الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلامة في العرض المسرحي -الملك هو الملك-

ابراهيم حجاج

2023 / 6 / 30
الادب والفن


يقوم العرض المسرحي "الملك هو الملك" للمخرج "مراد منير" على فكرة المزاوجة بين التراث العربى والهموم السياسية والاجتماعية المعاصرة، حيث استلهم الكاتب السورى "سعد الله ونوس´مسرحيته – التى كتبها عام 1978 – من إحدى حكايات " ألف ليلة وليلة"، تلك التى تروى "كيف أن هارون الرشيد قد ضجر ذات مرة فقرر أن يصطحب وزيره فى جولة ليلية، سمعا خلالها من يقول "آه لو كنت ملكا، لأقمت العدل بين الناس، وفعلت كذا وكذا، فيقرر الخليفة أن يأخذ الرجل إلى قصره، وأن يجعل منه خليفة لمدة يوم واحد.. وقد نسج "ونوس" مسرحيته من خيوط تلك الحكاية الشعبية ولكنه زودها بمضامين عصرية ورؤى سياسية تمس واقعنا الحاضر.
يطالعنا المشهد الافتتاحى فى العرض المسرحى "الملك هو الملك" بجماعة شابة معاصرة تستشعر محنة مزدوجة (ذاتية، جماعية) فى ظل بنية سلطوية مستبدة على رأسها ملك عابث ظالم. وتستعرض الجماعة هذه المحنة من خلال حكاية تراثية شعبية تحكى عن ملك يضجر هو الآخر ويقرر أن يعابث رعيته، حتى يذهب عن نفسه السأم، ونراه ملكًا مستبدًا، واثقًا من ثبات عرشه وكفاءة رجال أمنه وخنوع شعبه، ولهذا فهو يزدرى الكل بمن فيهم وزيره. ويقرر الملك التنكر والنزول إلى الناس والتسلية بهمومهم والعبث بأحلامهم, هكذا تنكر الملك ووزيره فى ملابس حاجين ويستعيران اسمين جديدين الحاج مصطفى (الملك)، والحاج محمود (الوزير)، ويتذكران التاجر المفلس المضطهد "أبا عزة"الذى يحلم بالسلطة والملك لينتقم من خصميه الشيخ "طه" الإمام وشهبندر التجار اللذين تآمرا عليه وأفشلا تجارته. فى هذا الوهم يعيش "أبو عزة"، ومن هنا تبدأ لعبة الملك، الذى يقرر أن ينقل "أبو عزة" وهو نائم، إلى قصره ويعطيه رداءه وتاجه ومخدعه، ويجعله ملكًا ليتلهى بتصرفاته الخرقاء وقراراته البلهاء.
وتكتمل لعبة التنكر، عندما يصحو "أبو عزة"، فيجد نفسه ملكًا، يرتدى ملابس الملك وجواهره وينام فى مخدعه، ويصدق "أبو عزة" الوهم الذى طالما تمناه، ويبدأ فى إدارة الحكم بصورة تذهل الملك السابق الذى كان يتوقع له الفشل، بل تصيبه صدمة كبرى عندما يقبض "أبو عزة" على زمام أمور البلاد بيد من حديد، ويمارس ما كان يمارسه الملك السابق من أساليب القهر والتنكيل، بل يلجأ إلى مزيد من الإرهاب لحماية عرشه، والمدهش فى اللعبة أنه لا أحد فى القصر يلحظ تغيير الملك، لا الخدم ولا القادة ولا حتى الملكة، بل إن زوجته "أم عزة" وابنته لا تعرفانه عندما تأتيان إلى القصر للشكوى "فالملك ليس له وجه ولا سحنة" كما يقول الوزير، بل هو التاج والرداء والصولجان.
أما الجانب المضئ من القصة فهو الجماعة الشابة المعاصرة، التى تشتبك مع أحداث الحكاية فى صورة جماعة ثورية داخل تنظيم سرى للطبقة المضطهدة، والتى تحاول فى النهاية التمرد على الوضع القائم والثورة عليه.
هكذا يومئ خطاب العرض المسرحى إلى حلم الثورة العربية من خلال مركب مسرحى بين التراث والمعاصرة.
وقد تمكن المخرج "مراد منير" عند إخراجه لنص "الملك هو الملك" من ابتكار المعادل المسرحى لمفردات لغة الكاتب وفكره، آخذًا فى الاعتبار مكونات الأسلوب الملحمى وعناصره، بالاضافة إلى التقنية البيرانديلية (التمثيل داخل التمثيل) وذلك عبر رؤية إخراجية واضحة المعالم؛ حيث استخدم فى تشكيل الفراغ المسرحى الأسلوب اللا إيهامى "الذى يتعامل مع خشبة المسرح على أنها ليست إلا خشبة مسرح وكل ما عليها تمثيل فى تمثيل، فكانت عملية تغيير المناظر تجرى أمام المتفرجين ودون إسدال ستار المقدمة، وذلك بقصد إزالة أى شعور يمكن أن يتولد فى نفس المتفرج عن واقعية ما يراه.
كما تغيرت أدوار مجموعة الشباب وتراوحت بين وظائف درامية متعددة وفقا لتقنية التمثيل داخل التمثيل، فهم تارة شخصيات معاصرة فى مسرحية يمثلون فيها الزمن الحاضر، وتارة أخرى شخصيات ثائرة على الملك فى الحكاية الشعبية، ثم هم فى نهاية المسرحية، ضمير الأمة وصوت البسطاء على مر العصور.
وقد نجح المخرج "مراد منير" فى توظيف مفردات العرض المسرحى لإنتاج دلالات لغوية وتشكيلية تضفى على التكوين المسرحى ملمحًا تفصيليًا، وتساهم فى إبراز الخطاب المسرحى، في ثلاث أفكار أساسية أولها العلاقة بين الحاكم والمحكوم واثبات أن الملك هو الملك في كل عصر ومكان وأخيرا التأكيد على أن وحدة الصف والمواجهة الجمعية هما السبيل إلى الخلاص
لا شك فى أن "مسرحية (الملك هو الملك) تتمتع بمرونة فائقة تسمح بالتعديل والتغيير وتتيح مساحات للارتجال المنظم وللإبداع الإخراجى؛ حيث إن البعض- ومنهم المؤلف نفسه- يصفها بأنها شكل درامى مفتوح"، وهو ما تحقق فى هذا العرض بوضع المخرج فواصل غنائية شعبية بين المشاهد ألف كلماتها العامية الشاعر "أحمد فؤاد نجم"، ووضع موسيقاها "حمدى رؤوف". وشكلت فيها (الكلمة – نغم الصوت- الموسيقى) دلالة مركبة أضفت على الفكرة حيوية وتوهجًا.
وقد تأكدت مدلولات العلاقة بين الحاكم والمحكوم من خلال علامات بصرية جاء فى مقدمتها
الديكور فقد أدرك المخرج "مراد منير" أن بنية النص تقوم على ثنائية الحاكم والمحكوم، لذلك قسم خشبة المسرح أفقيًا إلى مستويين: المستوى الأعلى يمثل عالم السلطة والجاه، والمستوى الأسفل يمثل حياة عامة الشعب (بيت أبى عزة – مجموعة الشباب المعاصرة)، وقد "اختلف الديكور فى عمق المسرح اختلافًا دلاليًا تامًا عنه فى المقدمة.
فعلى يمين المستوى الأعلى نجد العرش على هيئة كرسى ضخم داخل خيمة هرمية الشكل مكسوة بقماش ذهبى اللون ذى ثنيات متهدلة منسابة برخاوة، ومثبت على رأس الخيمة تاج ذهبى مرصع بالجواهر، وعلى النقيض نجد بيت "أبى عزة" فى المستوى السفلى، وقد اكتفى المخرج بتجسيده تجريديًا من خلال دكة خشبية متهالكة
كما ساهمت الملابس إلى جانب تصفيف الشعر، فى تدعيم فعالية أنساق العلامات الخاصة بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ حيث ارتدى الملك قميصًا حريريًا بنفسجى اللون محزمًا بحزام حريرى ملون، وفوقه عباءة ملكية ضخمة ذهبية اللون ذات ثنيات – من نفس لون العرش وخامته – وعلى رأسه تاج ذهبى مرصع بالجواهر. أما الوزير، فقد ارتدى قميصًا حريريًا بنفسجى اللون – نفس لون قميص الملك – وفوقه عباءة زرقاء وعلى رأسه عمامة كبيرة مخططة بخطوط ذهبية، وفى المقابل جاءت ملابس العامة متواضعة فقيرة فى الهيئة ونوع الخامة، حيث ظهر "أبو عزة" غير مهندم الشعر يرتدى جلبابًا أزرق متهالكًا ذا أكمام واسعة فضفاضة وسروالًا أبيض قصيرًا، ويلبس فى قدمه زوجا من القباقيب. أما ملابس المجموعة المعاصرة من الشباب، فجاءت موحدة، تتمثل فى قميص أبيض وسروال أسود، وعندما تدخل المجموعة إلى زمن الحكاية الشعبية يتخفى الشابان الثائران فى زى شحاذين، أما الفتاتان فتشخصان دورى "عزة"، "وأم عزة" وتتماثل ملابسهما فى تواضعها مع ملابس "أبى عزة".
لقد تم توظيف ملابس الملك باعتبارها مرادفًا دلاليًا للعرش حيث لعبت دورًا فى تأكيد دلالة توحش السلطة واختفاء شعاع الإنسانية داخل بريقها المزيف.
كما كان للإضاءة أكثر من دور دلالى، يوضح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فمن الناحية الوظيفية ساهمت الإضاءة فى إبراز التناقض بين نعومة ملمس زى الملك، وخشونة زى العامة من الشعب.
كما تكشف المسرحية فى مفهومها العام عن أهم درس سياسى، مفاده أن تغيير الأفراد لا يغير الأنظمة، وإنما على الأنظمة أن تتغير من قواعدها؛ حيث إن التغيير من أعلى لا يغير أساس النظام الفاسد وسيظل الملك هو الملك، يحكم بالإرهاب والقهر للحفاظ على العرش. وقد تأكد هذا المعنى من خلال مجموعة من العلامات السمعية والبصرية منها الأصوات الكلامية ونغم الصوت.
وقد تبلور هذا المعنى من خلال البنية الدرامية العامة لطقسى الزار وسبوع المولود، الذين أضافهما المخرج "مراد منير" إلى العرض ولم يرد ذكرهما فى النص الأصلى، واللذين صاحبا عملية تبادل الأدوار بين ملكين أحدهما أصلى انسلخ من موقعه فى بنية السلطة وتخلى عن علاماته ورموزه، من أجل التسرية عن نفسه، والآخر تاجر مفلس مضطهد من السلطة، يدرك حقيقة ذاته المقهورة، يحلم بالملك ويرى فيه مخلصًا من عذاباته ومشاكله. وبالرغم من تناقض موقفى الشخصيتين فإنهما قد اتفقا على اتخاذ القهر والإرهاب سبيلًا للحكم. لتتأكد من خلال الطقسين فكرة أن الملك هو الملك.
وقد تأكدت هذه المدلولات من خلال بنية الحدث؛ حيث يواجه "أبو عزة" دولة غارقة فى دوامة من الاضطرابات نتيجة فساد حكامها، وزيادة التناقضات الطبقية بها لدرجة يستحيل إصلاحها. ، وبدلا من أن يرسى الملك الجديد قواعد العدالة الاجتماعية، يستخدم مزيدًا من القمع والإرهاب لا لشئ سوى الحفاظ على مكتسباته الذاتية وحماية عرشه.
وقد لعبت الإكسسوارات الخاصة بالشخصية دورًا مهمًا فى توليد مجموعة من العلامات المرئية التى ساهمت فى تأكيد قهر السلطة، وهو ما تحقق فى هذا العرض من خلال بلطة السياف، وسوط مقدم الأمن.
وقد تأكدت هذه المدلولات بصريًا من خلال الملامح المتصلبة والحركة الآلية الجامدة للسياف بوصفه آلة تنفيذية للقهر. وسمعيًا من خلال نبرة مقدم الأمن الجوفاء الباردة وطبقة صوته الحادة القوية عند حديثه عن استتاب الأمن وسيطرته على زمام الأمور فى البلاد.
كما مثلت شخصيتا شهبندر التجار، والشيخ طه إمام المسجد، السلطة الإقتصادية والدينية فى البلاد بوصفهما أداة من أدوات الملك، المنوط بها تأييده وتثبيت دعائم حكمه المستبد فى مقابل تحقيق مكاسب شخصية باستغلال الشعب واستلاب حقوقه وعلى سبيل المثال ارتبطت شخصية "الشيخ طه"
بثنائية (المقدس – المدنس)، فهو أحد رجال الدين الموالين للسلطة ذو الذمة المتسخة بأكل أموال اليتامى، وقد تأكد هذا المعنى من خلال العديد من العلامات السمعية والبصرية.
و تنسج المسرحية فى نهايتها خيوط الأمل والحلم بالخلاص من خلال وحدة الصف، والمواجهة الجمعية لكل رموز الظلم والاستبداد، وهما مصطلحان راسخان فى فكر المؤلف "سعد الله ونوس"، تبناهما فى معظم أعماله المسرحية وقد أكد عليهما المخرج "مراد منير" فى هذا العرض من خلال العديد من العلامات السمعية والبصريةوتختلف نهاية العرض المسرحى عن نهاية النص الأدبى الأصلى الذى يتم فيه كشف اللعبة المسرحية، حيث يتقدم الممثلون إلى الجمهور ليحكوا له قصة الجماعة التى حين ضجت من فساد مالكها ذبحوه وأكلوه فأوجدوا خلاصهم بأيديهم. وتعتبر النهاية الجديدة التى ابتدعها المخرج، "رغم اختلافها عن الأولى لا تحمل رؤية سلبية تشاؤمية، بل تمثل رسالة تحذيرية من خطر داهم، فالجماعة الثورية فى هذه النهاية لا يقتلهم فرد ملكا كان أم سلطانا بل تقتلهم مؤسسة حربية آلية تتشكل من عناصر الديكور.

لقد كانت للعلامة دورا مهما في مسرحية "الملك هو الملك" واتضح ذلك من خلاله الرؤية الموحدة للعلامات السمعية والبصرية المختلفة وآلية اشتغالها لتقديم عرض مسرحي على درجة عالية من التناسق الفكرى والجمالى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية