الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليوم الأخير لمحكوم بالإعدام

ميمون الواليدي

2023 / 6 / 29
الادب والفن


لا أعرف كم من الوقت مضى على وجودي في هذا القبو. بسبب الظلمة الحالكة لم أعد أميز بين النهار والليل. عددت الدقائق والساعات منذ وصولي لكنني لم أستطع المتابعة. الحقيقة أن معرفة الوقت بالنسبة لي أمر غير ذي معنى، فلا شيء أفعله في هذا المكان غير الانتظار. من حين لآخر، يزورني سجاني لبضع ثواني، إما ليحضر لي طعاما، أو ليتأكد أنني لم أنتحر. كأي محكوم عليه بالإعدام، يجب الحفاظ على حياتي حتى بزوغ صباح العاشر من ذي الحج. غريب أمر سجاني، لا أفهم لماذا يصر على إطعامي والابتسام في وجهي في سبيل أن أظل حيا حتى الغد. ما دمت سألقى حتفي حتما، فما الفارق إن مت في التاسع أو الثامن بدل العاشر ؟ أي فرق سيشكله بالنسبة لي يوم إضافي في قبو لا تصله الشمس، وتحتل الجرذان والصراصير كل جنباته؟

في القبو شممت رائحة أكباش مرت من هنا، منها من ترك صوفا ومنها من ترك حافرا، ومنها من خط على الحائط كلمات استغاثة بقرنيه. مررت طرف لساني على جنبات الحائط لأتبين ما كتب. حتى الآن عثرت على أسماء سبعة عشر كبشا من قبائل مختلفة. غالبية هذه الأكباش من قبيلة الصردي، إنهم بلا شك أبناء عمومتي. لا أعرف أي ذنب ارتكبته القبيلة حتى يساق أبنائها إلى النحر في كل عام ؟ أي جرم ارتكبه أجدادنا وعلينا أن ندفع ثمنه باستمرار ؟ لقد كنا رغم كل شيء أسخياء مع مستعبدينا من بني البشر، منحناهم الصوف والحليب، منحناهم حتى اللحم على أن يأكلوه بتفريط لا أن يسوقونا جميعا إلى المجازر.

قبل أشهر كنت حملا شابا أرعى في المروج المحيطة بوادي أم الربيع. كنت ألعب وأجري وأسابق رفيقتي النعجة دولي غير عابىء بأي شيء. ورغم أن والدي لقي حتفه في مثل هذا الوقت من العام الماضي، إلا أنني كنت آمل أن يكون حظي أوفر من حظه. كنت أتمنى أن يبقي علي الراعي في الحظيرة لخصوبتي، وتمنيت حتى أن يحولني إلى كبش مرياع لا أن يبيعني للجلاد. كنت لأسعد بالعيش خصيا على أن أموت فحلا.

الحكم علي بالإعدام كان نهائيا ونافذا. لا مجال لبني قومي للاستئناف أو التوجه نحو محكمة النقض. عندما يتعلق الأمر بالخراف، فالقاضي والمحامي والمدعي العام والجلاد هم شخص واحد. لا يمكنني حتى طلب العفو، العفو عن الأكباش قد يصدر صدفة مرة في ثلاثين عاما أو أكثر. سمعت من جدتي أن آخر عفو عن الأضاحي صدر قبل سبع وعشرين عاما. قالت أن إلغاء الذبح في العاشر من ذي الحجة والعفو عن الخرفان حدث مرة لأن الرعاة والجزارين والسجانين كانوا مشغولين بحرب ما في الشرق، ومرة أخرى لأن الجزارين والسجانين وأولادهم لم يجدوا مالا يدفعونه للرعاة وتجار الفحم وبائعي المشروبات الغازية بسبب الجفاف. يا للسخرية، حتى عندما يصدر عفو عن المحكومين بالإعدام منا، فإنه يصدر لعلة تصيب البشر وليس رحمة بنا.

صباح اليوم أحضر السجان أولاده لرؤيتي. تذكرت أنني كنت أرغب أنا الآخر بالحصول على أولاد. يا لمصيبتي، سأموت دون أن أترك خليفة لي. تحلق الأولاد حولي، التقطوا صورا معي ثم انصرفوا وصدى قهقهاتهم تتردد في القبو. في ماذا ستفيدهم الصور يا ترى ؟ كيف سمح لهم السجان بذلك ؟ أي سجان هذا الذي يسمح لنفسه بالتقاط صور محكوم ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي ؟ أليست للمحكوم بالإعدام حقوق؟ ألا يحق له حماية حياته الخاصة؟ أي سادية هذه التي تدفع الناس للتباهي بإقدامهم على قطع رأس كبش بريء؟ كيف يستطيع هولاء النوم ملء أفواههم مطمئنين وكأن شيئا لم يكن؟

بعد زيارة الأولاد، تذكرت أمي النعجة. فقدت المسكينة كل أولادها بنفس الأسلوب. في كل عام تنجب صغيرين، وفي كل عام يؤخذ منها الصغيران ويساقان إلى المسلخ أو إلى سوق الأضاحي. للأسف أن أمي لا تملك هاتفا، لا تستطيع حتى الاحتفاظ بصور أبنائها. لا أعرف ما إذا كان سجاني سيقبل أن يبعث لها بصورتي ؟

قبل ساعة من الآن، سمعت الجزار يقوم بشحذ السكاكين، وسمعت طرق السجان على الحائط، لابد أنه كان ينصب منصة الإعدام. لم يبقى الكثير من الوقت، بالتأكيد أننا في الليلة التي تسبق النحر. لا أعتقد أنني أستطيع النوم. بالرغم من أنني كنت أعرف مصيري منذ لحظة تكبيلي في المزرعة، ثم شحني رفقة أكباش أخرى ونقلنا إلى السوق، إلا أنني أشعر الآن بخوف شديد وكأنني اكتشفت الأمر لتوي. ارتفعت درجة حرارتي فجأة وبدأت قوائمي بالارتعاش. أجد صعوبة في التنفس وصار من العسير علي الوقوف. التفكير في السكين يشعرني بالرعب. مجرد تخيل برودة الحديد وهو يخترق عنقي تشعرني بالرغبة في الانتحار قبل طلوع الفجر.

صوت شخير السجان يصلني من ثقب أعلى القبو. إنه يغط في نوم عميق دون أن تهتز له قصبة. سأكون بعد سويعات ضحيته الثامنة عشر. أي قلب يملك هذا الرجل؟ قاتل متسلسل يغرق في النوم وهو مقبل على قتل ضحية جديدة ! لا أعرف ما هو مستوى علم النفس البشري، لكننا معشر الأكباش، تعلمنا من علماء نفسنا أن مجرد إتلاف عشب أو تعكير مياه عين كفيل بأن يبعد النوم عن أعيننا.

الحقيقة أن حياتي ليست ذات قيمة كبيرة، لهذا لست متعلقا بها كثيرا، ولست نادما على كوني مغادرا دون قضاء عمر طويل في المزرعة. أنا حزين ونادم لأن لا أحد من بني جنسي حاول شرح موقفنا نحن الأكباش. العالم يسمع قصتنا دائما من أفواه البشر. لا أحد استمع يوما لرواية الأغنام، لربما تغيرت ظروفنا لو استطعنا إسماع صوتنا. للأسف أننا مجرد قطيع يقاد، وما دمنا مجرد قطيع، ستنتشر رواية الراعي ورواية الجزار، لكن رواية الكبش سترافق دمائه عبر المجارير، تتسرب بعيدا عبر الشقوق، ويخفت صداها شيئا فشيئا إلى أن تطوى في غياهب النسيان.
ميمون الواليدي بتاريخ 29 يونيو 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟