الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صور العنف ضد المرأة عبر تاريخ المسرح

ابراهيم حجاج

2023 / 6 / 28
الادب والفن


المسرح هو أكثر الفنون تداخلاً مع حياة المجتمع؛ إذ يستمد غذائه من معايشته الكاملة لسير المنعطفات التاريخية الحاسمة فى المسار الزمنى، والدراما فى كل العصور تعكس الواقع، وتطرحه فى العديد من الرؤى والصيغ والأساليب وهذا التمثيل يستلزم حضور القوى الاجتماعية الفاعلة داخل المجتمع، والتعبير عنها من خلال أساليب المسرح وأدواته.
إذا كان المسرح قد بنى على صراع بين قيمتين يندرج تحتهما مسميات كثيرة مثل الخير والشر، الجمال والقبح، الحق والكذب، الأمانة والخيانة ....الخ، فغالبًا ما تكون المرأة إحدى هاتين القيمتين، أى أن المرأة شريك أساسي فى أى صراع، وهى كذلك فى الحقيقة وفى الحياة منذ خلق الله آدم وشريكته حواء، وإذا كان المسرح ينقل الواقع كتسجيل أو يجد ما به من نقائص بغية التغيير، فإن المرآة فى هذا الواقع لها حضور ووجود، لا يقل أهمية عن الرجل.
وإن كان العنف ظاهرة إنسانية عالمـيـة، فقد تكون ممارسته على الِمرأة من المفارقات التي أصبحت تسم المجتمعات العربية والغربية، وكانت لهذه الممارسة انعكاسات عبر تاريخ المسرح منذ بداياته الأولى، فإذا تتبعنا صور العنف ضد المرأة على مر تاريخ المسرح مع ربطها بظروف المجتمع وعاداته وتقاليده في كل عصر، فسنجد أن قضايا المرأة من أهم ثيمات نصوص كتاب المسرح اليوناني، ومنهم "اسخيلوس" الذى تعرض فى مسرحيته "الضارعات" أو المستجيرات" لقضية زواج المرأة بالإكراه، فالمسرحية " تقدم شخصية المرأة المغلوبة على أمرها والتي لا تمتلك أية حرية في اختيار شريك حياتها ويدعو الكاتب المرأة إلى الدفاع عن حقها واستلابه بالقوة وذلك من خلال هروب بنات أدانوس، من زواج أبناء عمهن لعدم رغبتهن فى هذا الزواج لذا تحملن مشاق الطريق ومتاعبه وصراعه الدائم حيث هربن من بلاد اليونان إلى مصر طلبًا لمساعدة ملكها
بينما جسد "سوفوكليس" معاناة المرأة من خلال شخصية "أنيتجونى" في مسرحيته التي تحمل نفس الاسم وبالرغم من أنه صور"أنتيجونى" في صورة المرأة ذات الشخصية القومية المعارضة للسلطة، إلا أنها لم تسلم من الاضطهاد والعنف السياسي فقد رفضت قرارات الملك "كريون" بعدم دفن جثة أخيها "بولينيكيس" الذى نازع أخيه "إتيوكليس" على السلطة، و ثارت على حكم الملك الأرضي، في سبيل الانتصار للحكم الإلهي الذي يحث على سرعة مواراة جثمان الميت ولم تعد المرأة المستكينة الخاضعة التى تنفذ الأوامر، بل استمرت فى جهادها وقد كلفها ذلك حياتها حيث دفنها الملك كريون حية.
كما جعل يوربيدس مسرحه منبراً للدفاع عن المرأة مُتخذاً منها مثلاً أعلى للتضحية، وهو ما تجلى فى مسرحية "ميديا"، المرأة التى مورس ضدها شكلًا من أشكال العنف النفسي فبعد أن ضحت من أجل زوجها "جاسون" لكسب رضائه بكل نفيس وغالي، ما كان منه إلا أن خانها وتركها وتزوج "جلوكى" ابنة الملك "كربون" لتحقيق طموحاته السياسية، مما دفعها إلى الانتقام منه فتقتل أبنائها أمام عينه ثم تحرق نفسها. لقد وضع "يوربيديس" المبررات النفسية لتصرفات "ميديا" غير المقبولة، وجعلها ضحية لخيانة زوجها، وكأنه يقول وراء وحشية المرأة رجل أكثر وحشية ودناءة.
أما المسرح الرومانى فجاء تقديمه لصورة المرأة على نحو مغاير فتعامل فى نهاياته مع جسد المرأة كسلعة رخيصة حيث أظهرها فى مشاهد الفحش والمجون من خلال عروض البانتومايم.
وفي العصور الوُسطى لم يختلف حال المرأة في عهد الكنيسة عنه في مجتمعات الوثنية فقد كانت نظرة رجال الكنيسة بوجه عام معادية للمرأة، وقد عملت الكنيسة على إخضاع المرأة واعتبارها شر وإغواء وكارثة وخطر وفتنة، حيث كانت المرأة هي "حواء" التي خسر بسببها الجنس البشري المتمثل بآدم عليه السلام جنات عدن وأنها أداة الشيطان الذي يقود الرجال الى الجحيم لذلك فرضت الكنيسة عليها القوانين التي يحق للزوج ضرب زوجته، كما رفضت الكنيسة سماع أقوال المرأة كشاهد لدى المحاكم وبذلك " أصبحت المرأة جزءا من مُمتلكات الرجل ومصيرها بيده، أما الزوجة فلم تكن أكثر من دابة ركوب بائسة محتقَرة جاهلة مسحوقة تحت وطأة الإقطاع وأعطت حق للزوج الانتفاع بكل ما لديها من مال ومتاع وعلى الزوجة طاعته في ذلك.
وقد قدم مسرح العصور الوسطى صورة مشوهة للمرأة وقد ظهر ذلك جليًا فى مسرحية "آدم" ويرجع تاريخ كتابتها إلى نهاية القرن الثانى عشر؛ حيث جسدها الكاتب في الجزء الأول من المسرحية في صورة المرأة المتمردة التى خرجت عن تعاليم الرب وأطاعت الشيطان الذى غواها بأن تأكل من تلك الشجرة المحرمة.
وفي عصر النهضة، كان انهيار "النظام الإقطاعي" ونشأة "النظام الرأسمالي" وقيام "البرجوازية" فرصة جادة لمحاولة النظر للمجتمع نظرة جديدة تجعل الإنسان هو محور هذا الكون متحرراً من نظرة الكنسية للعالم وللمرأة بشكل خاص، إذ أن دورها في الحياة العامة لم يكن يتعدى أن تكون زوجة في البيت وإن آخر ما تصل إليه أن تصبح راهبة في الدير، في هذا التوقيت نجد ملامح ظهور دور المرأة لم يجد الظروف الكاملة ليظهر لنا بشكل يجعلنا نقتنع أن المجتمع أصبح ينظر إلى المرأة وإلى دورها في المجتمع نظرة جديدة، بل لا تزال النظرة إلى المرأة كمخلوق يأتي في المرتبة الثانية من بعد الرجل هي النظرة السائدة، فيقدم "شكسبير" شخصية المرأة بشكل متوازن يماثل حقيقة البشر في الواقع المعيش فأظهر الجانب المظلم والمضيئ في شخصية المرأة فنراه يقدم الملكة كليوباترا في صورة العاهرة من خلال مسرحيته "انطونيو وكليوباترا" التى يمكنها فعل أى شيئ من أجل الحفاظ على عرشها ومملكتها، وفي مسرحية "مكبث" تجبر الليدي ماكبث زوجها على القتل، وتتجاهل الصفات "الأنثوية" العادية مثل التعاطف الأمومي وتتنازل عنها أمام الصفات "الذكورية" مثل الطموح، والسعي للسلطة، مما يؤدي إلى تدمير عائلتها. كما يقدم في "هاملت" "الأم التي تقبَل مقتل زوجها وتصبح زوجة لعم هاملت "كلوديوس" الذى تخلص من الأب ولا نجد للمرأة هنا دورًا يتماشى مع ما يتوقع المشاهد منها. وعلى النقيض نرى "جولييت" حبيبة "روميو" التي تتعثر في حبها بسبب العادات والتقاليد والقوانين الاجتماعية السائدة وصراع الأسرتين الذى يعود إلى سنين مضت، تلك الظروف التى تحرم عليها الحق في الاختيار والزواج ممن تحبه، و"اوفيليا" ضحية تردد "هاملت وجنونه المصطنع، و"دزدمونة" ضحية غيرة "عطيل" المرضية، وغيرهن كثيرات تأرجحت قصصهن مابين نماذج ايجابية تقدم صورة مضيئة للمرأة ونماذج سلبية تعكس صورة مظلمة وقاسية.
إذا ما انتقلنا إلى الدراما الحديثة منذ القرن الثامن عشر وصولاً إلى الفترة المعاصرة نجد "أن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي سادت أوربا بعد الثورة الفرنسية أزالت مفاهيم ونظم وتقاليد وأحلت محلها فلسفات وأفكاراً جديدة على المستويات جميعاً ومنها المستوى الدرامي، فقد شهد القرن الثامن عشر ازدهار الدراما العاطفية والتراجيديا، ومن بين الأعمال المسرحية التي تُعرض وسط هذه الظروف الاجتماعية السائدة في أوربا في هذه الفترة نجد مسرحية "تاجر لندن" للكاتب "جورج ليللو" وفيها "يعالج قضية المرأة لكنه يحيط أفعالها بالشر والانحطاط، حيث نجد الصبي التاجر الذى يقع تحت تأثير هذه المرأة؛ فيسرق سيده ويقتل عمه دون أن يدرك أنه لو انتظر وقاوم الشر، لاستطاع أن يتزوج ابنة هذا التاجر ويصبح تاجراً ثرياً، حيث تُناقش المسرحية قضية المرأة ودورها في إصلاح المجتمع أو افساده.
وبانتقالنا إلى القرن التاسع عشر وخاصةً النصف الثاني منه، فنجد أن الدراما الواقعية قد تملكت ناصية المسرح وحلَّت محل الدراما الرومانسية التي كانت سائدة في بدايات القرن، وقد أزالت الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي سادت أوربا فى هذه الفترة مفاهيم ونظم وتقاليد وأحلت محلها فلسفات وأفكار جديدة على كافة المستويات، فجاءت أعمال الكاتب المسرحى النرويجى "ابسن"، فى القرن التاسع عشر، لترصد تحولًا لصورة المرأة السلبية، كرمز للإغراء فى المسرح الرومانى، أو للغواية فى مسرح العصور الوسطى، بحيث سعى"ابسن" من خلال أعماله إلى التأكيد على ضرورة إعادة النظر فى العادات والتقاليد والقوانين التى تضطهد المرأة، وتكبل حريتها، ومن ثم قدم عددًا من الأعمال المسرحية، اعتبرت فاتحة الطريق وبداية حقيقية لتقديم صورة جديدة للمرأة.
ففى مسرحية "بيت دمية" عام 1879، التى وصفها النقاد بالقنبلة الموقوتة حيث فجرت قضية تمرد المرأة على التقاليد والخروج على سيطرة الزوج فكانت بمثابة صرخة تمرد واحتجاج ضد الضغوط الاجتماعية التى أثقلت كاهل المرأة وحدت من حريتها. حيث قدم "ابسن" في هذه المسرحية شخصية "نورا" زوجة "تورفالد هيلمر"،وهى امرأة قوية ومكافحة عاشت من أجل فكرتها، مر زوجها بوعكة صحية تستلزم سفره للخارج، اضطرت للاستدانة وتزوير توقيع والدها المتوفى، حيث يمنع القانون النرويجى المرأة من حق التوقيع على أية أوراق مالية، وعندما اكتشف "هيلمر" ذلك، ثارت ثائرته وأتهمها بالكذب والتزوير والخداع، فلم تجد أمامها إلا أن تغادر بيتها وتصفق باب المنزل ليس في وجه زوجها فحسب بل في وجه قوانين وعادات القرن التاسع عشر، التى كبلت حرية المرأة وحرمتها من حقوقها وجعلتها مجرد دمية فى بيت الرجل.
وقد حققت مسرحية "بيت دمية" صدى واسع فى الأوساط الاجتماعية وحركت جمعيات وحركات نسائيةعدة، للمطالبة بحقوق المرأة، وقد تحقق ذلك بإلغاء قانون كان يحرم على المرأة التوقيع على أية أوراق مالية دون وجود ضامن(ذكر)، مما يشكك فى أهليتها وبإلغاء هذا القانون نالت المرأة جزءًا من استقلاها الاقتصادى.
كما كان للمرأة نصيب فى أعمال الكاتب الأسبانى "فريدريك جارسيا لوركا التى تعد مسرحيته "بيت برناردألبا" واحدة من أهم المسرحيات التى تناولت شخصية المرأة، "وتعكس آراء "لوركا" فيها عبر نقد التقاليد والأعراف التى تحيطها وتكبلها، فهى امتداد إلى مسرحياته التى عمل من خلالها إلى توجيه ضربة إلى المجتمع الأسبانى الذى ينظر بمنظار قاصر يكبل المرأة من خلال تقييدها بالأعراف والتقاليد البائنة، لذلك فإن المتن الحكائى الذى انطلقت منه مسرحية "بيت برنارد ألبا" يصور الصراع المرير الذى تعيشه المرأة الأسبانية.
فهي تحكي قصة الأم "برنارد" وهى أرملة متسلطة تفرض سيطرتها على بناتها الخمس حتى جعلت من البيت سجنًا ترفرف عليه رايات التعصب الشديد للعادات والتقاليد الصارمة والأنظمة الأصولية، فى حين تمثل البنات مجموعة من الأجيال اللواتى خضعن إلى هذه المنظومة القهرية، حيث تكشف المسرحية الصراع المرير بين القديم والحديث، القديم بكل ما يحمل من ترسبات وهيمنة، والحديث بكل ما يحمل من رغبة فى التحرر والانعتاق من سجن التقاليد.
لقد أوضحت النماذج المسرحية المطروحة نجاح كتاب المسرح فى عكس صور العنف ضد المرأة بشكل موضوعي، من خلال عرض أسباب متنوعة للعنف ضد المرأة مابين أسباب أسرية وأسباب مجتمعية، والتصدي بقوة للعادات والتقاليد المجتمعية وللسلطة الذكورية وكشف تسلطها، وجبروتها في التعامل مع المرأة.
ولا شك فى أن حضور المرأة سيظل قوي وفعال بوصفها قطبًا من أقطاب الصراع سواء على مستوى الواقع المعاش أو الواقع المسرحي المتخيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا