الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتظار

صفوت فوزى

2023 / 7 / 5
الادب والفن


مُؤرَّقة يستعصي النوم عليها، تطلبه بإلحاح فلا يجيء، يسلمها للسهاد والوحدة. تحدق طويلًا في قمر بعيد ترتعش ظلاله البنفسجية على الشباك المغبر أحيانًا، ويختبئ خلف مساحات الغيوم الرمادية أحيانًا أخرى. تطيل النظر إلى النجوم الكبيرة والصغيرة حتى ترى نفسها واحدًا منها، النجوم التي تتساقط أحيانًا على الأرض. تدرك أن ليلتها طويلة ككل لياليها السابقة، وأن لا عزاء لروحها المتعبة. تجلس على حافة السرير العالي بأعمدته النحاسية التي طالها الصدأ، وملاءة التُّلّ البيضاء التي تدور حوله، وتتدلى مُمزَّقةً هنا ومتهدِّلةً هناك. كَفَّاها تحت ذقنها مطرقة الرأس، تتأمل حياتها وقد انحبست بين كآبة هذه الجدران الأربعة بطلائها المتقشر الباهت لسنوات طويلة بعد أن فارقها الزوجُ، شريكُ الحياة، بالممات، وتزوج الأبناء ومضوا كلٌّ في طريقٍ. تتوالى ذكرياتها كشريط سينمائي أمام ناظريها. حجرات مقبضة جهمة. جدران باهتة، وستائر فارقها اللون، ونسيتها البهجة، أثاث من زمن قديم يقاوم الفناء متشبثًا، وسجادة على الأرض -كم لعب الأبناء فوقها وشهدت عراكهم ونزقهم، غضبهم ورضاهم- انمحت صورها القديمة وغابت معالمها. إطارات خشبية بهت لونها تحتجز صورًا لذكريات قديمة ووجوه عزيزة غابت. من النافذة القريبة، كانت السحب الرمادية الزرقة مشعثة الأطراف والهواء يسف التراب من على سطوح البيوت النائمة حولها تتساند رثة بالية في دائرة مضطربة تهبط أرضها وترتفع. ما يؤذيها ويكسر قلبها أنها بعد هذا العمر تتسول لحظة من حنانٍ فلا تجدها. دمعة ساخنة تطفر من عينيها، فيما يتردد همس خارج من بين ضلوعها: "فقط خاتمة من ونس".
زهدت في حياكة خيوط الصوف الملون، كانت ترى نفسها كالعنكبوت تقبع في زاوية الغرفة وتنسج خيوطها بسرعة. رمت خيوطها في الحقيبة القديمة، تؤلمها أصابعها ويمسك الملل بخناقها. حنين يملأ جوانحها، يثير توقًا غامضًا لدنيا كانت تفتح ذراعيها واعدةً بالأمل والفرح. تتداعى الذكريات مريرةً، أبناؤنا، الذين أنجبناهم عزاءً لأيام الشيخوخة، عكازًا وسندًا للقادم من الأيام، ها هم يغادروننا ويتركوننا للوحدة والخواء، نشيخ منفردين، نواجه همومنا وأوجاع شيخوختنا فرادى. نفتقد الدفء والونس في غيابهم الطويل، ظلال عبرت وتركتنا لهجير الصحراء وشُحِّ الليالي. كان البيت عامرًا بالحياة الصاخبة، واليوم بيتي فارغٌ وساكنٌ. أجواء البيت ثقيلة رازحة، تترك فى النفس فراغا عميقا . أنا في حضرة الصمت والسكون، أسمع صوت الصدأ الزاحف في الليل. آه من قهر الوقت المتراكم الرتيب الفارغ من المعنى ومن الحياة. حتى الدموع تحجرت. أحاور نفسى كثيرا فأكون السائل والمجيب. ينطفئ نور في أعماقي، كمصباح ينفد وقوده وينطفئ، أفقد الدافع والشغف، فيصبح استمرار الحياة تكرارًا مملًّا. يا إلهي، أفي العالم كل هذا الضجر؟
****
قبل أن يهبط أول شعاع لشمس الصباح، وقبل أن تصيح الديكة، وخفقة باردة لنداوة هواء أول الصبح، تبدأ يومها، وظلال حجرة النوم مترعة بوحشة ترجف القلب. رائحة بكارة تسرى بها الريح من الغيطان البعيدة المترامية المفتوحة على المدى تسبح في الضباب الخفيف. فوح الأرغفة الأولى من خبز الصباح الطالع لتوِّه من الفرن. بخور التعاويذ الغامضة، البخار من القدور، والدخان من الكوانين والأفران. دموع ومواجع الأرامل الوحيدات المهجورات بالموت والسفر الطويل. قامت من رقدتها القلقة. تهبط من سريرها العالي. دلت ساقيها تبحث لقدميها عن الشبشب. الحكايا والذكريات سحب داكنة على الجبين وفى العينين. عدلت طوق جلبابها البيتي المطرز بالورود، فبانت الوسعاية بين النهدين الضامرين المتهدِّلين. طسَّت وجهها الأسمر بالماء، ثم مالت على ذيل جلبابها لتجففه. تصعد السُّلَّمَ الحجريَّ الناحل مرتكزةً على درابزينه الخشبي العتيق يتأرجحُ كلما اتكأت عليه. تصعد إلى سطح الدار. تطمئن على صوامع الغلال، الجرار القديمة للزبدة والسمنة، زلع الجبنة القديمة والمشِّ المُعتَّق. تطعم الكتاكيت والفراخ الصغيرة، تضع الماء، تلقي لها الحبوب والفتات وتطلقها لشمس الصباح، تجري وتنق ولا تكف عن الصوصوة. تنظر إلى الحمام في الخن الداكن المعتم، ما يزال يهدل وينوح بإيقاع رتيب لا يفرغ أبدًا، البط والأوز في عششه الخشبية بأسلاكها الرفيعة. تتربع على السطح، فستانها البيتي ينحسر عن فخذين تهدَّلا قليلًا، تحت فخذها يرقد ذكر البط الكبير، مضغوط برفق تحت اللحم الأسمر الذى كان متماسكًا يومًا، تمسك بالمنقار المفلطح بيد تقطر بالماء، وباليد الأخرى تزج حبوب الفول والذرة العويجة في المنقار الفاغر، وصغار البط يمرح على السطوح حولها أصفر الزغب.
تهبط الدَّرَج العتيق. الفسحة الترابية أمامها، في تقطر نور الصباح الباكر، فيها نفح الهجران والخواء، واسعة موحشة. في الركن يرتاح الزير على حمالته الصَّدِئَة الثلاثية الأرجل، نشع الرطوبة تحته له رائحةٌ نفاذةٌ. غطاء الزير المعمول من قطعتي خشب غليظ كلٌّ منهما نصف دائرة، موصولتين بعارضة خشبية مدقوقة بمسامير كبيرة الرؤوس ظاهرة الصدأ، ترفعه وتدعك الزير بليفة النخيل الحمراء الداكنة، يبرق باطنه الأحمر لامعًا. الكوب الأبيض الصاج المطلي بالمينا، تدعكه حتى يبرق نظيفًا شديد اللمعان، والرِّجْل لم تبدأ الدب على الأرض بعد.
من بعيد، يتهادى صوت عبد الوهاب شاديًا: "يا مسافر وحدك، وفايتني، ليه تبعد عنى وتشغلنى". تتفتَّح الذاكرة على طاقات من ضوء باهر كاشفة ومعزية. تذكرت أنها كانت تعشق هذه الأغنية. يخفق قلبها على إيقاع لحنها الشجيّ، وهى تصغي بإمعان، وهواء الصبح ينزف الحنين. تتأمل المكان بعينين مفتوحتين. هنا بيتي، البيت الذى عشت فيه أغلى سنوات عمري، أكلت، وشربت، ونمت، وحلمت، ضحكت بملء فمي، وناوشتني الأوجاع والأحزان، لعبت مع أولادي صغارًا، حنَوْتُ عليهم وسهرت على راحتهم وراحة زوجي. قبَّلتُ جبينَه الملفوف بالكفن، وسهرت أمرِّضُه في مرضه الأخير قبل أن يرحل عنا. لأيام، ظللت أنام وحدي في غرفته، أشم رائحة ثيابه، رائحة عرقه، والخشب الذى تراكم عليه غبار الشارع ورطوبة المكان. أغفو في موضع نومه ، على الوسادة التى اعتدت أن أريح رأسى المتعب عليها ، توقظني حرقة الوجع وافتقاد الحنو والونس. أحادث صورته المعلقة على الجدار، كيف أمكنني أن أتركه؟ في دمي هو، في عظامي، مجدول بنسيج لحمي، التراب الذى في يديه عالق بجدران قلبي، وجهي لا يعرف له مأوى إلا على صدره، أغمض عليه عينيَّ المُنهَكَتَيْن، هناك تسقط عني مخاوفي وعذاباتي وأجد راحتي وأمني. واقفة أنا على حافة الجنون، كثيرًا ما أراه واضحًا وحيًّا وملموسًا أكثر من كل ما حولي، يضحك، يقترب ويمسك وجهى بكفَّيْه في حنان غامر. يبتل قلبي من جديد من الشوق للدفء الذى طالما عرفته في هذه الغرفة. أمواج من التوق لجنون الانطلاق الحسي العارم، وكنت أغالب إجهاش الشهيق المكتوم، صرخة اليتم الكاوية التي لا يندمل جرحها أبدًا. يده المليئة بذخر من حنان لا ينفد، تستقر لحظةً على يدي، تتلمَّس شعري، وجهي، بَلسَمٌ يداوي كل الجروح، بهجةٌ لا تُوصَفُ في كلِّ لمسةٍ.
****
وكأن الجدران تحتفظ بشيء من الناس الذين يعيشون فيها، بشيءٍ من ملامحهم، أنفاسِهم. تأبى أن تفارقهم أو يفارقوها. يرحلون وتظل رائحتهم في المكان. يأتون في الأحلام لأنهم لم يموتوا. هم فقط رحلوا. يأتون وتأتي معهم بهجة الحنين ممزوجةً بألم الافتقاد. يظلون معك وبجوارك. تشعر بهم ويشعرون بك دون أن تراهم. ها هو يأتي ليؤنس وحدتي. يترك نسمةً من الرضا أينما حلَّ. كان يأتي غالبا في منتصف الليل، عندما يغالبني النعاس. يظهر فجأة في الغرفة، بهدوء وسكينة. أعرف قدومه من الونس الذى يظلِّل روحي والقشعريرة التي تتلبَّسني وأنا أحدق في عتمة الغرفة. أنصت من السرير، أتسمع بكل جوارحي قبل أن أنهض من الفراش. استدار مواجها بقامته المديدة وابتسامته العذبة. أحتفظ بمراود الكحل في السحارة القديمة، آخذ من الليل، وأزين له الرمش، وأعرف جرة الحاجب. يقول لي: برمش العين تجرحينني. اليوم، غاب الليل عنا، وغاب القمر، الليل غير الليل، والقمر غير القمر والناس غير الناس. اليوم يرسل الليل خفافيشه، تصرخ في وجهي، تجتمع عليَّ من الأركان والزوايا المعتمة، بعد أن صار البيت مهجورًا. يقول لي: فكي ضفائر شعركِ، كي أرمى بها خفافيش الليل فتهرب، والآن أفك ضفائر شعري، فتحاوطني خفافيش الليل، لا تهرب مني، ويعشش الحزن في قلبي وفي بيتي.
****
العصافير على أشجار قريبة تثب وتزقزق في جلبةٍ بهيجةٍ. هامات الشجر مطرقة، الأوراق على العيدان وجوه طفلية ساجية، ووجهك يراقبني كطفلة تائهة تبحث عن أبيها في الزحام. من الراديو الصغير تنبعث أغنية صباحية مشرقة لأم كلثوم: "يا صباح الخير ياللي معانا، الكروان غنى وصحانا".
قامت تفرد بدنها الملموم، دنت من الجدران تستند عليها متجهة صوب المطبخ، تنحدر متثاقلة كأنما هي قطعة من الأثاث تتحرك متئدة لها وقع خطوها البطيء المتواصل الدؤوب. وجهها الهادئ الراضي يستقبل الصباح بأبلغ عبارات الترحيب والحب دون أن تنطق شفتاها بكلمة. نحيلة منحنية في جلبابها البيتي، يتدلى إيشاربها الباهت على ظهرها ضامًّا شعرها الكثيف الناعم الذى شاب سماره بياض كثير، وعيناها المجهدتان تحدقان في الأركان بلا كلال. حانت منها التفاتةٌ نحو الشرفة تتأمل النهار الطالع، ترقب صحوة الشارع وتفتح الأبواب والنوافذ وخروج النسوة إلى الشرفات والأطفال الصغار الذاهبين إلى مدارسهم.
تعبر ردهة البيت. على مهل وبتؤدة تعد مائدة الإفطار. طبق البيض المقلي بالسمن البلدي برائحته الفواحة ولمعان دوائره الصفراء كما يفضله الولد الكبير، وطبق الفول المدمس بالطحينة والليمون وزيت الزيتون لرجل البيت، وطبق الجبنة القريش الناصع البياض بقطع الطماطم والطحينة للابنة، خسًّا طريًّا طازجًا شفاف الخضرة يقطر ماءً وبعضًا من الزيتون الأسود والأخضر الطري الجلد، كوبين من الشاي باللبن للابن والابنة، وفنجان قهوة مضبوط بن محوج فاتح للأب. مذاق القهوة ورائحتها المنعشة يعدل المزاج ويرطب الجسم. ضوء الصباح الرائق يملأ العينين، ونسمة رطبة وهواء نظيف منعش فيما تتهادى موسيقى مرحة مبهجة تلمس الروح ، وندى الصباح يهبط حنونا على أوراق الصفصاف . جهزت الأطباق، وضعتها على المائدة في ردهة البيت، وصوت تردد أنفاسها يعلو، رسمت علامة الصليب على صدرها، قرأت "أبانا الذي في السماوات"، وجلست تنتظر.
------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب