الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللبوة الجريحة

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 7 / 1
الادب والفن


" 1 "
ــــــــــــــــ

استدعى كبير النحاتين في نينوى ساكيل ، النحات الشاب سامو ، إلى المشغل التابع لقصر الملك العظيم .. آشور بانبال .
لم يرتح سامو للاستدعاء ، فهو يعرف أن كبير النحاتين ، لا يرتاح كثيراً إليه ، وربما يتوجس منه ، لسبب لا يعرف حقيقته بالضبط .
ولأن زوجته كاشيرا تعرف زوجها جيداً ، فقد أحست بعدم ارتياحه ، وتعكر مزاجه ، فهو لم يأكل جيداً على العشاء ، وحتى عندما أوى إلى فراشه ، فإنه لم ينم ، وظل يتقلب في فراشه .
فقالت له كاشيرا : أراك متضايقاً اليوم ، ما الأمر ؟ أخبرني ، إنني زوجتك .
فتنهد سامو ، وقال : ساكيل استدعاني اليوم إلى مشغل القصر الملكي .
ونظرت كاشيرا إليه ، وقالت : هذا أمر طبيعي ، فهو المسؤول الأول عن النحاتين في القصر ، وأنت نحات من هؤلاء النحاتين .
وتنهد سامو ، وقال : نعم ،لكني قلق ، لسبب لا أدريه ، من هذا الاستدعاء .
وسكتت كاشيرا لحظة ، ثم قالت : لا داعي للقلق ، يا سامو ، مادمت قد أنجزت ما طلبه منك .
وأطرق سامو لحظة ، ثم قال : أخشى أنّ ما أنجزته ، لن يعجبه .
فقالت كاشيرا بصوت رقيق : سامو ، عزيزي ، الأمر يسير ، انحت ما يعجبه .
ونهض سامو من فراشه ، ووقف عند النافذة ، وقال : ليتني أستطيع ، يا كاشيرا ، ليتني أستطيع .
واعتدلت كاشيرا في فراشها ، وقالت : بل تستطيع ، فلك ازميل قوي كأزاميل النحاتين الآخرين ، الذين يعملون معك ، دعه ينحت ما يريدونه .
وعاد سامو إلى فراشه ، وتمدد إلى جانب زوجته كاشيرا ، وقال : أنا من ينحت ، يا كاشيرا ، وليس الازميل ، وأنا إنسان .







" 2 "
ــــــــــــــــــ

في اليوم التالي ، أخذ النحات الشاب سامو منحوتته العاجية ، وذهب بها إلى مشغل القصر ، ليقدمها أخيراً إلى كبير النحاتين ساكيل .
وحين دخل المشغل ، لم يجد ساكيل بين النحاتين ، المنهمكين في نحت منحوتات بارزة على الحلان ، تمثل حملات الملك آشور بانيبال ، وانتصاراته على أعدائه ، وكذلك ممارسته لصيد الأسود .
ورآه أحد النحاتين ، فاقترب منه ، وقال : سيد ساكيل ينتظرك في غرفته ، يا سيد سامو .
فرد سامو : أشكرك ، سأذهب إليه .
واتجه سامو إلى غرفة كبير النحاتين ساكيل ، وطرق الباب ، فجاءه صوت ساكيل الجاف من داخل الغرفة : تفضل ، أدخل .
وفتح سامو الباب ، ودخل الغرفة ، وحيّا ساكيل قائلاً : طاب صباحك ، يا سيدي .
وردّ ساكيل بصوته الذي ازداد جفافاً : صباح النور ، يا سامو .
ثم قال : لقد تركت تعمل في بيتك ، هذه المدة الطويلة ، فلا تقل لي ، إنك لم تنجز عملك بعد .
وقدم سامو المنحوتة العاجية إلى كبير النحاتين ساكيل ، وهو يقول : لقد أنجزتها ، يا سيدي ، تفضل .
وأخذ كبير النحاتين المنحوتة العاجية ، وراح يتأملها مقطباً ، ثم قال : عجل يرضع من أمه البقرة ، والأم تلتفت ، ناظرة إليه بحنان .
ورفع كبير النحاتين ساكيل رأسه ، ونظر ملياً إلى سامو ، وقال بصوته الجاف : لا تبدو لي هذه بقرة ، يا سامو ، بل إنسان .
وقال سامو : مهما تكن ، فهي أم ، يا سيدي ، أم ترضع صغيرها .
وعاد كبير النحاتين ساكيل إلى المنحوتة العاجية ، يتأملها ، ثم قال : لا أنكر أنها منحوتة دقيقة ، لكن موضوعها لا يمت إلى البطولة بصلة ، وأخشى أنها لن تعجب الملك المعظم آشور بانيبال .
ولاذ سامو بالصمت ، فقال كبير النحاتين ساكيل : أنت تعرف أن الملك المعظم آشور بانيبال يهوى القوة والصلابة والشجاعة ، وهذا كله لا يمكن أن يتمثل في بقرة ترضع صغيرها .




" 3 "
ـــــــــــــــــ

وعلى غير ما توقع كبير النحاتين ساكيل ، فقد أعجب الملك آشور بانيبال بالمنحوتة العاجية ، التي نحتها سامو ، وقال بعد أن تأملها ملياً : هذه منحوتة لا ينحتها إلا نحات قدير ، يا ساكيل .
وأسقط في يد ساكيل ، لكنه سرعان ما تمالك نفسه ، وقال متردداً : نعم ، يا مولاي ، إنه تلميذ من تلاميذي ، وهو شاب مبدع ، اسمه سامو .
ونظر الملك آشور بانيبال إليه ، وقال : اسمع ، يا ساكيل ، قاعة العرش يعاد بناؤها وتزيينها الآن ، أريد سامو هذا ، أن يشارك في نحت الألواح ، التي تجسد صيدي للأسود ، والتي ستأخذ مكانها في هذه القاعة .
ولاذ كبير النحاتين بالصمت لحظة ، ثم قال : مولاي ، صحيح أنه نحات واعد ، لكنه شاب ، تجربته الحياتية متواضعة ، وربما لا تمكنه من نحت بطولاتكم العظيمة في مجال صيد الأسود .
ويبدو أن الملك آشور بانيبال ، أراد أن ينهي هذه المحادثة مع ساكيل ، فقال : سأذهب للصيد بعد غد ، مُرْ هذا النحات الشاب سامو باسمي أن يرافقنا ، ليرى بعينيه ما يجري خلال صيدي للأسود .
وخرج ساكيل من قصر الملك آشور بانيبال ، وبدل أن يتجه إلى بيته ، اتجه إلى بيت سامو ، وهذا ما لم يفعله من قبل أبداً .
وفوجىء سامو بكبير النحاتين ساكيل ، يطرق بابه ، فقال مندهشاً : سيدي !
وقال ساكيل : سامو .
فقال سامو : نعم ، سيدي .
فتابع ساكيل قائلاً : قبل قليل ، كنتُ في القصر ، وقدمت للملك المعظم آشور بانيبال منحوتتك العاجية .
وصمت ساكيل ، وانتظر سامو متوجساً ، فقال ساكيل : تهيأ بعد غد صباحاً .
وحدق سامو فيه قلقاً ، وقال : خيراً ، سيدي .
فقال ساكيل بصوت متحشرج : الملك المعظم آشور بانيبال ، سيذهب إلى الصيد ، وقد كلفني أن أبلغك ، بأنك ستكون أحد مرافقيه .
وفغر سامو فاه على سعته ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فقال ساكيل : لقد أعجبته منحوتتك العاجية .
وتهيأ للانصراف ، وهو يقول : سأمر عليك بعد غد صباحاً ، وسآخذك إلى القصر ، وأقدمك إلى الملك المعظم .. آشور بانيبال .






















" 4 "
ــــــــــــــــــــ

قبل شروق الشمس ، ذهب ساكيل إلى بيت سامو ، وما إن طرق الباب ، حتى خرج سامو متهيئاً ، كما طلب منه ساكيل .
وعلى الفور ، اتجها مسرعين إلى القصر الملكي ، ووقفا عند الباب ، ينتظران بفارغ الصبر ، خروج الملك آشور بانيبال .
وبعد شروق الشمس بقليل ، خرج عدد من الحراس من داخل القصر ، وتراكضوا هنا وهناك ، وسرعان ما أقبلت عربة ملكية ، يجرها حصان فتيّ ، ويقودها سائق متمرس في قيادة مثل هذه العربات .
ومال ساكيل على سامو ، وقال : تهيأ ، الملك المعظم سيأتي على الفور .
وردّ سامو ، وهو يتململ قلقاً : إنني متهيء ، يا سيدي ساكيل .
وعلى الفور ، أقبل الملك آشور بانيبال ، في ملابس الصيد ، يحيط به عدد من الحراس المدججين بالسلاح ، وتقدم ساكيل قليلاً من الملك ، وقال : مولاي .
وتباطأ الملك آشور بانيبال ، وقال : ساكيل .
وأشار ساكيل إلى سامو ، وهو يسير بمحاذاة الملك ، وقال : هذا هوالمثال ، يا مولاي .
وتوقف الملك آشور بانيبال ، ونظر إليه مستفهماً ، فقال ساكيل : سامو .. المثال .. يا مولاي .
وابتسم الملك آشور بانيبال ، وقال : آه .. تذكرت .. العجل والبقرة .
فانحنى ساكيل ، وقال : هو يا مولاي .
وأشار الملك آشور بنيبال إلى سامو ، وقال : تعال ، يا سامو .
فتقدم سامو من الملك ، وقال : مولاي .
فنظر الملك إليه ، وقال : أنت مثال جيد .
فانحنى سامو ، وقال : أشكرك ، يا مولاي .
ونظر الملك إليه ، وقال : سآخذك اليوم معي إلى صيد الأسود ، وأريدك أن تنحت لي بازميلك المبدع ، كيف أواجه الأسود ، وأفتك بها .
وانحنى سامو ثانية ، وقال : أمرك مولاي .
وأشار الملك إلى آمر الحراس ، وقال : خذه في إحدى العربات ، ولتكن قريبة من عربتي .
وانحنى آمر الحرس للملك ، وقال : أمرك مولاي .
واستأنف الملك آشور بانيبال سيره ، وظل ساكيل يتابعه بنظره مبهوراً ، حتى ركب عربته الملكية ، ووقف على جانبيه حارسان مدججان بالأسلحة ، وقال الملك لسائق العربة بصوت آمر : هيا ، انطلق .























" 5 "
ـــــــــــــــــــ

اعتاد الملك آشور بانيبال ، كأجداده الآشوريين العظام ، ومنهم الملك العظيم آشور ناصربال ، على ممارسة رياضة الصيد ، وخاصة صيد الأسود ، ولم يكن الصيد عنده مجرد رياضة ، بل هي أفضل تدرب على ميادين القتال .
وعلى عادة أجداده العظام ، انطلق الملك آشور بانيبال في عربته الملكية ، ومعه عدد من الجنود المشاة والخيالة ، وعدد من الخدم والحراس ، يمسك بعضهم كلاباً مدرباً على الصيد .
وقد قرر الملك هذا اليوم ، الذهاب إلى أحراش ، لا تبعد كثيراً عن مدينته نينوى ، قيل أن فيها عدداً من الأسود ، ليمارس رياضته المفضلة ، صيد الأسود .
ودخل الأحراش بعربته ، التي يقودها حصان فتيّ ، ومن ورائه دخل جنوده المشاة والخيالة ، بينما انتشر الخدم والحرس ، الذين يقودون الكلاب المدربة بين الأحراش ، بحثاً عن الأسود .
وتناهى نباح الكلاب الغاضبة ، إلى بعض الأسود ، فهبت من أماكنها قلقة ، غاضبة ، مستفزة ، وانطلقت مترددة بين الهرب والمواجهة .
وبرز أسد غاضب من بين الأحراش ، وما إن رأى الملك آشور بانيبال في عربته ، مدججاً بالسلاح ، حتى زأر بغضب ، وانطلق منقضاً عليه .
وعلى الفور ، أطلق الحارسان اللذان يقفان على جانبي الملك في العربة ، عدة سهام نحوه ، فأصاباه في مواضع عدة من جسمه ، لكنه لم يتوقف ، وهنا رفع الملك آشور بانيبال رمحه ، وأطلقه نحو الأسد المجرح ، فترنح متألماً ، وتهاوى على الأرض .
ولاح أسدان يركضان هاربين بين الأحراش ، والكلاب الغاضب تطاردهما ، فانطلق الملك بعربته نحو أحدهما ، وأطلق عليه سهماً ، اخترق عنقه ، وسرعان ما تهاوى على الأرض مضرجاً بدمائه .
وهنا رأى سامو ، وهو في عربته ، القريبة من عربة الملك ، لبوة تبرز من بين الأحراش ، تركض مترددة بين الهرب ، أو مهاجمة الصيادين ، أو العودة إلى شبليها الصغيرين ، اللذين كانا يتبعاها .
وصاح أحد آمري الجنود ، وهو يشير إلى اللبوة : مولاي ، انظر ، هذه لبوة .
ونظر الملك حيث أشار الآمر ، ورأى اللبوة ، فصاح بسائق عربته : وجه العربة نحو تلك اللبوة .
وأمام أنظار النحات الشاب سامو ، اتجهت العربة نحو اللبوة ، وما إن اقتربت منها ، حتى أطلق الملك سهماً نحو اللبوة ، اخترق عنقها ، وفي نفس الوقت ، أطلق الحارسان ، اللذان يقفان إلى جانبي الملك في العربة ، سهمان ، اخترق أحدهما ظهرها ، وبرز من بطنها ، بينما أصاب الآخر أعلى فخذها ، ورغم ذلك ظلت اللبوة تحتفظ بقوة كافية لأن ترفع رأسها على قائمتيها الأماميتين ، ولو أن طرفيها الخلفيتين يسحلان مشلولتين على الأرض ، واقترب منها شبلاها الصغيران ، وراحا يتشممانها ، ويدفعانها ، كأنهما يدعوانها إلى النهوض ، والاهتمام بهما .
وهنا استدار الملك بعربته ، واقتربة من عربة سامو ، وقال منتشياً : هذا يوم صيد عظيم ، أريدك أن تخلده بمنحوتة من منحوتاتك .
فطامن سامو رأسه ، وقال : أمر مولاي .




" 6 "
ـــــــــــــــــــ

انتهى البناءون والفنيون والنحاتون من إعادة بناء وتزيين ، قاعة العرش الكبرى ، في قصر الملك آشور بانيبال ، وأهم ما أضافوه إليها ، ألوح ضخمة من النحت البارز ، تمثل انتصارات الملك ، وبطولاته في رحلاته لصيد الثيران الوحشية و الأسود .
وأقبل الملك آشور بانيبال ، ذات صباح ، يتقدم عدد من الفنيين والنحاتين ، من بينهم كبير النحاتين ساكيل ، وكذلك الفنان الشاب سامو .
وراح الملك يستعرض الألواح ، واحداً بعد الآخر ، وكبير النحاتين يسير إلى جانبه ، يشرح بالتفصيل مضمون الألواح ، ويذكر أسماء نحاتيها .
وأبدى الملك إعجابه بالمنحوتات عامة ، وبالأخص تلك التي تبرز بطولاته الحربية ، في محاربة أعداء آشور ، وكذلك المنحوتات ، التي تجسد قوته وشجاعته ومهارته ، في صيد الأسود .
وتوقف منتشياً عند الألواح ، التي تصوره على حصانه ، يطعن أسداً برمحه ، وثانية في عربته وهو يطعن برمحه أسداً انقض على العربة ، والحصان يتخطى أسداً ملقى على الأرض ، والسهام منغرزة في جسده .
وفي نهاية القاعة ، توقف الملك آشور بانيبال ، أمام لوح غريب ، وبدا وكأنه لا يمت بصلة إلى الألواح السابقة ، ولاحظ كبير النحاتين ساكيل ، أن الانتشاء يغادر ملامح الملك ، فتوقف وراء الملك صامتاً متوجساً .
والتفت الملك إلى كبير النحاتين ساكيل ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقال ساكيل بصوت مضطرب : إنها لبوة ، يا مولاي ، أصيبت .. كما هو واضح .. بثلاث سهام قاتلة .. في أنحاء مختلفة من جسمها ..
وعاد الملك ينظر إلى اللوح ، فتابع ساكيل قائلاً : ويبدو أنها كانت تدافع عن صغارها ..
وصمت ساكل لحظة ، ثم قال بصوت خافت متردد : هذا ما قاله الفنان الذي نحتها .
وتمتم الملك آشور بانيبال قائلاً : لبوة جريحة .
والتفت إلى ساكيل ، ونظر إليه ، ثم قال : هذا اللوح من نحت .. سامو .
وهزّ ساكيل رأسه ، وبصعوبة قال : نعم ، يا مولاي ، إنه من نحت .. سامو .
واستأنف الملك آشور بانيبال سيره ، يستعرض زينات القاعة ، وهو يقول : لوح مختلف ، يا ساكيل ، لكنه رائع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??