الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زيلنسكي الممثل الكوميدي الذي جعل بوتين يبدو أمامه كومبارساً

مصطفى القرة داغي

2023 / 7 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


في الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا، سخر البعض من قرار الرئيس الأوكراني زيلينسكي بعدم الإستسلام لبوتين، والصمود دفاعاً عن بلاده، لأنهم كانوا قد سقطوا في مستنقع بروباغندا بوتين، كما سقط هو في المستنقع الأوكراني، التي صورت لهم الأمر على أن ممثلاً كوميدياً يريد أن يواجه القيصر، كما يحلو لهم وصفه! ودارت الأيام وأثبتت ضحالة هذه البروباغندا، وسُخف العقول التي صدّقتها. فقد بيّنت الأيام الأولى للحرب، الدور الحاسم لشخصية زعماء الدول في تحديد مَسارها ومَسار التأريخ، وأثبت شخصية زيلينسكي أنها كانت عاملاً حاسماً في بلورة المقاومة الأوكرانية، في حين كانت شخصية بوتين عاملاً رئيسياً في توالي الإخفاقات والهزائم العسكرية الروسية.

منذ اللحظات الأولى لتوليه المسؤولية رئيساً لبلاده بعد فوزه بالإنتخابات الرئاسية عام 2019، بدا واضحاً أن زيلينسكي يحظى بثقة شعبه. فقد فاز بأغلبية حاسمة مريحة بأصوات شعب تعتنق غالبيته المسيحية، رغم أنه يهودي! كما وَحّد شرق أوكرانيا مع غربها بعد أن صَوّت له سكان المدن كما سكان الريف، والأغنياء كما الفقراء. لكن بينما كان زيلينسكي رئيساً في زمن السلم، أظهر نقاط قوة وضعف، تبَيّن أنه كان زعيماً قوياً وشجاعاً في زمن الحرب، يُلبي طموحات وآمال أمته. فقد تولى زيلينسكي منصبه معتقداً أن السلام مع بوتين ممكن، لكنه بعد عام قضاه بين جنوده بالخنادق، جعله أكثر صلابة، بات يعتقد أن النصر هو الحل الوحيد لتحقيق السلام. لذا، رغم إلحاح العديد مِن قادة العالم عليه، وعلى رأسهم بايدن الذي عرض عليه مغادرة كييف، رفض زيلينسكي عروضاً لنقله إلى بَر الأمان بعد بدء الغزو، وظهر كعدو أكثر شراسة مما توقعته موسكو، ويقال أنه قال لبايدن:"أحتاج الى سلاح لا الى تكسي"، وبقي في كييف رغم محاولات الإغتيال المتوقعة. كما رفض عرضاً قدمه الرئيس البيلاروسي لوكاشنكو حليف بوتين بعد 3 أيام من الغزو للتفاوض في مينسك على إنهاء الحرب، مُذكِراً إياه بـمفاوضات وإتفاقيات"مينسك 1" و"مينسك 2"، التي جَرَت في العاصمة البيلاروسية عامي 2014 و2015، ولم يلتزم بها بوتين، وكان جوابه له:"لن يكون هناك مينسك3"، رغم هجوم الطائرات والدبابات الروسية على كييف. أصبح تحَوّل زيلنسكي واضحاً بشكل خاص في سبتمبر الماضي، حين وقف أمام المجمع الحكومي قائلاً:"أوكرانيا حاولت عبر المفاوضات إيجاد تعايش سلمي مع روسيا على أُسُس متساوية صادقة وعادلة، لكن دون فائدة"، حيث كان قد وصل مع بوتين لنقطة اللاعودة. لقد تحول زيلينسكي من رئيس لوقت السلم إلى زعيم لزمن الحرب، ومَثّل رمزاً لمقاومة تهديد الوجود الأوكراني، بل وبات دافعاً لإنضمام آلاف النشطاء الأوكرانيين للدفاع عن أوكرانيا وعنه، لأنه لم يهرب.

لقد ألهم زيلينسكي الأوكرانيين للإتحاد حوله دفاعاً عن أوكرانيا، من خلال ما أظهره من قدرات قيادية وأداء متزن لتوحيد المجتمع الدولي حول قضية بلاده. ففي خطاباته أمام المؤتمرات الدولية، قام زيلنسكي بتحويل برنامج زوم من أداة تواصل في زمن كورونا إلى أداة لكسب قلوب وعقول قادة العالم، حيث كان يُعبّر عن نفسه كضمير للديمقراطية الغربية، دافِعاً للحصول على مزيد من الدعم للقوات الأوكرانية. وببراعة فنان محترف، ألقى مئات الخطب التي عَرَضَت الحرب على أنها صراع بين الديمقراطية والإستبداد، والحرية والطغيان، والعدل والظلم، وأبقى على القضية الأوكرانية حاضرة في أغلب الحوارات التي دارت داخل أروقة المؤتمرات الدولية. أصبح أكثر صلابة بسبب مقتضيات الحرب. وأصبحت مواقفه لا سيما بشأن كيفية التعامل مع روسيا، أكثر صرامة مع كل تصعيد روسي، وهو الذي حينما رشح نفسه لإنتخابات عام 2019، قدّم روسيا كشريك يُمكن التفاوض معه على السلام، لكنه يصنفها الآن كدولة إرهابية يجب هزمها لإنقاذ الغرب والعالم، وهو ما عَزّز التحدي الشعبي لموسكو داخل أوكرانيا، رغم أن ملايين الأوكران يجدون أنفسهم مُتعبين بعد مرور أكثر من عام على الغزو. لذا التضامن الداخلي غير المسبوق في أوكرانيا، فضلاً عن الدعم العسكري والإنساني المتزايد عالمياً، يُعَد من نواحٍ عديدة إنجازاً يُحسَب له، وليس مفاجئاً تبعاً لذلك أن ترتفع نسبة التأييد له في أوكرانيا أو خارجها، إذ يثق به اليوم أكثر من 90% من الأوكران، كما أنه السياسي الأكثر شعبية في أمريكا وأوروبا. يَصِف أندريه يرماك رئيس مكتبه التغيّر الذي حصل في شخصيته بالقول:" لقد تغيرنا جميعاً، وكذلك الرئيس، فالمِحن التي مَيّزت فترة ولايته لا يمكن إلا أن تُغيّر المَرء! هل أصبح أكثر صلابة؟ نعم. هل أصبح أقوى؟ من وجهة نظري، هو كان دائماً قوياً".

لقد رحل الممثل الكوميدي الذي خاض حملته الانتخابية لرئاسة أوكرانيا عام2019 بوعود مثالية لصنع السلام مع روسيا! ورحل أيضاً الرئيس الشاب المتلهف في عامه الأول بالمنصب لعقد اجتماع مع بوتين بحثاً عن أرضية مشتركة بعيدة المنال! رحل في الأسابيع الأولى للغزو، بعد أن رأى آثار الفظائع على شعبه وجنوده، وأمسك أيادي أحبائهم. فعندما زار بوتشا وشاهد الفضائع الروسية، بدا منكوباً وقال للصحفيين: "يصعُب الحديث حين ترى ما فعلوه هنا"، وأوعز للإتصال برئيس فريق التفاوض الروسي، وإبلاغه أن أوكرانيا لم تعد قادرة على المشاركة بأي مفاوضات. بات شديداً في أسلوب إدارته ليناسب ظروف الحرب، فقد طمأن مواطنيه الذين أصابهم الذعر، وأصبح أكثر تصميماً في إتخاذ القرارات، وأكثر تشدداً في التعامل مع الناس، مقتنعاً أن الأخطاء التي قد تكون مفهومة في وقت السلم، لم تعد مقبولة في زمن الحرب، لأنها ستكلف حياة الأوكران. لذا طَرد صديق طفولته الذي شغل منصب رئيس مخابراته، وكذلك باتت مواقفه تجاه كل من روسيا والغرب. فقد بات أكثر تشاؤماً بسبب غدر روسيا. ومقتنعاً أنه لا يمكن عقد صفقة معها، بعد أن أدرك شيئاً فشيئاً ماهية نواياها، وهو يواجه اليوم ضغوطًا متزايدة للحفاظ على الدعم الغربي، وضمان إستمراريته لخوض معركة طويلة الأمد ضد موسكو، لن تتمكن كييف من الفوز بها بمفردها. وقد حَذّر في أكثر من مقابلة، مما حَذّرنا منه في بداية الحرب، وهو أن أوكرانيا كانت مجرد خطوة أولى لبوتين، وبأنه يخطط للذهاب بعدها إلى أبعد من ذلك.

في المقابل، تُظهِر إخفاقات وهزائم القوات الروسية في أوكرانيا، والصراعات التي تكاد تصِل الى حَد المواجهة العسكرية بين أقطابها من جنرالات جيش وزعماء مليشيات، بسبب حسابات بوتين الشخصية الخاطئة، صورة متناقضة لسياسي يفترض بأنه يتمتع بخبرة كبيرة في السياسة والعلاقات الدولية، ومن ناحية ثانية يُمَثل شخصية استبدادية تعيش في فقاعة معزولة عن المجتمع الروسي والعالم، لأنه أصبح مسكوناً بمعتقداته الأيديولوجية. لقد إعتقد بوتين في البداية أن إنتخاب زيلينسكي سيكون لصالحه، بعد هزيمة حكومة أوكرانية قومية على يد مرشح يتكلم الروسية بطلاقة، ويتحدث عن الحاجة للسلام مع الروس. لكن سرعان ما بات واضحاً له بأن زيلينسكي لن يُسَلمه مفاتيح كييف، وأنه في مواجهته للتيار القومي كان يمثل الجانب الآخر والأكبر في أوكرانيا الذي يميل الى أوربا، لذا قرر أن يكون الحل عسكرياً إن أراد إعادة دمج أوكرانيا في فلك روسيا. كما تُظِهر خطاباته الأخيرة عُمق الوهم القاتل الذي يعيش فيه، والقائل بأن الروس والأوكرانيين شعب واحد، الذي يصطدم مع الواقع في أوكرانيا. إذ يبدو أن بوتين قد إستند بخطته لغزو أوكرانيا إلى توقع أن المواطنين والنخب السياسية في المدن الأوكرانية سيرحبون به، وأن زيلينسكي سَيَفُر أو يستسلم. ففي ربيع عام2021 عَزّزت روسيا قواتها على حدود أوكرانيا، ورفضت دعوات كييف لإجراء محادثات. وبعد فترة، نشر بوتين رسالة تقول إن السيادة على أوكرانيا ممكنة فقط عبر الشراكة مع روسيا، وبأنه لن يسمح بإستخدام الأراضي التأريخية والناس الذين يعيشون فيها ضد روسيا! وعندما أدرك بأنه لا يستطيع إحتواء الأوكران، ذهب إلى أقصى الحدود، وإرتكب خطأ الغزو المأساوي تأريخاً وحاضراً ومستقبلاً للجميع، رغم أن زيلينسكي حاول يومها التحدث معه، كما صرح بعدها في خطاب مباشر إلى الشعب الروسي ألقاه عشية الحرب: "بدأت اليوم مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي، والنتيجة كانت الصمت!".

ما لم يفهمه بوتين هو أن الممثل الكوميدي الشاب الذي فاز بإنتخابات 2019، وكان يُنظَر إليه على أنه المرشح الأكثر براغماتية بشأن موسكو، لكونه يتحدث الروسية بطلاقة ونشأ في عائلة ناطقة بالروسية، ويدعو لصنع السلام مع روسيا. كان كفنان مملوئاً بإخلاص الشباب بشأن بناء أوكرانيا أوروبية جديدة، وسبق أن عبّر عن وجهات نظر مؤيدة لأوروبا في مسرحياته والشخصيات التي يؤديها، لذا كان هدفه أن يخلق توازناً بين الهدفين. وفعلاً أمضى زيلينسكي جزئاً كبيراً من سنته الأولى في المنصب محاولاً إحراز تقدم مع الكرملين، عبر ترتيب تبادل الأسرى، وسحب القوات من خطوط المواجهة، والعمل على عقد لقاء مع بوتين بوساطة ألمانيا وفرنسا. وعندما إنعقد هذا الاجتماع في باريس في ديسمبر 2019، عامل بوتين زيلينسكي كممثل يتجول في دهاليز السياسة عن طريق الخطأ، لذا في إحدى اللقطات وَجّهه للالتفاف والإبتسام أمام الكاميرا، حين جلسوا مع المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون. مع ذلك، غادر زيلينسكي باريس متفائلاً بتنفيذ ما تم الإتفاق عليه بالإجتماع، لكن عندما حان وقت التنفيذ، بدأ بوتين يغش، فبدأت التغييرات الأولى في العلاقة بين البلدين، والتي إنتهت بالمواجهة التي نعيشها اليوم نتيجة قرار الغزو الهمجي الذي إتخذه بوتين بداية العام الماضي. لقد شكل صمود القيادة الأوكرانية والجيش والمقاومة المدنية وتلاحم الشعب معهم، تحدياً صارخاً وواقعاً صادماً لأوهام بوتين الديكتاتورية التوسعية. وعندما لا تتطابق الأوهام مع الواقع، يميل الناس إلى الرد بالعنف كحالة نكران ورفض للواقع، وإذا كان الشخص حاكماً بلا قيود مؤسساتية وأخلاقية على قراراته وأفعاله، كبوتين، فقد يصل به العنف الى مستويات تهدد حياة الناس، وهذا غالباً مَصدَر الوحشية التي أظهَرها الجيش الروسي في ماريوبول وبوتشا وبقية مدن أوكرانيا التي تحتلها، وهذا هو بالتأكيد مَصدر إنكار بوتين لمسؤوليته عما يحدث من فضائع في أوكرانيا.

يُركز زيلنسكي مع مساعديه الآن بشكل أساسي على كيفية تحقيق النصر في ساحة المعركة، لا كيفية التوصل إلى اتفاق مع موسكو. فالتحدي الأساسي الذي يواجه أي بلد في حالة حرب هو إلحاق الهزيمة بالعدو، لكن هنالك دائماً إحتمال أن ما قد يتحقق على أرض الواقع قد يكون أقل من ذلك. لذا فهو يقاتل اليوم من أجل ما يمكن تحقيقه حالياً، ويقود البلاد إلى النصر الذي يؤمن به شخصياً بصدق. بالنهاية ومع تطور حرب بوتين ضد أوكرانيا، وما أنتجته من صراع دولي، سيتم إختبار كل العوامل الهيكلية والشخصية التي تنطوي عليها. وسيتم إختبار مرونة زيلنسكي على وجه الخصوص من خلال نتائج المراحل المتتالية من العمليات العسكرية والمصاعب الاقتصادية التي يعاني منها الشعب الأوكراني. كما ستُختَبَر قُدُرات بوتين بمواجهة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تنتظره نتيجة خسائر الحرب وإنقلاب الأتباع. مما سيُكسِب عامل الشخصية أهمية متزايدة ودور أكبر في رسم صورة مستقبل أوكرانيا وروسيا والعالم الذي نعيش فيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا استاذ مصطفى-مقاله ناضجه وعادله-العار لبوتين
الدكتور صادق الكحلاوي- ( 2023 / 7 / 3 - 05:56 )
شرطي المخابرات الروسيه بكل قاذوراتها التاريخيه والحاليه-تحياتي ايها الكاتب الفاضل

اخر الافلام

.. مشهد مرعب يظهر ما حدث لشاحنة حاولت عبور نهر جارف في كينيا


.. شبح كورونا.. -أسترازينيكا- تعترف بآثار جانبية للقاحها | #الظ




.. تسبب الحريق في مقتله.. مسن مخمور يشعل النار في قاعة رقص في #


.. شاهد| كاميرا أمنية توثق عملية الطعن التي نفذها السائح التركي




.. الموت يهدد مرضى الفشل الكلوي بعد تدمير الاحتلال بمنى غسيل ال