الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف انْهَزَمت الجمهورية للمملكة (1)

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 7 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


الجزيرتان
بمجرد تحالف محمد بن سعود مع محمد بن عبد الوهاب وشروعهما في توحيد أطراف وقبائل شبه الجزيرة العربية الممزقة والمتناحرة في كيان مركزي انطلاقاً من الدرعية، توجس الخليفة العثماني في الأستانة خطراً حقيقياً من نسخة مُحدَّثة من السابقة المكية صدر الإسلام قد تلتهم بسرعة البرق إمبراطوريته العجوز المترهلة والمترامية، مثلما ابتلعت إمبراطوريات أعرق وأقوى خلال العهد العربي الأول. وفيما يشبه النافذة على المستقبل، بعد فشل كل حملاته السابقة كَلَّف بهذه المهمة على وجه التحديد واليه المصري محمد علي، الذي نجح في القضاء على الدولة السعودية الأولى. غير أن الأخيرة برهنت على أنها أكبر من أن تموت بمجرد ضربة واحدة حتى لو كانت من أقوى جيوش الولايات العثمانية في ذلك الوقت. عاد آل سعود ليقيموا دولتهم الثانية، ثم من بعدها الثالثة التي صمدت ومستمرة حتى اليوم. كان الخليفة العثماني بعيد النظر حين خاف على عرش أجداده من قيام دولة مركزية وسط شبه الجزيرة العربية؛ وكذلك حين كَلَّف بهذه المهمة أقوى أمرائه على الإطلاق- والي مصر. رغم ذلك، أثبت التاريخ أنه كان قصير النظر حين لم يدرك أن أيام إمبراطوريته كانت معدودة في جميع الأحوال، وأن مستقبل العرب سيرثه ويرسمه فيما بينهما هذين اللاعبين الإقليميين على وجه التحديد- مصر والسعودية.

بعد مغادرة العثمانيين وحضور الأوروبيين، انتظمت المنطقة بالكامل في شبكة من الممالك المستقلة عن بعضها البعض لكن تحت عين وحماية المستعمر الغربي. استمرت المملكة المصرية العلوية تمارس دورها الريادي والقيادي وسبقها التحديثي والتقدمي على الجميع، ومن ضمنهم السعوديين، لتجمعهم وترؤسهم كلهم من قلب عاصمتها، القاهرة، داخل أروقة جامعة للدول لا تزال منصوبة هناك كأثر بعد عين. كانت مصر خلال الحقبة الملكية بعد سقوط الخلافة الإسلامية في موطنها، تركيا، بمثابة الوريث الشرعي للعثمانيين في الإقليم وقائدة العرب والمتحدثة باسمهم دون منافس- حتى الآن فقط!

بدورهم، حين رفع الأوروبيون حمايتهم وانتدابهم عن دول المنطقة وغادرتها جيوشهم، ليتركوا شعوبها تتدبر شؤونها ومشاكلها الذاتية بأنفسها، سقطت ورقة التوت وانكشفت العورات ومعها حقائق وموازين القوة الفعلية على الطبيعة، محلياً وإقليمياً. كل شيء تحرك وانتفض وانفجر في كل شيء آخر. بداية، من دون جمهور، أطاح العسكر في مصر بملكهم وأعلنوا قيام الجمهورية. ثم، مدفوعين بزخم ما قد راكمته الدولة المصرية من قوة وتأثير ونفوذ طوال نحو 150 عاماً- منذ الحملة الفرنسية وما تلاها من تحديث على يد محمد علي الكبير ودولته- شرعوا في هندسة سائر نظم الحكم عبر دول الإقليم على صورتهم. كما فعلوا مع ملكهم، حرضوا وشجعوا وساعدوا رفقاء الزي والسلاح والنهج الثوري على الانقلاب ضد ملوكهم وإعلان الجمهوريات، من العراق شرقاً حتى الجزائر غرباً، إلى اليمن في أقصى الجنوب العربي. هنا استشعر السعوديون، كما فعل الخليفة العثماني حيالهم في الماضي، مدى الخطر الذي يهدد مملكتهم من المد الجمهوري الناصري. لابد من وضع حد قاطع ونهائي. حمل السعوديون السلاح وانطلقوا، لأول مرة منذ انطلاقتهم الأولى خارج حدودهم في صدر الإسلام، لملاقاة هذا الخطر الوجودي على مملكتهم في الساحة اليمنية المشتعلة آنذاك.

في اليمن، لَقَنَّ السعوديون المصريين درساً مريراً ووضعوا بالفعل الحد القاطع والنهائي لطموحاتهم ومغامراتهم الثورية. بعد اليمن، ما عادت هناك جمهوريات جديدة. لكن كأس المرارة لم يفرغ بعد وكان المستقبل القريب جداً يُخبئ للمصريين الطامة الكبرى. خلال بضع سنوات أقحمت مصر نفسها مرة أخرى في مغامرة من نوع جديد كليتاً، ضد الدولة العبرية الوليدة على امتداد شريط ضيق أقصى الشمال من حدودها الشرقية. ولم تخرج مصر كما كانت قبل هذه المغامرة. ضاعت. منذ ملاقاتهما الأولى في الدرعية عام 1818، كانت اليد الطولي دائماً لمصر على السعودية. بعد نكسة 1967، مَدَّت مصر يدها لآل سعود طلباً للعون والدعم والمساندة والنجدة من أجل البقاء، في وضع استثنائي ومستجد لكنه سيبقى مستمر دون انقطاع إلى الوقت الحاضر!

كأن عُطْب أو خَلَل ما كامن في هندسة الجمهورية الناصرية وانتقلت عدواه إلى باقي الجمهوريات العربية المستنسخة على صورتها! حتى لو كانت النكبة أكبر من أن تتحملها الجمهورية المصرية بمفردها، كيف لم تقدر الجمهوريات شقيقاتها، أو بعضهن، على غوثها، الذي لم تقدر عليه سوى منافستها وعدوتها اللدود على زعامة الإقليم- المملكة السعودية؟! منذ هذه اللحظة فصاعداً انتقلت عجلة القيادة العربية فعلياً إلى اليد السعودية- لكن في الكواليس وليس على الملأ.

كأن هذا الحكم في الكواليس من وراء الستار كان يلبي غرضاً سعودياً. مجرد أن تقطع السعودية المعونة عن مصر وسينهار كل شيء. كذلك الحال مع الجمهوريات الأخرى. لكن السعودية عَمَدت إلى مواصلة حكم الجمهوريات العربية خلف الكواليس وبسلاح المعونات. لماذا لم تتركها تسقط وتستريح من هذه الشيلة الثقيلة؟! لماذا أبقت على الجمهوريات العربية في حالة من الجمود بين الحياة والموت، لا هي مكنتها عبر "خطة مارشال" عربية من العودة إلى الحياة مجدداً ولا هي تركتها تموت وتستريح؟!

لكن ما قد تعمدت السعودية التقاعس عنه- ربما لمصلحة ذاتية؟!- تكفلت به الشعوب، لتتساقط أنظمة الجمهوريات العربية الواحدة تلو الأخرى كأوراق شجرة التوت الذابلة في خضم رياح الربيع العربي العاتية. عندئذٍ اشتمت المملكة الخطر مجدداً، لتنطلق خارج حدودها من جديد في مهمة المسعف والإطفائي الذي لا يكاد يفرغ من إخماد حريق وتضميد الجراح هنا حتى يشتعل آخر هناك، وكلها في خرابات الجمهوريات العربية حصراً!

وسط الدخان وآهات الجرحى، وَقَّعَت مصر في 2016 على اتفاقية تتنازل بموجبها للسعودية عن السيادة على جزيرتين لم يسمع بهما من قبل أغلب المصريين. مع ذلك، نزل الخبر كالصاعقة فوق رؤوس النخبة. في مثل هذا الظرف الصعب؟! بدا الأمر وكأنه تفريط في السيادة الوطنية بحد ذاتها، ناهيك عن التخلي الطوعي عن موقع الريادة والقيادة العربية المتصورة لمصلحة السعودية! مع ذلك، كانت المفاجأة الأكبر يجسدها جهل هذه النخبة طوال أكثر من 50 سنة بحقيقة أن سيادتهم الوطنية منقوصة بالفعل منذ 1967؛ وأن قيادة العرب انتقلت إلى أيدي السعوديين فعلاً وليس قولاً- وراء الستار- منذ ذلك التاريخ؛ وأن جمهوريتهم طوال كل هذا الزمن كانت مجرد الستارة أو اليافطة البراقة التي تحركها وتؤدي من ورائها المملكة دور البطولة المطلقة على المسرح العربي!

منذ تعارفهما الدموي الأول في الدرعية عام 1818 حتى لقائهما الودي القريب في القاهرة عام 2016، كيف- ولماذا- أَهْدَّرت مصر سَبْقاً دام خالصاً لها 150 عاماً في مدة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة- من حرب اليمن 1962 إلى حرب إسرائيل 1967؟؟؟!!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حديث إسرائيلي عن استمرار علمية رفح لمدة شهرين.. ما دلالات هذ


.. مجلس الأمن الدولي يعرب عن قلقه إزاء التقارير بشأن اكتشاف مقا




.. سلسلة غارات عنيفة تستهدف عدة منازل في شمال غزة


.. الجيش الإسرائيلي يوسع عملياته في رفح




.. الجيش الإسرائيلي يطالب بإخلاء مناطق جديدة في رفح وشمال غزة