الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلة فى مصر من كتاب إيزابيل ألليندى - افروديت حكايات ووصفات و أفروديات أخرى - ترجمة رفعت عطفة

خالد محمد جوشن
محامى= سياسى = كاتب

(Khalid Goshan)

2023 / 7 / 13
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


صديقتى تابرا .، التى الهمتنى شخصية تامارا فى الخطة اللانهائية ، هى فى الحياة الحقيقية رحالة شجاعة لا تكل ولا تمل .

تضيع احيانا لاسابيع وحين أبدا اخاف التهام الغابة الامازونية لها ، او تدهورها فى الهمالايا . تصلنى منها صورة لقرية فى ايران ، جايا تلفت من كثرة اللمس .

حيث تظهر تابرا مرتدية ملابس غجرية ومغطاة بالساور والأطواق ومحاطة بالنساء العاريات والرجال المزوقين الذين يرفعون رماحا ، ولباسهم الوحيد قرعة تغطى اعضائهم .

تعود فتاتى برزم بحرية مليئة بالكنوز ، اقمشة من بلاد الانديز ، اقنعة من افريقيا ، سهام من بورينو ، وجماجم بشرية مشغولة من التبت .

ةتاتى معها على الاخص بأفكار مستلهمة لعملها ، تصميمات جواهرها احتفال حقيقى بقوة وجمال وشجاعة نساء فى اركان قصية من الارض ، نساء صحراء راجستان فى الهند ، أدغال غينيا الجديدة ، قرى امريكا الجنوبية الأصلية ، وجميعها يجمع بينها التطلع المشترك لأن تكون جميلة ومزينة .

هذه رسالتها إلى فى واحد من اسفارها عام 1990:
انا فى منطقة من مناطق مصر السفلى ، واحتاج لخريطة كى اعرف بدقة اين ... وصلت الى هنا من القاهرة .

لا شخصا قال لى بانها مهمة ، لكننى نسيت لماذا ، لا اعرف حتى مايمكن ان اجده فى هذا المكان ، ربما مغامرة صغيرة .

تعرفين اننى لا أسافر بطريقة علمية ، وافضل ان اهتدى بالحدس. انسى التواريخ والاسماء والاماكن ، فلا يكاد يبقى عندى منها اكثر من انطباع ضبابى عام ، الوان وأشكال تظهر فيما بعد فى تصميماتى .

اقترب منى فى المطار رجل شاب عارضا نفسه ليكون دليلى ، أسمر وسيم بابتسامة بهية وعينين سوداوين هائلتين . انه نموزج الرجل الذى يشدنى من اول نظرة .

فى مصر لا تستطيع امراة ان تسير وحدها دون دليل ، لايتركونها بسلام قبلت لانننى شعرت بالثقة تجاه هذا الشاب .

شرحت له عملى وطلبت منه ان ياخذنى الى حوانيت مهن يدوية ، حجارة كريمة وحبات لمجوهراتى .

قرر محمود حملى الى الفندق الوحيد الموجود فى البلدة ، لاترك حقائبى وياخذنى بعدها الى قرية نوبية صغيرة على حدود الصحراء هكذا فعلنا .

وسرعان ما وجدت نفسى فى سيارة مهلهلة يحيط بى أربعة من اقرباء دليلى .، انضموا الى الحملة .

انا واثقة من انكى لو كنتى مكانى لما وافقت ايزابيل .... خطر لى انها فكرة جيدة تماما ، لكن الوقت تاخر كى اتراجع ، وكان هؤلاء الرجال من اللطف والسعادة بممارسة لغتهم الانجليزية معى بحيث أننى قبلت دون تخوفات .

كانت رحلة مضنية لمحنا بعد ما يقارب الساعتين قرية بيضاء صغيرة تلمع فى صفحة الصحراء اللامتناهية .

اعلن محمود عن وصولنا الى بيت جده وقاد السيارة الى جدار مسور يمتد لاكثر من كيلو متر ، حسب ما وضح لى داخل الجدران الطينية الجافة المدهونة بالازرق والابيض ، عدة غرف .كان واضحا ان أسر كبيرة العدد تعيش هناك ، خرج حشد صغير لاستقبالنا والنظر الى بفضول : ابناء عمومة ، أعمام ، أخوة ، وأحفاد ، وأطفال كثيرون ... يا للخليط .

= أهلا بكى فى بيتنا ، انت الأجنبية ألأولى التى تطأ هذه الملكية قال محمود .

فكرت انه بقليل من الحظ يمكن أن تكون المغامرة التى رغبت بها ، احضرت لى النسوة المرتديات السواد ، المنكمشات فى البداية قليلا ، بلحا وفواكه أخرى فى صوان كبيرة ، ودعوننى إلى بيوتهن .

قادتنى صبية نحو صندوقها لترينى صداق عرسها المطرز كله باوراق وأزهار متداخلة والذى تاخرت سنوات فى صنعه ، ارادت أخرى ان ترينى ألة خياطتها ، وأخرى برادها الابيض الكبير الموضوع وسط الصالة ، أثمن ممتلكاتها .

كانت الشمس تسوط فى الخارج بلا رحمة ، لكن الجو بين جدران الطين رطب وموسيقى حزينة وحلوة تصل من مكان ما ، بينما أسمع أذان المسلمين من مسجد قريب .

لم تتوقف النسوة عن تفحص أساورى ومداعبة ذراعى متعجبات من بشرتى البيضاء ولون شعرى ، ولم تجد محاولتى لتوضيح انه مصبوغ :

لا هن يتكلمن الانكليزية ولا أنا أتكلم العربية ، أنا ايضا درست وشمهن وزينتهم الفضية ، بينما الرجال ينظرون إلى محدقين من مسافة محددة ، يتمتمون ويضحكون دون مواربة ، العيون كلها انغرزت فى حين أخرجت المرأة وطليت شفتى .

وضعونى فى غرفة بأثاث قاس مرصوف إزاء الجدران ، وصور زواج وأسلاف لونت يدويا ، قدمت لى النسوة الشاى والعصير وقدمنها الرجال ايضا ، لكنهن لم يجلسن معنا .

قال لى دليلى ان له اصدقاء متنفذين فى مصر : وأى شيىء قد أحتاجه يستطيع تأمينه لى . سعادتى هى الشيىء الوحيد المهم ويتمنى ان اكون مسرورة فى بلده وأحقق مغامرات كثرة
.
أليس هذا ما كنت ابحث عنه ؟

ضحك وضحك معه بقية الرجال ، شعرت بعينية تحرقانى ، صار الحر والتعب محسوسين ، وكنت بحاجة الى حمام .

اردت العودة الى القرية والفندق ، لكننى لا استطيع اهانة مضيفى ، نهضت بهدف توديعهم .

لاحظت ان الرجال يتبادلون اشارات لم أعرف فك رموزها .
وانتبهت الى ان النسوة انسحبن الواحدة تلو الاخرى بحشمة تاركات اياى وحيدة .

توجهت إلى الباب ، فى الخارج كان المساء قد هبط والجو بدأ يترطب ، قدرت ان الليل سيحل بعد نصف ساعة والطريق الى القرية طويل ، خرجت بخطوات واثقة مبعدة الرجال الذين يقفون امامى .

عندئذ لحق بى محمود وبقية الرجال إلى السيارة ، ثم وبعد نقاش دام برهة جلس اثنان فى المقعد الامامى وأجلسونى فى الخلفى محصورة بين الاثنين الاخرين ، شعرت بأنفاسهما على خدى وبساقيهما ملتصقتين بساقى وبيديهما تلامسان كتفى ومرفقى والاساور ، شبكت يدى فوق صدرى .

= حانت ساعة عودتى إلى الفندق – إلححت .

طبعا ، نعم ، رد محمود مبتسما دائما – لكننا نريد قبل ذلك ان نريك الكثبان.

هبط الليل بغته كان جانب الصحراء المضاء بالقمر خارقا ، الطريق مظلمة ونسير دون أضواء ، يشعلها السائق فقط حين يشك بوجود شاحنة اخرى أخرى قادمة باتجاهنا فيبهرها بها .

لم يكن يحافظ على خط سير مستقيم ، بل يذهب ذات اليمين وذات الشمال والشيىء ذاته تفعله السيارات النادرة التى تمر بنا .

انتابنى احساس اننا ندور فى حلقة واحدة ونمر مرات عدة بمجموعة النخيل والكثبان ذاتها ، لكننى لم اعد واثقة من شيىء ، إذ من السهل إضاعة الأتجاه فى الصحراء .

انا متعبة جدا يا محمود وأريد العودة الى الفندق - قلت بكل ما استطعت من عزيمة .

لكنك لم تأكلى شيئا بعد . ماذا ستقولين عن ضيافتنا ؟ علينا قبل ذلك أن نقدم إليك عشاء فى بيتنا كما هى العادة .

لا شكرا جزيلا

أنا مصر لأن أمى قضت المساء تعد لكى الطعام .

عنئذ انتبهت إلى اننا أمام الجدار الطينى ذاته المدهون بالزرق والابيض ، ونعبر البوابة ذاتها المضاءة الان بقنديلى زيت .

ما عدا ذلك كان ظلاما دامسا ، فالكهرباء قطعت فى القرية .

فى البعيد يرتعش نور قناديل اخرى أو صلائات صغير
توقفنا أمام احد البيوت هبطنا استطعت اخيرا ان امط ساقى المبللتين بالعرق على الرغم من هواء الليل الرطب، بدأ الرجال يتكلمون دفعة واحدة ، يتناقشون ويشيرون وكأنهم مستاؤون ، ولم أفهم كلمة واحدة مما كانوا يقولونه ، اخيرا اختفى ثلاثة منهم وأخذنى محمود من زراعى ، معتذرا عن انقطاع الكهرباء ، وقادنى عبر البيت فى الظلمة .

مررنا من غرفة الى غرفة ، اجتزنا ممرات بدت لى لا نهائية ، وأبواب تغلق خلفى .

كنت أسمع وقع خطوات وهمسا ولا أرى أحدا ، أتعثر أحيانا بالعتبات والأثاث ، فيسندنى مضيفى جيدا وان كان بشيىء من الملاحة .

وصلنا غرفة تضيئها بصعوبة شمعتان صغيرتان مستهلكتان ، فيها طالولة وكرسيان الوحد بجانب الاخر ، ويطفو فى الجو عبق بخور مختلط برائحة توابل الطعام .

أين بقية الاسرة ؟ سألت

أكلوا نحن وحدنا- قال محمود ساحبا الكرسى لى فشعرت بضغط الضيق .
على الطاولة عدد من الفسقيات من المحال تمييز محتواها تحت نور الشمعتين الباهت ، أخذ محمود صحنا وسكب لى .

ما هذا ؟

لحم

أى نوع من اللحم ؟

مسلوق

ما نوع اللحم المسلوق ؟

لمس معدته وأضلاعه بحركة مبهمة .

احتاج لرؤية ما أكل خاصة حين يكون لحما . احب تفحص كل شيىء بدقة قبل إدخاله فى فمى ، لكن ظلال الظلمة كانت شديدة .

اخذ محمود كميات من الفسقيات الاخرى ووصفها لى وهو يضعها فى صحنى ، سمك النيل ، جبن ماعز ، زيتون أسود ، تين جاف ، بيض ، بازنجان مقلى ، حمص ، لبن .

غسلت يدى بماء الليمون فى طاس كبير ، جففهما لى محمود بقطعة قماش ، كانت حركاته بطيئة كالمداعبة ، فسحبتهما بعنف زائد ، ربما اهنته .

جربت لقمة فأعجبنى ، كان لحم خروف جيد التتبيل ومن الطراوة بحيث يذوب فى فمى قبل مضغه.

كان الرجل يجلس قريبا منى يكاد وجهه يلامس وجهى ، يراقب اكلى ، ويعلق على عظمة جمالى .

ومرة اخرى اكد لى أنه صديقى فى بلده وعلى ان اعتبره خطيبى المصرى .
لم اقل شيئا ، لكن العرق كان يتصبب من ظهرى وركبتاى ترتعدان .

ومع ذلك كان الطعام رائعا والشاى الفاتر والحلو جدا مع اثر نعناع او ياسمين مرطبا .

اخذ محمود حبة زيتون ووضعها فى فمى ، كانت مرة قليلا ولكنها لذيذة ، بعدها وضع جبنا وحمصا على قطعة خبز عربى ، أكل منها قليلا ، ثم أعطاها لى وأبتسم بسعادة حين أخذتها منه .

كانت رائحة الخبز الطازج الذى ما يزال ساخنا ، المختلطة برائحة الطعام والشمعتين والبخور من الكثافة بحيث أغمضت عينى .

شعرت بالاختناق ، جميع حواسى مستنفرة . كان يهمس بمناجاة يقارننى فيها بقمر ونجوم الصحراء ، قائلا لى بان بشرتى عاج لم ير مثل نعومتها وبياضها قط .

على ان أعود إلى المدينة ...

هل لك خطيب أو زوج فى أمريكا ؟

بلى عندى خطيب غيور جدا .

وكيف لا ؟ لو كنت انا لما سمحت لأحد أن يضع عينيه عليكى ، ولعشت لحبك وإرضائك , لماذا يتركك هذا الخطيب تسافرين وحيدة ؟

صار الوقت متاخرا يا محمود ، أرجوك أعدنى الى فندقى .

جربى هذه الخضروات ، فهى من بستان أمى ومطبوخه بيدها .

كان طبيخ باذنجان ميزت فيه رائحة جوز الطيب والقرفة وخليط غريب .

سكبت معلقة اخرى وقليلا من اللحم وانا أقيس نفد صبرى لأول مرة

ما من أحد يعرف مكانى ، ما من أحد رانى أخرج مع هؤلاء الرجال باتجاه الصحراء ، وقد اختفى دون ان اترك اثرا .

صب لى محمود مزيدا من الشاى ، كان صوت السائل المنسكب فى الكائس نقيا كعلامات الة وترية فى الصمت الهائل للبيت المظلم , انتهت شمعة وسط غمر من الشمع السائل .

هل كان يوما طيبا ؟ يوما لاينسى ؟ هل سعدتى ؟ اراد مضيفى ان يعرف ، هامسا فى أذنى دائما .

نعم شكرا ، لكن صار على الان أن أذهب .

حاولت ان أنهض فأوقفنى بما يشبه العناق ، لفنى من جديد بصوته الرخيم وهو يصف جمالى ، ويقارننى بحوريات الجنة وبنجمات سينمائيات ، مؤكدا لى انه لا يتعب أبدا من النظر الى ، ويستطيع أن يقضى العمر مذهولا أمام أمرأة مثلى .

كان يسخر منى كما أظن ، لكنى أردت تصديقه ، فقد كانت كلماته بلسما ، ولا أحد قالها لى قبله .

أستمر يتكلم ويتكلم بالنبرة ذاتها دائما .

ألم اكن أريده أن يكون ان يكون سعيدا أيضا ؟

وان يكون اليوم بالنسبة اليه يوما لا ينسى أيضا ؟

ارتاحت يده على عنقى فانتابتنى قشعريرة طويلة .

اصر محمود على ان العشاء لم ينته بعد فما زال هناك الحلوى ، وبرقة متناهية زلق قطعة حلوى بالفستق الحلبى والعسل فى فمى ، دون ان يتوقف عن مداعبة عنقى ، أطواقى وأقراطى ، ويهمس مديحا بلغته الأنكليزية العسرة ، جربى هذه الحلوى التركية ، كانت ناعمة عذبة بعطر الورد .

ألا ترغبين بالتدخين ؟ قليلا من الحشيش مثلا ؟ ترنح لهب الشمعة الثانية لحظات ثم أنطفا كليا .

رأيت القمر من النافذة يضىء ليل مصر . أخذت قطعة حلوى اخرى ، وعضضتها بشهوانية ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل