الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


امرأة فوق كل الشبهات

هشام بن الشاوي

2006 / 11 / 3
الادب والفن


حين تضيق بالحياة وتضيق الحياة بها .. تحس برغبة جامحة في أن تتقيأ همومها ، على حافة قبره .. وحده يصغي إليها دون أن يتذمر من تبرمها من كل شيء !
وتذرف ما تبقى من الدمع .. وحيدة في مقبرة الشهداء المنسية …
من بعيد ، يراقبها حارس المقبرة بنظرات ثعلب عجوز .. جلبابه الرث وشعره الأشعث يؤكدان إشاعة أنه يؤاخي الجن … فلا يقترب الرعاة من المقبرة ، حين تلون الشمس الأفق بحمرتها القانية … يعيش وحيدا يحرس الأموات ، يتلو عليهم آيات لا يحفظ غيرها .. بدراهم معدودات …
اعتاد أن تزور قبر زوجها وحيدة ، ويتعجب : ” كيف لا تنجب امرأة حليبية الجسد مكتنزته مثلها ، ولم لا تتزوج غيره كبقية الأرامل ؟؟ ” …
* * *
تكلمه بصوت كالهمس : ” كل الرجال يضايقونني ، وأنا الوحيدة العزلاء في هذه الدنيا .. بلا سلف ولا خلف … ويستغلون أي زحام في الحافلات أو السوق .. ليمارسون أشياء مشينة … قبل سنة …
كنت منزويا في الغرفة ، بساق واحدة ..
كانت وسامك الوحيد من حرب خاسرة بكل المقاييس .. كنت رجلا لا يصلح سوى للأنين .. في أعماق الليل البهيم ، وأنا أتلوى في فراشي كالأفعى .. وحيدة… لم تكن تعلم أن إحدى شظايا قذيفة ستزهر سرطانا خبيثا .. في الظهر …
فترحل دون تبذر فرحة صغيرة في أحشائي … !!
التقينا لقاء غرباء .. وافترقنا … لا شيء يوحد بيننا غير الحزن والأمل !! ..
اختطفوك من بين أحضاني .. ليلة زفافنا .. من أجل حرب – تمثيلية … قبضوا ثمن خسارتها سلفا .. من أنجاس لازالوا يعيثون فيها فسادا …حتى صدقة الوزارة لم تكن تكفي لشراء مسكنات الألم اللعين ..
كنت تحس بي كامرأة ، وتبكي .. بكاء لا يليق برجل باسل … !!
تقرأ كلام عيني ، الذي أخفيه عنك ، وبلا مقدمات تعلن في إشفاق :
- دعيني أموت وحيدا .. مع عنتي ، وسرطاني ، وعجزي الكامل …
ويطفر الدمع من عينيك …
أخفي عنك دموعي ، أواسيك .. بكلمات بدأت أشك في معناها : الصبر ، الإيمان ، القضاء ، القدر… ويجلد أعماقي سوط سؤال كافر:” يا ربي ، لم كتبت علي أن أشقى دون بقية النساء ؟؟ ” .
* * *
جارتي ، وصديقتي الوحيدة .. السعدية ، ساعدتني بالبحث عن عمل لدى بعض زبائنها القدامى .. كل النساء أغلقن الباب في وجهي ، وهن يلتهمن قوامي بنظرات نارية ..
- أنا جئت للقيام بأشغال البيت ، فما شأني بأزواجهن …
- إنها الغيرة .. يا عزيزتي ، والأزواج يشتهون الفاكهة التي على الشجرة ، وينسون التي بين أيديهم … !!
تتضاعف أحزاني … وتستطرد السعدية :
- أنا صاحبتك وأحسدك على هذا الجمال الرباني ، لو لم تكوني صديقتي .. لأضرمت فيك النار !!
وضحكنا ضحكا كالبكاء .
* * *
… طرقنا باب رجل أربعيني ، أستاذ محترم أعزب .. يعيش وحيدا في شقته … شبه مضرب عن الزواج … حسب رواية السعدية .
كان لطيفا معنا للغاية …
- البيت بيتك .. أنا مضطر للذهاب إلى العمل ، سأعود بعد ثلاث ساعات …
و…
خيل إلي أني سمعت الباب يغلق ، وأنا منهمكة في التصبين ، لم ينبس بكلمة .. ولم أحس به إلا وهو يطوق خصري بيده ، وبرعشة كهربائية تسري في عروقي …
- سيدي … لو كنت أريد أن أفعل هذا .. لما طرقت باب غريب ! كرامتي كامرأة لا تسمح لي ، والانتحار أهون علي من أن … !!
* * *
بعدها طلبت من السعدية أن تجد لي عملا في المصنع ، بعد تبرمي من مضايقات سكان الشقق ..
هناك أحسست بألفة بين الزميلات ، وتقاسمنا رغيف الهموم النسائية ، والضحكات المريرة .. ولم أهتم بتساؤلات العاملات عن الاهتمام المفرط من الحاج عبد السلام مدير المعمل ، وحرصه ألا يضايقني أحد.. ألأني صديقة السعدية أم لجمالي … إلى أن فوجئت به ، بعد أيام ، يرسل أحدهم ،يدعوني للحضور إلى مكتبه ، ونظرات الزميلات تفضح ما يساورهن ، كأنهن يعرفن ما كان ينتظرني .. ربما خضعن لنفس التجربة…
استقبلني العجوز الستيني بحفاوة ، ولاحظت انتصاب أسفله ، وهو يهم بأن يحضنني .. تذكرت زوجي ، وهو ينادي علي ، عند رغبته في قضاء الحاجة ..أبكي بلا وجع ، وأغمغم :” يا ربي ، ما ذبني لتعذبني هكذا ؟؟” ، ودون أن أحس بصقت في وجهه :” تتتتتفففففووووووو ! كلكم كلاب ” !! ..
خرجت من مكتبه غاضبة ، غيرت ثيابي بسرعة ، ثم رميت الوزرة على الأرض .. بالقرب العاملات …
وفي حجرتي ، قضيت بقية النهار في بكاء حارق .
* * *
سمعت طرقات على الباب .. كنت متلهفة إليها ، كنت أعرف أنها السعدية .. كنت في أمس الحاجة إلى من يسمعني ، وأنا أتقيأ همومي …
بعد صمت ثلجي ، أشعلت السعدية سيجارة ، ونفثت دخانها في الهواء في حنق ، وهي تحدق في السقف…
- منذ متى تدخنين ؟
- أرجوك يا صديقتي ، يكفيني ما بي … قدرنا أن يطمع فينا كل من هب ودب .. لأننا بلا شهادات جامعية ولا وظائف محترمة ، لو لم أكن مطلقة لما احتجت إلى هوان العمل .. ولكن لا أحد يتزوج مطلقة أربعينية ، هجرها زوجها من أجل واحدة في عمر أصغر أبنائه !! …
- هل تعلمين أني أحسدك على كبريائك …؟؟
تصمت لحظات ، لم أشأ أن أضايقها بأية ملاحظة هامشية …
- أية إهانة أن تشتري العاملة بقاءها في المعمل بأن تخلع سروالها بين يدي المشرف وصاحب المعمل .. من أجل دراهم لا تسد رمق أربعة أفواه ؟؟
تطفر الدموع من عينيها ، وتستطرد : ” المشرف زير النساء ، والعجوز المراهق … صارا مثل خاتمين بين يدي .. كل واحد منهما يظنني لي وحده !والأنكى أن الكلب العجوز لا يجد متعته إلا في أن يرضع شيء ه ؟؟… الرجال ، كلهم أولاد القحاب … عن إذنك … أريد أن أسكر .. حتى لا أموت كمدا … بااااي … لم أختر أن أكون قحبة ولا سكيرة .. لم أحسدك يا كريمة ، وكم أحبك لدرجة الكراهية .. يا صديقي اللدودة !! ” .
* * *

اقترب منها حارس المقبرة ، كفكفت دموعها .. أحست بحنو يد ، وهي تربت على كتفها .. لم تسمع ما قال ، كانت شبه مغيبة .. هشة .. ولم تحس بالعجوز ، وهو يقشرها قطعة قطعة على حصير غرفته المهترئ .. كانت كالمخدرة ، حدثت نفسها :” آه ، لو تعرف كم انتظرت هذه اللحظة .. فلم أحب رجلا قبلك ولا من بعدك … يا أبتي ، عفوا ، يا حبيبي الأوحد .. حتى لو كنت قد تبنيتني ، فكم اشتهيت أن أرقص بين يديك نشوة ، وتحس أني امرأة .. وليس مجرد طفلة تمسد شعرها ، وتحرم على يدك أن تجوس في تضاريسي … آه ، كم حلمت بيدك غيمة تروي عطش حقول جسدي … وتنسى تلك الطفلة.. يتيمة الأب والأم التي كنتها ، وأكون امرأتك الأولى والأخيرة.. التي تكتمل بها بهجة الدنيا !! ” .
أحست بالغثيان ، وفحيح أنفاسه الكريهة يلفحها : ” أنت لست أبي .. من أنت ؟ من تكون ؟ أين أنا ؟؟” . ودفعته بقوة ، فانقذف جسده الواهن بعيدا عنها.. جرها من ساقها ، بكلتا يديه .. وقعت أرضا ، لمعت عيناها حين لمحت بالقرب منها حجرا في حجم قبضة اليد ، أملس يستخدمه للتيمم وسددته بكل ما أوتيت من قوة إلى رأسه …
ندت عنها صرخة هستيرية ، وانطلقت تركض في الاتجاه …
بعد لحظات…
وسمع منبه سيارة قوي .. مرقت كالسهم ، وشيئا يتطاير في الهواء كالدمية …
وكتبت جرائد الصباح ، في صفحاتها الأولى عن العثور عن جثة امرأة عارية ،على الطريق السيار … الفاعل مجهول ، والحادثة يلفها الغموض …

وبدأت الألسن تنسج ألف حكاية وحكاية …








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنانة الكبيرة نيللي لسة بنفس الانطلاق وخفة الدم .. فاجئتنا


.. شاهد .. حفل توزيع جوائز مهرجان الإسكندرية السينمائي




.. ليه أم كلثوم ماعملتش أغنية بعد نصر أكتوبر؟..المؤرخ الفني/ مح


.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة




.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ