الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس- ضرورة الفَرْز بين العَدُو والصّديق

الطاهر المعز

2023 / 7 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


ازداد عدد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، الذين يمرون عبر تونس بحثًا عن فرصة للذهاب إلى أوروبا، منذ تدمير ليبيا حيث كان يعمل ثلاثة ملايين مهاجر، وقد ساعد الوضع السائد منذ عُقُود في الكونغو وكوت ديفوار ومالي وغيرها على هذا النزوح الجماعي للأشخاص في سن العمل، إذ يضطر المرشحون للهجرة للمرور عبر المغرب العربي حيث ينظم المهربون المحليون - بتواطؤ سياسي وإداري وأمْنِي - رحلات محفوفة بالمخاطر عبر البحر الأبيض المتوسط باتجاه جنوب أوروبا، ومن حُسْن حظ المُهَرِّبِين أن بعض البلدات التونسية تقع على بعد 150 كيلومترًا فقط من الساحل الإيطالي، ومن هنا تزايد تدفق المهاجرين بين تونس وإيطاليا، ولا تقتصر الهجرة على جنسية مًعَيّنة، فالمرشحون للهجرة تونسيون ولكن أيضًا من دول إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء، والذين يقدر عددهم بين 21 ألف وفقًا للمعهد الوطني للإحصاء ( مؤسسة رسمية تونسية) سنة 2021 ونحو 57 ألف وفقًا للأمم المتحدة سنة 2019، ويتم استغلال هؤلاء الأفارقة - الذي يمرون عبر تونس- من قِبَلِ أرباب العمل وأصحاب المساكن البالية والمُتَداعية، أثناء انتظار إشارة المهربين (المُهَرِّبين) الذين يوفرون القوارب لعبور البحر الأبيض المتوسط ، باتجاه إيطاليا أو اليونان، مقابل مبالغ طائلة...
كانت تونس ولا تزال بلد هجرة ويعيش أكثر من 12% من التونسيين في الخارج، وخاصة في أوروبا، ولكن منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار اتجاه الليبرالية الجديدة، فرضت أوروبا التأشيرات على مواطني مستعمراتها السابقة والبلدان الفقيرة، فتحولت تونس من بلد هجرة إلى بلد يستقبل مهاجرين من بلدان إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكُبْرى الذين يبتغون عبور البلاد قبل التّوجّه نحو أوروبا، بسبب قرب تونس من جنوب إيطاليا، وقد ينتظر هؤلاء البُؤساء عدّة أشْهُرٍ بتونس قبل العُبُور، وفي الأثناء يبحثون عن محل سكن وعن عمل، فيستغلهم بعض التونسيين من أرباب العمل وأصحاب المحلات والسماسرة وعصابات التهريب والدّعارة...
تنص الإتفاقيات بين تونس والاتحاد الأوروبي على إعادة المهاجرين الذين يتم اعتراضهم في البحر إلى نقطة المغادرة، أي إلى تونس، مما يزيد من عدد الأفارقة في تونس، ولَمْ يَخْتَرْ هؤلاء المهاجرون الأفارقة تونس أو المغرب العربي كوجهة أو مكاناً لإقامتهم، فضلاً عن "توطينهم"، كما يدّعي النظام التونسي والعديد من وسائل الإعلام، وإنما يتمثل هدفهم في عبور البحر الأبيض المتوسط ، بواسطة الشبكات المحلية بالمدن الساحلية، وفي مقدّمتها مدينة "صفاقس" ( ثاني أكبر مدينة تونسية ويُسميها التونسيون العاصمة الإقتصادية للبلاد) حيث انطلقت مؤخّرًا (منتصف سنة 2023) حملة دعاية عنصرية وحملة مطاردة السود، بينما يستفيد العديد من سكان المدينة من تدفق هجرة الأفارقة من جنوب الصحراء ومن التونسيين، فشبكات التهريب ليست "مُسْتَوْرَدَة" بل هي "بضاعة محلية" (صفاقسية) وتتحكم هذه الشبكات في العملية برمتها، من السكن وتجهيز القوارب إلى المغادرة، بتواطؤ من الشرطة وخفر السواحل والسلطات المحلية، وتقدر عائدات هذه الشبكات في مدينة صفاقس بنحو 1,2 مليون دولار شهريًا ( لوموند دبلوماتيك أيار/مايو 2023)، مما يتيح لها الإشراف على جميع العمليات: بناء القوارب وشراء المحركات واستئجار المنازل وإرشاء بعض الموظفين إلخ، وبفضل هذه الشبكات أصبح المهاجرون من جنوب الصحراء يمثلون ما يقرب من نصف العدد الإجمالي ( 38 ألف مهاجر غير نظامي) لمن تم اعتراضهم قبالة السواحل التونسية سنة 2022.
إن اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي تجعل من تونس خادمًا لأوروبا، من خلال تعزيز نظام المراقبة البحرية وتطبيق سياسة الهجرة الأوروبية على الأراضي التونسية، مقابل وعود (وليس التزام أو اتفاق رسمي) بتقديم "مساعدات" مالية ولوجيستية، ولكن تمت مُكافأة النظام التونسي، منذ ثلاثين سنة – رغم حماس السلطات التونسية لقمع الأفارقة من جنوب الصحراء، واعتراض التونسيين الهاربين من الفقر والبطالة- باتخاذ دول الاتحاد الأوروبي قرارًا أحادي الجانب لتقليص عدد التأشيرات للطلاب أو الباحثين الأكاديميين، ولرجال الأعمال أو السياح وجميع التونسيين الذين يرغبون في السفر إلى أوروبا، سواء بقصد العمل أو زيارة أقاربهم أو للدراسة أو للسياحة...
أدّى الضغط الأوروبي على السلطات التونسية، في ظل أزمة اقتصادية خانقة، إلى خَلْقِ مناخٍ من الرّعب بهدف ردع فقراء إفريقيا عن عُبُور تونس، وحثِّ المتواجدين منهم بتونس على الرحيل، ما يجعل من النظام التونسي حارسًا لحدود أوروبا بدون مقابل، أو مقابل وُعُود بالتدخل لدى صندوق النقد الدّولي بهدف تخفيف الشروط المجحفة لقرض بقيمة 1,9 مليار دولارا، وكما ذكرنا فقد كافأ الإتحاد الأوروبي حكومة تونس بخفض عدد تأشيرات دخول التونسيين إلى دول الإتحاد الأوروبي، ما يجعل من السّلطات التونسية مُنفِّذًا لسياسات الإتحاد الأوروبي الحمائية، بالمجان...
إن طول الانتظار بالنسبة لأفارقة جنوب الصحراء في تونس (العائدين من أوروبا أو الذين يسعون للذهاب إلى إيطاليا) يعزز وضعهم المحفوف بالمخاطر، فهم مجبرون على العمل لتمويل عودتهم إلى بلدانهم الأصلية أو مواصلة رحلتهم إلى أوروبا، ولذلك تزايد عدد العاملين منهم في قطاعات مُرهقة، مثل البناء والمطاعم والعمل المنزلي (خَدَم في المنازل)، برواتب تقل في المتوسط عن رواتب التونسيين بنسبة 30%، ويضطر العديد منهم إلى ممارسة الأنشطة غير القانونية (الدعارة والاتجار بالمخدرات وما إلى ذلك) واستغل النظام التونسي هذه الصورة الظاهرة للعيان لشن الحملة العنصرية على فُقراء إفريقيا...
لا يمكن حل هذه المسألة من خلال الطرق الأمنية بذريعة إن المهاجرين يُشكلون خطرًا على المجتمع التونسي، أو من خلال ذرائع أخلاقية، ولكن ما على النظام التونسي سوى مساومة أوروبا لزيادة الإعانات الأوروبية (وليس القروض) لضمان ظروف الحياة المناسبة لجميع المرشحين للهجرة، من التونسيين وغير التونسيين على حد السواء، ورفض بنود وشروط اتفاقية الشراكة بين دول المغرب العربي والاتحاد الأوروبي التي لا تخدم سوى المصالح الأوروبية، أو تغييرها بحيث تنطبق حرية التنقل أيضًا على سكان شمال إفريقيا الذين يرغبون في السفر إلى أوروبا، وبحيث تكون المبادلات التجارية أكثر توازنا، بإلغاء المعايير الأوروبية التّعجيزية لرفض دخول سلع المغرب العربي إلى أسواق أوروبا، والإستبدال التدريجي للعلاقات غير المتكافئة مع أوروبا بعلاقات متكافئة مع بلدان عربية وإفريقية وآسيوية ومن أمريكا الجنوبية
أما بخصوص الحملة التي يشنها النظام التونسي ضد فُقراء إفريقيا، فإنها تهدف حَرْفَ اهتمام التونسيين الذين يعيشون وضعًا اقتصاديا سيئا، وتوجيه أنظارهم نحو عدو خارجي وَهْمِي، لِيكون فُقراء تونس وفقراء بلدان إفريقيا جنوب الصحراء وقودًا لحرب لا مصلحة لهم بها، فضلا عن استهداف السلطات التونسية لمعارضيها من كافة الإتجاهات، سواء من الإخوان المسلمين وحلفائهم الذين نهبوا البلاد، أو من الإعلاميين والفنانين والمناضلين النقابيين والسياسيين وغيرهم، وتجدر الإشارة إلى تشابه خطاب اليمين المتطرف بأوروبا ضد المهاجرين العرب والإفريقيين مع عبارات الخطاب الرسمي للسلطات التونسية، وتشابه الحملات الإعلامية والقمعية الحالية مع الحملات التي شنتها السلطات التونسية خلال فترة حكم بورقيبة والهادي نويرة ( الوزير الأول من 1970 إلى 1980) ضد فُقراء تونس النازحين من المناطق الفقيرة والريفية نحو المدن، إثر سنوات عديدة من الجفاف، وكان بورقيبة يتحدث بازدراء، خلال خطابات تُذاع مُباشرة، عن "الهمامّة والفراشيش وأولاد عَيّار" وغيرهم من سكان المناطق الدّاخلية التي قاومت الإستعمار الفرنسي والإحتلال العثماني، وانتشرت عبارة "النازح" و"النزوح" كمُرادف للمشاكل الإقتصادية التي كانت تعيشها البلاد ويعاني منها المواطنون... أما اليوم فإن "النّازح" هو القادم من بلد فقير يقع جنوب الصحراء الكُبْرى، لا يريد الإستقرار بتونس وإنما يَسْتَغِلُّهُ تونسيون انتهازيون، مُتعاملون مع أجهزة السلطة وأمنها، قَبْلَ المغامرة والمخاطرة بحياته في البحر الأبيض المتوسط جريًا وراء سراب حياةٍ أفضَلَ...
من السّهل ترويج الدّعايات ضد الفُقراء لتبرير قمعهم، ولتأليب فُقراء آخرين ضدّهم، لترتاح السّلطة (مُؤَقّتًا) من احتجاجاتهم، فتجعل الحرب بين الفُقراء، بدل أن تكون بين الأثرياء المُستَغِلِّين والفُقَراء المُستَغَلِّين، ومن المؤسف تأييد بعض قوى اليسار التونسي للخطاب الحكومي الدِّيماغُوجِي، وممارسات القمع ضد الفُقراء، مهما كان لونهم وجنسهم، ولا يمكن تصنيف أي حركة سياسية في خانة التّقدّمية إذا ما ازدَرت الفُقراء من أي جنسية كانت، أو دعمت قمع الكادحين والفُقراء أو حادت عن هدف بناء مجتمع المساواة والعدالة، ومن الضروري توجيه البَوْصَلَة نحو هذه الأهداف التقدّمية والإنسانية...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا والصين.. تحالف لإقامة -عدالة عالمية- والتصدي لهيمنة ال


.. مجلس النواب الأمريكي يصوت بالأغلبية على مشروع قانون يمنع تجم




.. وصول جندي إسرائيلي مصاب إلى أحد مستشفيات حيفا شمال إسرائيل


.. ماذا تعرف عن صاروخ -إس 5- الروسي الذي أطلقه حزب الله تجاه مس




.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح