية، وَالْاِعْلَامِيَة، والجيش، وَقُـوَّات التَـدَخُّل السَّرِيع، والقُـوّات القَمْـعِيَة الخَاصَّة والمُتَنَـوِّعَة، الخ. وهكذا، غَدَت الدّولة، مُـعَبَّـئَـة، ليس لِخْدمة مَصالح الشّعب، وإنما مُعَبَّئَة لِـفَائِدَة طَبَـقَة المُسْتَـغِـلِّين الكِبَار. وَتَـعْمَل الدّولة لِقَمْع الشّعب، وَلِإِبْـقَائِـه خَاضِعًا. وَتَخْدُم الدّولةُ مصالحَها الخَاصّة كَدَوْلة.
62) تَمِيل دَائِمًا الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة إلى إِنْـفَـاق أَكْثَرَ مِمَّا تُنْتِج. فَتَلْجَأُ هذه الدّولة إلى اِقْتِرَاض مُتَزَايِد، وَلَا مَحْدُود. وَجزء هامّ من الضَّرَائِب التي تَجْمَعُهَا الدّولة، تَذْهَب إلى جُيُوب جُيُوش مُكَوَّنَة مِن أُجَرَاء الدّولة (المُوَظَّفِين)، على شَكْل أُجُور وَامْتِيَّازَات مُتَنَوِّعَة. وَجُزْء آخر هَامّ مِن الثَرَوَات العُمُومِيَة، وَمِن الضَرَائِب المَجْمُوعَة، يَذْهَبُ إلى الرَّأْسَمَال، وإلى المُـقَاوَلَات الرَّأْسَمَالِيَة الخُصُوصِيَة، على شَكْل «مُسَاعَدَات»، أو على شكل «تَشْجِيع لِلْاِسْتِثْمَار»، أو «دَعْم لِلتَّنْمِيَة الاقتصادية». فَتَتَطَوَّر الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة مِن أَزْمَة اِقْتِصَادِيَة إلى أُخْرَى، إلى أَنْ تَنْهَار.
63) وَلِتَدْبِير نَـفَـقَـات التَسْيِير والْاِسْتِثْمَار، تَحْتَاج الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة إلى مَوَارِد مَالِيَة سَنَوِيَة، في تَزَايُد لَا مُنْتَهِي. لأن نَـفَـقَـات الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة تَـفُـوق بِاسْتِمْرَار مَوَارِدَهَا. فَـتَـغْرَق الدولة الرّأسمالية (وَخُصُوصًا في "العالم الثالث") في دُيُون ضَخْمَة، وَمُتَصَاعِدَة. وفي غَالِبِيَة الحَالَات، يَكُون تَضَخُّم دُيُون الدّولة نَتِيجَةً لِمُؤَامَرَة مَالِيَة مُدَبَّرَة مِن طرف شَرِكَات إِمْبِرْيَالِيَة ضَخْمَة، أو مِن طَرَف المُؤَسَّـسَات المَالِيَة التَابِـعَة لها، مثل "البَنْك الدُّوَلِي"، وَ"صُنْدُوق النَّـقْد الدُّوَلِي". فَتَضْطَرُّ الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة (خُصُوصًا في "العالم الثالث") إلى اِقْتِرَاض المَزِيد مِن الأَمْوَال الخَارِجِيَة وَالدَاخِلِيَة، وَلَوْ عَبْرَ مُـقَايَضَة الحُصُول على هذه الدُيُون الْاِضَافِيَة مُقَابِلَ التَنَازُل عن أَجْزَاء مِن «السِيَادَة الوَطَنِيَة». وَحَجْم هذه القُرُوض يَدْخُلُ هو أيضًا في تَزَايُد لَا مُنْتَهِي. رُبَّمَا بِسَبَب سُوء التَدْبِير، أو بِسَبَب الفَسَاد المُسْتَشْرِي في الدّولة، أو بِسَبَب نَهْب الرَّأْسَمَالِيِّين الخَوَاصّ لِلثَّرَوَات العُمُومِيَة، أو بِسَبَب دُخُول الدّولة في اِسْتْرَاتِيجِيَّات اِقْتِصَادِيَة سَاذَجَة، أو ضَـعِيفَة الْاِنْتَاجِيَة، أو مُسْتَحِيلَة الْاِنْجَاز. وَتَتَوَاصَلُ في كلّ سنة ظَاهِرَة عَجْز مِيزَانِيَّة الدّولة الرأسمالية إلى أن يَصِل هذا العَجْز إلى مَـقَـادِير ضَخْمَة لَا تُصَدَّق. وَلَا تَـقْـدِر الدّولة الرأسمالية على إِخْضَاع نَـفَـقَـاتِهَا إلى أَيِّ مَنطق عَـقْـلَانِـي أو وَاقِـعِـي. وَيَسْتَمِرُّ هذا التَصَاعُد في التَبْذِير إلى أن يَحْدُث اِنْهِيَّار مُجْتَمَـعِـي شَامِل وَتَارِيخِي.
64) مِن بَيْن مِيزَات الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة أن مُختلف إِدَارَات هذه الدّولة وَمُؤَسَّـسَاتِها العُمُومِيَة، تَمِيلُ دَائِمًا إلى الْإِشْتِـغَال بِمَنَاهِج مَغْشُوشَة، أو مُتَهَاوِنَة، أو فَاسِدَة، أو رَدِيئَة، أو غَيْر فَـعَّـالَة، أو فَاشِلَة. وَمُؤَسَّـسَات الدّولة الوَحِيدَة التي تَتَمَيَّزُ بِاشْتِـغَالِهَا بِـفَـعَـالِيَّة، أو بِالْإِنْضِبَاط الصَّارِم، هي الجَيْش، وَالْأَجْهِزَة القَـمْـعِـيَـة، والمُخَابَرَات. بَيْنَمَا بَاقِـي مُؤَسَّـسَات الدّولة تَـغْـرَقُ تَدْرِيجِيًّا في الرَّدَاءَة، والغِـشِّ، والفَسَاد، وَالْاِنْحِلَال. وَالسِرُّ في تَـفَـوُّق فَـعَـالِيَة المُؤَسَّـسَات الرَّأْسَمَالِيَة الخُصُوصِيَة (بِالمُـقَارَنَة مع المُؤَسَّـسَات العُمُومِيَة التَّابِـعَة لِلدّولة) هو أنّ رُؤَسَاءَهَا الخَوَاصّ يُهَدِّدُون بِالطَّرْد الفَوْرِي كُلَّ أَجِير يُخِلُّ بِالْاِنْضِبَاط، أو يَسْـقُـطُ في التَهَاوُن، أو في الغِـشِّ. وَكُلّ مُؤَسَّـسَة لَا تَـعْـمَلُ بِـ «قَانُون الطَّرْد الفَوْرِي لِكُلِّ الْأَشْخَاص الغَشَّاشِين، والمُتَهَاوِنِين»، سَتَـسْـقُـط حَتْمًا في الرَّدَاءَة، والانْحِلَال، والْإِفْـلَاس.
65) نَظَرًا لأن الدّولة مَبْنِـيَّة على أساس أَجْهِزَة الْاِكْرَاه (البَدَنِي، والنَّـفْـسِي، والعَـقْـلَانِي)، فَإِنّ هذه «الدولة، هي نِتَـاج، وَمَظْهَر، مِنْ حَقيقة أن التَنَاقُضَات الطَبَقِيَة لَا يُمكن التَوْفِـيـق بَينها»(13). وَعَلَيْه، فإن مُـقَاوَمَة اِسْتِبْدَاد الدولة، والتَحَرُّر من بَطْشِهَا، يَـقْتَضِي بِالضَّرُورَة، وفي نفس الوقت، إِنْشَاء، وَتَـقْـوِيَة، المُـثَـنَّـى المُـكَـوَّن، أَوَّلًا مِن «الوَعْي السياسي» لِلكَادِحِين المُسْتَـغَـلِّـين، وَثَانِيًّا مِن «تَنْظِيمَاتِهِم السِيَّادِيَة المُسْتَـقِلَّة».
66) بِمَا أنّ نَمَط الْاِنْتَاج الرَّأْسَمَالِي مَبْنِيٌّ على أَسَاس الْاِكْرَاه، وَنَزْع المِلْكِيَة مِن أَفْرَاد الشّعب، وَالْاِسْتِـغْـلَال الرَّأْسَمَالِي، وَالقَمْع، والكَذِب، والخِدَاع، فَإِنّ الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة سَتَكُون، هي أَيْضًا، وَبِالضَّرُورَة، مَبْنِيَة على نَـفْس الْأُسُـس.
67) تَحْتَاج الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة إلى الشّعب. بَيْنَمَا الشّعب لَا يَحْتَاج إلى الدّولة. وَلَا يُمكن أن تُوجَد الدّولة بدون وُجُود الشّعب. بَيْنَمَا يُمكن لِلشّعب أن يَسْتَـغْـنِـيَ عن الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، وَأن يَعِيش بِدُونها. بَلْ يَـقْـتَضِـي تَحَرُّر الشعب خَوْضَ ثَوْرَة مُجتمعية ضدّ الدّولة الرَّأْسَمَالِييَة القَائِمَة. لأنّ الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة تَـعِيش مثل فِطْرِيَة زَائِدَة، مُنْـفَصِلَة عن الشّعب، وَمُضِرَّة به. فَالدّولة الرَّأْسَمَالِيَة هي كَائِن طُفَيْلِيٌّ، وَمُزْعِج، وَلَا لُزُوم له. وَيَدَّعِي مُوَظَّـفُو الدّولة أنهم «يَـقُومُون بِأَدْوَار مُجتمعية مُهِمَّة، وَمُـفِيدَة، وَحَيَوِيَة، وَمَصِيرِيَة». بَيْنَمَا هَيْئَة مُوَظَّفِي الدّولة يُـعَرْقِلُون حُرِّيَات الشعب، وَلَا يُنْتِجُون سِوَى الْإِكْرَاه، وَالقَمْع، والنَّهْب، وَتَعْمِيق جِبَايَة الضَرَائِب، والخِدَاع، والْاِغْتِنَاء غَيْر المَشْرُوع. وَتَـعِيش الدّولة عَالَة على الشّعب، وعلى المُجتمع. لأن الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة تَـعِيش مِن الْإِنْتَاج الاقتصادي الذي يُمَارِسُه الشّعب. وَتَسْتَوْلِـي الدّولة على جُزء مُتَزَايِد، وَمُبَالَغ فيه، مِن فَائِض القِيمَة الْإِجْمَالِي المُنْتَزَع مِن طَبَـقَة المُسْتَـغَلِّين. وَيُشَارِك مُوَظَّفُو الدّولة في الْاِسْتِـفَادَة مِن اِسْتِـغْـلَال طَبَـقَة المُسْتَـغَلِّين. وَيَلْزَمُ أَنْ يَـقْتَرِنُ إِسْقَاط الدّولة الرّأْسَمَالِيَة بِإِسْقَاط هَيْمَنَة طَبَـقَة المُسْتَـغِلِّين الكِبَار. وَيَتَرَابَطُ التَحَرُّر مِن الْاِسْتِـغْـلَال الرَّأْسَمَالِي، بِالتَحَرُّر مِن نَمَط الْاِنْتَاج الرَّأْسَمَالِي، وَمِن الدَّوْلَة الرَّأْسَمَالِيَة، وَمِن النِظَام السِيَاسِي الرَّأْسَمَالِي. وَيُمكن لِلشّعب أن يَعِيش بِاسْتِـعْمَال دَوْلَة بَدِيلَة عن الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة، تَكُون ثَوْرِيَة، وَمِن نَوع خاص، وَجَدِيد. وَلُبُّ المُشْكِل السِيَاسِي يَـكْمُن في اِبْتِـكَار النَّوْعِ المُلَائِم مِن الدّولة البَدِيلَة عن الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة. وَمِن بَين مِيزَات هذه الدّولة الثورية البَدِيلَة، أن يَـكُون أَعْضَاءُهَا مُنْبَثِـقِين مِن صُفُوف أَفْرَاد طبقة المُنْتِجِين المُسْتَـغَـلِّين، وَمِن حُلَفَائِهِم الفَلَّاحين، وَالمُهَمَّشِين، والمُثَـقَّـفِـيـن الثوريِّين، الخ. مثلًا على شكل مَجَالِس الكَادِحِين المُنْتِجِين والمُسَلَّحِين (السُوفْيِيتَات soviets). أي دولة تَرْبِطُ بَيْن الْإِنْتَاج والتَدْبِير الذَّاتِي لِلْكَادِحِين. وَلَوْ أنّ هذه الدّولة البَدِيلَة سَتَـكُون مُؤَقَّتة، وَمُتَطَوِّرَة، وَسَتَـكُون أَيْضًا حَلْقَة مَرْحَلِيَة على طَرِيق القَضَاء على أُسُـس اِنْـقِسَام المُجتمع إلى طَبَـقَات مُتَنَاقِضَة. وَسَتَكُون فَتْرَة عَابِرَة عَلى طَريق اِنْـقِـرَاض الدّولة كَظَاهرة مُجتمعية.
68) لِإِحْكَام خُضُوع الشعب، والهَيْمَنَة عليه، تَلْجَأُ أَحْيَانًا الدّولة الرَّأْسَمَالِيَة إلى اِفْتِـعَـأل «أَعْدَاء خَارِجِيِّين». وَتُؤَجِّـج الدّولة الحِـقْدَ والكَرَاهِيَة ضِدّ هؤلاء «الأعداء الخارجيّين». وَتَسْتَـعْـمِل الدّولة هذه الخُطَّة (التَاكْتِيك)، حتّى وَلَوْ أَدَّتْ إلى اِشْتِـعَال حَرْب حَـقِـيـقِـيـة وَمُدَمِّرَة. وَكُلَّمَا سَقَط الشّعب في فَخِّ «العَدَاوَات الخَارِجِيَة» المُـفْـتَـعَـلَـة، أو «النَـزَعَات الوَطَنِيَة المُتَزَمِّتَة أو الشُّوفِينِيَة»، اِنْـزَلَـقَ هذا الشّعب في الخُضُوع الشَّامِل لِلسُّلْطَة السياسية المَرْكَزِيَة المُسْتَبِدَّة، وَغَدَى مُـعَـبَّـأً لِلدِّفَاع عن حُكَّامِه الذين يَـقْـهَرُونَه.
69) يُوجد صِرَاع سِيَّاسـي عَالَمِي شَرِس، يَدُور بَيْن المُسْكَر الرَّأْسَمَالِي الْإِمْبِرْيَالِي (تحت قِيَّادة الوِلَايَات المُتَّحِدَة الْأَمْرِيكِيَة) مِن جهة أُولَى، وَمِنْ جِهَة ثَانِيَة مُـعَسْكَر شُـعُوب "العَالَم الثَالِث" المُسْتَـغَـلَّة، أو المَسُودَة، أو التَوَّاقَة إلى التَـقَدُّم، أو إلى التَحَرُّر، أو إلى الْاِشْتِرَاكِيَة. وفي إِطَار هذا الصِرَاع العَالَمِي، لَا تَسْتَطِيع أَيَّة دولة مِن بَيْن دُوّل "العالم الثّالث" أَنْ تَتَّخِذَ مَوْقِـفًـا سِيّاسيًا ثَابِتًا في وَسَطِيَّتِه، أو في حِيَّادِه. حَيْثُ أَنَّ كلّ دولة (مِن بَيْن دُوّل "العَالم الثّالث") تَجِدُ نَـفْسَهَا مُجْبَرَة، إِمَّا على إِسْطِـفَافِـهَا وَخُضُوعِهَا إلى الدّول الْإِمْبِرْيَالِيَة الغَرْبِيَة السَّائِدَة، وَإِمَّا على إِنْخِرَاطِهَا في مُـقَاوَمَة هَيْمَنَة الدّول الْإِمْبِرْيَالِيَة، وَمُكَافَحَة إِسْتِـغْـلَالِهَا. فَتَنْتَـقِمُ منها الْإِمْبِرْيَالِيَة، وَتُسَلِّطُ عليها عُـقُوبَات اِقْتِصَادِيَة، وَسِيَّاسِية. وَلَا يُمكن لأيّة دولة في "العالم الثالث" أن تَتَّخِذَ مَوْقِـفًـا ثَابِتًا في الوَسَطِ، أو في الحِيَّاد.
70) خِلَال زَمَن طَوِيل، تَظْهَرُ الثَّوْرَة المُجتمعية «مُسْتَحِيلَة». وَتَبْـقَـى تَظْهَر «مُسْتَحِيلَة» إلى أن تَحْدُث، وَإلى أَنْ تَنْجَحَ فعلًا. وحينها، يقول عَامَّة الناس: «لَيْسَ هُناك أَسْهَل مِن إِشعال الثورة وَإِنْجَاحِهَا». وَخلال زَمَن طويل، تظهر الدّولة القديمة قَوِيَّة، وَثَابِتَة، وَمُسْتَـقِرَّة، وَمُطْلَـقَة. لكن عندما تَنْضُج شُروط الثّورة المُجتمعية، تَتَحَوَّل الدّولة فَجْأَةً إلى ضَعِيفَة، أو مُتَرَدِّدَة، أو عَاجِزَة. وَفي البِدَايَة، قَد لَا يحتاج الثُوَّار إلى السِّلَاح. لكن حينما تَنْضُج شروط الثورة المُجتمعية، يأخذ الثوّار السلاح مِن حيثُ هو موجود. بَل جزء من قُوَّات النظام السياسي القديم قَدْ يَتحوّلون إلى نَـقِيضِهِم، أَيْ إلى غَأضِبِين مُنَاصِرِين لِلثُوَّار. وَقَد تَنْـقَلِب أجزاء مِن بعض القُوّات القمعية (التَابِعَة لِلنظام السياسي القديم) إلى قُوَّات مُساندة للثورة.
71) كُلّ ثورة مُجتمعية لَا تُـكَـسِّرُ فيها طَبـقة المُسْتَـغَـلِّين اِحْتِكَار طَبقة المُسْتَـغِـلِّين الكبار لِلسلاح وَلِلْعُنف، تَنْتَهِي بالضّرورة إلى الفَشَل. كما أنّ كُلّ ثورة مُجتمعية لَا يَسْتَوْلِي أَثْنَاءَهَا العُمَّال والمُسْتَـغَـلُّـون والمُهَمَّشُون على السِّلَاح، يكون مَآلُهَا الحَتْـمِـي هو الفَشَل، والقَمْع، والانتـقام، والتَنْـكِـيـل. وَذلك هُوَ مَا حَدَث تَارِيخِيًّا في مُعظم الثَوَرَات الكُبرى المَاضِيَة. لأن مَصَالِح الثّورة المُجتمعية، تَتَنَاقَضُ بالضّرورة مع مَصالح الدّولة القَدِيمَة القائمة. وَمُـعَـالَجَة هذا التناقض، تَمُرّ عبر إقامة «دِيكْتَاتُورِيَة البْرُولِيتَارْيَا»، التي تُـعَوِّضُ «دِيكْتَاتُورِيَة البُورْجْوَازِيَة».
72) يَتَطَلَّب تَثْبِيت اِنتصار الثورة المُجتمعية، أَوَّلًا، حَلَّ أَجهزة القَمع، والبُولِيس، والمُخابَرَات، والجيش، والبِيرُوقْرَاطِية القَدِيمَة. وَيَسْتَوْجِب ثَانِيًّا، تَـعْوِيضَ الْأجهزة القَمْعِيَة القَدِيمة بِأَجهزة مِن صِنْف ثَوْرِي جديد، يكون فيها مُجمل المَسؤولين في الدّولة مُنَاضِلِين خُبَرَاء، يُكَرِّسُون حَيَاتَهُم لخدمة الشعب، وليس لِلْإِغْتِنَاء الشَّخْصِي؛ وأنْ يُكونوا مُنْتَخَبِين بِالْاِقْتِرَاع العَامّ، وَكذلك بِمُبَارَيَات مَفْتُوحَة وَتَخَصُّصِيَّة، وَبِامْتِحَانَات تَنَافُسِيَّة؛ وَأن يَكُونُوا خَاضِـعِين، في أيّ وقت، لِلنَّـقْد، وَلِلْإِلْـغَاءِ، وَلِلنَّـقْـض، وَلِلتَّـغْيِير (éligibles et révocables). وَتَطْبِييق قَانون طَرْد الخَوَنَة، والعُمَلَاء، والغَشَّاشِين، والمُتَهَاوِنِين. وَثَالِثًا، يجب أن تكون أُجُور مُوَظَّـفِـي الدولة ومسؤوليها مُتَشَابِهَة مع الأُجُور التي يَتَلَـقَّـاهَا العُمَّال الكَادِحُون. بِالْإِضَافَة إلى مَنْع مُوَظَّـفِـي الدولة مِن الحُصُول على أَيَّة اِمْتِيَّازَات مَادِّيَة خُصُوصِيَة. وَرَابِـعًا، يجب إلغاء وَظِيفَة أيّ شخص ثَبُتَ أنّ له ارتباطات بِإِحْدَى القِوَى المُضَادَّة لِلثَّوْرَة المُجتمعية. وَخَامِسًا، يجب مَنْع مُوَظَّـفِـي الدّولة السَّابِـقِـين من التَحَوُّل إلى مَأُجُورِين في خِدْمَة الرَّأْسَمَال الخاص. والغَايَة مِمَّا سَبَـقَ، هي مَنْع أجهزة الدّولة مِن أن تُصْبِح جَذَّابَة لِلأَشخاص الْاِنْتِهَازِيِّين، البَاحِثِين عن وَسَائِل لِلتَسَلُّـق الطَبَـقِـي، أو لِلْاِغْتِنَاء السَّرِيع. وَسَادِسًا، يَتَوَجَّب أَنْ يَنْتَشِر الطُمُوح التَحَرُّرِي الثَّوْرِي إلى كُلّ قِطَاعَات الحياة المُجتمعية، وكلّ المَيَادِين، وكلّ الرُتَب الهَرَمِيَة في المُجتمع، بِما فيها الـقِيَم، والعَـقْـلِيَّات، والمَنَاهِج، والسُلُوكِيَّات. وَيَنْبَـغِـي أن يَكُون هذا الطُمُوح التَحَرُّري الثَّوْرِي هو المَنْطِق المُحَرِّك، وَالغَالِب، في كلّ شَيْء. وَسَابِـعًا، تَحْرِير النَّـقد، وَتَـعْمِيم التَـقْـيِـيم، وَالتَـقْوِيم، وَالتَثْوِير، في كلّ المَجَالَات. وَثَامِنًا، يلزم تَسْرِيع تَكْوِين الْأُطُر (الكَوَادِر) الْأَكْـفَاء؛ والزِيَادَة في الإنتاج؛ وَتَطْوِير وَسَائِل الإنتاج (في الصِنَاعة، والزراعة، والنّـقل، والتجارة، والْاِتِّصَالَات، والبنيات التَحْتِيَة، الخ)؛ وَتَكْسِير الاحتكارات، الخ. وَتَاسِعًا، تَدْعِيم وَتَحْـفِيز ثَوْرَة ثَـقَافِيَة مُتَوَاصِلَة(14). وَكلّ دولة اِشْتِرَاكِيَة يُـعَـشِّـشُ داخل أجهزتها أَشخاص وُصُولِيُّون، أو اِنْتِهَازِيُّون، يَسْهُل تَحِوِيلها إلى دولة رَأْسَمَالِيَة. وذلك هو ما سَهَّل اِنْهِيَّار الاتحاد السُّوفياتي. وَقَدْ تُهَدِّد أيضًا ظَاهِرَة مُمَاثِلَة الْاِشْتِرَاكِيَةَ في الصِّينَ.
73) بَعْد اِنْتِصَار الثورة المُجتمعية الاشتراكية (المُنَاقِضَة لِلرَّأْسَمَالِيَة)، مِن الْأَكِيد أن طَبَـقَة المُسْتَـغَـلِّـين سَتَحْتَاج إلى أَشْكَال (مُتَنَوِّعَة، وَعَابِرَة، وَمُتَوَالِيَة) من الدّولة، لِإِنْجَاز مَهَامِّهَا وَأَهْدَافِهَا السياسية الثورية. وبعد نجاح الثورة الاشتراكية، وَمُنذ أن تَعمل طبقة المُسْتَـغَـلِّين السَّائِـدَة على إِلْـغَاء أُسُـس وُجُود الطبقات في المُجتمع، سَتَتَـشَـكَّـلُ أيضًا، عَبْرَ نَـفس الصَّيْرُورَة، أُسُـس إلغاء الدولة كَدَوْلَة. وَيُرَافِـقُ إِلْـغَاء أُسُـس وُجُود الدّولة، إِلْـغَاء مُمَاثِل لِأُسُـس وُجُود كلّ عُنْـف مُنظّم في المُجتمع. وَلَوْ أن صَيْرُورة إلغاء أُسُـس وُجُود الدّولة، أو عَملية اِنْـقِرَاض الدولة، سَتَتَطَلَّبُ بِالضَّرُورَة وَقْتًا طَوِيلًا، وَسَتَخْتَرِقُهَا صِرَاعَات سيّاسية مُعَـقَّـدَة، وَقَدْ تَتَخَلَّـلُـهَا أَخْطَاء سِيَاسِيَة، أو اِنْتِـكَاسَات جُزْئِيَة، أو رُجُوع مُؤَقَّت إلى الوَرَاء، وذلك حَسب الظُرُوف المُجتمعية، وَالجُغْرَافِيَة، والتَاريخية، لكلّ مُجتمع مُحدّد.
74) مِن بَين شُرُوط النَجَاح في التَـقَدُّم نحو إلغاء الدولة، نَجِدُ الحِرْص على إِبْـقَاء الدولة الجديدة مُـعَادِيَة لِطَبَـقَات المُسْتَـغِـلِّين، وَمُـعَادِيَة لِكُلّ أشكال الاستـغلال الطَبَـقـي. وهو ما حَدَثَ التَـفْرِيط فيه في "الاتحاد السُّوفْيَاتِي" (بين سنتي 1924 و 1990)، فَكَان مَصِيرُه هو الْاِنْهِيَّار الشَّامِل (في قُرَابَة سنة 1989)، والرُّجُوع إلى الوَرَاء، أي إلى الرَّأْسَمَالِيَة المُـفْـتَرِسَة. وَإذا ما حَدَثَتْ أَخطاء سياسية مُمَاثِلَة في الصِّين، يُمكن أن تَـقَـعَ فيها، هي أيضًا، ثَوْرَة رَأْسَمَالِيَة مُضَادَّة.
رحمان النوضة
(نُشِرَت الصيغة الأولى لِنَصِّ "أُطْرُوحَات حَوْل الدَّوْلَة" في ماي 2023، ورقم الصِّيغَة الحالية المُحَيَّنَة هو 10).
الــــــهـــــــوامـــــــش :
(0) مِن بَين المراجع الماركسية حول الدولة، أذكر : كتاب فريدريش إنجلس (Friedrich Engels)، "أصل العائلة، والملكية الخاصّة، والدولة". وكتاب فلاديمير لينين (V. Lénine)، "الدولة والثورة". وَكُتُب اَلْمُـفَـكِّر الماركسي نِكُوس بُولَانْتْزَاس (Nicos Poulantzas) الذي درس آليات اِشتـغال أجهزة الدولة، في عدّة مجالات، وفي عدّة كتب، منها : كتاب "نظرية مادية للدولة"، وكتاب "النظرية الماركسية والاستراتيجية السياسية"، وكتاب "الفاشية والدكتاتورية"، وكتاب "الطبقات المجتمعية في الرَّأْسَمَالِية اليوم"، الخ. كما أن لْوِيسْ أَلْتُوسَر (Louis Althusser) نشر كُتَيِّبًا حول الأجهزة الأَيْدِيُولُوجية للدولة.
(1) بعد االانتهاء من كتابة ونشر مقال «أطروحات حول الدّولة»، عترتُ بالصّدفة على كتاب عبد الله العروي المُعَنْوَن بِـ «مفهوم الدّولة». وهو كتاب مهمّ ومفيد. وقال فيه العروي: «بما أن المجتمع ينقسم إلى مَالِكِين وغير مَالكين، إلى أصحاب حُقوق وإلى مَحرومين من كلّ حقّ، فالجهاز [الدّولة] يخدم بطبيعة الحال القسم الأوّل ضدّ كلّ حركة مَشْبُوهة يَهُمُّ بها القسم الثاني»، الصفحة 83.
(2) F. Engels, dans sa Préface du livre "La guerre civile en France" de K. Marx, 1871, Éditions Sociales, Paris, 1953, 293 pages.
(3) هذه الأفكار المَـعْـرُوضَة أعلاه، ليست مِن اِبْتِكَارِي، وَإنما هي الأفكار التي أََبْرَزَهَا كارل ماركس، وافريدريش إنجلز، وافلاديمير لِينين. ونجدها على الخُصوص في كتب : "البيان الشيوعي"، و"الحرب الأهلية في فرنسا"، و"نَـقْد بَرَامِج غُوطَا وَإِرْفُورْتْ" (Marx et Engels, Critiques des programmes de Gotha et d’Erfurt,
Éditions Sociales, 1950.))، و"الدولة والثورة"، الخ.
(4) أُنْظُر مَقَال: رحمان النوضة، العَلَاقَة بَيْن الَأَخْلَاق والسِيَاسَة، سنة النَشْر 2018، الصفحات 25، الصِّيغَة 7. (وَيُمكن تنزيله مِن مُدَوَّنَة الكاتب).
(5) بعد الانتهاء من كتابة هذا المقال، وجدتُ عبد الله العروي يقول: «تَحْرِير الدّولة من ثِـقَل الأخلاق، حُكْمٌ عليها بالانقراض». (عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، نشر 2011، الصفحة 2016، من 246).
(6) أنظر كتابي رحمان النوضة باللغة الفرنسية: Le Sociétal et L’Éthique politique. ويُمكن تنزيلهما مِن مُدَوَّنَة الكاتب (https://LivresChauds.Wordpress.Com).
(7) أُنْظُر مَقال: رحمان النوضة، تَضَارُب المَصَالِح أو الجَمْع بين الثَّرْوَة والسُّلْطَة، نَشْر 2020، الصفحات 8، الصِّيغَة 5. وكتاب : رحمان النوضة، نَـقْد النُخَب، نَشْر 2015، الصفحات 88، الصيغة 12.
(8) أُنْظُر مَقال: رحمان النوضة، كَيْفَ نَمْنَع النُخَب مِن نَهْب ثَرَوَات الشَّـعْب، نشر 2015، الصفحات 13، الصيغة 8. (ويُمكن تنزيله من مُدوّنة الكاتب).
(9) هذه الأهداف والمطالب وَرَدَت مثلًا في «الأرضية السياسية» التي نشرها "حزب فيديرالية اليسار الديموقراطي"، الذي تَأَسّـس في شهر ديسمبر 2022 في المغرب. وقالت الأرضية عن هذه المطالب : «هي معركة لن تـكون عَسِيرَة» ! وَيَتَبَنَّى "الحزب الاشتـراكي المُوَحَّد" نَـفس الأهداف.
(10) أُنْظُر مقال: رحمان النوضة، "حتّى في التَلْقِيح، الْأَسْبَـقِيَة لِلْبُولِيس". وَرَابطُهُ هو :
https://livreschauds.wordpress.com/2020/12/03/حَتَّى-في-التَلْقِيح-الْأَسْبقِيَة-لَِ/
(11) أشار عبد الله العروي إلى أن «الإسلام لم يُحوِّل الدّولة إلى مُؤسّـسة دِينية»، كما «أن الدولة لم تُحوِّل الإسلام لتجعل منه دِين دَولة». في كتاب: عبد الله العروي، مفهوم الدولة، نشر 2011، الصفحات 246.
(12) Alain Badiou, op. cit.
(13) لِينِين، الدّولة والثورة، موسكو: إصدارات باللغات الأجنبية ، نشر سنة 1967، الصفحة 14 من 154 صفحة.
(14) أنظر مقال: رحمان النوضة، مسودّة برنامج الثورة المُجتمعية، نشر 2018، الصفحات 25، الصِّيغة 3.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تواجه المتظاهرين بدراجات هوائية


.. الشرطة الأميركية تعتقل متظاهرين مؤيدين لفلسطين وتفكك مخيما ت




.. -قد تكون فيتنام بايدن-.. بيرني ساندرز يعلق على احتجاجات جام


.. الشرطة الفرنسية تعتدي على متظاهرين متضامنين مع الفلسطينيين ف




.. شاهد لحظة مقاطعة متظاهرين مؤيدون للفلسطينيين حفل تخرج في جام