الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابةُ: بينَ الكَباريْه والدَّبكة

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2023 / 7 / 8
الادب والفن


ليسَ ثمَّةَ في قاموسِ المُشتغلينَ في الكِتابةِ، على الأقلِّ في قاموسي أنا، ما هو أشدُّ رهبةً وتعقيدًا منَ البَدْءِ في كِتابةِ نَصٍّ ما، إذ أنَّه، أعني البَدْءَ، ليسَ بالسُّهولةِ التي يكونُ عليها باقي النَّصِّ، وبخاصَّةٍ إذا كانَ يُكتبُ بلُغةٍ غيرِ عِلميَّةٍ، أيْ غيرُ مُقيَّدةٍ بقَيْدَيْ الاصطلاحِ والمَنهَج. وتزدادُ الرَّهبةُ كُلَّما كانَ القَلمُ أكثرَ حساسيَّةً تِجاهَ اختيارِ الكَلماتِ، مِنْ بينِ مُترادفاتِها، ونَظمِها. ولعلَّ أهميَّةَ المُقدَّماتِ مَردُّها إلى حقيقةِ أنَّها تُمثِّلُ قُوَّةَ الجَذْبِ، أوِ الدَّفْعِ، للنَّصِّ مِن حيثُ هو نَصٌّ. فالبَدْءُ هو دَعوةٌ إلى فَتحِ بوَّابةٍ مُعيَّنةٍ من بوَّاباتِ أرشيفِنا الذِّهنيِّ على مِصراعَيْها وإبقاءِ البَقِيَّةِ الباقيةِ منَ البوَّاباتِ مواربةً، إذْ لا يَجوزُ أنْ يُقرأَ نَصٌّ، ولا أنْ يُكتبَ، دونَ الإبقاءِ على اتَّصالٍ ما بينَ ما نَقرأُ، ونَكتبُ، وما قد تَأَرْشَفَ في أذهانِنا من أفكارٍ، سَواءً أن تكونَ ذاتَ صِلةٍ بما يُقرأُ أو أنْ تبدوَ غيرَ ذاتِ صِلة أو أنْ تكونَ كذلكَ بالفِعل. فكمْ منْ بِدايةٍ ذَهَبَتْ بقلمِ كاتبِها إلى غيرِ ما أرادَ لها أن تذهبَه وانتهتْ إلى حيثُ لم يَخطُرْ في بالِ القارئ والكاتبِ على حدٍّ سَواء، تمامًا كهذه المُقدِّمة.

في حَضرةِ الحَيْرَةِ البَدئِيَّةِ، إذا أُجيزَ التَّعبير، أيْ حينَ أَسألُ نفسي «مِن أينَ أبدأ؟»، في لحظةٍ كهذه أشعرُ كأنَّ مئاتٍ، ورُبَّما ألوفًا، منَ الأفكارِ في رأسي ترقصُ رَقصًا يُشبه إلى حدِّ التَّطابقِ الرَّقصَ في «الكَباريهات» الصَّاخبة. هُناكَ حيثُ السُّكارى. حيثُ كُلٌّ يرقصُ «على لَيْلَاه» دونَ أن يكونَ ثَمَّةَ إيقاعٌ مُشتركٌ في رقصِهم، وإنْ كانوا يرقصونَ للحنٍ واحد. في تلكَ اللَّحظةِ أشعرُ أنَّ الكِتابةَ هي إخراجُ الأفكار منْ «كَباريْه» الذِّهنِ إلى ساحةِ الدَّبكةِ المُنتظِمة. ليسَ ممَّا يَعنيهِ هذا الإخراجُ أنَّ الكِتابةَ يَجبُ أنْ تُنَظَّمَ وتُؤَطَّرَ وفقَ قوانينَ عِلميَّةٍ، وإنَّما المُرادُ هو الاتَّساقُ والانسجامُ بينَ مُمارسي الدَّبكةِ أنفسِهم وبينَهم وبينَ اللَّحنِ مِن جهةٍ أُخرى. فالرَّقصُ في «الكَباريْه» يُمتِعُ الرَّاقصينَ، رُبَّما، لكنَّه لنْ يُمتعَ النَّاظرينَ كما تفعلُ الدَّبكةُ التي تجلبُ المُتعةَ إلى المُمارسِ والمُراقبِ على حدٍّ سَواء. وتاليًا، فإنَّ قُدرةَ الكاتبِ لا تَبرزُ في الأفكارِ التي ترقصُ في رأسِه، وإنَّما في قُدرتِه على تنظيمِها في حلقاتِ دبكةٍ مُمتِعة.

معَ ابتعادِ الكاتبِ عنْ شَاطئِ الكِتابةِ تُصبحُ النَّجاةُ منَ المَوتِ أكثرَ صعوبةً. فما يَخلقُه الكاتبُ، وإنْ كانَ يُمثِّلُ طَوقَ نجاةٍ في بحرِ الكِتابةِ الوَسيعِ والعميقِ، إلَّا أنَّ هذا الطَّوقَ لا يَلبَثُ أنْ يُلقيَ خالقَه بعدَ أن يُلقيهِ خالقُه، وما مَوتُ الكَاتبِ إلَّا في «الاكتفاء» بما خلقَ/كَتَب. بعبارةٍ مُغايرةٍ؛ إنَّ ما يُنتِجُه الكاتبُ، حتَّى لو كانَ مُدخِلًا له إلى عالمِ الخلود، لكنَّ لا بُدَّ للكاتبِ أن يظلَّ في حالةِ تخليقٍ دائمٍ. وليسَ المُرادُ من كلمةِ «الكاتب» ههُنا اسمَ الفاعلِ من فعلِ «كَتَبَ»، وإنَّما المُرادُ مَنْ كانتِ «الكِتابةُ» عندَه مَلَكَةً وليست عَرَضًا، مَنْ تَفْرِضُ الكِتابةُ نفسَها عليه لا مَنْ يَفرِضُ رغبتَه في الشُّهرةِ على الكِتابة. وتاليًا، فإنَّ الكَاتبَ ذي المَلَكَةِ لا يُمكنُ ألَّا يَستمر. حتَّى ما يُسمَّونَه «حُبسةُ الكِتابةِ» ما هي إلَّا دليلٌ بَيِّنٌ على الرَّغبةِ في الكِتابة. لكنْ يَحدثُ أحيانًا أنْ يرغبَ الكاتبُ في الكِتابةِ فترغبُ الكِتابةُ عنه، إذ أنَّ العِلاقةَ بينهما تُشبه إلى حدٍّ بعيدٍ، والعُهدةُ على التَّمثيلِ، ما يَكونُ بين عاشقٍ يَشتاقُ ومعشوقةٍ تُقبلُ مرَّةً وتَتمنَّعُ مَرَّاتٍ، ولا غرابةَ إذَّاكَ أنَّ العَودةَ تكونُ أكثرَ إبداعًا كُلّما أطالتِ الكِتابةُ في تمنُّعِها.

عودًا على الكَاتبِ قيدِ الغَرَقِ؛ إنَّ أحدَ أهمِّ اليابسةِ التي يُمكنُ للكاتبِ أنْ يحملَها معه في ذاكَ البَحر هي ما يُسمَّى «أسلوبَ الكَاتب»، أو «بَصمتَه». ويَروقُني أنْ أُسمِّيه «مِزاجُ الكاتب». المِزاجُ لُغةً هو «ما يُمزجُ بهِ منَ الشَّرابِ ونحوِه، وكُلُّ نوعَين امتزجا فكُلُّ واحدٍ منهما مِزاج»، فمَزَجَ الخمرَ بالماء، أي خلَطَهما فصار الماءُ مِزاجَ الخَمر والخَمرُ مِزاجَ الماء. وعلى سبيلِ الإسقاطِ/التَّمثيلِ المشروعِ؛ تقولُ الكِيمياءُ التَّحليليَّةُ أنَّ الأمزِجةَ، مِنْ حيثُ ممزوجاتِها/ مُتَمَازِجاتِها، تنقسمُ إلى قِسمَيْن؛ مَزيجٌ مُتجانِسٌ (Homogeneous) ومزيجٌ غيرُ مُتجانِسٍ (Heterogeneous). إنَّ ما يقومُ به الكَاتبُ هو خَلْطٌ لـ «مِزاجِه»، أو ذاتِه، بالفِكرة، أو القضيَّة، وبالكِتابةِ على حدٍّ سَواء، ليُنتِجَ مزيجًا مُتجانِسًا إسمُه «النَّصُّ». والكِتابةُ، تاليًا، هي فِعلُ تمازُجٍ بينَ «الذَّاتِ» وخارجِها، بين «الأنا» والـ «ليس أنا»، وبين «الذَّاتي» و«المَوضوعي». وعَودًا على الكِيمياءِ التَّحليليَّةِ مرَّةً أُخرى؛ فإنَّ الخَلْطَ، أو المَزْجَ، بينَ هذه الأَمْزِجَةِ يجبُ أن يكونَ مَزجًا تَفاعُليًا، إذا أُجيزَ التَّعبير، أيْ أنَّ المَزيجَ/النَّصَّ هو نِتاجُ تفاعلِ مِزاجِ الكاتبِ مع الأمزجةِ الأُخرى. وتاليًا، فإنَّ المَزيجَ/ النَّصَّ هو مُؤشِّرُ الإنسانيَّة، أو الأخلاقيَّةِ، الخاصُّ بالكاتب، أو ما يُمكنُ الاصطلاحُ عليه باللُّغةِ الإنجليزيَّة بالـ «Ethicalmeter»، أي «مِقياسُ الأخلاقيَّةِ».

يَقومُ مِزاجُ الكاتبِ على ثالوثٍ يُظنُّ فيه أنَّه في حالةِ تَطوُّرٍ دائمٍ: الفِكرة، الكَلمة والنَّظم. وكُلُّ رُكنٍ مِن أركانِ هذا الثَّالوثِ تَضُمُّ تحتَها أركانًا عِدَّةً: فرُكنُ «الفِكرة» يعني؛ ذاتَ الفِكرةِ وجَوهريَّتَها، إنسانيَّتَها وأصالتَها، عُمقَها وتجذُّرَها، راهنيَّتَها وإنتاجيَّتَها، مَشروعيَّتَها ومَقبوليَّتَها، موقفَ الكاتبِ منها وأخلاقيَّةَ موقفِه. ومادَّتُه لعَرضِ هذا الرُّكنِ هي «الكَلمة» التي تضمُّ: البلاغةَ والقُدرةَ التَّبينيَّةَ، تموضُعَ الكَلمةِ في محلِّها، تأدُّبَها خَلْقًا وخُلُقًا، سلامتَها محكًى ومبنًى، قُدرتَها التَّعبيريَّة وقابليَّتَها للإفهام. والرُّكنُ الثَّالثُ، أيْ «النَّظم»، هو الأداةُ التي يُحوِّلُ الكاتبُ بها الكَلمةَ إلى تعبيرٍ عن الفِكرةِ، وتشمَلُ: اختيارَ كلمةٍ دونَ سِواها منْ مُترادفاتِها، ترتيبُ الكلماتِ بعضَها إثرَ بعضٍ، الاتَّساقَ بينَ بَدْءِ المكتوبِ ومُنتهاه وما بينهُما، التَّقديمَ والتَّأخيرَ للكلماتِ، ربطَ الأفكارِ والانتقالَ بينَها وبها، وما إلى ذلكَ ممَّا يُسمَّى «الأسلوب».

ورغمَ ما قد يبدو في المكتوبِ أعلاهُ من تَقْعِيدٍ، فإنَّ فِعْلَ الكِتابةِ نفسَه لا يُمكنُ أن يُقيَّدَ بقواعدَ مُنفصلةٍ عن ذاتِ الكاتبِ المُتفرِّدةِ افتراضًا، إذ لكُلِّ كاتبٍ عالمُه الخاصُّ، والخاصُّ جِدًا. وإذ أنَّ الكِتابةَ هي فِعلُ إبداعٍ، وإذ أنَّه ليسَ ثمَّةَ من إبداعٍ أشدُّ في إبداعيَّتِه منَ الكِتابة، وإذ أنَّ الإبداعَ فِعلٌ إنسانيٌّ مَحضٌ، فإنَّ البابَ الذي يُدخلُ إلى دُنيا الكِتابةِ مَكتوبٌ عليه: لا تُطِلِ النَّظرَ في الوَراء.. ثَمَّةَ في الإمكانِ أَبْدَعُ مِمَّا كان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى