الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان فتاة الحلم طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 7 / 13
الادب والفن


رواية للفتيان







فتاة الحلم






طلال حسن




شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأم

2 ـ ليم

3 ـ بيلايا

4 ـ الإلهة اينانا












" 1 "
ــــــــــــــــــــ

من بعيد ، من قلب الظلمة ، وككل مرة ، جاءه الهتاف : ليم ..
وككل مرة ، تظهر الفتاة ، نفس الفتاة ، على الفور ، لا يظهر منها غير وجهها ، هادئاً .. جميلاً .. أنيساً .. وقبل أن تختفي ، كما ظهرت ، تقول له : تعال ، يا ليم ، تعال ، تعال .
ويتلفت ليم حوله ، في حلمه المتكرر ، ككل مرة ، باحثاً عنها في الظلمة ، لعله يقع لها على أثر ، لكنها وككل مرة ، تختفي ، دون أن تترك أثراً .
ويستيقظ ليم ، في ظلام غرفته الصغيرة ، إنه كالعادة حلم ، والفتاة التي يراها دائماً حلم ، والحلم يبقى حلماً ، مهما كان جميلاً .
هذه الليلة ، وبعد أن هتفت به الفتاة ، تعال ، تعال ، لم تختفِ في الظلمة ، بل ظلت أمامه ، وقالت : تعال ، يا ليم ، تعال إليّ ، تعال ، تعال .
وحدق ليم فيها ملياً ، ثم قال : مهما كان ، هذا حلم ، حلم لا أكثر .
فقالت الفتاة كأنها تردّ عليه : تعال ، وسترى .
وأضاف ليم : وأنتِ نفسكِ حلم .
ابتسمت الفتاة ، وقالت : اسمي بيلايا .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : تعال ، وستراني .
وتململ ليم في فراشه ، وقال كمن يحدث نفسه : هذا حلم داخل حلم ، فلأستيقظ ، وسيختفي كلّ شيء ، حتى هذه الفتاة ، التي تقول إن اسمها بيلايا ، ستختفي .
لكن الفتاة لم تخنفِ ، وإنما أضيء ما حولها ، كأن قمراً ساطعاً ، أضاء بقعة من غابة ، تقف الفتاة وسطها ، وانتابته الدهشة ، فقال : أنتِ لم تختفي هذه المرة .
فقالت بيلايا : أنا لكَ ، يا ليم ، تعال ، إنني أنتظرك ، وسط الغابة ، قرب هذه الشجرة الضخمة ، التي تراها الآن ، والتي تطل على هذا الجدول الرقراق .
وما إن إنتهت الفتاة بيلا من كلامها ، حتى اختفى القمر من السماء ، ومعه اختفى الجدول الرقراق والشجرة الضخمة والفتاة نفسها .
وعلى الفور ، وكأنّ يداً هزته ، أفاق ليم ، ومن ظلمة الغرفة ، والظلمة التي مازال في الخارج ، جاءه صوت الفتاة بيلا ، يهيب به : تعال .. تعال .. تعال .




" 2 "
ــــــــــــــــــــ

فتح ليم عينيه ، دون أن يعتدل في فراشه ، لقد طار منهما النوم ، وحلقتا بعيداً ، إلى الشجرة الضخمة ، وسط الغابة ، والجدول الرقراق .
وظلت فتاة الحلم ، الذي كان يتكرر باستمرار ، رغم اختفاء وجهها الهادىء الجميل ، تهيب به بصوتها العذب : تعال .. تعال .. تعال .
أراد ليم ، أكثر من مرة ، أن يحدث أمه بشأن هذه الفتاة ، التي قالت أن اسمها بيلايا ، لكنه كان يتردد ، إذ لم يعد لأمه غيره في الحياة ، بعد أن رحل أبوه ، وتزوجت أخته ، ومضت إلى قرية بعيدة .
إن أمه ، كما يعلم ، وربما هذا حقها ، تريده أن يقترن بفتاة حقيقية ، وابنة أخيها الشابة ، هي في نظرها هذه الفتاة ، وليس فتاة الحلم .
وظلت بيلايا ، عند ليم ، ورغم حضورها المتكرر في منامه ، فتاة حلم ، لم يحدث أمه عنها ، حتى جاءته اليوم ، وحددت له المكان ، الذي تنتظره فيه .
وفكر ليم ، ربما ليقنع نفسه ، يبدو أن هذه مشيئة الإلهة اينانا ، نعم إنها مشيئتها ، إذن فلتكن مشيئتها ، فهي إلهة الحب في العالم ، ولابد أنها هي التي اختارت له هذه الفتاة ، ودبرت له تلك الرؤيا المتكررة .
وفكر ليم ، صحيح إنه لا يريد أن يعصي أمه ، فهو يحبها كثيراً ، وقلما خرج عن ارادتها ، لكنه ، ويا للحيرة ، هل يعصي الإلهة اينانا ، ويصمّ اذنيه عن نداء بيلايا ، التي تهيب به دلئماً ، أن تعال ؟
بعد شروق الشمس ، جاءته أمه ، وتوقفت على مقربة منه ، وقالت : ليم .
وكمن فزّ من غيبوبة ، ردّ ليم : نعم ، أمي .
فقالت أمه : الفطور جاهز .
واعتدل ليم متكاسلاً ، فابتسمت أمه ، وقالت : صرتُ عجوزاً ، وربما لن يعجبك فطوري بعد اليوم .
فنهض ليم ، وقال : لن يعجبني غير فطورك ، فهو فطور أمي الحبيبة .
ومدت أمه يدها المحبة ، وداعبت خصلات شعره ، وهي تقول : ستأتي فتاة شابة ، وتحتل قلبك ، وسيعجبك فطرها أكثر .
وغمز ليم لأمه ، وقال بنبرة مزاح : يبدو أن هذه الفتاة الشابة ستأتي قريباً .
ونظرت إليه أمه فرحة ، وقالت : إنها ابنة خالك طبعاً ، يا عزيزي ليم .
وهزّ ليم رأسه ، وقال : لا ، فابنة خالي طفلة .
فقالت الأم : كانت طفلة ، فأنت لم ترها منذ سنوات عديدة ، لو رأيتها الآن لما عرفتها .
ولاذ ليم بالصمت ، فحدقت أمه فيه ، وتساءلت : فتاة الحلم ؟
ونظر ليم إلى الخارج ، عبر النافذة الصغيرة ، وقال كمن يحدث نفسه : سأحضرها اليوم .


" 3 "
ـــــــــــــــــــــ

حاولت أمه عبثاً ، أن تثنيه عما قرره ، لكنه انطلق بحصانه الفتي ، عبر الحقول والبساتين ، نحو المكان الذي عينته له فتاة الحلم بيلا يا .
ودخل الغابة عند الضحى ، وسار بين الأشجار الكثيفة ، ممنياً نفسه بمقابلة الفتاة ، وسط الغابة ، عند الشجرة الضخمة ، المطلة على الجدول الرقراق .
ولاحت له الشجرة الضخمة ، كم رآها في الحلم ليلة البارحة ، وكانت تطل فعلاً على جدول رقراق ، فخفق قلبه بشة ، ها هو حلمه يكاد يتحقق ، ولابد أن الفتاة بيلايا تنتظره تحت الشجرة .
وترجل ليم عن الحصان ، على مقربة من الجدول الرقراق ، تحت الشجرة الضخمة ، وتلفت حوله متلهفاً ، لكن لا أثر للفتاة بيلايا .
واقترب من الجدول ، وتطلع في مائه الرقراق الصافي الصقيل كالمرآة ، وخفق قلبه بقوة ، فقد رأى إلى جانبه في الماء ، تقف فتاة شابة ، كأنها الفتاة التي رآها ليلة أمس في الحلم .
أهو حلم آخر ؟ وعلى الفور ، استدار متلهفاً ، وإذا فتاة الحلم نفسها ، تقف إلى جانبه ، ثم تبتسم له ، فتساءل بصوت متحشرج : أنتِ !
فهزت الفتاة رأسها ، وقالت مبتسمة : اسمي بيلايا . واتسعت ابتسامتها ، وأضافت قائلة : عرفتُ أنك ستأتي ، يا ليم .
ونظر ليم إليها فرحاً ، وقال : منذ أن زرتني في الحلم أول مرة ، أردتُ أن ألبي نداءكِ ، وآتي إليكِ ، لكني لم أعرف مكانكِ ، حتى أخبرتني به ليلة البارحة ، فأتيتُ دون تردد .
وتطلعت بيلايا إليه ، وقالت : أشكركَ .
وقال ليم : أتيتُ لآخذكِ معي إذا وافقتِ .
فقالت بيلايا : أنا أوافق ، لكن ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت : بالصفة التي اختارتها لنا الإلهة اينانا .
وتمتم ليم مندهشاً : الإلهة اينانا !
ومدت الفتاة بيلايا يدها ، وأمسكت يد ليم ، وقالت : هيا بنا ، إنها تنتظرنا الآن ، في معبدها وسط مدينة اوروك المقدسة .


" 4 "
ـــــــــــــــــــ

ركب ليم الححصان ، وأردف بيلايا وراءه ، وقال لها : تمسكي بي جيداً .
وطوقت بيلايا خصره بذراعيها ، وقالت : لنمض ِ إلى الإلهة اينانا ، إنها تنتظرنا الآن في المعبد .
وانطاق ليم بحصانه ، يركض به خبباً ، بين أشجار الغابة ، وحين خرج إلى الحقول ، حثّ الحصان فزاد قليلاً من سرعته .
وبعد ساعات ، لاحت أسوار اوروك العالية ، تلمع تحت أشعة الشمس ، فأشار ليم إليها ، وقال : تلك اوروك المقدسة ، ها قد وصلنا ، يا بيلايا .
وردت بيلايا قائلة : لن نقول وصلنا ، حتى نقف بين يدي الإلهة العظيمة اينانا .
واقترب ليم على حصانه ، من بوابة المدينة ، فالتفت إلى بيلايا ، وقال : سأنزل عن الحصان ، وأقوده إلى داخل المدينة ، وأنت على صهوته .
فتشبثت به بيلايا أكثر ، وقالت :لا تنزل ، يا ليم ، إن أحداً لا يراني كما تعرف .
وردّ ليم ، وهو يجتاز بحصانه بوابة المدينة : مهما يكن ، سنصل المعبد قريباً .
وقاد ليم حصانه ، عبر شوارع اوروك ، المزدحمة بالناس ، وبيلايا تطوق خصره بيديها الحبيبتين ، حتى وصل معبد الإلهة اينانا وسط المدينة .
وتوقف أمام المعبد ، وترجل عن حصانه ، ثم ساعد بيلايا على الترجل ، ثم أمسك يدها ، وقال : ها قد وصلنا المعبد ، يا بيلايا .
فقالت بيلايا مبتسمة : لنمض ِ الآن إلى الإلهة اينانا ، وستقرر مصيرنا .
ويداً بيد ، دخل ليم وبيلايا حرم المعبد ، ووقفا صامتين أمام الإلهة العظيمة اينانا ، ينتظران ما ستقرره لهما ، فقالت الإلهة بصوتها العميق الدافىء : ليم ..
وردّ ليم قائلاً : مولاتي العظيمة .
واستطردت الإلهة اينانا قائلة : ها هي حلمك إلى جانبك ، كما أريتها لك في المنام ، وهي بمثابة ابنة لي ، وقد أهديتها لكَ .
ورمق ليم بيلايا بنظرة سريعة ، وقال : ويا لها من هدية ، يا إلهتي العظيمة .
ومرة أخرى ، استطردت الإلهة اينانا قائلة : هذه هدية العمر ، زوجة لك ، وأنت تستحقها .
فقال ليم : أشكرك ، يا مولاتي العظيمة ، وستكون هديتك مدى العمر ، في قلبي وعينيّ .
وصمتت الإلهة اينانا برهة ، ثم قالت : أنت تعرف أنها لا ترى ، وأن أحداً غيرك لا يراها .
ولاذ ليم بالصمت ، فقالت الإلهة اينانا : وستبقى هكذا ، مادامت تريد ذلك .
وردّ ليم قائلاً : الأمر لكِ ، يا مولاتي العظيمة .
فقالت الإلهة اينانا : والآن خذها إلى بيتك ، يا ليم ، إنها زوجتك .






" 5 "
ـــــــــــــــــــــ

لبثت الأم في البيت قلقة مهمومة ، تنتظر ليم ، الذي ذهب ، لا تدري إلى أين ، ليأتي على ما يقول ، بالفتاة التي ستكون زوجة له .
وتندت عيناها بالدموع مراراً ، يا لحياتها البائسة ، لقد أعطتها الآلهة ابناً ، لكنها أخذت منها زوجها المحب ، وهذا الابن نفسه ، رغم محبته ، واطاعته لها ، في كلّ شيء ، عصاها في زواجه .
لقد أرادت أن تفرح به ، وتزوجه من ابنة خاله ، وهي فتاة شابة ، قوية ، جميلة ، كانت ستسعده ، وتملأ عليهم البيت بالحياة والأطفال .
لكنه ، ولابد أنه سُحر ، سحرته امرأة عدوة ، لا تريد لها الخير ، فجعلته يتعلق بامرأة وهم ، يقول إنها جاءته في الحلم ، وها هو يهيم وراءها ، لا تدري أين ، ولن يجد لها أثراً .
وعند المساء ، بعد أيام من غيابه ، تناهى إليها وقع حوافر حصان ، وعرفته ، إنه هو ابنها ليم ، لقد عاد إليها من رحلته إلى التيه .
وهبت من مكانها ، وأسرعت تفتح الباب ، وإذا ليم فعلاً على صهوة حصانه ، وما إن رآها ، حتى أشرق وجهه بابتسامة فرحة ، لم تره يبتسمها منذ فترة طويلة ، فهتفت فرحة : بنيّ ليم ..
وترجل ليم عن حصانه ، وهو يقول : لقد قلتُ لكِ ، يا أمي ، سأذهب وأعود بعروسي .
ونظرت الأم إليه ، وقد اختفت فرحتها ، نعم ، لقد عاد ابنها ليم ، لكنه ليس ليم الذي تتمناه ، والتفتت بيلا إلى ليم ، وقالت : ليم .
ونظر ليم إليها ، وقال : هذه أمي ، أريد أن أفرحها .
فقالت بيلايا : لكن تذكر ، إنها لا تراني .
ومدّ ليم يديه إلى بيلايا ، وأنزلها عن الحصان ، وتقدم بها نحو أمه ، التي نظرت إليه صامتة ، ثم مدت يديها إليه ، وعانقته دامعة العينين ، وهي تقول بصوت تخنقه الدموع : ليم ، بنيّ ، المهم عندي أنك عدت .
وانسحب ليم من بين يدي أمه ، ثم التفت إلى بيلايا ، التي كانت تنظر إليه ، وأمه تعانقه باكية ، وقال : تفضلي ، هذا بيتك منذ الآن .
وأمام عيني الأم المذهولتين ، الغارقتين بالدموع ، تنحى ليم قليلاً ، ثم دخل البيت ، وكأنه يدخل وراء شخص يتقدمه في السير .





" 6 "
ــــــــــــــــــــ

في غرفتهما الصغيرة ، داخل البيت ، وقفت بيلايا تتلفت حولها ، ثم نظرت إلى ليم ، وقالت : الغرفة بحاجة إلى اعادة ترتيب .
فردّ ليم قائلاً : الغرفة غرفتك الآن ، ولكِ أن ترتبيها كما يحلو لكِ ، يا بيلايا .
ولاذت بيليا بالصمت ملياً ، ثم قالت : يبدو لي ، أن أمك لم تفرح بزواجنا .
وتطلع ليم إليها ، وقال : لو رأتكِ لفرحت .
ولاذت بيلايا بالصمت ، صحيح إنها لم تلمس لوماً في قول ليم ، لكنه ربما لم يكن راضياً تماماً ، ولكي تبعد أي وساوس عنها ، انصرفت إلى اعادة ترتيب الغرفة ، كما ينبغي أن تكون .
وعند المساء ، فتح باب الغرفة الصغيرة ، وأطلت الأم من فتحة الباب ، وتوقفت مذهولة ، وهي تتلفت حولها ، وترى الغرفة الصغيرة ، وقد أعيد ترتيبها ، كما لم ترها من قبل .
وتطلع ليم إلى أمه ، وقال : نعم أمي .
فالتفت أمه إليه ، وقالت : العشاء جاهز .
فردّ ليم قائلاً : سآتي في الحال .
وبدت الأم مترددة ، والقت نظرة سريعة على الغرفة ، ثم خرجت ، وهي تتساءل في نفسها متعجبة ، ترى من رتب الغرفة ، بهذه الطريقة الغريبة ؟
وجلست الأم أمام سفرة العشاء تنتظر ليم ، وزوجته ! لكن أين زوجته ؟ وجاء ليم وحده ، وجلس قبالة أمه ، ثم قال : لنأكل ، يا أمي .
ونظرت أمه إليه متسائلة ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فمدّ ليم يده ، وبدأ يأكل ، وهو يقول بصوت حاول أن يكون هادئاً : تقول إنها ليست جائعة .
وعلى غير عادته ، لم يأكل ليم سوى لقيمات قليلة ، فقالت له أمه : كل يا بني .
فنهض ، وقال : شبعت .
ثم اتجه إلى غرفته الصغيرة ، وهو يقول : تصبحين على خير ، يا أمي .
وألقت الأم لقمة الطعام من يدها ، وردت قائلة : تصبح على خير ، يا بنيّ .
ودخل ليم غرفته ، وأغلق الباب ، فنهضت الأم ، ورفعت سفرة الطعام ، التي لم تكد تمس ، والدموع تغرق عينيها الشائختين .



" 7 "
ــــــــــــــــــــ

مع الأيام ، لاحظت الأم ، بقلب كسير ، وعينين غارقتين بالدموع ، أن ابنها ليم صار يقضي معظم وقته ، في غرفته الصغيرة .
ترى مع من هو ، في تلك الغرفة ؟
هذا ما لا تعرفه ، وما حاولت أن تعرفه مراراً ، وإن كانت في داخلها ، متيقنة أنه وحده في غرفته ، مع زوجته الوهم .
وطالما حاولت أن تنصت إلى ما قد يدور في غرفته ، لعلها تسمع صوت أحد ، غير صوت ابنها ليم ، لكنها لم تسمع ، ولا حتى مرة واحدة ، أي صوت عدا صوت ليم ، يتحدث أحياناً وكأنما يحاور شخصاً معه في الغرفة ، وتهز الأم رأسها ، لقد جُنّ ليم .
وفي أوقات الطعام ، يخرج ليم وحده ، ويجلس قبالة أمه ، ويتناول طعامه معها صامتاً ، ثم يأخذ قليلاً من الطعام ، ويذهب به إلى غرفته ، وبعد قليل يخرج بالصحن ، وفيه بقايا الطعام .
وتتساءل الأم في نفسها ، ترى من أكل الطعام في الغرفة ، هي ! لكن من هي ؟ أم أن ليم هو من يأكل الطعام ، ليوهمها بأن زوجته ـ الوهم ، معه طول الوقت في داخل الغرفة .
وأحياناً ، عند المساء ، يُفتح باب الغرفة ، ويقف ليم كأنه ينتظر أحداً ليمرّ ، وتنظر أمه إليه ، فيقول بصوت هادىء : سنتجول قليلاً ، يا أمي ، ثم نعود ، نامي أنتِ إذا تأخرنا بعض الشيء .
ويفتح ليم الباب الخارجي ، وينتظر قليلاً ، وكأنه ينتظر أحداً ليمرّ ، وتتطلع أمه إليه مذهولة ، فتراه يخرج بهدوء ، ويغلق الباب وراءه .
ورغم تعبها من العمل طول النهار في البيت ، وشعورها بالنعاس ، لا تأوي إلى فراشها ، حتى يعود ليم من جولته ، فتقدم له طعامه ، الذي يأخذه إلى غرفته الصغيرة ، ويقول : سأتناول العشاء معها ، فأنت لابد أنك تناولتِ عشاءكِ ، يا أمي .
وقبل أن يغلق باب غرفته الصغيرة ، يضيف قائلاً : نامي أنتِ ، يا أمي ، وارتاحي .
وتأوي الأم إلى فراشها ، بعد أن يغلق ليم باب غرفته الصغيرة ، وغالباً ما تبقى مستيقظة ، حتى منتصف الليل ، تنصت متلهفة دون جدوى .




" 8 "
ــــــــــــــــــــ

قالت له أمه ، ذات مساء ، وهي تعد الطعام : البارحة رأيتُ ابنة خالك في المنام .
ورمق ليم أمه بنظرة سريعة ، لكنه لم يردّ عليها ، فقالت أمه : لابد أنها الآن شابة ناضجة ، إنها جميلة مثل جدتها .
ولأنه لم يردّ هذه المرة أيضاً ، تنهدت الأم ، وقالت كمن تحدث نفسها : لقد كبرت الآن ، وصارت في عمر الزواج ، ليتها تزورنا قريباً .
لقد ازداد حديث أمه ، في الفترة الأخيرة ، عن ابنة خاله ، حتى قال لها مرة بشكل قاطع : أمي ، لا تنسي ، أنني متزوج الآن .
والتفتت أمه إليه ، وقالت : هذا ما لا أستطيع أن أقوله لأحد ، يا بنيّ .
فقال ليم : المهم أنتِ ، يا أمي .
وحدقت أمه فيه ، وقالت : ليتني أتأكد ، أنا نفسي ، بأنّ لك زوجة فعلاً .
واقترب ليم من أمه ، وطوقها بذراعيه الشابين ، وقال : أمي ، ثقي بي .
فقالت أمه : إنني أثق بك ، يا بنيّ ، لكني أريد أن أراها بعينيّ هاتين .
وأطرق ليم لحظة ، ثم نظر إليها ، وقال : سترينها ، سترينها قريباً ، يا أمي .
وبعد العشاء ، تمدد ليم صامتاً ، مهموماً ، إلى جانب بيلايا ، في الغرفة الصغيرة ، وضوء القمر يتسلل إليهما من الكوة الصغيرة .
والتفتت بيلايا إليه ، وقالت : سمعتُ أمك تتحدث إليك مساء اليوم .
فقال ليم ، دون أن يلتفت إليها : نعم ، حدثتني مرة أخرى ، عن ابنة خالي .
وابتسمت بيلايا ، فتابع ليم قائلاً : وكالعادة قالت إنها شابة ، وقوية ، وجميلة ، وأنها كانت لتملا بيتنا الصغير الصامت بالحياة والأطفال .
وصمت ليم لحظة ، ثم قال : أمي تريد أن تراكِ .
ولاذت بيلايا بالصمت ، فقال ليم : إنها تحب الأطفال ، وتنتظر منا أن نهديها ولو طفلاً واحداً .
واعتدلت بيلايا ، وهمت أن تنهض ، فمدّ ليم يده ، وأمسك يدها ، فقالت : لا ..
وسحبها ليم برفق إليه ، وقال : أريد طفلاً منك ، تراه وتراك أمي ، وتفرح بكما .
فقالت بيلايا : لا .. لا .


" 9 "
ــــــــــــــــــــ

في منامه ، تلك الليلة ، سمع ليم زوجته بيلايا ، تناديه من الظلمة ، كما كانت تناديه فيما مضى : ليم .. ليم .. ليم .
وتململ في منامه ، هذه رؤيا ، نعم رؤيا وليس حقيقة ، وتجسدت زوجته بيلايا أمامه ، كما في الماضي ، لكن وجهها هذه المرة ، كان قاتماً حزيناً ، وقالت له : قلت لك لا ..
وبدأ وجهها ينطفىء ، ويتلاشى شيئاً فشيئاً ، حتى غاب تماماً ، ومعه تلاشى صوتهه الحزين ، وهي تقول : وداعاً ، يا ليم ، وداعاً .
وفتح ليم عينيه بصعوبة ، منتزعاً نفسه من ظلمات سباته العميق ، وخفق قلبه بشدة ، حين تلفت حوله ، ولم يجدها إلى جانبه ، كما كان يجدها كلّ يوم ، فاعتدل في فراشه هامساً : بيلايا .
لم تردّ بيلايا عليه ، وكيف تردّ وهي ليست موجودة ، لا في فراشه ، حيث تنام كلّ ليلة ، ولا في الغرفة الصغيرة ، ولا في أي مكان من البيت ؟
وسمعته أمه العجوز ، وهي راقدة في فراشها ، فهبت مسرعة إليه ، وإذا هو يدور وسط الغرفة ، كمن يبحث عن شيء عزيز فقده ، فبادرته قائلة : بنيّ ليم ، ما الأمر ؟
ونظر إليها مشدوهاً ، وقال : زوجتي .
وتمتمت الأم مذهولة : زوجتك !
فقال ليم : زوجتي التي أتيت بها إلى هنا .
واقتربت أمه منه ، وقالت : ليم ، بنيّ ، أنت لم تأتِ إلى هنا بأحد .
واندفع ليم خارجاً من الغرفة ، فخرجت أمه في أثره ، ودار في أرجاء البيت ، ودارت هي وراءه ، وسمعته يتمتم : بيلايا .. بيلايا .
وتوقف وسط البيت ، وعيناه تدوران في محجريهما ، فتقدمت منه أمه ، واحتضنته بذراعيها ، وهي تقول باكية : ليم .. بنيّ ليم .
فقال ليم ، كأنه يكلم نفسه : قالت لي لا ..قالت لي لا .. لا .. لكني لم أصغ ِ إليها ..
وصمت ليم برهة ، ثم قال : فقالت لي .. وداعاً .
وانسل ليم من بين ذراعيها ، ومضى متعثراً إلى الخارج ، وهو يقول بصوت متهدج : لابدّ أن أعود بها إلى البت وإلا .. متّ ُ .


" 10 "
ــــــــــــــــــــــ

من شروق الشمس ، حتى غروبها ، ولأيام عديدة ، راح ليم يجوس الغابة ، طولاً وعرضاً ، بحثاً عن زوجته بيلايا ، لكن دون جدوى .
وعند المساء ، غالباً ما يأوي إلى الشجرة الضخمة ، المطلة على الجدول الرقراق ، حيث التقى بيلايا لأول مرة ، على أمل أن يراها في منامه ، كما كان يراها في الأيام الخوالي .
لكنه ، وربما لشدة تعبه ، ما يكاد يتمدد ، حتى يستغرق في نوم عميق ، لا يفيق منه ، حتى صباح اليوم التالي ، دون أن يرى في منامه أيّ شيء .
وذات ليلة ، وقد رقد تحت الشجرة ، لم يستغرق في النوم ، إلا حوالي منتصف الليل ، ورأى في منامه ، بدل زوجته بيلايا ، الإلهة اينانا نفسها .
وهتف مذهولاً : مولاتي !
فنظرت الإلهة اينانا إليه ، ونادته قائلة : ليم .
وردّ ليم قائلاً : مولاتي .
فأشارت له ، وقالت : تعال .
واقترب ليم منها ، متوجساً قلقاً ، فقد عصاها ، حتى غضبت بيلايا منه ، وخرجت في الليل بعيداً عنه ، وعلى عكس ما توقع ، ابتسمت له ، وقالت : إنني أنتظرك في المعبد .
وهبّ ليم من مكانه ، وتلفت حوله مذهولاً ، الليل مازال ليلاً ، والقمر يطل عليه من أعالي السماء ، ويضيء الطريق المؤدي إلى اوروك ، كأنما يقول له : هيا ، تعال وسر على الطريق .
وعلى الفور ، اعتلى صهوة حصانه ، ومضى مسرعاً ، عبر أشجار الغابة إلى اوروك ، وعند الفجر ، دخل المدينة ، وقاد حصانه في شوارعها شبه الخالية ، حتى وصل معبد الإلهة اينانا .
وترجل ليم عن حصانه ، واندفع دخل المعبد ، ووقف خاشعاً أمام الإلهة اينانا ، ثم رفع عينيه إليها ، وخاطبها قائلاً : مولاتي العظيمة اينانا .
وحدقت الإلهة اينانا فيه لحظة ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقال ليم : مولاتي ، سامحيني ..
وقاطعته الإلهة اينانا قائلة : ليم ، اسمعني جيداً ..
وردّ ليم قائلاً : مولاتي .
فقالت الإلهة اينانا : بيلايا زوجتك ..
ولاذ ليم بالصمت ، فقالت الإلهة اينانا : اذهب إلى بيتك ، إنها تنتظرك الآن هناك .
وهمّ ليم أن يتكلم ، فقالت الإلهة اينانا : عد إليها ، لقد انتظرتك طويلاً ، وستفرح لعودتك .


" 11 "
ــــــــــــــــــــــ

على جناح السرعة ، وعبر شوارع اوروك ، التي بدأت تدب بها الحياة ، وتزدحم بالمارة ، طار ليم راكباً حصانه ، إلى بيته في طرف المدينة .
وما إن وصل إلى البيت ، حتى ترجل عن حصانه ، واندفع إلى الداخل ، وإذا أمه تستقبله ، على عكس ما توقع ، بوجه باش ، يطفح بالفرح .
وتلفت ليم حوله ، متسائلاً : أين هي ؟
وغالبت أمه ابتسامتها الفرحة ، وقالت : من هي ؟
فردّ ليم متردداً : زوجتي .
وأشارت أمه بعينيها الفرحتين ، إلى غرفته الصغيرة ، وهالت : ها هي قادمة .
وفتح باب الغرفة ، وأطلت بيلايا مشرقة ، تتطلع فرحة نحوه ، فقالت أمه : إنها تنتظرك منذ أيام .
وتقدم ليم منها ، متأملاً إياها في فرح ، فها هي أمه قد رأتها ، وبموافقة الإلهة اينانا ورضاها ، واقتربت الأم منه ، وقالت : منذ البداية ، قلت لك ، لا تصلح لك زوجة غير ابنة خالك .
والتفت ليم إلى أمه متسائلاً : ابنة خالي !
فردت أمه قائلة : نعم ، ابنة خالك ،بيلايا ، إنك لم ترها منذ أن كانت طفلة صغيرة ، وها هي قد نضجت ، وصارت شابة قوية وجميلة .
وضحكت وكأنها تزغرد ، وأضافت : وستملأ بيتنا الصامت بالحياة والأطفال .
والتفت ليم إلى بيلايا ، وأمسك يديها بين يديه ، ناظراً إليها ، فابتسمت بيلايا ، وغمزت له ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة .
وعندئذ مدت الأم يديها الفرحتين المحبتين ، ودفعتهما برفق إلى غرفتهما الصغيرة ، وهي تقول : بنيّ ، خذ زوجتك بيلايا ، إلى جنتك ، وعش حياتك كما تمنيتها أنتَ ، وكما تمنيتها لك .
ودخلا الغرفة الصغيرة ، وأغلقت الأم عليهما الباب ، وأخذ ليم بيلايا بين يديه ، فنظرت إليه ملياً ، وقالت : قد تتساءل لماذا عدتُ .
فرد ليم قائلاً : المهم أنكِ عدتِ .
ومدت ليم يدها ، وأخذت يده ، ووضتها فوق بطنها ، وهمست له فرحة : طفلنا .
عانقها ليم فرحا ، فقالت بيلايا : أمك تحب الأطفال .
وأخذ ليم وجهها بين كفيه ، وقال : ابنة خالي !
ابتسمت بيلايا ، وقالت : لا يصعب شيء على الإلهة العظيمة .. اينانا .


12 / 5 / 2015














رواية للأطفال







المعجزة







طلال حسن





شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأم

2 ـ دادو

3 ـ الكاهن

4 ـ الحطاب

5 ـ آما










" 1 "
ـــــــــــــــــــــ

عند شروق الشمس ، طرق باب البيت ، فألقت الأم ما بين يديها ، ونهضت متحاملة على نفسها ، وسارت ببطء عبر الفناء ، نحو الباب .
وكالعادة هتفت : من بالباب ؟
وجاها الردّ فوراً : أنا .
ودون أن تعرف بالضبط ، من هو " أنا " هذا ، فتحت الباب ، وإذا خادم كاهن معبد آشور في نينوى ، فقالت له : تفضل ، ادخل .
لكن الخادم لم يدخل ، وإنما قال لها : جئت إلى ابنك ، دادو .
فقالت الأم : دادو مازال نائماً .
وقال الخادم : الكاهن يريده .
ولاذت الأم بالصمت ، آه من الكاهن ، ومضى الخادم مبتعداً ، وهو يقول : فليذهب إلى المعبد ، ويقابل الكاهن ، حالما يستيقظ .
وأغلقت الأم الباب ، ومضت عبر الفناء إلى الداخل ، وراحت تعد طعام الفطور لابنها دادو ، لن تخبره بأن الكاهن يريده ، حتى ينتهي من فطوره ، وإلا فإنه كالعادة ، لن يأكل منه لقمة واحدة .
استيقظ دادو متثائباً ، ولم توقظه أمه عامدة ، فهي لا ترتاح إلى الكاهن ، رغم تعبدها ، وزيارة معبد الإله آشور ، بماسبة أو غير مناسبة .
وبعد أن اغتسل بماء بارد ، ربما ليطرد البقية الباقية من النوم في عينيه ، جلس إلى السفرة قبالة أمه ، وراح يتناول طعام الفطور .
ونظرت إليه أمه ، وقالت : تأخرت البارحة في العودة إلى البيت .
وردّ دادو ، دون أن يتوقف عن تناول الفطور : كنت في حديقة المعبد ، مع الكاهن ، آه كان الإله سين يطل علينا ساطعاً من بين الأشجار .
وقالت أمه : لو كانت لك زوجة ، لجلست معها في ضوء القمر ، هذا ما يفعله الشباب في عمرك ، لا أن يجلسوا مع كاهن عجوز .
ورمقها دادو بنظرة سريعة ، وقال : سمعت الباب يُطرق ، قبل أن أستيقظ .
وقاطعته أمه قائلة : لابدّ أن أزوجك .
وتساءل دادو : من طرق الباب ؟
لم تجبه أمه ، وإنما قالت : أكمل فطورك .
وبدل أن يكمل دادو فطوره ، أبعد عنه الطعام ، وقال : أخبريني أولاً .
ولاذت الأم بالصمت فترة ، ثم قالت بصوت يشي بانفعالها : خادم الكاهن .
وهبّ دادو من مكانه ، وهو يقول : لابدّ أن الكاهن يريدني لأم هام .
وقالت الأم محتجة : لكنك كنت معه ليلة البارحة على ضوء القمر .
ومضى دادو مسرعاً إلى الخارج ، وهو يقول : وهذا ما يثير قلقي .
ولحقت به أمه ، عبر فناء البيت ، إلى الباب الخارجي ، وقالت بنبرة مصالحة : لا تتأخر عن الغداء ، سأعد لك اليوم ما تحبه ، كبة برغل محشية .
لكن دادو مضى في طريقه ، دون أن يلتفت إليها ، أو يحفل بالكبة المحشية ، رغم أنه كان يحبها ، أكثر من أي شيء آخر في العالم .





" 2 "
ــــــــــــــــــــ
لم يجد دادو الكاهن العجوز في غرفته ، كما لم يجده في الحديقة ، ولا تحت الشجرة الضخمة ، التي قضيا تحتها ساعات من ليلة البارحة .
وتقف دادو مفكراً ، ترى أين الكاهن العجوز ؟ إنه قلما يغادر المعبد ، إنه هنا ينتظره ، في مكان ما ، مادام قد أرسل في طلبه ، آه .
وأسرع نحو حرم المعبد ، لابد أنه الآن بين يدي الإله العظيم آشور ، ودخل الحرم ، وسبقته عيناه المتلهفتان إلى تمثال الإله آشور ، عجباً ، لم يكن الكاهن العجوز بين يديه ، أين هو إذن ؟
ومن إحدى الزوايا المظلمة ، داخل حرم المعبد ، جاه صوت هادىء عميق واهن ، إنه الكاهن العجوز يخاطبه قائلاً : دادو .
والتفت دادو نحو مصدر الصوت ، ولمح في الظلام الكاهن العجوز يقف جامداً ، فأسرع إليه ، وقال : سيدي ، أرسلت خادمك في طلبي ، وأخشى أن أكون تأخرت عليك ، أرجو أن تكون بخير .
فمد الكاهن العجوز يده ، وتشبث بيد دادو ، وقال : اطمئن ، مازلت بخير .
وصمت لحظة ، ثم قال : الجو هنا حار ، خذني إلى الحديقة .وسار دادو ببطء ، ممسكاً بيد الكاهن العجوز ، وقال : أنت محق ، لنذهب إلى الحديقة .
وخرجا إلى الحديقة ، وتوقف الكاهن العجوز لحظة ، وتنفس بعمق ، ثم واصل سيره ، متشبثاً بيد دادو ، وهو يقول : دادو ، ما تحدثت به إليك ، خلال الأسابيع الأخيرة ، تأكدت منه تماماً .
وتوقف دادو ، وقال متسائلاً : الإله مردوخ !
فقال الكاهن العجوز : سيظهر بنفسه في معبد المدينة المقدسة .. نيبور .
ونظر دادو إليه صامتاً ، فقال : هذا ما أكدته لي جميع الاشارات الغامضة ، التي قرأتها وراء سطور الرقم الطينية المقدسة للأولين .
وسار الكاهن العجوز ببطء أشد ، ويده مازالت متشبثة بيد دادو ، وقال بصوت متعب : لنجلس تحت الشجرة ، لديّ ما أقوله لك .
وجلسا جنباً إلى جنب تحت الشجرة ، التي قضيا تحتها ساعات ليلة البارحة ، وقال الكاهن العجوز : والبارحة ، قبيل الفجر ، جاءني في المنام .
وتساءل دادو : من ؟ الإله آشور ؟
فرد الكاهن العجوز قائلاً : لا ، الإله مردوخ .
وقال دادو متعجباً : لكن الإله مردوخ في نيبور .
وقال الكاهن العجوز : صحيح إنني كاهن معبد آشور في نينوى ، لكن أمي من نيبور .
ولاذ دادو بالصمت لحظة ، ثم قال : أعتقد أنك قلت لي مرة ، إن أمك من اريدو .
وبشيء من الحزم ، ردّ الكاهن العجوز : كلا ، ليست من اريدو ، وإنما من نيبور .
وثانية لاذ دادو بالصمت ، فقال الكاهن العجوز : جاءني الإله مردوخ في المنام ، وقال لي بصوته الإلهي المذهل ، سأنزل من مقامي في السماء ، إلى معبدي في نيبور ، وأريدك أن تزورني حيث أنزل .
ونظر دادو إليه ، وقال : سيدي ، نيبور المقدسة ليست قريبة ، وأنت لم تعد صغيراً ، ومن الصعب أن تصل إلى هناك الآن .
فقال الكاهن العجوز : أنت محق ، يا بنيّ ، ولهذا أرسلت في طلبك .
وصمت لحظة ، ثم أضاف قائلاً : أرادني أن أكون في نيبور ، أنا شخصياً ، أو من لينوب عني ..
وشد على يد دادو ، وقال بصوت هادىء عميق : وأنت من سينوب عني ، يا دادو .



" 3 "
ــــــــــــــــــــ

فوجئت الأم ، بعد منتصف النهار ، بابنها دادو يعود إلى البيت ، وهو يجرّ وراءه حصاناً ، لا يبدو أنه قوي أو فتيّ ، لا يصلح ربما إلا للوقوف بهدوء ، أمام مذود مليء بالجت الطري .
وغضت الأم النظر عن الحصان ، وألقت نظرة سريعة على دادو ، وقالت : تأخرت عند الكاهن العجوز ، حتى بردت كبة البرغل .
وشدّ دادو الحصان إلى شجرة خارج البيت ، وقال : لا بأس ، يا أمي ، تعالي نأكل .
وحول كبة برغل كبيرة ، محشوة جيداً باللحم ، جلس دادو وأمه العجوز ، وقبل أن يبدآ بتناول الكبة ، قالت الأم : هذا حصان المعبد ، على ما أظن .
وكسر دادو الكبة ، وأخذ قطعة منها ، راح يلتهمها ، وهو يهزّ رأسه أن نعم ، فوضعت الأم لقمة في فمها الأدرد ، وقالت : لقد رأيته ، في المعبد ، عند وفاة أبيك ، قبل سنوات .
فقال نور ، وفمه مليء بالطعام : إنه حصان مبارك ، فهو يعيش في معبد الإله آشور .
وقالت الأم : أظن أن هذه هي المرة الأولى ، التي يخرج فيها من المعبد .
ودفع دادو قطعة أخرى من الكبة في فمه ، وقال : نعم ، خرج من معبد الإله آشور ، وسيأخذني إلى معبد الإله مردوخ في مدينة نيبور المقدسة .
وتوقفت اللقمة في فم الأم العجوز ، حتى كادت تختنق ، وصاحت : ماذا ! نيبور ؟
ونهض دادو ، وقال : كبة البرغل لذيذة جداً اليوم ، اعطيني كبة أخرى ، سآكلها وأنا في الطريق إلى لقاء الإله مردوخ ، في المدينة المقدسة .
وهبت الأم العجوز من مكانها ، وقالت بصوت منفعل : إن أباك ، رغم خفة عقله ، لم يُقدم على شيء كهذا ، في أي مرحلة من مراحل عمره .
ونظر دادو إلى أمه ، وقال بصوت هادىء : أمي ، الإله مردوخ ، ناداني من معبده ، في مدينة نيبور المقدسة ، ويجب أن أذهب .
فردت الأم قائلة : لكننا لا نعبد الإله مردوخ ، بل نعبد الإله آشور .
وقال دادو : الآلهة كلهم اخوة ، كما يقول الكاهن العجوز ، ونحن نعبدهم جميعاً .
وتوقفت الأم العجوز مذهولة ، وقالت بصوت تغرقه الدموع : لقد جُنّ دادو .
" 4 "
ــــــــــــــــــــ

رغم اعتراضات أمه العجوز ، وتوسلاتها المعززة بالدموع ، امتطى دادو حصان المعبد ، الذي قال عنه الكاهن ، بإنه مبارك من الإله آشور نفسه .
ولم ينسَ دادو ، قبل أن ينطلق نحو مدينة نيبور المقدسة ، لمقابلة الإله مردوخ ، أن يوصي أمه قائلاً : قولي للبستاني ، أن يرعى البستان ، حتى أعود .
وحثّ دادو حصانه برفق ، فهو ليس حصاناً عادياً ، وإنما حصان المعبد ، يرعاه ، ويحميه ، ويمنحه القوة والصبر ، الإله آشور نفسه .
وتطلع بعيداً ، حيث الآفاق المفتوحة ، التي مازال يغمرها ضوء النهار ، الطريق ممتدّ ، وصعب جداً ، والمسافة بين نينوى ونيبور طويلة جداً ، لكن ـ وهذا هو المهم ـ سيجد في نهايتها الإله العظيم مردوخ .
وعند اللقاء ، الذي لن ينساه عمره كله ، سيقول للإله مردوخ ، إنه جاء نيابة عن كاهن معبد آشور ، فهو عجوز ومتعب جداً ، ولن يتحمل مشاق السفر ، وهو تلميذه ، وبمثاة ابنه أيضاً .
وسيفرح الإله مردوخ ، فقد لبى كاهن معبد آشور نداءه ، صحيح إنه لم يأتِ بنفسه ، لكن لا بأس ، فهذا ما يستطيعه ، فهو إنسان .. إنسان عجوز .
وفوجىء دادو بغياب الشمس ، وحلول الظلام ، حتى لم يعد يتبين طريقه جيداً ، إنه لا يدري كيف مرّ الوقت بهذه السرعة ، فقد كان مستغرقاً في أحلامه ، ولقائه الذي لن يتكرر ، بالإله العظيم مردوخ .
وأوى إلى شجرة ضخمة ، ربط حصانه الأثير إليها ، وتمدد على مقربة منه ، وهراوته الضخمة ، التي ورثها عن أبيه ، في متناول يده ، تحسباً من مهاجمة وحش ضار ، جائع ، قد يفكر في العشاء به .
وتذكر دادو ، أنه لم يتناول طعام العشاء ، ففتح الصرة ، التي أعدتها له أمه ، آه يا لأمه الحبيبة ، فهي رغم زعلها ، لم تضع له في الصرة كبة واحدة ، بل وضعت له كبتين محشوتين باللحم .
وعلى الفور ، تناول دادو نصف كبة ، ونام ، نعم ، عليه أن يقتصد ، فهو من نينوى ، وأهل نينوى ، أحفاد الحكيم العظيم احيقار ، معروفون بحرصه ، وعدم تبذيرهم ، والتأني ، و ..
وأيقظته شمس الصباح ، بأشعتها الساطعة الدافئة ، فهبّ إلى حصانه الأثير ، الذي يحميه الإله آشور نفسه ، وانطلق نحو نيبور المقدسة .
لم يتوقف دادو طول النهار ، إلا ليشرب الماء من الغدران أو الآبار ، التي يصادفها على الطريق ، ناسياً أمر الطعام ، وهل من المعقول ، أن يتذكر الطعام ، حتى لو كان كبة برغل محشية ، وهو يفكر في الإله العظيم مردوخ ؟
وعند المساء ، أوى متعباً إلى شجرة ، فربط حصانه الأثير إليها ، وجاء بصرته ، وجلس تحت الشجرة ، ليتناول عشاءه ، وما إن فتح الصرة ، حتى أقبل رجلان ماشيان ، وتوقفا على مقربة منه .
ونظر أحدهما إلى الآخر ، بعد أن رمقا صرة الطعام بنظرة خاطفة جائعة ، وقال الأول : هذا مكان جيد ، لنقض ِ الليلة هنا .
فردّ الثاني ، وعيناه الجائعتان تلتهمان الكبة المحشية : أنا معك ، إنه مكان جيد .
ونظر دادو أليهما ، فقال الأول : سنبات هنا ، على مقربة منك ، إن لم تمانع .
وردّ دادو قائلاً : ولمَ أمانع ؟ إن مبيتكا هنا لن يكلفني شيئاً .
وجلس الرجلان على مسافة أمتار منه ، وأخرج كلّ منهما كسرة خبز من بين ثيابه ، وعينهما تحوم حول الكبة المحشية .
وغمز أحد الرجلين للآخر ، ثم التفت إلى دادو ، وقال : نحن رفاق سفر ، لنأكل معاً .
وعلى الفور ، ردّ دادو قائلاً : لا ، ليأكل كلّ منّا مما معه من طعام .
فقال الرجل الثاني : لكن ليس معنا نحن غير هذا الخبز اليابس .
ونهش دادو قطعة من الكبة المحشية ، وقال : إذن كُلا الخبز اليابس .
وصمت الرجلان نحنقين ، فتابع دادو قائلاً : نحن أهل نينوى ، نعمل دائماً بوصايا حكيمن العظيم .. أحيقار .
وصمت لحظة ، ثم تابع قائلاً : قال مخاطباً ابنه بالتبني نادين ، يا بنيّ نادين ، لا تشتهِ كبة غيرك ، مهما كانت محشية .
وهزّ الأول رأسه ، وقال الثاني : لا أظن أن احيقار ، قال هذه الحكمة ، رغم أنه من نينوى .
فقال دادو، وهو يجهز على نصف الكبة المحشية : ما أدراكَ ؟ أنت لست من نينوى .





" 5 "
ــــــــــــــــــــــ

أفاق دادو قبيل الفجر ، فلم يجد الرجلين ، وإن وجد حصانه الأثير في مكانه ، من يدري ، ربما لم يكن الرجلان لصين ، وحتى لو كانا كذلك ، فما كان بإمكانهما سرقته ، إنه حصان الإله آشور .
وأراد أن يفطر ، قبل أن يواصل سيره إلى المدينة المقدسة نيبور ، لمقابلة الإله مردوخ ، لكنه فوجىء بعدم وجود صرة الطعام ، يا للصين اللعينين ، لقد سرقا الصرة بما فيها من طعام ، ولاذا بالفرار .
وامتطى دادو الحصان ، وواصل طريقه نحو نيبور ، رغم أنه لم يتناول شيئاً من الطعام ، يللإله آشور ، لقد حمى حصانه من اللصوص ، لكنه لم يحمي كبته المحشية ، وتركه فريسة للجوع ، ترى ماذا يمكن أن يقول أحيقار في مثل هذين اللصين ؟
مهما يكن ، فلابدّ أن هناك حكمة وراء ذلك ، لقد جاء من أجل هذف سام ٍ ، سيذهب إلى نيبور ، ويقابل الإله العظيم مردوخ ، عند نوله من مقره في السماء ، حيث يعيش الآلهة خالدين .
وسار الحصان بثبات على الطريق ، على العكس مما توقعت أمه ، وربما الفضل في ذلك يعود إلى الإله مردوخ ، رغم أن الحصان ، ليس حصانه وإنما هو حصان الإله آشور ، مهما يكن فالآلهة اخوة ، يعون بعضهم البعض عند الحاجة .
وعند منتصف النهار ، لمح من بعيد رجلاً يقف قرب مرتف من التراب كأنه القبر ، وحثّ حصانه ، لعل الرجل المسكين بحاجة إلى مساعدة ، وما إن اقترب منه ، حتى عرف أنه أحد الرجلين اللذين استغلا فرصة نومه ، وسرقا كبة البرغل منه .
ورفع الرجل عينيه المذنبتين إلى دادو ، ثم أشار إلى القبر ، وقال : صاحبي .
وهمهم دادو ، دون أن يعلق بكلمة ، فتابع الرجل قائلاً :
أكل الكبة وحده ، فمات .
وهمز دادو الحصان برفق ، وواصل طريقه ، وهو يقول : إنها حكمة الإله آشور .
وتوقف الرجل ، في مكانه قرب القبر ، يتابع دادو ، على حصان المتعب حتى غاب .
وشعر دادو بالعطش ، عندما رأى بئراً على طرف الطريق ، فتوقف على مقربة منه ، وترجل عن الحصان ، ليرتاح قليلاً ويشرب بعض الماء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??