الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجري وراء عدل مفقود

بدر الدين شنن

2006 / 11 / 3
دراسات وابحاث قانونية


اقترن " القضاء " دائماً ، حسب العرف الإنساني وحسب القانون ، بالحق والعدالة . وما عدا حالات ا ستثنائية هنا وهناك ، اقترن القضاء أيضاً بالأخلاق والضمير والوطن . وقد انبنت على هذه القيمة الرفيعة للقضاء قيم انبثقت عنها ، شرفت العاملين في هذا المجال .. قضاة ومحامين . وقد شكل جهاز القضاء في بنية المجتمعات عبر التاريخ الإنساني صمام أمان ، للحفاظ على تماسك هذه المجتمعات وإغناء تطورها بالعدل والحق والقانون ، كما شكل نضج هذا الجهاز ونزاهته أو فساده مقياس نجاح أو فشل المجتمع برمته
ولهذا كان الحرص الشديد ، في المجتمعات والدول الطامحة إلى إزدهارها وتقدمها ، على ا ستقلال القضاء ، وعلى بذل كل الجهد لتأمين سيادته القانونية ونزاهته الأخلاقية ، وعلى تكريس ذلك في صلب د ساتيرها وسياساتها وأخلاقياتها . وهذا ما أسس إلى إغناء متنام للحياة العامة فيها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية . ولهذا كان من طرف آخر ، الحرص في الدول المحكومة بأنظمة ديكتاتورية شمولية ، على سيطرة السلطة التنفيذية الاستبدادية على القضاء والتحكم بقراراته وأخلاقياته ، وعلى تكريس ذلك أيضاً ، د ستورياً وقانونياً ، إضافة إلى إشاعة رهاب القمع والعزل في الفضاء القضائي

وبناء عليه ، عندما يقال ، أن لاقضاء مستقل ولاعدالة في سوريا ، مع كامل التداعيات المترتبة عن ذلك ، فإن هذا القول يستند إلى أساس دستوري وقانوني قبل أي شيء آخر . فالمادة الثامنة من الدستور الدائم ، التي تعطي حزب البعث الحاكم حق " قيادة الدولة والمجتمع " تخضع حقوق الأفراد والمؤسسات في المجتمع لهذا الحق ، أي تضعها في المرتبة الثانية .. في مرتبة التابع المنفذ لصاحب الحق الممتاز د ستورياً ، كما أن الإلزام الد ستوري بأن يكون رئيس الدولة ، الذي هو رئيس للسلطة التنفيذية رئيساً لمجلس القضاء الأعلى ، يلغي ا ستقلال القضاء ويخضعه لسياسات وأوامر السلطة التنفيذية

يضاف إلى ذلك وقبله ، فإن كون حزب البعث الحاكم ، أي السلطة ، هو من يسمي رئيس الدولة ووزرائها ووزرائها .. ألخ .. ويسمي أعضاء المجالس التمثيلية التشريعية ، وبالتالي هو مرجعية وآمر إصدار القوانين والقرارات ، التي تعتمدها المحاكم ، فإن المحاكم تسير على سكة النظام القانونية الحديدية ، التي فضحت سيرورة نحو أربعين عاماً من الممارسات اليومية فسادها وعدم عدالتها ، ما سلب القاضي المجال القانوني النصي المجرد في احقاق العدالة ، وزاد انتساب القاضي إلزامياً إلى الحزب الحاكم في خلل تشكل الضمير القضائي ، ومنح المسؤولين وأجهزة الأمن دوراً كبيراً في صياغة أخلاقياته وقراراته . وأخيراً صدر المرسوم 95 / 2005 الذي أمعن في ارتهان القضاء للسلطة التنفيذية وإرهابها وزاد في تهافت القضاء وإضعافه ، إذ منح مجلس الوزراء صلاحية عزل أي قاضي دون بيان الأسباب الموجبة لذلك

وفوق كل ذلك ، تجثم حالة الطوارئ والأحكام العرفية فوق صدر القضاء .. صدر القضاة والوطن والمواطن ، التي شوهت الدولة وقوانينها ومؤسساتها ، وشوهت مفاهيم العدالة والحق والقانون
بكلام آخر ، إن العدالة في سوريا مأزومة .. مخنوقة .. سجينة .. وهذه الحالة البائسة ناتجة عن إخضاع السلطة القضائية للسلطة التنفيذية قانوناً وقسراً
من هنا تنبع مأساة معتقلي الرأي في سوريا .. فتارة يساقون إلى محاكم مدنية ، وتارة إلى محاكم أمن دولة أو عسكرية ، وأحياناً يحال المتهم الواحد إلى أكثر من محكمة ، وذلك سعياً من الجهة الأمنية التي تعتقل المواطنين " المزعجين " وراء المحاكم الأكثر شدة بطبيعتها وأكثر لؤماً بأحكامها

إن أكثر ما يثير الالتفات في هذا المضمار ، هي احتجاجات منظمات حقوق الإنسان وغيرها ، التي " تتهم " المحاكم المعنية ، بمحاكمة ميشيل كيلو وبقية من معه من معتقلي الرأي ، بتسييس الاتهام ضدهم وتسييس محاكمتهم وتنوع المحاكم التي يجرجرون إليها .. وتحاول أن تدعم احتجاجاتها بجمل انتقائية من الد ستور .. في حين أن التهم الموجهة إلى هؤلاء المواطنين هي تهم سياسية ، وأن أفضل دفع عنهم ينبغي أن يرتقي إلى المستوى السياسي بالدرجة الأولى ، مشفوعاً برفض محاكمتهم والمطالبة بحريتهم مع الاعتذار والتعويض ، ومحاسبة المسؤولين عن المساس بكرامتهم

إن طريق حرية ميشيل كيلو وكل معتقلي الرأي ، إنما هو تسييس قضيتهم ، أي تحريك أوسع ما يمكن من النشاطات في الداخل والخارج ، وتوظيف اعتقالهم في مسار النضال الديمقراطي العام .. إن الجري وراء عدل مفقود مذ فقد في الوطن حق المواطنة ، خاصة أمام قضاء غير مستقل ، هو اعتراف بمشروعية ممارسات الاستبداد .. وشرعية دستور وقوانين الاستبداد ، واعتراف أن هؤلاء المعتقلين يحملون وزر التهمة الملصوقة بهم .. وهذا ما يسعى إليه النظام في المرحلة الراهنة ، أي محاصرة المعارضة في سراديب محاكمه وقنونة القمع وممارسته في ساحة القضاء ، وإزاء ذلك ينبغي اختراق هذا الحصار ، وإعادة قضية المعتقلين وحراك المعارضة إلى الشارع

النضال من أجل قضاء مستقل ، يكون فعلاً حاملاً وحامياً للقانون وللعدالة وللحقوق ، هو جزء لايتجزأ من النضال لتغيير ديمقراطي شامل في البلاد .. تغيير يكرس أولاً دستوراً ديمقراطياً تتمفصل فيه السلطات ، ويكون أباً لكل القوانين ، التي يقررها ممثلو الشعب ، وعندها فقط يصبح قبول المحاكمات ، واللجوء إلى المحاكم .. قبول شرف ولجوء كريم .. من أجل سيادة القانون وانتصار العدالة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في إسرائيل بسبب مرور 9 أشهر على حرب غزة دون إعادة ا


.. أوبئة حـ ـارقـ ـة للجلد تهدد أطفال غزة النازحين




.. مساعٍ في الجزائر لمكافحة تفاقم ظاهرة الاتجار بالبشر| #مراسلو


.. موجز أخبار الواحدة ظهرًا - الأونروا: الاحتلال قصف مدرسة الجا




.. رشوا السياح بالمياه.. سكان برشلونة يتظاهرون ضد السياحة المفر