الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصيدة رائعة بإمضاء الشاعر التونسي القدير جلال باباي تنتصر للأسرى الفلسطينيين،وتحلّق عاليا في سماء فلسطين (..سجين القبر المتحرٌك)

محمد المحسن
كاتب

2023 / 7 / 5
الادب والفن


"اكتب بحبرك عني وعبر،فزنزانتي خرساء صامتة كالقبر،اكتب ولا تخف فأنت حر،أما أنا أسير أتجرع المر،اصنع من حبرك كلمات الحرية النصر،لتحلق عاليا في سماء الحرية وتطير، اصنع القصة واكتب الخواطر، واروِ حكايات كل ثائر، فالقيد يكبل معصم الأسير وأنا أسير، أما معصمك فلا يكبله إلا الضمير".
هذه المقاطع الشعرية أنهى بها الأسير الفلسطيني بالسجون الإسرائيلية المهندس عبد الله البرغوثي،المحكوم عليه بالمؤبد 67 مرة،روايته "أمير الظل..مهندس على الطريق" التي صدرت طبعتها الأولى عام 2012.
والرواية -التي عرض بها البرغوثي تجربة حياته واعتقاله في توليفة غنية بالإنسانية وبأسلوب بسيط- هي جزء من كم كبير من الأعمال الأدبية والشعرية التي خطها أسرى فلسطينيون خلال وجودهم داخل زنازين الاحتلال.
وتعكس تلك الأعمال الأدبية والشعرية صورة حية لمعاناة ومشاعر وأحلام الأسرى مما يرسم لوحة واضحة الملامح لتفصيلات الحياة داخل سجون الاحتلال.
كلمات الشاعر التونسي الكبير جلال باباي أشد فتكا من الرصاص:
إن من حق الإنسان في كل مكانٍ،وفي أي زمانٍ،وأياً كانت جنسيته وجنسه،ومذهبه وعرقه، ولغته ولونه،أن يتمتع بالحرية.هذا حقه،يولد معه،ويرافقه حتى وفاته،وحين يحاول الاحتلال انتزاع حقه الطبيعي هذا منه بالقوة،يمنحه القانون الدولي -كما تمنحه الطبيعة الإنسانية- الحق في الدفاع عن أرضه وحريته.
هذا بالضبط ما حصل مع الشعب الفلسطيني حينما احتل الإسرائيليون أرضه،وسلبوا حريته. فكان لابد من الدفاع عن حقوقه،ومقاومة الاحتلال بقوة الحق وسلاح المقاومة.فكان النضال الفلسطيني المستمر.
إن مقاومة الاحتلال شرفٌ تعتز به الشعوب،وتتباهى به الأمم؛ فما من شعب كريم وقع تحت الاحتلال إلا ومارس المقاومة،وما من شعب قاوم الاحتلال إلا ونال حريته. لقد أيقن الشعب الفلسطيني هذه الحقيقة منذ بدايات الاحتلال الإسرائيلي، وعلى مدار ثمانية وستين عاماً متواصلة قدم أرقاما خيالية من الشهداء والأسرى.
وإذا كان الشهداء قد رحلوا بأجسادهم عنا ودُفنوا في باطن الأرض، فإن الأسرى قد غُيبوا بداخل السجون، ونالوا أشد العذاب والحرمان من غاصب أرضهم، وسالب حريتهم.
موضوعة الأسير في قصيدة جلال باباي تندرج،على نحو أوسع من ناحية القراءة والمعاينة النصية،في إطار أدب السجون أو أدب الاعتقال،فالحيز المكاني للأسير أو المعتقل أو الموقوف هو حيز واحد: السجن،وهذا الحيز المظلم المرعب هو عمود أساسي في الشعر الفلسطيني، وفي الخمسينيات أو الستينيات على وجه خاص سوف يطلق على هذا الشعر مصطلح أو وصف (شعر المقاومة)،ونحن نعرف جميعاً أقطابه الثلاثة في السردية الشعرية الفلسطينية: توفيق زياد،محمود درويش،سميح القاسم.وسيكون المحقق «الإسرائيلي» الذي وقف أمامه درويش ذات يوم في حيفا ضئيلاً وتائهاً في عدوانيته وسقوطه النفسي والثقافي عندما صرخ درويش في وجهه: «سجَّل أنا عربي»، وكان درويش معتقلاً أو سجيناً لدى الاحتلال «الإسرائيلي» في فلسطين وهو في العشرينيات من عمره،وسوف يخرج درويش من السجن بعد ذلك ولن يعود إلى بلاده، ليواجه ثانية ذلك المحقق الذي يتداول الشعر الفلسطيني صورته في حروب الأسرى.والحروب المباشرة التي يكثر بعدها الشهداء.
إن موضوعة الأسير والسجين والمعتقل السياسي ستكون أكثر بروزاً في الشعر الفلسطيني عند شعراء الخمسينيات والستينيات بشكل خاص: هارون هاشم رشيد،فدوى طوقان،إبراهيم طوقان،عبد الرحيم عمر،وراشد حسين،يوسف الخطيب،معين بسيسو،كمال ناصر،عبد اللطيف عقل وغيرهم من شعراء،وذلك تبعاً لفضاءات السجن «الإسرائيلي» المفتوح منذ ما يقرب من سبعين عاماً.
واليوم..
تتحوّل كلمات الشاعر التونسي القدير جلال باباي إلى رصاص يخترق سجوف الصمت والرداءة ويلعلع داخل المعتقلات والسجون الأكثر حلكة من القبور..
وإذن؟
الكتابة إذا،عن الشيء تعادل حضوره في الزمن،ووجوده واستمراره في الحياة.ولأنّ الأمر كذلك فإنّ-جلال باباي- يصوغ كلماته شعرا حارقا،علّها تصل إلى كل أسير فلسطيني عبر شيفرات الحرية،أو لعلّها تصل إلى كل زنزانة محكمة الإغلاق،وإلى كل معتقل عالي الأسوار،وإلى كل منفى داخل الوطن أو وراء البحار.
وكأني أسمعه (جلال باباي ) يهمس في أذن الأسير الفلسطيني قائلا :"ما عليك -أيّها الشامخ في نضالك-بل أيها الواقف على التخوم الفاصلة بين البسمة والدمعة إلا أن تحييّ-الثورة الفلسطينية الجاسرة-التي ألهمت الشعوب العربية المعنى الحقيقي للحرية،ورسمت بحبر الروح على صفحات التاريخ دربا مضيئا يعرف آفاقه جيدا عظماء التاريخ وكل الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل أوطانهم من الأبطال والشهداء منذ فجر الإنسانية: صدام حسين،سبارتكوس،عمار بن ياسر،عمر المختار،يوسف العظمة،شهدي عطية،الأيندي،غيفارا وديمتروف..وقد تجلّت في -ثورتنا الخالدة-كما في رفضنا الصارخ بطولة الإستشهاد وتجسّدت في مواقفنا الجاسرة آسمى أشكال الفعل الإنساني النبيل..
كما أني أسترق السمع لكلماته (كلمات الشاعر جلال باباي) التي تقول :" أيها الأسير الفلسطيني الصامد: في غفلة من الزمن،أوقعتك القافلة سهوا عنك..سهوا عنهم..وها أنت ترنو بصمت إلى وجه فلسطين..
هذه التي إتخذت منها قضية حياتك وموتك..لا لأنّها أصبحت أردت ذلك أو رغبت عنه مصيرك الشخصي دون زيادة أو مزايدة،ودون نقص أو مناقصة..بل أصبحت هذه القضية المقدّسة قضية وجودك كفرد ينتمي إلى ما يدعى بالنّوع البشري،لا كوطن فقط أو كأمة،هي سبب حزنك أكثر من سبعة عقود عجاف،لا بسبب أنّ-بلدك-مثخَن بالجراح،بل لأنّك مضطرّ كل يوم يمضي أن تجدّد لها البيعة ثانية علّها تخان.
ابن فلسطين-الرابض على تخوم الجرح-لا تخف،فالمعركة ستجئ،لكن قبل الموعد أو بعده،ولأنّها مستمرة فأنتَ مطالب بأن تكون حاضرا متى تُطلَب وأينما طُلبت:إلى السجن،المعتقل،القبو الجهنمي،المستشفى الأكثر بياضا من العدم،المنافي المتحركة الأرصفة إلى المجهول..وعليك الإستبسال أردت ذلك أو رغبت عنه،لأنّ فلسطين قضية مقدّسة،من أجلها تؤمّم الديمقراطية،فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة،وفلسطين هي المعركة،لذلك عليك أن تجيد سماع الصّوت وأن تبدع في صداه.
ثم يضيف (جلال باباي):" أيها الأسير الفلسطيني الصامد في وجه طوافي الليل وعراة الضمير:أنت تشيخ وليس الزمن.الزمن يشيخ وليس أنت.ولكن الأرضَ تدور كما تعلّمت في الطفولة.وإذا بك تدور معها وأنت تدري.ظللت ترفض وترفض وترفض سنوات طوالا،كان حزنك أثناءها يتلوّن أحيانا بألوان الطيف أو ألوان الورد.
بعد صبر جميل على القهر والظلم وجنون القوة،طفح الكيل وانفجر البركان فلم تجفل.
قاومت وصمدت،وكنت في المرآة عملاقا.لقد قلت”لا”بملء الفم والعقل والقلب والدّم،ظلّت فلسطين قضيتك.فلسطين العربية كلّها."
وأدعو القارئات الفضليات والقراء الأكارم الإطلاع على هذه الرائهة الشعرية من روائع الشاعر التونسي القدير جلال باباي،دون تأثر فالقضية الفلسطينية لا تتحمّل البكاء ولا تروم الشفقة بقدر ما ترنو إلى الحرية عبر سلاح الكلمة ورصاص النصر والإنتصار:

..سجين القبر المتحرٌك
الإهداء: إلى كل الأسرى الفلسطينيين الذين يقبعون في سجون الاحتلال الصهيوني.
صُفٌِدت السيقان بالحديد
تُقاد الاجساد المحنٌطة
إلى مقابرها المتنقلة
أسقف عارية
ايادي مبتلٌة ترتعش
يحمل المقيمون الجدد
معهم شقاء الوطن
وعلى ناصية الإسمنت البارد
تُجلدُ ظهور المعتقلين
تتيبٌس صدورهم
على كراسي "الباص" الصٌامت
ثمٌة دويٌ ضوء خفيف
بين قضبان الشباك المنفرد
تقتنص الأعين حالات موت شتى
بين الباب الضيٌق
وزحمة العصيٌ فوق الرؤوس
ثمٌة إغماء بين الثنايا
وممرٌات نابلس،
زنزانة تإنٌ بالقلوب المنسيٌة
حطٌت الأقدام المقيٌدة
على أرض النٌقب البعيدة
لم يكترثوا بالموت جلاٌدو "البوسطة"
لم تكفهم أربعة أيام
حتى تنام حواسهم قليلا
هناك..بين المحطٌة والألم
سحابة تنجلي إثر أربعين عاما
هناك.. ميٌت لم ينكسر..
هناك.. ميٌت عاد إلى الحياة.
من وحي "قصة فلسطين"
- الجزيرة الثقافية -

جلال باباي



تعقيب:
إذا كان الأسلوب طريقة المبدع في التعبير عن أفكاره وأحاسيسه وانفعالاته (صياغة لغوية)؛ فإن الأسلوبية طريقة المتلقي في قراءة النصوص وتأويلها (الكشف عن الخصائص الفنية للعناصر اللغوية وصولًا إلى دلالتها العميقة والمقصودة)،أي تكامل بين الشكل والمضمون أسسته الظواهر أو المقولات الأسلوبية الثلاث وهي: الاختيار،والتركيب،والانزياح.
الشاعر جلال باباي في هذه القصيدة اتخذ الأسير الفلسطيني معادلًا موضوعيًا ليفرغ عليه مشاعره وأحاسيسه وعاطفته التي تلوج في صدره،فجسّد من خلال هذا المصطلح النقدي الحداثي علاقته به،وبيّن موقفه تجاهه بأسلوب شعري حارق،وعكس تجربته الواقعية،فهو يصوره-تصويرا تراجيديا-دون أن يسكب عليه فائضا من الشفقة إيمانا منه بأنّ القضايا العادلة تحتاج إلى السياسة الصائبة أكثر من حاجتها إلى قبور الشهداء..
وكفى..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سكرين شوت | الذكاء الاصطناعي يهدد التراث الموسيقي في مصر


.. الطفل اللى مواليد التسعينات عمرهم ما ينسوه كواليس تمثيل شخ




.. صابر الرباعي يكشف كواليس ألبومه الجديد ورؤيته لسوق الغناء ال


.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس




.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-