الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل سيتعلمون الدّرس من دَرسِ فاغنر؟

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

(Abdul-hamid Fajr Salloum)

2023 / 6 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


ما كان أحدٌ يتوقّع أن يقوم قائد مجموعة فاغنر “يفغيني بريغوجين “ بالعصيان والتمرُّد على القيادة في موسكو، ولكنه فعلها.. ومهما كانت النتائج فقد أساء لصورة روسيا، وكاد أن يُوقِع البلد بحرب أهلية، بعد أن انتهكَ سيادة الدولة ودستورها وقوانينها.. وهذا خطير، لاسيما أن الاتحاد الروسي مكوّنٌ من أكثر من 190 قومية، ومن 89 كيان فيدرالي أو(وحدة إدارية) منها 24 جمهورية، بعد ضم جزيرة القرم، وإقليم دونيتسك، وإقليم لوغانسك (وتسميتها جمهوريات)..
ولذلك فإن إشعال حروب أهلية (على غرار حروب البلقان) في روسيا الإتحادية، هو أكثر ما يخشاه قادة روسيا.. وهذا ما عبّر عنه الرئيس بوتين، ووزير خارجيته مرات عديدة، من أن الغرب يخطط لتقسيم روسيا.. وهذا التقسيم لن يحصل إلا بحروب أهلية.. فالحروب الأهلية (أو الداخلية) في أي بلدٍ هي وصفةٌ خطيرة للتقسيم..
**
إذاً ما قام به بريغوجين هو “ خيانة وطعنة بالظهر” حسب تعبير الرئيس بوتين.. فهل سيكون هذا درسا يدفعهم إلى عدم الاعتماد على المُرتزَقة والشركات الخاصّة في الحروب؟.
كان الموقف الروسي الرسمي ينفي دوما أي علاقة للدولة الروسية بجماعة فاغنر، وبأنها شركة خاصّة، ولكن بعد هذا التمرُّد، صرّح الرئيس بوتين أن فاغنر كلّفت الدولة خلال عام واحد، بين أيار/مايو 2022 و 2023 ما يعادل أكثر من مليار دولار أمريكي..
جماعة فاغنر يلعبون دورا كبيرا داخل العديد من الدول .. ويستثمرون عبر شركاتهم في الثروات الباطنية لهذه الدول (نفط، غاز، فوسفات، مناجم ذهب، ومناجم ماس) .. الخ.. وقد تعرضت هذه الشركات إلى عقوبات أمريكية، ككيانات، وكأفراد..
وهنا يمكن القول: شرُّ البلية ما يُضحِك.. فالولايات المتحدة هي من أكبر المُصدِّرين والمُجنِّدين للمرتزقة في العالم.. ومنظمة “بلاك ووتر” لا تخفى على أحد، لا هي ولا جرائمها..
**
تجنيد المرتزقة، يتنافى مع القانون الدولي الإنساني، لاسيما اتفاقات جنيف الأربعة لعام 1949 ، والتي تشكل أساس هذا القانون.. وأعتقد يتّفق معي خبير القانون الدولي الإنساني في سورية، الأستاذ الدكتور العزيز ياسر كلزي..
وهي لا تنطبق على المُرتزَقة أيضا، ولم تأتي على ذِكر المُرتزَقة، إلا في البروتوكول الإضافي لعام 1977، حيث تمّ تعريف المرتزِق بأنه:
(أيّ شخص يجري تجنيده خصيصا، محليا أو في الخارج، ليقاتل في نزاع مسلح، ويشارك فعلا ومباشرة في الأعمال العدائية، ودافِعهُ هو المغنم الشخصي، والتعويض المادي المُغري الذي يفوق بكثير رواتب الأقران من الجيوش النظامية، وليس عضوا في القوات المُسلّحة لأحد أطراف النزاع) ..
إذاً هذا هو التعريف الدولي القانوني للمرتزِق..
وتمّ في البروتوكول الإضافي أيضا توضيح الفرق بين (المُقاتِل) وبين (المُرتزِق) .. فالمقاتل هو فردٌ في القوات المسلحة لأحد أطراف النزاع.. بينما المُرتزِق هو ليس كذلك.. ولذا لا يمكن أن ينطبق عليه ما ينطبق على أسرى الحرب.. ولكن قد يخضع إلى محاكمة عادلة وإجراءات قضائية مرعية فيما يتعلق بالجرائم الجنائية..
وبالطبع كانت هناك خلافات كثيرة حول التفسيرات المتعلقة بالمُرتزِق، التي وردت في البروتوكول الإضافي..
اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة تجنيد المرتزقة عام 1989 ، نصّت على أنهُ لا يجوز للدول الأطراف تجنيد المرتزقة أو استخدامهم أو تمويلهم أو تدريبهم، وعليها أن تقوم بحظرِ هذه الأنشطة..
ولا يجوز لها أيضا تجنيد المرتزقة أو استخدامهم أو تمويلهم أو تدريبهم، بهدفِ مقاومة الممارسة الشرعية لحق الشعوب غير القابل للتصرف في تقرير المصير حسبما يُعتَرف به في القانون الدولي..
طبعا هذا ما كانت تقوم بها الدول الإستعمارية في تجنيد المُرتزَقة لمحاربة حركات التحرر في العالم الثالث سابقا التي كانت تناضل لأجل تقرير المصير وطردِ المُستعمِر..
**
في الإسلام، الحالة جدلية جدا.. فالإسلام ميّزَ ما بين المُجاهِد وبين المُرتزِق.. ولكن بذات الوقت فما يُعرَف بالإسلام الجهادي، العابر للقارات يُعطي لنفسهِ الحق والشرعية للقتال في أي مكان بالعالم مُنطِلقا من نظرية (الجهاد في سبيل الله) كأحد أركان الإسلام.. وهكذا كان المسلمون الجهاديون يتقاطرون من كل مكان للإنضواء تحت جناح (داعش) في سورية، ضاربين بعرض الحائط كل مفاهيم القانون الدولي، مُرتكبين كل أنواع الجرائم والشرور بحق الناس، ومُدّعين أن هذا “جهاد” ، بينما كل مافعلوه هو مروقٌ وافتراءٌ على الإسلام، وإساءة له.. وحُكمهُم حُكم أي مُرتزِق.. لأنهم هكذا يقاتلون مسلمين، ويُدمِّرون بلدان مسلمين، ولم يذهبوا ليقاتلوا المُحتل الإسرائيلي في فلسطين، لكان ذلك جِهادا..
كما حال تنظيم القاعدة، فقد تقاطَر الجهاديون من كل حدبٍ وصوب، لقتال السوفييت في أفغانستان، ولكن بأوامر وتوجيهات أمريكية وتدريب وتسليح أمريكي، ولِخدمة مصالح أمريكية، وزعزعوا استقرار العديد من البُلدان الإسلامية، وحينما انتهى دورهم، انقلبت الولايات المتحدة عليهم ووصفتهم بالإرهابيين، وحاربتهم.. ولم نراهم اتّجهوا في أي يوم نحو فلسطين.. فهل هذا ينطبق عليه مفهوم (الجهاد) ؟. شخصيا أقول: كلّا.. ولكن كثيرون يقولون العكس..
فالمسألة جدلية جدا بالإسلام، لأنه لا يحكمها أسُس القانون الدولي، وإنما عقيدة واعتقاد البعض المتطرف، التي لا تتّفق معها حتى المرجعيات الإسلامية.. وكما الكثير من المفاهيم الإسلامية، فهي قابلة لتفسيرات عديدة، ومتناقضة.. أي مطّاطة، يمكن لأي جهة أن تفسرها بما يتوافق مع مصالحها.. فحتى القرآن الكريم، هُم غير متّفقون على تفسيرهِ.. أو تفسير غالبية آياتهِ.. بل ليسوا متّفقون على مفهوم المُسلِم ذاتهُ، ولذا نرى التكفير بين الطوائف الإسلامية، بالماضي والحاضر.. وهذا يجب أن ينتهي..
**
تعريف المرتزق بقواميس اللغة العربية، جميعها متطابقة، فهو الشخص الذي يتّخذ من الحرب وسيلة لكسب المال والارتزاق، ولا يتبنّى القضية التي يخدمها..
وينصح ابن خلدون، الحكام والسلاطين ألّا يعتمدوا على المرتزقة في تثبيت أركان حُكمهم، لأنهم مهما أجزلوا العطاء عليهم، فإنهم ليس بوسعهم أن يضمنوا ولاءهم..
**
باختصار، المُرتزِق هو شخص يفتقر للأسُس الأخلاقية والإنسانية والقانونية، ولا يُعيرُ أي اهمام لقوانين الحرب، ولا يلتزمون بأي ضوابط وقيود، ويرتكبون أفعالا تحرِّمها المواثيق الدولية.. ويقتُل أكثر لِمن يدفع أكثر.. وقد يُحارب اليوم مع هذا الطرف، وإن دُفِع له أكثر، فقد ينضم للطرف الآخر ..
**
مسألة تجنيد المُرتزقة ليست حديثة العهد، فهي قديمة جدا في التاريخ، وتعودُ لأيام الفراعنة، حينما استخدمهم رمسيس الثاني منذ عام 1288 قبل الميلاد في معركة قادش ضد الحيثيين، وجاء بهم من بلاد شتّى، لاسيما بلاد الإغريق وما حولها..
وأخذ ذلك عن المصريين، الأمير الفارسي “قورش الأصغر” في زمن الإمبراطورية الإخمينية، قبل 500 عام من الميلاد، حينما انقلب على أخيه “أزدشير”ملك الملوك، وأراد أن يحُلّ مكانهُ، فاستعان بالمُرتزَقة من بلاد الإغريق، الذين سارعوا لنجدتهِ مقابل الذهب الذي سيحصلون عليه..
وفي حروب الفُرس، والرومان بقيادة الإسكندر الأكبر، قبل 300 من الميلاد، اعتمد كل طرف على المرتزقة بشكل كبير.. وكان لدى الرومان جيوشا من المُرتزَقة، مكّنتهم من التوسُّع الكبير..
وذات الأسلوب اتّبعهُ القرطاجيون، والبيزنطيون، ولاحقا الفِرنجة خلال ما يُعرف بـ (الحروب الصليبية).. واستعملهم بعض ملوك اوروبا لقهرِ شعوبهم، وفرض الأمن، وقمع المعارضين لهم.. وكانت سويسرا أكبر المُصدِّرين للمرتزقة، بعد الإغريق، نظرا لقدرتهم القتالية العالية..
وانتشر الإرتزاق ليصل إلى إنكلترا وألمانيا وهولندة وفرنسا، واستخدامهم في الحروب الأهلية الإقليمية.. واستخدمهم نابليون بونابرت في حروبه التوسعية، وشكّلوا أكثر من نصف جيشهِ حينما حاول غزو روسيا عام 1812 ..
واعتمد الاستعمار الفرنسي في توسعهِ على المُرتزَقة الأجانب من بلاد المغرب العربي، والهند الصينية، وفيتنام وأفريقيا جنوب الصحراء، مقابل رواتب مُجزية، ومزايا أخرى..
وكان في فرنسا في القرن التاسع عشر، فرقة ضخمة من المُرتزَقة اسمها “الفرقة الأجنبية” بلغ عدد جنودها حوالي 30 ألف، واعتمدوا عليها في احتلال الجزائر عام 1830.. كما اعتمدوا على المرتزقة في الحربين العالميتين، الأولى والثانية.. وفي حرب فيتنام، إلى حين انسحاب فرنسا منها عام 1954، وأعيدت الفرقة الأجنبية إلى الجزائر، إلى أن اصدر الرئيس شارل ديغول قرارا بحلها وتسريحها عام 1959، فتفرقّ مقاتلوها في أفريقيا، جنوب الصحراء، واستخدمتهم القوى المتصارعة هناك، مُستفيدين من خبرتهم القتالية..
**
ذات النهج والأسلوب اتّبعتهُ إنكلترا، فقد اعتمدت في توسعها على المرتزقة.. ورغم صدور قانون عام 1870 يحظر استخدام المرتزقة، إلا أنه سمح في بعض المواد لدول الكومنولث، الاعتماد على الجنود المأجورين (يعني المرتزقة)..
ومن هنا تم تشكيل فرَقا من فقراء الهند وإرسالها إلى مختلف الميادين لخوض الحروب والمعارك، لأجل الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس..
وكانت الفرقة الهندية السادسة في مقدمة القوات البريطانية، لدى الاحتلال البريطاني الأول للعراق عام 1914 .. وحينما أخذت بريطانيا من ترسيخ احتلالها بعد الحرب العالمية الأولى، قامت بتشكيل جيش كامل من المرتزقة، عُرِف باسم “جيش الليفي”، لحماية معسكراتها بالعراق، والقواعد الجوية العراقية، بالاتفاق مع رئيس وزراء العراق آنذاك نوري السعيد..
حتى أن بريطانيا استقدمت مرتزقة صهاينة من منظمة “ أرجون” للعراق لكبحِ نضال العراقيين من أجل الاستقلال..
**
وبعد ظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى على الساحة الدولية، سارت على ذات الدرب، واعتمدت على المُرتزَقة في حرب فيتنام، وظلُّوا يحاربون مع القوات الأمريكية إلى أن هُزِمت عام 1975 على يد الفيتناميين الأشاوس..
كما وظّفت المُرتزَقة خلال الحرب الباردة في صراعها مع الاتحاد السوفييتي، لاسيما في أنغولا.. ووظّفت المرتزقة من جنوب أفريقيا ومن أوروبا برواتب مغرية.. والاعتماد على ضباط وعساكر أمريكان متقاعدين وباحثين عن المال بكل الطُرُق..
وتمّ في أواسط السبعينيات تأسيس شركات خاصة لتصدير المرتزقة تحت عنوان (المنظمة الدولية لخدمات الأمن).. ومن ثمّ (شركة ما وراء البحار للأمن والحماية).. وأصبح عدد هذه الشركات في العالم أكثر من مائة شركة في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا.. منها 35 شركة في الولايات المتحدة لوحدها، وعلى رأسها شركة “بلاك ووتر” أو المياه السوداء (نسبة إلى المستنقعات المُظلمة التي نشأت في قلبها) واستخدمت منها حوالي 20 ألف مرتزق للقتال لجانب القوات الأمريكية في العراق في 2003.. وارتكبت جرائما بشعة بحق المدنيين الأبرياء، لاسيما في الفلُّوجة، واستخدام أسلحة وذخائر محرّمة دوليا..
وفضلا عن ذلك، قامت بريطانيا بالاستعانة بشركات المرتزقة، واستخدمت أعدادا ضخمة منهم في العراق..
وتأتي في المرتبة الثالثة بتصدير المُرتزقة للعراق هي جنوب أفريقيا..
حتى أن شركة بلاك ووتر هي من تحرس المصالح النفطية الأمريكية في بحر قزوين، وتُدرِّب القوات البحرية الأمريكية، ولها قاعدة عسكرية قريبة من الحدود الإيرانية في أذربيجان..
**
التوسُّع الكبير لشركة “بلاك ووتر” دفَع الأمم المتحدة لتشكيل لجنة من خبراء حقوق الإنسان المستقلين، وزارت خمس دول وهي : هندوراس، والبيرو، وتشيلي، والإكوادور، وجزُر فيجي، لدراسة عمليات تجنيد وتدريب المُرتزَقة.. وبعد عامين أعدّ هؤلاء تقريا شاملا، أوضحوا فيه أن الشركات الأمنية الخاصة تمكنت من تجنيد عناصر من إسبانيا، والبرتغال، ودول أوروبية، وروسيا، وجنوب أفريقيا، ووفّرت تدريبات عسكرية لهؤلاء في الولايات المتحدة والعراق والأردن، للقيام بأعمال تقوم بها عادة الجيوش النظامية.. وأن الشركات الأمنية الخاصّة المُرخّصة، أدّت إلى زيادةٍ كبيرة بعدد المرتزقة، الذين يعملون تحت راياتها وخَلْف غطاء (مقاولون) أو
Contractors
بدل اسمهم الحقيقي وهو (مرتزقة)
كل هذا يحصل رغم أن بريطانيا وفرنسا، سنّتا قوانينا تُحرِّم العمل الارتزاقي.. وتفرض عقوبات شديدة على أصحابه.. ورغم أن قانون العقوبات في الولايات المتحدة يفرض عقوبات على من يعمل مرتزق..
ولكن طالما الأطماع الدولية قائمة، وروح الهيمنة والتوسع قائمة، والحروب الأهلية والإقليمية قائمة، فإن دور المرتزقة سيبقى قائما، وخاصّة في ظلِّ ظروف الفقر والجوع والبطالة التي تسودُ في العالم الثالث، مع الإنفجار السُكّاني الهائل، الأمر الذي يدفع بمئات ملايين الفقراء والجياع للبحث عن لقمة العيش حتى لو كانت من خلال فوّهةِ بُندقيةِ مُرتزِق.. فالجوع كافر..
**
ولا بُدّ أخيرا من القول أنهُ يحزُّ في النفس أن يتحوَل بعض السوريين إلى مُرتزَقة، بسبب الأوضاع المعيشية القاسية، والحاجة للمال، فمنهم من يستخدمهُ أردوغان في حروبهِ ويرسلهم خارج سورية (ليبيا واذربيجان) ومنهم من تستخدمه مجموعة فاغنر، هنا وهناك.. بينما ما يزال الجولان يرزح تحت الإحتلال..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو: الكوفية الفلسطينية تتحول لرمز دولي للتضامن مع المدنيي


.. مراسلنا يكشف تفاصيل المرحلة الرابعة من تصعيد الحوثيين ضد الس




.. تصاعد حدة الاشتباكات على طول خط الجبهة بين القوات الأوكرانية


.. برز ما ورد في الصحف والمواقع العالمية بشأن الحرب الإسرائيلية




.. غارات إسرائيلية على حي الجنينة في مدينة رفح