الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرامُ آينور هانم: اسمُ البحر

دلور ميقري

2023 / 7 / 9
الادب والفن


1
توقّع دارين، قبل ذلك الحادث المُفجع، أن تحضرَ فتاته للشقّة مدفوعةً بالشبق. وإذا هيَ تأتي إليه ويدها المكسورة ما زالت بالجبص، محمولةً بالشاش. قال وهوَ يُقبّلها، بنبرة عاطفة صادقة: " ليتَ أنها يدي لا يدَ بيمال الجميلة ". قصّت عليه بعدئذ تفاصيلَ الحادث، وكانت تصفُ والدتها كلّ مرةٍ بالمرأة المجنونة. ثم أختتمت بالقول، دامعة العين: " نالين، لم تحضر إلى المستشفى لرؤيتي. لكنني حينَ ألتقيتُ معها، وكانت تزورنا مع والدتها، همست في سمعي: كنتُ أتمنى لو أنّ الضربة أتت من ناحية مقعد السيارة، أينَ كنتِ تجلسين "
" لا تبالي بها، فإنها غيورةٌ حمقاء "، علّقَ دارين وقد كبتَ ضحكته بصعوبة. إلا أنه أشفق حقاً لحال نالين، وكانَ يشعرُ طوال الفترة الماضية بتأنيب الضمير لما سبّبَ لها من ألم وإحباط. حلّ الصمتُ على الأثر، وفي الأثناء راحَ يتأمّلُ هيئةَ بيمال. لقد حضرت بتنورةٍ قصيرة، يظهر منها جوربها الطويل البرّاق. عند ذلك، تذكّرَ صديقته الإيرانية؛ وكانت قد أتت يوماً إلى حجرته في المسكن السابق، في مثل هذه الهيئة، أملاً بإرضائه عقبَ قطيعةٍ بينهما: " ماذا حالُ ماهو، الآنَ؟ ". لكنّ دارين، ما لبثَ أن سألَ بيمال عن حال أمها.
ابتسمت وهيَ تهزّ رأسها، لتجيب: " إنها في سبيل الحصول على تعويضٍ مُجزٍ، وصل بها الأمرُ للزعم أمام الأطباء بأنها فقدت ذاكرتها عقبَ الحادث ". تلك القروية، فكّرَ دارين، على شيءٍ كبير من المكر رغم بلاهتها. الشيءُ الحَسَن، أنّ الابنة تتعاملُ مع والدتها على هذا الأساس، والأهم، أنها لا تبالي بأمرها.
على حين فجأة، خاطبته بيمال بالقول: " أترغبُ بمُطارحتي الحب هنا على الأريكة أو في السرير؟ ". أمسكَ عن الرد للحظات، فيما يتمعّنُ بعينيها. لقد خُيّل إليه، أنّ الحادثَ أثّر أيضاً على دماغها. لما قابلت نظرته أخيراً بابتسامة حائرة، قال لها: " حبيبتي، لنؤجّل ذلك لحين أن تتعافين "
" أنا بخير "، قالتها وهيَ تسحبُ يدها المجبورة من الحامل القماشي كي تُبرهن على صحّة كلامها. ثم استدركت: " لكنني بحاجة لمساعدتك في خلع ملابسي ". بعد قرابة ساعة، كانَ دارين في الحمّام يمسكُ يدَ الدوش فيما كانت فتاته تغسلُ نفسَها بيدها السليمة. بعدئذٍ وجّهَ رشاشَ الماء إلى شيئه، الملوّث بما كانَ يَدعوه، تحبباً، بالعسل. ولأنه كانَ مُنتعظاً بعدُ، تناولته بيمال مُجدداً لتقبيله: " ما زالت فيه رائحة مؤخرتي ". عندئذٍ، شعرَ دارين بالتقزز ـ كما في كلّ مرةٍ. بالرغم من كونها مراهقة، بل وملامحها أقرب إلى طفلة، كانت تصرفاتها أثناء المُطارحة تُذكّره بنجوى؛ تلك العاصفة العاتية، التي كأنما راحت في الآونة الأخيرة تهبّ في مخدع عشيقٍ آخر.
الخريفُ بدَوره، كأنما يبثّ رائحته الحرّيفة في مؤخرة الصيف. وكانت ليلة باردة نوعاً ما، لما أنحدرَ دارين إلى ناحية صالة الغسيل عبرَ الدرب الضيّق، المُشجّر في ذلك الجانب، المُنفتح على الغابة. الأشجارُ لاحت عندئذٍ كطائفة من الغيلان، والصخور تحتهن كأنما أطفالهن. السُحُبُ العفاريتُ زادت المكانَ جهامةً، وذلك على الرغم من أضواء مصابيح الدرب. خِلَل ألواح الزجاج، ثمة في الصالة، بانت سيّدة شابّة، مُنهمكة في ترتيب غسيلها الجاف والنظيف. هذه كانت " ديلان "، الشقيقة الصغرى لرجل آينور هانم، والمقيمة في شقّةٍ من بناءٍ ذي دورين في نهاية الدرب.
وكانَ دارين قبلَ ذلك، في أوان أوج الصيف، قد مرّ ذات ظهيرة حَذاء حديقة الشقّة، وأبدى إعجابه باللمسات الخضراء للمرأة، الرهيفة الذوق. فدَعته عندئذٍ إلى الجلوس في الترّاس، ومن ثم ضيّفته الشاي والفواكه. لم يخفَ عليه عند ذلك شعورها بالوحشة والوحدة، هيَ البعيدة عن زوجها والمقيمة مع ولديها اليافعين. كانت إمرأة جميلة، في مستهل الثلاثين، بملامح مُحددة وشعر أصهب. آنذاك، وبتأثير شمس الصيف الحادّة، كانَ النمشُ يزيّن صفحة وجهها. وقد عرفَ دارين زوجَ المرأة، ويُدعى " دوست "؛ وكانَ شاباً في مثل عُمرها تقريباً، نأى بنفسه عن الأسرة في الجبال المطلّة على النرويج، أينَ أمتلكَ مطعماً. هذا الشابُ الأسمر، القرويّ ( امرأته من كرد العاصمة التركية )، كانَ من صنف أولئك الفلاسفة، الذين يصادفهم المرءُ أحياناً في النادي ومقهى " الحجرة الحمراء ". هذا المُصاب بسعار جمع المال، أرتفع صوته ذات مرةٍ في النادي، تعليقاً على سقوط جدار برلين: " مخطئٌ مَن يظنّ أن الشيوعية انتهت، فإنها باقيةٌ ما ظلّ الظلمُ والتفاوتُ الطبقي والحروبُ الإمبريالية ". على خلاف ذلك، كانت إمرأته، الأكثر هدوءاً في الدفاع عن المُثُل الليبرالية.
وكان دارين مُعجباً بابتسامة ديلان، الرائعة المُنطبعة دوماً على الشفتين الرقيقتين، والتي تجعلها أصغر عُمراً. في المقابل، لم يكن ليثيره جسَدُها، البالغُ الرشاقة عند الصدر والردفين. وهيَ ذي تقابله مُبتسمة، حالما دخلَ إلى الصالة: " لم نلتقِ منذ بداية الصيف، هل كنتِ في الوطن؟ "، سألها بلهجةٍ مُجاملة. أومأت برأسها إيجاباً، قبل أن ترد بنبرةٍ مُرّة: " تلك كانت فرصة نادرة، لأجتمع فيها مع زوجي! "
" أزرتم اسطنبول، كذلك؟ "
" لا، إنها شديدة الرطوبة صيفاً وأنا أصلاً أعاني من الحساسية. لكننا ذهبنا إلى أنطاليا، ومن هناك إلى كردستان، موطن أسلافك الريفيين "، قالتها ديلان وقد اتسعت عيناها بنظرةٍ مُداعبة. ثم أضافت: " ذات مرة، سنصحبك إلى ماردين كي تعاين بنفسك كم هيَ مدينة ساحرة؛ وأيضاً ريفها، بالطبع ". عندما أنهت جملتها، كانَ قد أحسّ بثدييها الهزيلين يهمزان صدره. تراجع قليلاً، مُعتقداً أنه هوَ من حاذاها أكثر من اللازم. وإنما في تلك الهنيهة، صدرَ صوتُ أرتطام الباب الخارجيّ بقوّة. ثم أندفعت إلى داخل الصالة ابنتها البكر، " دارْيا "، التي تدرسُ في نفس الفصل مع بيمال ونالين. هذه الفتاة، التي أخذت من والدتها الملامح اللطيفة والسمرة من والدها، كان طبعُها أيضاً على شيءٍ من الإندفاع ـ كما سيختبره دارين فيما بَعد. وكان يعرفها عن بُعد، وذلك من خلال يوميات النادي.
لكنه الآنَ، كأنما يراها لأول مرة. لقد كانت مُعتدلة القامة كالأم، ولو أنها ممتلئة النهدين والردفين. أحاطت ديلان برأس ابنتها، المُنسدل منه الشَعرُ الفاحم والغزير: " هذه هيَ أميرتي "، خاطبت دارين فيما تقبّلها. ثم استدركت، كأنما تذكّرت أمراً: " ربما ذكرتُ لك فيما مضى، أنها هاويةٌ للرسم والألوان. فلِمَ لا تضمّها لتلامذتك في النادي؟ "
" أفكّرُ، فعلاً، في تخصيص فصلٍ لمن هم في سنّها "
" إنّ زميلتيّ، بيمال ونالين، تحضران مع ذلك درسك؟ "، قاطعته داريا بلهجةٍ مُحتجّة مع بعض الغنج. فأجابها دارين، موضّحاً: " حضرت نالين مرات قليلة، لأنها رافقت شقيقتها الصغيرة، وكانت ابنة خالتهما تأتي معهما أحياناً "
" ضع إذاً حوائجك في الغسالة، وتعالَ إلى الشقّة لتُعاين رسومها "، قالت له ديلان. بعد دقائق، كانَ دارين في صالة تلك الشقّة، يُقلّب دفتراً يحتوي على رسوم الفتاة. أكثر من مرة، طلبت الأم ضاحكةً من ابنتها أن تُهدّئ من غلوائها: " لقد أختنقَ الضيفُ بأنفاسكِ، وأنتِ تميلين عليه بكل ثقلك! ". وكان دارين في الأثناء يُبدي إعجابه بموهبة الفتاة، مع ملاحظته أنها بحاجةٍ إلى المثابرة والتجربة والجرأة. المفردة الأخيرة، في حقيقة الحال، لم تكن مُناسبة للمعنيّة بالملاحظة؛ هيَ مَن أدهشت حتى والدتها، بمدى إندفاعها وحماسها. صدرُها الكبير، كانَ قد أسترخى عندئذٍ على كتف الضيف، فيما كانت منحنية عليه من وراء الأريكة. ثم فاجأته حينَ ثبّتَ نظرَهُ في عينيها الكبيرتين السوداوتين، بأن رشقته بغمزةٍ منهما، مُعابثة.

2
في يوم السبت التالي، أدهشته داريا هذه المرة بحضورها للدرس. إذاك، أحتجّت بمرافقة ابنة خالها: " والدة خجي، طلبت مني ذلك لانشغالها بموعدٍ هام "، قالتها بنبرةٍ بسيطة لم تتكلّف البراءة. جلست بالقرب من الصغيرة، وكانت هيَ يومئذٍ الفتاة الوحيدة البالغة في الفصل. لم تهدأ في خلال الدرس، وأكثر من مرة نهضت إلى اللوح الكبير، المُثبّت بالجدار، لكي تُبدي ملاحظة على الرسم. في أثناء ذلك، كان ردفاها الكبيران يترجرجان بشكلٍ مُثير أمام أنظار المُدرّس الوقور. قبل نهاية الحصّة، حضرت آينور هانم واستأذنت بالجلوس. قالت لدارين، كأنما تُخاطب نفسها: " كم أنا مُتعَبة، ومُحبَطة. لقد غشيتُ بلا طائل محلاتِ السوق، طالما أنني عدتُ حديثاً من باريس مع ملابس آخر موضة "
" أعتقدتُ أنكِ تغيّبتِ، بسبب موعدٍ هام؟ "، تساءلَ فيما كانَ يرمقُ داريا بنظرةٍ مُواربة. لكنّ هذه تجاهلت نظرته. على أثر انتهاء الدرس، عرضت آينور هانم توصيلهما بسيارتها إلى غوتسوندا. هكذا وجدَ دارين نفسه إلى جانبها في العربة، بناءً على رغبتها. فاعترضت الصغيرة لأنها أبعدت إلى المقعد الخلفيّ، أينَ جلست داريا. في خلال الطريق، أطلقت قائدة العربة على مسامعهم العديدَ من الطُرف. إكتشفَ دارين عندئذٍ أنها من نوع النساء، اللواتي يقدرنَ على إضحاك الآخرين بسهولة ويُسر: " إنها مثل ديلان، تُغذّي وحدتها بالمَرح والسجائر. لكنها أكثر ثقافة، ولا شك. ولو كانت هذه الحسناءُ البَطِرة حسّاسةً أكثر، أو تُعاني من العوَز، ربما لغدت كاتبة! "، قالها في نفسه.
عقبَ عودة السيارة باتجاه المدينة، أخذته داريا على حين غرّة بالقول، فيما تتنكّبُ ساعدَهُ: " ستدعوني إلى شقتك، لكي تريني بدَورك ما أنجزتَه من رسوم ". ترددَ في تلبية طلب هذه المُراهقة المُعابثة، بما أنّ ذهنَهُ أمتلأ على الأثر بصورةٍ مشئومة مُشتركة لابنتيّ الخالة. قال لها بطريقةٍ لبقة: " الأفضل أن تعودي إلى البيت كيلا تنشغل أمكِ لغيابك، وأيضاً تستأذنين منها بزيارتي "
" ما هذا الكلام الغريب، وكأنك تُكلّم خجي وليسَ فتاةً في السابعة عشرة؟ "، علّقت مع ضحكةٍ مُتهكّمة. وكانَ جوابُهُ، أن شدّ شَعرَها برفق في حركةٍ مُداعِبَة. ثمة في شقّته، فعلت داريا ما يفعله أيّ ضيفٍ يجد نفسه لأول مرة في الصالة: وقفت تتأمّلُ لوحةَ " سيامند وخجي "، المُترعة بالتفاصيل والرموز، ولم تفارقها الإبتسامة أمام العُري العارم للشخصيتين الرئيستين.
علّقت عندئذٍ عن معرفةٍ، ولا ريب، في بعض أمور الفن: " إنها لوحةٌ مُعبّرة، ولو أنني أجهلُ كنه رموزها. لكن كأنكَ تعاملتَ مع ذات الموديل، لرسم المرأة والرجل؟ ". أعجبَ المُضيف بملاحظتها الأخيرة، الذكية. في جوابه، شاءَ أولاً إحالة اللوحة إلى الأسطورة الكردية المعروفة كي تستوعِبَ الضيفة رموزها.
هتفت تقاطعُ كلامه: " بلى، أعرفُ هذه الحكاية. وكان والدي يملكُ شريطَ كاسيت لمطربٍ كلاسيكيّ، يتغنّى بحكاية ذينك العاشقين؛ وأظننا نحتفظ به بعدُ في المنزل "
" ولعلّ اسم ابنة خالكِ، مُستمّدٌ من اسم بطلة الحكاية؟ "
" لا، إنه اسمُ جدّتي لأمّي "
" واسمكِ أنتِ، داريا؛ أهوَ مُستمدّ من اسم الشجرة أو البحر؟ "
" بل هوَ اسمُ البحر "
" مع أنّ كردستان تفتقدُ للبحر؟ "
" أبداً، ألم تسمع ببحر وان؟ "
" إنها بحيرة، أيتها الفنانة! "
" مع ذلك، فإننا نسميها: بحر وان "، قالتها ثم تساءلت بشيءٍ من التدلّه وهيَ تدفعُ نحوَهُ صدرَها الكبير: " أأنا فنانةٌ، حقاً؟ ". تراجع قليلاً، مومئاً برأسه: " بالطبع، أنت فنانة المستقبل ". ثم ما لبثَ أن خطا باتجاه الفترينا، بغيَة إشغال الفتاة بمزيدٍ من الأعمال الفنية. أخرجَ من درْج الفترينا الأسفل حافظةً جلدية كبيرة، تضمّ مجموعته الكاريكاتيرية: " أعطني رأيكِ، بما أنكِ من عائلةٍ عريقة في العمل السياسيّ "، قال ذلك وهوَ يدفعُ إليها بالرسوم. تعمّدت عندئذٍ أن تُقلّب الرسومَ، الموضوعة بين يديها على الطاولة، فيما هيَ مُنحنية بطريقةٍ مثيرة: ردفاها المُتكوّران، تضاعف حجمهما بهذه الحركة، وأضحى لهما أيضاً جاذبية المغناطيس، التي لا تُقهر.
دقيقتان على الأثر، وإذا برنين جرس الباب يخرقُ الصمتَ. هجسَ دارين، أنها يُمكن أن تكونَ بيمال. فوضعَ إصبعه على فمه، في إشارة حذر للضيفة. ذهبَ بهدوء إلى ناحية الباب، وما عتمَ أن تنهّدَ بارتياح غبّ نظرةٍ خِلَل العين السحرية: كان المُتطفّل، حمي؛ وكأنما جاءَ ليُحرر دارين من المَوقف المُربك والمُحرج.
فكم كانت مُنزعجة، داريا، وهيَ تتلقى النظراتِ الفضولية من لدُن الضيف السَمِج. ما عتمَ أن قالت لدارين عند الباب، بصوتٍ مُتأثّر: " ما كانَ من الضروري أن تستقبله، لكنك لم ترغب منذ البداية أن أزورك ". حاولَ تهدئتها، بالقول كذباً فيما يربتُ على خدّها: " جاءَ بناءً على موعدٍ مُسبق، كنتُ قد نسيته. تعالي مرةً أخرى، متى شئتِ ". أكتفت بهزّ رأسها، وكأنما تقولُ: " لِمَ إذاً أرتبكتَ عندما رنّ جرسُ الباب؟ ". ثم اتجهت إلى المصعد، تجرّ ردفيها الثقيلين.

3
نظرَ دارين إلى ساعة يده، فوجدَ أنّ عقربها يقتربُ من الثانية: " على الموعد، بالضبط! "، قالها في إشارةٍ ساخرة إلى اعتياد الضيف غالباً على زيارته في أوان الغداء. مُتجاهلاً الإشارة، هتفَ حمي بطريقةٍ استعراضية: " عندي لك خبرٌ في غاية الأهمية، لا أظنك قد سمعته بعدُ: الأمم المتحدة، ستفرضُ منطقة آمنة تشمل كردستان العراق، وذلك لمنع جيش صدّام من مهاجمتها مرةً أخرى. وأمريكا، ستقوم بمراقبة المنطقة من خلال طائراتها، المتمركزة في تركيا والخليج. وبحسَب رفيق حزبي بارز، أجتمعتُ معه يوم أمس، فإنّ هذه الخطوة هيَ بداية تأسيس دولة كردية "
" وماذا عن مفاوضات الزعماء الكرد مع القيادة العراقية؟ "
" لم يعُد مُجدياً التفاوضُ مع قيادةٍ، منبوذة من قبل العالم أجمع "، قالها الضيفُ بنفس الحماس. ثم سألَ دارين فجأةً، وكأنما رأى طيفاً يخطرُ أمامه: " مَن كانت تلك الفتاة السمراء، المُكتنزة اللحم؟ ". ردّ دارين ببساطة، مومئاً إلى مجموعته الملقاة على طاولة الكتابة: " إنها تلميذة، تودّ تعلّم رسمَ الكاريكاتير "
" كأنني رأيتها قبلاً في النادي، أو ربما في الحجرة الحمراء؟ "
" لا، إنها ليست كردية! "، قالها ثم أضافَ مع ابتسامةٍ مُعبّرة: " لم ألحق في إعداد أيّ طبخٍ اليوم، كوني جئتُ متأخراً من الدرس. فما عليك إلا الذهاب إلى مطعم صاحبنا اليوغسلافي، لإحضار طبقيّ بيتزا ". لزمَ الطفيليّ الصمتَ، كأنه يُفكّر بطريقةٍ للتملّص دونَ أن يُثيرَ استياء المُضيف. هذا الأخيرُ، ما لبثَ أن نهضَ من مكانه على الأريكة: " هيا لنتوجّه إلى المطعم بأنفسنا، لأنني تذكّرتُ أنّ البيرة نفدت في البيت ".
ثمة، بالقرب من ذلك المطعم، قال حمي بنبرة المُشرف على الهلاك: " في حقيقة الحال، أنا تناولتُ الفطورَ متأخراً ولا أشعرُ الآنَ بالجوع ". خاطبه دارين عندئذٍ، مُشيراً بيده إلى موقف الحافلات: " إلى اللقاء، إذاً! ". بعدما طردَ المُتطفّل بتلك الطريقة، خطا باتجاه مدخل المطعم. فكم كانت دهشته كبيرة، عندما وقعَ نظره على نادين حالما أضحى في الداخل: كانت مُنفردة على طاولةٍ واحدة مع رجلٍ أربعينيّ، أسمر ذي شارب ثخين. تهيّأ لدارين أنه رآه من قبل؛ وخمّنَ أنه فلسطينيّ سوريّ، ربما. كانَ ظهرها إلى مدخل المطعم، لكنه عرفها من هيئتها. قبيل انسحابه من المكان، إذا بها تلتفتُ فجأةً إلى الخلف وتراه. على الأغلب، أنها تابعت نظرةَ الرجل الأسمر، الذي لعله انتبهَ إلى ما أعترى دارين لحظةَ مصادفته لهما. رمقته عند ذلك بنظرة إزدراء، ثم أشاحت وجهها عنه بسرعة.
" إنني أستحقُّ، ولا غرو، تلك النظرة المُهينة "، خاطبَ دارين نفسه فيما كانَ يهربُ من المكان. وقد لاحقته نظرةُ نادين، مع ما خلّفته في داخله من تبكيت الضمير، طوال طريق إيابه إلى مسكنه. حالما عبرَ الردهة، ثمة في الشقة، أرتمى على الأريكة مثلَ جثّةٍ ما زالَ فيها رمقُ حياة. لقد سلا عندئذٍ أنينَ معدتِهِ المُتطلّبة، وأيضاً غفت صورةُ الردفين المثيرين للفتاة المراهقة. آلمه ألا يتمكّن في هذه الساعة من إغراق مشاعره في حمأة الخمرة، وذلك لنفاد المخزون لديه. والمؤسسة الحكومية، المُحتكرة بيعَ الكحول في كل البلاد وتتحكّم بأسعاره الجنونية، تغلقُ أبوابَ مخازنها منذ عصر يوم السبت وإلى صباح الإثنين: " يا لها من بلادٍ، محكومةٍ بعقليةٍ مُحافظة، ضيّقة وجشعة في آنٍ واحد! ".
لإن ضاعت نادين، فكّرَ مؤنّباً ذاته، فلأنه كانَ من الأنانية ألا يُشعرها باهتمامه بها سوى من ناحية الجنس. لا شكّ أنها من ذلك النوع من النساء، اللواتي يرفضنَ التمرّغ في أحضان الرجال لمُجرد المتعة. إلا أنّ ذلك الضبعَ الأسمر، لن يتردد في قبول عرض الزواج منها، لجعلها مطيّة للفراش. قد يكون الرجلُ مُطلّقاً بدَوره، وربما ابنته الكبيرة تصغرُ نادين بقليل. أمثال تلك الزيجات، أضحت مألوفة في مجتمع المهاجرين، تتكررُ مع دخول هذا المجتمع رويداً في سردايب التديّن والتزمّت والتعصّب والإنحلال.
" لكنني لستُ أنانياً، بل هيَ الكتابةُ أنانية. إنها لا تتحققُ، كفعلٍ، إلا بشرط الحريّة المطلقة للكاتب "، خاطبَهُ داخلُهُ وكأنما للتهوين من ألم الضمير. بلى، إنّ الحبَ والجنس هما غذاءُ الأديب ـ ككل المخلوقات البشرية. إنما الحرية بالنسبة إليه، هوَ الهواءُ الذي يتنشّقُ عبرَهُ أنفاسَ الحياة كي يُحوّلها على الورق إلى مشاعرٍ ونماذج فنية، مصقولةٍ بلغته وأسلوبه، المُميّزين. إنّ من الصعب لإمرأة تقليدية ـ كنادين أو نجوى ـ تقبّل هكذا خيار، يفرضه واقعُ الكتابة، أو حتى تفهّمه.
" إنها آينور هانم، مَن في وسعها منحكَ الحرية مع الجنس "، خرجت هذه الفكرةُ من داخله مع تنهّدةٍ عميقة ورخيّة. صورتها البهية، ما عتمَ أن راحت تزيحُ عن نفسه بتؤدة ركامَ المشاعرِ المُحْبِطة؛ وأيضاً صدى صوتها الناعم، الذي رنّ هذا اليوم بالطُرف مع ضحكاتها المُبْهِجة. ولو أنّ ثمة إمرأة، من ناحية أخرى، من المُمكن أن تثيره فعلاً بكنوز لحمها الريّان، فإنها هيَ ولا شك: " قريباً، لن أُضطرَ لانتظار يوم السبت كلّ مرة كي أحظى برؤيتها. فإنّ العامَ الدراسيّ، سيبدأ بعد نحو أسبوعين ".
بيدَ أنّ إمرأة أخرى، دخلت على الخط، كونها بدَورها في غير حاجةٍ للإنتظار. وها هيَ السيّدة ديلان، تقفُ ذاتَ يوم أمام باب شقته، لتقرع الجرسَ فيما كانَ يحلق ذقنه. لم يُفاجأ تماماً برؤيتها، ودعاها من ثمّ إلى الدخول. فيما كانت تلقي نظرةَ المرأة المُرهفة الذوق على موجودات الصالة، قالت له مُبررةً مجيئها: " لا أملكُ رقمَ هاتفك، لكي أخبرك إنك مدعوّ اليومَ على الغداء، لديّ في البيت "
" بكل سرور، ولو أنني لا أرى داعٍ لكي تشغلين نفسك بأمر معدتي "، ردّ عليها بجوابٍ مُداعب برغم تقليديته. إتسعت ابتسامتها، وما لبثَ فضولها أن أتّجه هذه المرة إلى اللوحة الكبيرة: " كانت داريا على حقّ، حينما أخبرتني في مزيدٍ من الإعجاب بأمر رسمك لحكاية سيامند وخجي "، قالتها ونظرها مُعلّقٌ في الرسم. لحظ المُضيف بسعادة، أنه لم يتخلل نبرتها عندئذٍ ظلّ من عدم الإرتياح لزيارة ابنتها له. من جانبٍ آخر، انتبهَ إلى ما في علاقة الأم والابنة من ثقة وصراحة. على ذلك، لم يرَ جدوى من تبرير استقباله للفتاة.
" كنتُ أرغبُ أيضاً برؤية رسومك الكاريكاتورية، لو كانَ لدي الوقت "، قالت ذلك ثم استدركت: " لكنني سأكون مُمتنّةً، إذا جئتَ اليومَ وأنت تحمل بعضَ تلك الرسوم ". أطرقَ دارين برأسه علامةً على الإيجاب، وتمتمَ بالقول: " بالطبع، يُسعدني ذلك أيضاً ".
عقبَ ذهابها، تهيّأ للخروج إلى المخزن كي يشتري أصيصاً من الأزهار. بعد نحو ساعة، لوّحَ الأزهارَ أمام وجه داريا، التي تعهّدت فتحَ الباب: " إنهم للسيّدة ديلان وليسَ لكِ، أيتها الشقية "، قالها على سبيل الدعابة. ثم ظهرت من ثمّ، الأم، لتتناول الأصيص وهيَ تهتف بحبور: " آه، إنها أزهار كاميليا ". وإذا بصوتٍ أليف، يطرقُ سمعَهُ على الأثر: وكانَ صوتُ آينور هانم.

4
آينور هانم، ما لبثت أن ظهرت بينَ كوكبة من الأشخاص، وكانت هيَ ـ بالطبع في نظره ـ كالقمر، المتحرّك بين النجوم. لم يكن يعرفُ اثنين منهم؛ وهما شابٌ على شبهٍ بالمُضيفة، وكانَ يتنكّبُ ساعدَ امرأةٍ أجنبية. وكانَ دارين قد تعرّفَ من قبل على الشاب الآخر، ثمة في النادي. إنه " خيري "، الشقيقُ الأصغر للسيّدة ديلان؛ شابٌ رقيق وخجول في منتصف العقد الثاني، يتمتع بالوسامة، العريقة ولا ريب في أسرتهم. في إحدى المرات، كانَ قد اصطحبَ خجي الصغيرة إلى الدرس، ومكثَ جالساً إلى جانبها إلى نهاية الحصّة. في أثناء إنشغال التلاميذ بما بينَ أيديهم من الورق والأقلام والألوان، تبادل المُدرّس الحديثَ مع الشاب. آنذاك، كانَ خيري عائداً مؤخراً من زيارةٍ إلى مسقط رأسه، فتكلّمَ عن طيّ تركيا لصفحة الديكتاتورية العسكرية: " الرئيس أوزال، وهوَ من أصلٍ كرديّ، أدخلَ أيضاً إصلاحاتٍ عديدة وخفّفَ من الإجراءات المُستهدفة ثقافتنا القومية ".
" وهذا شقيقي، تيمور، الذي يَصغرني مباشرةً "، قالت ديلان وهيَ تقدّمُ الشابَ الآخر. كانَ على شبهٍ لافتٍ بخيري، بقامته المعتدلة ونصاعة بشرته وقسماته المُتّسقة؛ إلا أنه تميّزَ ببنيته الصحيحة وعضلاته المفتولة. ثم بادرَ الشابُ بنفسه، لتقديم امرأته الأجنبية للضيف: " هذه زوجتي، كريستين، وهيَ أسكتلندية ولا تجيدُ بعدُ اللغة السويدية ". محضَ دارين نظرةَ أعجابٍ، تكادُ أن تكونَ صارخة، للمرأة المتوهّجة الحُسن بهالةٍ من الشعر الأرجوانيّ ـ كما هوَ حالُ مواطناتها. ولعلها من ناحيتها، رمقته مليّاً بنظرةٍ فضولية.
مع هذه الصُحبة اللطيفة، مضى الضيفُ إلى المائدة، العامرة بمأكولاتٍ شرقية، والمُتلألئة بأقداح كريستال، مُترعة بالنبيذ الأحمر والأبيض. توسّطت المائدة أصيصُ أزهار الكاميليا، وقد نوّهت بها السيّدة ديلان على مسامع ضيوفها وكما لو أنها جوهرةٌ نادرة. في هذا المجتمع الراقي، الأشبه ببلاط ملكي، كانَ دارين على شيءٍ من الإرتباك. مع أنه دُعي مراتٍ من قبل للولائم على موائد آخرين من كرد تركيا، فإنه كانَ يندمجُ حالاً في الجو بسبب طبيعتهم القروية البسيطة، الساذجة إلى حدّ ما. كذلك، وكما لمّحنا في مناسبة أخرى، كانَ دارين يتميّزُ بطبعٍ غير إجتماعي ومعتاداً على الإنطواء على نفسه.
السيّدة ديلان، المُتمتعة بالذكاء، لاحظت ما أعترى ضيفها من إرتباك، فأمسكت بصحنه باسمةً: " سأضعُ لكَ شيئاً من كلّ صنف، وأتمنى أن يحوزَ طبخي رضاك "، قالتها ثم استدركت: " أما الدولمة، فإنها من مطبخ آينور هانم ". هذه الأخيرة، كانت قد بدأت سلفاً بنثر الطُرف فيما ضحكاتها تلعلعُ أكثر من الجميع. كانوا يتحدثون غالباً بالسويدية، إكراماً لها، وأحياناً يخاطبونها بلغتها. الضيفة البريطانية، لاحت سعيدة وهيَ تستمع للأحاديث عبرَ ترجمة رجلها. داريا، في المقابل، كأنما كانت على شيءٍ من التوتر والقلق: لقد دأبت على ملاحقة عينيّ دارين، المُصوّبة كلّ مرةٍ إلى إحدى النساء الثلاث؛ وفي الآن نفسه، كانت تتجاهلُ نظرته إليها.
صاحبُ النظرات، كأنما كانَ يدرسُ هاته النسوة، اللواتي جهلَ إحداهن بشكلٍ كامل، تقريباً. كان يدرسهن نفسياً ـ ككاتب ـ وليسَ جمالياً ـ كرسّام. ثلاثتهن، بما فيهن الضيفة الأجنبية، كن يشتركن في الطبع المرح. ولكن هذه الأخيرة، من المُفترض ألا يكون لديها ميلٌ للخيانة الزوجية؛ هيَ مَن حَظيت برجلٍ فتيّ ووسيم، وفوق ذلك، كانَ لا يدعها وحيدةً في سبيل جمع المال. مع ذلك، فإنّ للخيانة أسباباً أخرى، منها الشبق والكبت، ما لو فكّرَ الدارسُ بأمثال خليلته السابقة، نجوى: " الحيوانات تجهلُ معنى الخيانة، لأنّها الغريزة مَن يتحكّم بمسلكها مع بعضها البعض لا الحب. إنّ الأنانية، التي وُصِمتُ بها من لدُن النساء، لعلها تدخلُ في نطاق الغريزة. إلا أنني على استعدادٍ لأقع في الحب، لو أنّ إمرأةً راقية ومثقفة ـ كآينور هانم ـ أتخذتني عشيقاً. وعليّ كانَ أن أفكّر أيضاً بالأخرى، ديلان، لولا أنني أربأُ بجسدي عن أجساد النساء البارزة العظام! "، استرسلَ في مونولوجه الداخليّ بينهما كانَ يلتقمُ الطعامَ أو يرشفُ الشرابَ.
عندما كانوا يتناولون القهوة مع الحلويات التركية، ثمة على الترّاس، سألَ دارين المُضيفة عن ابنها؛ وعلى حدّ علمه، كانَ أيضاً بعُمر المُراهَقة كشقيقته. أجابت الأم ببساطة، أنه يقيمُ أغلب الوقت مع صديقته السويدية في فيلا والديها. ثم ما عتمَ أن تذكّرت الرسومَ الكاريكاتيرية، التي استلمتها من دارين عند الباب: " سأحضرهم في الحال "، قالت ذلك وهيَ تنهض من مكانها. على الأثر، راحت الرسومُ تنتقل من يدٍ إلى يد، مرفقةً بهمهمات الإعجاب. قال تيمور للرسّام، مُعلّقاً على كاريكاتير يُظهر رأسَ الرئيس أوزال على شكل صندوق إنتخابي: " لقد ظلمتَ هذا الرجل، الذي له فضلٌ كبير على عودة الديمقراطية إلى تركيا ". هنا، أبدت آينور هانم هذه الملاحظة: " كأنما من واجب الكرد، بشكل عام، شيطنة الترك والفرس والعرب "
" ولكنّ أوزال، كما تعلمين، كرديّ الأصل؟ "، ردّ عليها دارين وهوَ متجهّم الوجه. إنها ليست المرة الأولى، يستمع منها لرأيٍ يعتبره مُتجنٍّ على قوميته. تابعت هيَ، وكأنها لم تسمع ما قال: " يحتاجُ الكرديّ دوماً لدريئةٍ، يحتمي خلفها من نصال سهام أعداءٍ حقيقيين أو متوهمين. لقد أضحى الكردُ يتامى التاريخ، مثلما صارَ الأرمنُ يتامى الجغرافية "
" على أية حال، نحنُ تجذّرنا في تربة الشرق الأوسط منذ آلاف السنين، بينما تاريخ البعض لا يعدو عن بضع مئات من السنين "
" ليسَ مُهماً الجذور، فالأوروبيون سكنوا قارتيّ أمريكا وأستراليا وجعلوهما أكثر مناطق العالم رقياً وتمدناً ورخاءً بعدما كانتا غارقتين بالبدائية والتخلف "
" أنتم الأتراك، تعتقدون أنكم الأوروبيون وأنّ الكردَ هم الهنود الحمر؛ البدائيون والمتخلفون. لكن الحقيقة، أننا أرقى منكم من الناحية الإجتماعية، وذلك بشهادة الباحثين والرحّالة "
" تعالَ إلى تركيا بنفسك، وقارن عندئذٍ بين جنوبها الشرقيّ وبقية مناطقها "
" التخلّف في كردستان تركيا، هو نتيجةُ عقودٍ من السياسة الممنهجة لحكومة أنقرة "
" كردستان، موجودة في العراق وليسَ في تركيا "، قالت ذلك مُشددةً على الكلمات. أطلقَ دارين ضحكةً مُقتضبة، وأراد الردّ، عندما تدخلَ تيمور: " إذا شئنا، نحنُ الكرد، إقناع الأتراك بعدالة قضيتنا، يتوجّبُ علينا ألا ننطلق من دافعٍ تاريخيّ إنتقاميّ كما يفعل الأرمن. فما جدوى أن نقول، بأنّ الأتراك نزحوا إلى الأناضول قبل خمسمائة عام؟ إن هذا لن يثبط من عزيمتهم، بل يُلحق الضررَ بقضيتنا ".
غيّرت عند ذلك آينور هانم نبرتها، بعدما لحظت إنفعال دارين. عقّبت على كلام تيمور، بالقول: " هذا بالضبط، رأيي أيضاً. على مر التاريخ دعمَ الكردُ الأتراكَ، سواءً في زمن السلاطين أو عند تأسيس الجمهورية ". هزّ دارين رأسَهُ بغموض، وكانَ قد زهدَ بالمناقشة. فكّرَ في شيءٍ من السخرية، المُتماهية بالحزن: " هذه الحسناء المُتسلّطة، عجزَ زوجها الكرديّ بالتأكيد عن إقناعها بوجهة نظره السياسية. وها هوَ ذا شقيقه، يتولى مداهنتها بكلامٍ غير مقتنع به بنفسه ". ثم عادَ واستدركَ، مُخاطباً داخله، مُتأمّلاً هيئتها المُغرية: " ولكن، أيّ حماقةٍ ترتكبُ أنتَ بمناقشتها على هذا النحو لو شئتَ إتخاذها لك عشيقاً! ".

5
حال عودته من تلك الدعوة المُبهجة، التي كادت السياسة أن تُعكّرها، خلا دارين إلى نفسه. فكّرَ بكلام آينور هانم عن الكرد، وأنه ليسَ بالضرورة كإنطباعٍ عن طبيعة زوجها، أو عائلته، بقدر ما هو عام. أجازَ عندئذٍ لنفسه، عقدَ مقارنةٍ بين عقليتين غير متماثلتين، إحداهما عقلية مدينية، تمثّلها السيّدة ديلان، مُتّسمة بالصراحة والنزاهة. فيما زوجها، يُمثّل عقلية القرويّ؛ الماكرة والجشعة. وبصف هذا الأخير، يُمكن انتظام أمثال والدة بيمال وخالتها ـ كما عرفهما دارين عن تجربة ـ وهما أيضاً بالأصل من كرد نصيبين.
إن كرد أنقرة، وغالبيتهم من عشيرة " شيخ بزّني "، الكثيرة الفروع والأفخاذ، قد اجتثّت جذورهم؛ هم المنحدرون من موطنهم الريفيّ الأصل، الكائن في كردستان الجنوبية، والذي انتزعوا منه في زمن العثمانيين ـ كعقابٍ مألوف على أثر إندحار إحدى الثورات. إنهم في هذه الحالة، يُماثلون كرد الشام، المقطوعي الصلة بدَورهم عن مواطنهم الأصلية، الشديدة التنوّع، والكائنة كلها خارج الحدود السورية. كرد بيروت، في المقابل، ظلوا عموماً على عقليتهم البدائية، كونهم أستمروا بالإتصال مع مواطنهم الأولى، وخصوصاً في ريف ماردين. إلا أنّ الجيل الجديد منهم، المُعاصر للحرب الأهلية، كان قد بدأ ينأى بنفسه عن عقلية الآباء.
من ناحية أخرى، لحظ دارين أنّ كرد تركيا ـ وبالطبع الغالبية الريفية ـ أضحوا بسبب الإضطهاد السياسي وحظر لغتهم القومية وثقافتهم، يتحصنون وراء المال؛ تماماً، مثلما كان حالُ يهود اوروبا عبرَ القرون وانتهاءً بالمحرقة النازية. ويصحّ هذا القول، ولو إلى درجة أقل، على أخوانهم من كرد الشمال السوريّ. الغريب، أنّ شريحة المثقفين، هنا وهناك، لم يتحرروا بغالبيتهم من العقلية القروية. عبادتهم للمال، كانت لدرجة أن بعضهم كان يزاولُ الكتابةَ جنباً لجنب مع إدارته لهذا المطعم أو ذاك المتجر.
وفكّرَ دارين بأسى، أنّ أكثر أولئك الكتّاب، وبالرغم من شحّة مواهبهم، أستطاعوا فرضَ أسمائهم من خلال طبع كتبهم وإسهامهم بالمجلات الثقافية والأمسيات الأدبية؛ بالأخص في مدينة ستوكهولم. فيما هوَ بقيَ مغموراً، يخجلُ حتى من تعريف نفسه ـ ككاتب ـ بالنظر إلى أنه لم يتمكن من نشر مجموعته الشعرية البكر مع أنه تجاوز سنّ الثلاثين منذ أربعة أعوام. المثير للسخرية، أنّ بعضَ أولئك الكتّاب كانوا يمحضونه شعورَ الضغينة والحسد، لمجرد معرفتهم بأنه مبدعٌ حقيقيّ؛ هم الذين كان يُسعدهم أن يظل اسمه طيّ النسيان في أيّ دعوة لمهرجان ثقافي أو أمسية شعرية. وبالطبع، فإن ما ضافرَ من ذلك الشعور لديهم، هيَ عقدة النقص إزاءَ إنسانٍ ينحدرُ من بيئةٍ مدينية. في حين أنه كان يتعامل معهم، دوماً، ببساطة وحسن طوية؛ وحتى بمحبّة.
مع إنفتاح عائلة السيّدة ديلان على دارين، أنتعشت نفسيته وغدا أكثر ميلاً إلى أسباب البهجة والمرح. إنها لم تكتفِ بدعوته إلى مائدتها أو حديقتها، فكانت أيضاً ترسلُ بين حينٍ وآخر أطباقَ طعامها الفاخر إليه عن طريق ابنتها، التي أضحت تلازِمُهُ بحجّة رغبتها في صقل موهبتها الفنية. هكذا حفاوة وكرم وطيبة، دفعته كي يلزَمَ جانب الحذر في تعامله مع الفتاة المراهقة، لدرجة تأففها علناً من برودته مقابل إندفاعها المُتهوّر. ومثلما كانَ المتوقّع، عليها كانَ أن تغدو السببَ المباشر في إنقطاع صلته مع بيمال: إلتقت معها هذه الأخيرة، ذات يوم، وكانت خارجة من شقّة دارين. لما سألتها بيمال عما كانت تفعله ثمة، أجابت في استهتار ومُناكدة، أنها كانت تزور صديقها.
وإنها داريا مَن تباهت بالأمر، لما جاءت في اليوم التالي إليه. رداً على استيائه، خاطبته بالقول وهيَ تحدّق بعينيه: " ماذا كانَ يعجبك في تلك الخبيثة، التي تتجنّبها كل زميلات الفصل الدراسيّ بما فيهن ابنة خالتها؟ ".
وكان من نتيجة ذلك التصرّف الطائش، أنّ دارين عاد ليُعاني من الحرمان الجنسيّ. كانَ في الوسع أن تكونَ والدةُ تلك الطائشة مصدراً للوصال والمتعة، لولا أنها لم تكن تروقُ له. عدا عن نفوره من المرأة الهزيلة، فإنّ ديلان غدت بالنسبة إليه كما لو كانت الأخت الكبيرة؛ هذا، بالرغم من أنها تصغره بعامين، وذلك بحَسَب زعمها. بالتالي، صارَ أقلّ مقاومة تلقاء ابنتها، المُعابثة والمُفرطة في التبسّط معه حدّ الإبتذال أحياناً.
إلى أن جاءَ ذلك اليوم، المُتعيّن عليه مواجهةُ إمتحانٍ أمضّ صعوبة من ذي قبل. آنذاك، وكانَ مُنحنٍ على طاولة الكتابة، يُنقّحُ إحدى قصائده الجديدة، أعربت داريا عن شعورها بالحرّ الشديد. قال لها عندئذٍ، دونَ أن يلتفتَ إليها: " إفتحي لو شئتِ بابَ الشرفة "
" الطقسُ خارجاً في هذه الظهيرة الحارّة، أسوأ مما هوَ عليه هنا في الشقة "، قالت ذلك مُتأففة. إلتفتَ نحوها، وقبلَ أن يعقّبَ بشيءٍ، إذا بها تخلعُ بحركةٍ خاطفة ثوبَها القصير، لتتجرد أمام عينيه عاريةً تماماً. فيما سبقَ، لحظَ ذاتَ مرةٍ أنها بدون سروال داخليّ، وذلك حين أنحنت على أرضية الحجرة، لتُظهِرَ نصفَ مؤخرتها خِلَل بنطال الجينز.
الآنَ، إزاءَ حركتها الطائشة، لم يكن من دارين إلا العودة إلى دسّ عينيه في القصيدة وصارَ يتنفّسُ بعسر. فاقتربت منه، لتطوّقه من جانب: " ماذا، ألم يعجبكَ جسمي؟ "، قالتها وهيَ تلهثُ من شدّة الشبق والغلمة وليسَ من الحرّ. كانَ بالطبع لا يقل عنها تأثّراً، مع أنه حاولَ التملّصَ من الموقف الصادم، بالقول في نبرةٍ مًتكلّفة الجدّية: " بالطبع يُعجبني جسمكِ، بالأخص لو فكّر المرءُ فيه كرسّام "
" دعكَ من الرسم، وأنظر إلى كنوزي! تأمّل أيضاً ردفيّ الكبيرين، الذين أدركُ كم يثيران رغبتك! "، ردّت فيما يدها تعبَثُ بوَسَطه من تحت المنامة. في الحيّز الضيّق للفكر، قررَ دارين أن يُلقن هذه المُراهقة المُعابثة درساً قاسياً، يجعلها لا تأملُ مجدداً بتكرار محاولة إغوائه. نهضَ من مكانه وهوَ يحتضنها، ثم طلبَ منها أن تذهبَ إلى الحمّام لكي تجلبَ قارورة مُعيّنة. لما عادت تحملُ المطلوبَ، طرحها بحركةٍ فظة على بطنها فوق الأريكة. برزت عندئذٍ بكلّ عرامتها، المؤخرةُ المُبتلّة بالمَرْهَم اللزج. لدهشته، أنها عوضاً عن المقاومة والإعتراض، إذا بها تتمرّغُ تحته، وكأنما تُضاجع ظاهرَ الأريكة. كانت عندئذٍ تطلقُ تنهّداتٍ وآهاتٍ مع جملٍ فاحشة باللغة السويدية، جعلته على يقينٍ بأنها فتاةٌ مُجرّبة لا مجردَ مُراهقة مُعابثة.

6
غدا مألوفاً وجودُ داريا في فراشه، بالنظر لضعف إرادته كلّ مرةٍ أمام طغيان الجسد العارم وشدّة شهوة صاحبته. مثلما حزرَ في خلال المضاجعة الأولى، فإنّ تجاربها الجنسية كانت متعددة؛ ولو أنها مع فتيانٍ من سنّها، أفتقدوا للدِرْبَة والخبرة، اللازمين لإمتاع مِن كانَ بمثل غلمتها وشبقها. على المنقلب الآخر، كانَ لا بدّ لصداقته مع السيّدة ديلان أن تُصابَ بالصميم، مع أنه حرصَ على توصية ابنتها بكتمان أمر علاقتهما. في حقيقة الحال، أنه لم يعُد يجرؤ على مواجهة الأم والنظر في عينيها، كيلا ينعكس فيهما صورةٌ مُجللة بالغدر والعار. فبلغَ من الجبن، درجةً آثرَ فيها التوجّه في الصباح الباكر إلى صالة الغسيل، لعلمه أنها في الأثناء تكون في عملها. كانت مدرّسة ثانوي لمادة الرياضيات، جنباً لجنب مع خدمتها كمترجمة للغتين الكردية والتركية: لقد أنهت كورس الترجمة في قصر " فيك " ذاته، أينَ ستدرس ثمة، آينور هانم، وذلك في مبتدأ الخريف.
" بقيَ أسبوعٌ واحد على إلتحاقي بدَوري بمعهد الفنون، وعند ذلك أتخلّصُ من ورطة علاقتي مع داريا "، فكّرَ ذات يوم وقد زايله قليلاً القلقُ. في الأثناء، كانت الفتاة مُستلقية بعريها على الأريكة. خاطبته وقد أحسّت بالسأم، لتواصُل صمته: " هلمّ بنا إلى البحيرة، فالطقسُ ما ينفكّ دافئاً ". أتبعت ذلك، بالنهوض والتوجه إلى مكانه خلف طاولة الكتابة. حينَ أنحنت عليه، قال لها مومئاً إلى ناحية الشرفة: " أنزلي الأباجور، من فضلك "
" كم مرة يجب عليّ أن أجزمَ، بأنّ ضوءَ النهار، المُنعكس على النوافذ، يمنعُ الآخرين من رؤيتنا؟ "، قالتها في نفاد صبر. ألقى نظرةً على تلك الناحية، وكانت أشعة الشمس تميلُ على واجهات الأبنية المجاورة، التي يقطنها غالباً المهاجرون، فيشعّ زجاجُ النوافذ المكتومة والقاتمة لتغدو كعيونٍ متعددة لإلهٍ أسطوريّ.
أردفت داريا، تسأله مجدداً، وكانَ يشعرُ عندئذٍ بنهديها المتوثبين يمسّان ظهره العاري: " أنذهبُ إلى البحيرة، أم أنك ستحتجّ كالعادة بعيون الفضوليين وأنهم من المُمكن أن يفضحوا علاقتنا؟ ". نهضَ لمواجهتها، وكانت تقريباً بمثل قامته: " أنتِ بنفسك مَن فضحَ علاقتنا، عندما شئتِ مناكدة بيمال "، قال ذلك ثم أردفَ عابساً: " وعليّ أن أشعرَ بعيون الآخرين، هناك في النادي، تتلألأ بالمكر والخبث بسبب ذلك التصرّف الطائش "
" أنتَ لا تكفّ عن تأنيبي، لسببٍ تافهٍ في حقيقة الأمر. ما المشكلة في أن يعرفَ الجميعُ بعلاقتنا، وكأننا لا نعيشُ في السويد بل في عربستان؟ "، قالتها وكانت قد بدأت بارتداء ملابسها. ابتسمَ دارين لسماعه لفظ " عربستان "، الذي هوَ كناية عن السعودية باللسان الشعبيّ في تركيا. ثم أستدركت داريا، وقد تذكّرت أمراً: " أنتظرني ثمة على طرف المزارع، لأنّ عليّ جلبَ البكيني من البيت ".
" غرانبيرغ "، الأشبه شواطئها بالقوس، تشكّل تقريباً الحدود الجنوبية لمدينة أوبسالا؛ ثمة، أين يقع حي غوتسوندا. إنها تستمدّ مياهها من ذات البحيرة، التي يطلّ عليها قصر " فيك "؛ أينَ سيداومُ ويقيمُ، دارين، مع بداية موسم الخريف الدراسيّ. تجنّباً للعيون، حملَ صديقتَه المراهقة على السير عبرَ الغابة الصنوبرية. بررَ لها ذلك، باختصار الطريق إلى البحيرة. ولكنها هزّت رأسها على طريقة العجائز: " آه من هذا الخوف، الذي ينتابكَ كل مرةٍ وأنا معك! ". مع ذلك، تقدّمته سعيدةً وهيَ ترقّصُ ردفيها، المُكتنزين في تنّورة قصيرة ذات ألوان ملائمة للطبيعة في أوان هذا الصيف المُتأخّر. ما عتمَ أنّ مروا في طريقهم المُبتسر بكتلةٍ صخرية، مسكونة فيها الطحالب، لتبتهج داريا عند رؤية ضفدع يقبعُ هناك؛ وكانَ من الصعب تمييزه، بسبب لونه الأخضر. مزيداً من الضفادع، كانت تتنازعُ مع الطيور والهوام على ملكية المستنقعات الصغيرة. إذاك، كان يختلط بعضه ببعض النقيقُ والتغريد والطنين. بعد نحو نصف ساعة، ظهرت لأعين الصديقين الفيلات والشاليهات، التي لن تتأخر ـ كما الدببة ـ عن الهجوع في سباتها الشتويّ. لكنها الآنَ كانت ما تنفكّ مزدهرة في هذا الطقس الرائع، وكلّ منها تميّز بشكل العمارة وأيضاً بالحديقة المُلحقة بها. على الأثر، لاحت البحيرةُ من أعلى الهضبة المُشجّرة، أينَ وقف الصديقان. فانحدرا إلى ناحيتها خِلَل الدرب الوعر، المتناثرة فيه الصخورُ والحجارة بين مختلف أنواع الزهور والنباتات والأعشاب.
" لِمَ لا نجلسُ هناك، قريباً من الشاطئ؟ "، إفتتحت داريا الجدالَ المألوف. عندئذٍ كانَ دارين قد انتقى بقعة مُنعزلة، تكسوها الأعشاب، وتهمي عليها كتلُ الصخور والأشجار. كانت مكاناً مُحصّناً من الأعين المُتطفّلة، وهذا بالطبع ما أدركته صديقته وأثارَ سخطها. قال لها ببساطة: " هنا في وسعكِ تغيير ملابسك بحريّة، وأيضاً التنعّم بهدوء الطبيعة "
" أيّ حريّة وطبيعة، فيما نحنُ بمنأى عن المُنتزه؟ "، قالتها في تأفف. أمسكَ عن الجواب، كون بصره ميّزَ عن بُعد أشخاصاً يعرفهم. ففي البقعة الأخرى، الأقرب للبحيرة والمكتظة بالخلق، كانت عائلة السيّد حيدر مُتناثرة ثمة مع عوائل أخرى من الأقارب والمعارف. كانَ بعضهم يهتمّ بموقد الشواء، المُتصاعد منه الدخان، فيما الآخرون يتسامرون ويثرثرون. في ذات اللحظة، أنفصل زوجٌ عن المجموعة: كانت " روجين "، الابنة الكبرى للسيّد حيدر، التي تأبطت ساعدَ رجلها فيما كانت تهمّ بالإنحدار معه عبرَ الممشى الترابيّ الضيّق، المُفضي إلى الشاطئ. كانت مُكتسية بثوبٍ طويل فضفاض، من ذلك النوع الملائم للمرأة الحامل.
" يُخيّل إليّ أنك على معرفة بإحداهن، ولعلك تخفي نفسك هنا كيلا يقع نظرها عليك؟ "، عادت داريا لتستفزّه بتساؤلها. تجاهلَ ذلك، مُستفهماً منها ما لو تبغي إرتداء البيكيني: " ثمة وراء الصخرة، بإمكانكِ فعل ذلك ". وإذا بها تبدأ بخلع ملابسها على الملأ، ومن ثم أنحنت على الحقيبة لتُخرج قطعتيّ البكيني. دقيقة على الأثر، وكانت تنحدرُ بإتجاه البحيرة بطريقة طيران العصفور حينَ يتهادى بالقرب من الأرض. راقبها دارين وهيَ تتقدّم هذه المرة على مهل، مُختبرةً بقدميها حرارة المياه، وذلك قبلَ أن تقذف بنفسها مع التيار.
" هاي دارين! تعالَ إلى الماء! "، أخذت داريا تصرخُ بأعلى صوتها ملوّحة بيدها. كانت قد خرجت من الماء، لكنها ما فتأت على الشاطئ فيما هيَ ترتعشُ. هذه الحركة البهلوانية، أثارت حنقَ صديقها: " إنها تعمّدت ذلك، لكي تلفتَ نظرَ أولئك الأشخاص، الذين يعرفونني ". فما لبثَ أن نهضَ ليلمّ البطانية، المُمددة على الأرض المعشوشبة، ليضعها في الحقيبة. ثم أكتسى بقميص التيشرت، وهمّ بمغادرة المكان. صديقته، وكانت قد انتبهت للأمر، ما أسرعَ أن ركضت نحوه. صرخت فيه بغضب، حالما أدركته: " أيها الأبله! أكانَ في نيّتك أن أعودَ إلى البيت بالبكيني؟ "
" لقد تركتُ لكِ الحقيبة، وفيها ملابسك "
" ولكن، ماذا دهاك؟ "
" لا أريدُ سماعَ كلمة أخرى! "
" ما الذي أزعجك؟ "، تساءلت فيما كانت تخلعُ البكيني. ثم صاحت بأثره عندما أخذ يتسلّق المنحدر: " على الأقل، إنتظرني حتى أجفف جسمي ". بعدئذٍ عليها كانَ أن تُجاري خطواته المُتعجّلة، المُخترقة سكونَ الغابة الصنوبرية. بقيت هذه المسافة بينهما، لحين الوصول إلى نهاية درب الغابة، المُنفتح على المزارع، المنتظمة في صفين على جانبيّ دربٍ أكثر إتساعاً، يتصالبُ مع الأول. هذه المزارع، كانت كلّ منها قطعة أرض صغيرة، يتم إستئجارها من لدُن البلدية، لتزرع بالخضار أو الزهور. أغلب أصحاب تلك الأراضي كانوا من الأجانب، الذين يُفضّلون استنبات المُنتجات الزراعية، المُمكن الإستفادة منها للبيع أو الإستهلاك المنزليّ. ثمة، كانَ والدُ جوليا قد ابتنى أيضاً كوخاً مُنمنماً، وقد أستضافَ دارين في إحدى المرات وكانَ الوقتُ في مبتدأ الصيف.
" هذا اليوم، تأكّدَ لي أننا لا يُمكن أن نتفاهم بأيّ شكل من الأشكال "، قالتها داريا وهيَ عابسة ثم مضت دونَ أن تودّعه. كانت جريحة الكرامة، لإحساسها بالمهانة عندما كانت تتبعه مثل الكلب في دروب الغابة. عقبَ إختفاءها عن نظره، تنهّدَ بشيءٍ من الإرتياح. لكنّ شعورَ تأنيب الذات، ما لبثَ أن تملّكه، وكانَ مُتماهياً مع الشعور بالخيبة: " إنها لإن كانت لا تصلح لك، ففي المقابل، قضيتَ معها أوقاتٍ ممتعة؛ أوقات، ستفتقدها منذ اليوم! ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في