الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرفة مظلمة استضاءت بميلاد

محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)

2023 / 6 / 30
الادب والفن


خصص له النادل زاوية من المطعم ، تعمد ان تكون مواجهة للمدخل حتى يراها إذا أقبلت ..فإبراهيم شريك استطاع أن يجعل من مطعم صغيرشبه مهجور قبلة لكل الذواقيين عشاق الأكلات التقليدية الأصيلة ..
بين لحظة وأخرى كان يرفع عينيه عن جريدة بين يديه لتنشد عيناه الى ساعة حائطية..
لم يرها مذ غادر الثانوية بعد البكالوريا وهاجر الى كندا لاتمام دراسته ،فقد كان يتقدمها بسنتين .. كم حاول التقرب منها وهما طالبان لكنها كانت تضع حدا بينها وبين التلاميذ الذكور كنوع من الاحتراس الذي يلاحق أي أنثى تفتقد الإحساس بالاستقرارأو وجود تابع يردعها بخوف أو يهددها بعقاب ، فما كان يشاع عنها أن لها أخا من أبيها يتحكم في البيت ويستحوذ فيه على كل شيء بأمر
كانت ذات وجه صبوح ، مليحة أنيقة ، ممشوقة القوام ،قليلة الكلام ،صمتها يفرض نوعا من الاحترام على كل من يتقرب منها ..لكن من عيونها ينبع ذكاء خاص محكوم بحذر والتباس ..
الصدفة وحدها اعادت لقاءهما ، دخلت صيدلية تسأل عن تركيبة دوائية فصادفته
عند خروجها :
ــ كوثر !! ..
ـ إبراهيم !! ..
بعد السلام سالها عما تريد ؟
ـ تركيبة دوائية لأبي لم أجدها ولجأت رغم المسافة البعيد ة الى هنا لكن بلا جدوى ..
ــ اتسعت له بسمة وقال :
تحضر في الحال ولو كانت في السند ..
وضع يده على كتفها ثم أعادها الى الصيدلية ..
حاولت أن تتخلص من يده بلباقة لم يكن عنها غافلا ..
ربما متزوجة تحترم نفسها وشرف ارتباطها ..
أدركت أنها في مكتبه الخاص من اليافطة الزجاجية على مكتبه معناه انه صاحب المحل ..
باركت له عودته من كندا وافتتاح الصيدلية ..
استأذنها لحظة وتلفن لطبيب يساله عن إحدى المستحضرات الطبية المفقودة من السوق ..
تربعت ضحكة على وجهه ثم أشار لها بيده كموافقة على إمكانية صنع التركيبة
التي لن تكون جاهزة قبل منتصف نهار غد ، اقترح عليها دعوة لغذاء :
ـ مارايك وبلاحرج ، وحسب الإمكان ، تقبلين دعوتي لغذاء في مطعم صغير قريب من الصيدلية يقدم وجبات اصيلة ورائعة ستجعلك تنسين وجبات الوالدة ..
تنهدت وقالت :يرحمها الله
ـ الله أكبر أو قد ماتت ؟ البركة في من بقي..
قبلت بعد تردد ثم قال لها وقد فتح الوصفة كأنه يعيد قراءة محتوياتها :
ـ كوثر !!..الطبيب الذي كتب هذه الوصفة هل كان مقتنعا بفاعلية ما وصف ؟
حركت حاجبيها الى أعلى كجهل عما يسأل عنه.. يتابع :
ـ توجد أدوية أكثر نجاعة لمرض والدك فاثر التركيبة لا يتعدى التهدئة ومنع
تختر الدم أحيانا وليس دائما في أوعية الراس..
استغربت لما صرح لها به وقد حرك في نفسها صدى غضبة ذكرتها بتركيبة صنعتها صيدلية غير التي ينصح بها الطبيب المعالج الذي رفضها وحذرها من استعمالها ..
تنهد متأسفا على ظاهرة الغش التي تملكت ضمير هذه الامة حتى مهنة الطب وهي المسؤولة عن سمو رقي الانسان قد صارت بؤرة للغش وسفك دماء المرضى..
مرة أخرى تنشد عيناه الى ساعة المطعم ..
شاب قريب منه يدخن ، اثار في نفسه حنينا لسيجارة ترك تعاطيها قبل أن يعود لوطنه ..
الشاب الذي يدخن احرق في جوفه ثلاث سجائرمترادفات في شراهة .
إحداها لم تكن عادية .ترى مابه ؟ أحمق ينتحر ..
على باب المطعم تظهركوثر، نظرات زائغة ،تلهث كأن خلفها لصا يطاردها..
وقعت عيناه عليها فتحرك واقفا وقد مد يمناه بأشارة ليدلها على مكانه ، لكنها تركته واتجهت صوب الشاب المدخن وكأنها ما أقبلت الا بحثا عنه ..
غرابة ترتدي إبراهيم فتتلبسه بقلق وهو يرى فتاته تهمس وجلة بكلمات الى الشاب الذي يتحرك من مكانه في قلق مصطنع وغضب لايخفى ثم ينصرفان ..
كيف تعده بغذاء معه ثم تخلف وعدها بلا أدنى اعتذار ؟من يكون الشاب الذي كان ينهم السجائر في شره مفرط ؟ أيكون زوجها ؟
هل كان ينتظرها أم الصدفة هي التي أوقعتها عليه ؟
وتركيبة الدواء !! .. هل استغنت عنها ؟
انسحب من مكانه وخطا الى الباب بتثاقل ، قلق يأكل قلبه ..
لو يعلم سبب سلوكها ومن يكون الشاب الذي رافقها ؟
كانت على وشك الذهاب مع الشاب ثم ما لبثت أن نزلت من السيارة بعد إشارات عنيفة منه عائدة الى المطعم وصرة غيم تنفجر في عيونها ..
وضعت يمناها على صدرها وحركت يدها باشارة لإبراهيم كأنها تقول له :
ـ عد من حيث أتيت ..
ـ اعتذر عن تأخري ،ذاك أخي أخشاه أكثر مما أخشى ابي ..
تركت ابي في البيت يعاني من غيبوبة وهرولت اليك للاعتذار لكني تفاجأت بسيارة أخي بباب المطعم ..
استغرب إبراهيم ..بنت في عمرها لازالت تطعم أخاها من لحمها ودمها خوفا ..
الآن أدرك لماذا تخلصت من يده لما وضعها على كتفها ، تحكمات سلطوية فاقت الترهيب هو ما يلاحقها ..
اخرج علبة الدواء وسلمها اليها فامتنعت ووجهها يتلون بين الوجل والخجل
أدرك سبب دموعها ..
مسك بيدها كانه يجر طفلة صغيرة تحاول أن تعلن العصيان ، اصر على ركوبها معه في سيارته ..
بحذر وخوف يتلبسها جلست الى جانبه وكأن عيونا تطاردها برقابة ..
عرج على الصيدلية بعد مكالمة هاتفية مع طبيب ، أخذ علب أدوية ثم قال لها :
الآن دليني على بيتك ؟
لم يتوان في الدخول وهو يحثها على أن توصله الى غرفة والدها ..
دق للمريض حقنة في وركه ثم ناوله بعضا مما كان معه من الادوية و شرع يحرك يدي المريض تارة ورجليه تارة أخرة ..
غصة تصعد من صدر المريض وسعال خفيف يغالبه..
ـ هل انت بخير الحاج ؟
سعادة تغمرها وانبهار بابراهيم يضيء في عيونها بأمل..
يساعد إبراهيم المريض على الوقوف ،يقطع به البهو جيئة وذهابا ثم يطلب له كأس ماء دافئ ..
أحس الاب بانتعاشة فشكر منجده الذي اصر على أن يصاحبه أبو كوثر الى طبيب مختص للشرايين .
تفاجأ الطبيب لما رأى كوثر مع صديقه إبراهيم ..كوثر مطلقة أخيه والتي لم يرها منذ يوم زفافها الذي حضره قادما من فرنسا ..
بعد الفحص اقترح الطبيب على المريض فحوصات بالرنين المغناطيسي ..
نادى مساعدة له وطلب منها مصاحبة المريض الى عيادة مجاورة ذات تخصصات متعددة ..
كانت كوثر تشعر بحرج وضيق ، بل بخوف من نوع آخر يتلاعب في عيونها قلقا يتبدى على وجهها ..
من اين لها تأدية كل مصاريف الفحوصات والأشعة .. ابوها لم يكن معدما لكن التوكيل الذي فوض به تجارته الى أخيها جعل هذا يبذر كل شيء وينفقه على ملذاته وادمانه .. تذكرت حين وجدته في المطعم وأخبرته حالة والده كيف تفجر في وجهها :
ـ اذا أراد الموت فالطريق أمامه..كلنا سنموت ..
بعد خروج المساعدة التفت الطبيب الى كوثر وقال:
هل تعلمين كوثر أن أمي قد حرمت على نفسها رؤية وجه أخي بعد طلاقك
ولم تره الا يوم دخلت لوداعه بعد حادثة سيره ..
أحس ضيقها حين ذكرها بأخيه فاعتذر ..
الم يسرى في ذاتها بدأ ها من فخدها الأيسر..هوت على كرسي وكأن الرعب الذي عاودها قد مص دماءها ..شحوب من رعب سرى في شفتيها حتى صارت اشبه بميتة قد فقدت الروح ..
رجل سادي لم تكن تستلذ له متعة جنس الا اذا أطفا سيجارته في فخدها،صيحاتها من ألم كانت تضاعف متعته ،فيصير حيوانا لا يسفد الا بجهالة وتعنيف ..
تجاوزت عنه مرة لكن في الثانية رمته بسخانة كهربائية كانت قريبة منها ..
أحترق البيت واستطاعت الفرار بنفسها ثم أصرت على الطلاق ..
كانت صفقة بين الزوج وأخيها المدمن الذي فرض على ابيها قبول زواجها من صديقه ..
توقفت عن الدراسة وتزوجته مرغمة ومن اسبوعها الثاني كانت امرأة مطلقة ..
كان إبراهيم يتابع تلونات كوثر ، كان يدرك ان حزمة الذكريات التي فجرها صديقه قد جددت عصب الخوف في صدر كوثر الى درجة قد وصله نبض صدرها فانهارت على كرسي ..
أحس إبراهيم بجوع يعصر أمعاءه ، اعتذر من الطبيب ثم خرج تصاحبه كوثر عائدين الى المطعم الصغير ..مؤكدا على الطبيب أن يهتم بمريضه ريتما يعودان
بعد الغذاء، قالت كوثر بعد بسمة اشرقت على وجهها بحمرة :
عني وبسرعة قد عرفت كل شيء ،فماذا عنك ؟..
ـ هل عندك أبناء ؟
ضحك .. وهل اعرف امهم حتى اعرف ابنائي ؟
مررت بتجربة قط وفار في كندا ، كنت لا أطيل في مكان إقامة حتى اغيره ،ست سنوات وانا حال مرتحل ؛ كان همي أن أدرس بجد ولا تكرار حتى لا أخلق مشاكل مادية لأسرتي .عملت في أكثر من مطعم وفندق، تعلمت الكثير،واكتسبت خبرة حول المطاعم وتسيير الفنادق.. في آخر إقامة لي حاولت صاحبة البيت الذي كنت أكتريه أن توقعني في شباكها بزواج مقابل إقامة دائمة وجنسية ، ولما يئست مني حاولت ان تغري بنتها المطلقة بي..
كنت جد كتوم عن كل ما يخص دراستي و بين شمس وضحاها وجد تني أطير
الى وطني .. لم أكن أعبأ بما يقال عن غياب فرص الشغل،وانعدام المساواة وهيمنة أبناء ذوي المال والنفوذ على الاقتصاد والمناصب ..أشياء كانت لا تحركني بخوف ، فأنى كان العقل وحضر الذكاء وامتلأ الصدر معرفة ، كان الأمان والطمأنينة .. كان معي بعض المال جمعته مما وفرته في كندا ، دخلت به شريكا في هذا المطعم مع صديق كان يدرس معي ،وبأرباح المطعم وقرض بنكي افتتحت صيدليتي..
أحس السعادة تغمرها لما عرفته عنه.. قالت :
ـ أهنيك لانك استطعت أن تترفع عن كل مايغري الشباب حين يترك وطنه الى بلاد غربية..
تنهدت ثم تابعت :
ـ أما الأنثى فلاحديث عنها ، خضوع لقيود الحقوق والتقاليد وسطوة تتملكها من ثقافة بلدها ومعتقداته البعيدة عن الدين ..
حتى حين حررها الدين فالمتكلمون باسمه والمستغلون أحكامه حولوها الى أمة بما لم يقله قرآن أو يحدث به نبي ..
وهما في طريق العودة الى عيادة صديقه الطبيب سألها عن عملها :
ـ "اقضي نهاري بالأماني الكواذب وآوي الى ليل بطيء الكواكب "
ـ الم تكملي دراسة ؟..
ـ لا أكملت صفقة أخي وتهديده لي ،ان لم اتزوج صديقه يرميني للشارع ..
وضع يده على يدها فسحبتها بسرعة لكن إبراهيم أعاد الكرة واصر ان تظل يدها في يده ..
ـ ما بك كوثر أنت اعقل من ان تنكمشي بخوف من رجل !! ..
تنهدت وقد ركبتها غصة الم :
ـ لو مرت امرأة غيري بما مررت به في ليالي زواجي القليلة لكانت اليوم هيكلا منسيا بين ذرات من تراب ..
بسرعة رفعت تنورتها وعرت عن فخدها :
مارايك ؟ هل بعد هذا افكر في رجل ؟ او يمكن أن يحلو لي رجل ؟..
فخد مرمري لكنه مثقب بكيات عميقة وجروح اندملت وخلفت اثرها ..
اهتز إبراهيم لما عاينه ..
ـ أو مجنون كان هذا ؟
رفع يدها الى شفاهه وقبلها
ـ إبراهيم أرجوك ، ماعاد لي شيء أهبه اليك ..
غابت في شهقات دموعها ..
وضع يده على كتفها ، تبسم في وجهها وقال :
ما زالت كوثر بكامل انوثتها ، بذكائها الصامت ، كوثر كما كنت اراها في الثانوية فاتمناها ..
كل شيء قابل للعلاج ..
ابوك أولا ثم أنت .. أمامك الوقت الكافي وخلال فترة الاستئناس والاختبار
يلزم أن امحو اثرا قد يعرقل شفاهي ، أو يخدش لساني ..
بكت كما لم تبك من قبل ،جنح الى طريق جانبي واركن سيارته ..
كان إحساسها بخيبة عمرها وجع أزلي عنها لا يغيب بالم كم أخفته عن ابيها حتى لا تضاعف من وطء مرضه لكن ما ان تفكر في حياتها الضائعة حتى تعاودها طعنات أخيها تمزق روحها أشلاء ..
قبل أن تدخل كوثر بيت إبراهيم وتتسلم قيادته كلفها بإدارة المطعم الذي غادره مديره بعد أن فتح مطعما صغيرا خاصا بالأكلات الخفيفة ..
كان ذلك كأول دعم نفسي يقدمه إبراهيم لكوثر فتحس قوتها وثقتها بنفسها ، تخلع عنها الضعف الذي ولدته تنشئة الخوف من أخيها خصوصا بعد أن حول أبوها الوكالة اليها وخلعها عن أخيها حين تم القبض عليه إثر مداهمة لوكر يصنع الماحيا ويتاجر في الحشيش . .مما اشعرها بالرضا عن نفسها ..
جاهد إبراهيم معها بصبر وأناة حتى تنسى ماضيها بكل شحنات الخوف وعدم الثقة وأن تنظر لغد وما تريد تحقيقه برجاء وعزيمة ..
انتمت الى أحد الأندية الرياضية بعد عملية تجميل لفخدها أزال كل اثر عدواني
عن جسدها ..
إحساس بالأمان والاستقرار المادي وهي تحقق بذكاء وابداع توازنا بين جميع الأنشطة التي يتعمد إبراهيم ان يشركها معه فيها ..
حرية تحياها ليست هي ما قراته في المدرسة والكتب عن المراة وعملها من أجل طاعة زوجها وارضائه حتى يكون عنها راضيا متى كان هو من يريد ويتمنى ..
ثقة إبراهيم بقدراتها خفف ماكانت تحمله عن الرجل وهيمنته وآمنت بمعادن الناس واختلافاتهم ..
كان إبراهيم في مكتبه بالصيدلية حين توقفت كوثر بباب مكتبه وقالت :
ـ ألا تنهض لتؤدي لوازم الترحاب والطاعة ؟
بسرعة أدرك قصدها ، شدها اليه الى الداخل ، قبل يدها واقسم ان يقبل بطنا يحمل بذرة منه ..
ما ذا تفعل يامجنون ؟
عانقها ونشوة اغتباط تسري في كل أوصالها
ـ اليوم ميلادي ياحبيبي ، ميلاد غدنا !! ..
ـ و ميلادي يوم التقيتك ياحبيبتي وانت خارجة من الصيدلية..
بك قد استضاءت افكاري باكتمال ..
هل تعلمين كلما امتدت بنا سنوات العمر اراك أجمل وأبهى، وبنيتنا الفكرية تتدامج في وحدة متسقة تتجافى مع تناقضات مجتمعنا ، قد نختلف ياحبيبتي لكن لن يكون اختلافنا إخضاعا وتبعية ..
توسدت صدره ولفت ذراعيها حول خصره :
ـ مشكلتنا غرفة مظلمة ياحبيبي أسوأ مسافة فيها سوء ظن وفهم ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب