الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف انْهَزَمت الجمهورية للمملكة (2)

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 7 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


ليست جمهورية
أن تنادي كلبك من بعيد، "هيا يا ليث!"، "هيا يا فهد!"؛ يأتيك مسرعاً ويقفز في حضنك بين ذراعيك المبسوطتان، يتشمم أنفاسك ويغسل لعابه خديك؛ تدس أصابعك بين فكيه قطعة من الحلوى ليعود أدراجه فرحاً وممتناً إلى الأسفل عند نَعْلَّيْكَ؛ يطوف حولهما بجسد ساجد ورأس مخفوضة وذيل مكسورة تعبيراً عن شكره لنعمتك عليه، كل ذلك ينفي نفياً قاطعاً أن يكون كلبك في الحقيقة هذا الأسد أو الفهد الذي قد ناديته بنعته للتو. رغم تشابه الكلب مع الأسد في الكثير من الصفات، إلا أن الأخير إذا ما عدا باتجاهك مسرعاً لن يكون لأجل الحلوى التي بيدك، بل لأجلك أنت ذاتك وكُلِّك- سيفترسك. الأسماء مجرد رموز للإشارة والتمييز فيما بين الأشياء، لكنها أبداً لا تَصف أو تُشَّخص طبيعتها الحقيقية.

بدايةً، لم يكن عبد الناصر ورفاقه يمثلون شيئاً جديداً، سواء نظام أو خلافه. كانوا مجرد جزء صغير جداً من النظام القديم، الملكي. في العادة، يحدث التغيير داخل الأنظمة الملكية من القصر، عبر الوراثة أو انقلاب داخل البلاط، وسط أفراد الأسرة المالكة. في مصر، لم يحدث انقلاب لا من داخل القصر ولا من داخل البلاط، ولا حتى من داخل النظام الملكي القائم من جانب إحدى مؤسساته القادرة على ذلك مثل الجيش. بل كان الضباط الأحرار يمثلون مجرد حركة احتجاج ومَظْلَمة ضد أوضاع بعينها أغضبتهم داخل الجيش فقط، وليس ضد الملك أو ضد نظامه أو أي من مؤسسات دولته الأخرى.

بعد هزيمة مخزية في 1948 خارج الحدود، صَبَّ الجيش المصري جَام غضبه على، ثم أشهر سلاحه في وجه، قياداته العسكرية العليا التي حَمَّلها المسؤولية عما لحق به من خزي وعار جراء هزيمة منكرة على يد حفنة من العصابات اليهودية. وذكر في بيانه الشهير "العوامل" التي كان لها "تأثير كبير على الجيش.... في هزيمتنا في حرب فلسطين." وأضاف، "قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم....". ومما له دلالات ظاهرة لا تخطئها العين، أن بيان مرتجل ومقتضب للغاية فيما لا يتعدى مجموعه 201 كلمة يورد "الجيش" 7 مرات، "الشعب" مرتين، "البوليس" مرة واحدة، "الدستور" مرة واحدة، و"حرب فلسطين" مرة واحدة؛ لكنه لا يذكر على الإطلاق "ملك"، "جمهورية" أو "ثورة"!

فيما يشبه ما أقدم عليه مؤخراً قائد مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، ضد كبار قادته العسكريين في الجيش الروسي وفي مقدمتهم وزير الدفاع ورئيس الأركان، لضغينة ما في نفوسهم أَقْدم الضباط الأحرار أيضاً على الانقلاب ضد قادتهم الأعلى منهم رتبة. تحركوا مثلما فعل بريغوجين، وتفاجأوا كما تفاجأ، بأن الطريق أمامهم سالكة وآمنة. لكن بينما هو تراجع، هم أكملوا وأمسكوا فعلاً بزمام قيادة الجيش الملكي بالكامل بسلاسة وسرعة لم تكن في حسبانهم ودون كُلفة تُذكر؛ لمسوا بأصابعهم مدى رخاوة وخواء وتحلل دولة الملك من داخلها، ليبدأ الحلم يتكون ويكبر، والخيالات والرؤى الجديدة غير المطروحة أو حتى المنظورة من قبل تتدفق وتتزاحهم على أدمغتهم ومخيلاتهم من كل حدب وصوب، محلياً وإقليمياً ودولياً.

عندئذٍ، بعد نجاح انقلابهم الجزئي داخل الجيش ضد قياداتهم العليا وتمكنهم من قيادته بالكامل، بدأ الانقلاب الحقيقي والفعلي. بدايةً، انقلبوا على الملك ونَصَّبوا مكانه ابنه، ثم أطاحوا بالأخير. ثم انقلبوا على الدستور، والبرلمان، والأحزاب وأخيراً القضاء. ماذا يبقي من دولة الملك بعد إلغاء الملكية والدستور والبرلمان والأحزاب والقضاء- وقادر على الإمساك بالأمور وتحريكها في أي وجهة أياً ما كانت؟ الجيش. لا أحد على الإطلاق في أي دولة قومية قادر على مثل هذه المهمة غير الجيش. تأسست الجيوش الوطنية في الدولة الحديثة، بجانب الدفاع، لأغراض النجدة والإغاثة في الأزمات والكوارث والاضطرابات الكبرى. بفضل قوته المستمدة من هيكليته الوطنية الشاملة وسلاحه الفتاك، وبالتنسيق مع رديفه الشرطي، لا يوجد غير الجيش يقدر على ضبط الأمو وحفظ الأمن عبر ربوع القطر كُله وفي وقت واحد، أي قطر في العالم وليس المصري على وجه الخصوص، سوى الجيش. هذا الأخير هو الذي سيولى نفسه بنفسه أمر ومهمة وتكليف حكم البلاد، وباسم الشعب- الغائب تماماً عن المشهد حتى الآن!

في نهاية النهار، نحن أمام جيش استعمل قوة السلاح في الإطاحة بالنظام الملكي وجميع مؤسسات دولته- عدا بالطبع نفسه وجهاز الأمن الداخلي الذي لا يستغني عنه للسيطرة على الأوضاع الداخلية. ولما أصبح الحال كذلك، كان حتماً ولابد أن يتقدم بنفسه لكي يملئ الفراغ الحاصل، وإلا انفجرت مكونات وأركان الدولة في بعضها البعض في حرب أهلية وتفككت وضاعت. حين تقدم وفعل الواجب، لاسيما وأنه المتسبب في هذا الفراغ، دخلت مصر بالضرورة حقبة الحكم العسكري حيث الجيش هو المسؤول والمكلف منفرداً بإدارة وتسيير شؤون البلاد والعباد.

هكذا كان الحكم العسكري المطلق، دون أي شريك مؤسسي، أو ما يسمى الديكتاتورية العسكرية هو الأساس الصلب، أرض الصفر أو جراوند زيرو، لكل ما سيتم تشييده فوقها فيما بعد. سواء أكان النظام الذي سيُهَندس ويُعلن ملكي أو جمهوري، ثوري أو رجعي، رأسمالي أو اشتراكي، يميني أو يساري أو أياً ما كان من الأسماء والنعوت التي تعج بها كل القواميس العربية والأعجمية، ستبقى الدكتاتورية العسكرية دائماً وأبداً هي النواة واللب الحقيقي تحت القشرة، الخارطة الجينية والحمض النووي الذي يحدد النوع الذي يستحيل تبديله. إنك مهما ناديت الكلب بصفات الأسد، لن يكون أبداً ما ناديت!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عالم مغربي: لو بقيت في المغرب، لما نجحت في اختراع بطارية الل


.. مظاهرة أمام محكمة باريس للمطالبة بالإفراج عن طالب اعتقل خلال




.. أكسيوس: مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر يوافق على توسيع عمليا


.. الشرطة الأمريكية تعتقل عددا من الطلاب المتضامنين مع فلسطين ب




.. مئات المحتجين يحاولون اقتحام مصنع لتسلا في ألمانيا.. وماسك ي