الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول الفاشية

ارام كيوان

2023 / 7 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


لا يكفي حصر الفاشية بنظريات التفاوت العرقي والطبيعي، أوروبا عرفت الإيمان بالتفاوت العرقي والتفاوت "الطبيعي" قبل الفاشية -بمختلف أشكالها- ويظهر ذلك بوضوح في قصيدة "عبئ الرجل الأبيض"، بهذا الصدد يقول جورج لوكاتش: "هتلر هو عصارة قرن من اللا عقل". وإذا كان الموضوع مجرد ديكتاتورية وعنف فالرأسمالية والحداثة لم تريا النور بدون الديكتاتوريات الفردية والعنف منذ كرومويل والثورة الفرنسية وغاريبالدي وبسمارك.

الفاشية بتعريفها الكلاسيكي (والّذي ما زال يحافظ على راهنيته) هي نوع خاص من الديكتاتورية الدمويّة المبنية على تعبئة جماهيرية واسعة تقودها الطبقات الوسطى وتظهر الفاشية كاستجابة لأزمة الرأسمالية، وبتوصيف سريع تتحول الدّولة إلى مجلس إدارة الرأسمالية المأزومة وتعسكرها.

في الواقع فإن من يريد تحديد مفهوم الفاشية يجد أن النظرية الكلاسيكية قد غطت معظم جوانب الفاشية وأساسها صحيح وكل ما تبقى هو معاينة تفاعل الحركات الفاشية عندما لا تتمكن من تحطيم آليات الديمقراطية والقدرة على التفريق (وإن كان بحاجة إلى مجهر) بين الحركات الفاشية واليمين الشعبوي، وإن كان يميني مرشحًا للتطور إلى شكلٍ من أشكال الفاشية وبالطبع لا علاقة بين تربط الوطنية والقومية بالفاشية.

لا تظهر الفاشية إلّا في أزمة الرأسمالية ولا تغدو الحل الوحيد إلّا في ظروف معينة من الأزمة العنيفة والعميقة؛ هذا كان حال الحركات الفاشية في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا وغيرها؛ ولا تكون الرأسمالية عدوًا للقوى الفاشية الصاعدة غير في حدود الضريبة الكلامية حيث تقترح الفاشية أسلوبًا جديدًا لإدارة الرأسمالية بدون المس بالملكية الخاصة وعلاقات الإنتاج الرأسمالية والمجتمع الطبقي بل تزيد عمق التراتبية في المجتمع بإدخالها التفاوت الطبيعي بين أقوياء وضعاف أو أعراق ضمن التراتبية القائمة؛ ومن عمق الأزمة تكون الطبقة العاملة في حالة تشظي فتتبنى الشعارات الفاشية وتستبدل "الطبقة" ب"الأمة".

يقسم سمير أمين الفاشية إلى 4 أنواع:
1. فاشية تسعى للهيمنة: الحالة الهتلرية والفاشية اليابانية.
2. فاشية من الدرجة الثانية: إيطاليا موسوليني وفاشية سالازار وفرانكو .
3. فاشية المهزومين: فرنسا فيشي وبلجيكا ليون ديغريل.
4. فاشية المجتمعات التابعة في أوروبا الشرقية: هنغاريا هورثي ورومانيا أنطونيسكو. - (أنا لا أتفق مع الراحل سمير أمين في تعريفها أوروبا الشرقية كمجتمعات تابعة، اقتصادها كان محجمًا بعد انهيار الإمبراطورية النماسية-المجرية ولكن لم يكن تابعًا)

تتميز الظاهرة الفاشية بتصور متعدد وفق الحالة يتشارك في سمو "الأمة" على غيرها من الأمم ويتنوع فقد يجنح إلى التفاوت العرقي والسعي لإبادة الأعراق الدنيا كما فعلت ألمانيا الهتلرية؛ ولكن تتشارك كل الفاشيات بالنزوع إلى التفشخر والتبجح القومي المثقل بالتاريخ كتبجحات موسوليني عن إعادة الدّولة الرومانية.

الفاشية تبدأ كظاهرة ثقافية تتبناها فئات اجتماعية عديدة وليسَ بالضرورة طبقة بعينها إنما كتلة تاريخيّة تسعى لإدارة الدّولة الرأسمالية بطرق عسكرية بدون كوابح؛ فتخوض الفاشية أولًا حرب مواقع تسيطر فيه على الوعي الجمعي للمواطنين ومن ثم تخوض صراعًا على سلطة الدّولة والفاشية تاريخيًا مثلَت الجوانب الثاني على أزمة الرأسمالية، فمن جهة كانت الاشتراكية تسعى لتجاوز المجتمع الرأسمالي بقيادة الطبقة العاملة وغالبًا كان فشل ثورات اشتراكية مسرعًا للفاشية في إيطاليا على سبيل المثال فشل تمرد المجالس العمالية ما أدى لتشظي الطبقة العاملة ولاحقًا تبنى ملاك الأراضي الفكرة الفاشية لموسوليني وتمت عملية تعبئة جماهيرية واسعة وعسكرة للدولة مستندة إلى مجد الأمة وإعادة الإمبراطورية الرومانية.

أي أن أهم سمات الفاشية:
- التمكن من دولة يسبقها مرحلة نفوذٍ ثقافي لإحلال هيمنة تامة تحميها رأسمالية معسكرة وتبقى الدّولة هي الهدف النهائي بالنسبة لكل الحركات الفاشية.
- الفاشية ليسَت طبقة بعينها إنما كتلة تاريخية مؤلفة من عدة فئات طبقية وتيارات سياسيّة تعتمد تعبئة جماهيرية واسعة باسم الدين أو الأمة.
- أزمة عنيفة للرأسمالية هي شرط الفاشية.

يولي جورج لوكاتش في مؤلفه الأهم {تحطيم العقل} الحالة الثقافية الّتي قادت إلى الفاشية الهتلرية، والتسمية المشهورة لتلك الحالة "اللا عقل" في مؤلفه ناقش أن شكل النظام السياسي الّذي كان قائمًا في ألمانيا أدى إلى تطور معطوب ووسم الحالة الثقافية لألمانيا حتى صعود الهتلرية ب"اللا عقل أو اللا عقلانية" وفيه يستعرض أفكار العديد من الفلاسفة من شِلنغ إلى نيتشه، والثاني حول اللا عقلانية الحديثة من دلتاي إلى توينبي. وفي إيطاليا رأى غرامشي في بندتو كروتشه كالمثقف المسوغ للفاشية.

يهمني الجانب الثقافي في الفاشية كون الفاشية وإن كانت حركة حداثية تستحضر الماضي ولكنها عدو للحداثة أو بتوصيف مخفف أكثر جوانب الحداثة قتامة، قامت الحداثة على: النهضة الأوروبية، الثورة العلمية، الثورة الفلسفية وهي مرحلة صعود البرجوازية حتى ثورات 1848 وما تلاها كان تراجع البرجوازية إلى الرجعية والتفاهة والعنصرية. وهذا ما دفع لوكاتش لوصف الهتلرية بعصارة ما بقارب القرن من اللا عقلانية، حيث تشكل الفاشية قطيعة مع كل هذه المفاهيم وترفضها جملة وتفصيلًا؛ وتستبدلها ب"اللا عقلانية".

لا تكمن المشكلة في خطاب الكراهية بعدم احترام الثقافات الأخرى بل ترسيخ تخلف تلك الثقافات، وهذا يساهم فيه اليسار الليبرالي الأوروبي؛ عندما يقرون بمشروعية وجود تلك الثقافات إلى جانب الثقافة الأوروبية فالرسالة تكون وجود ثقافة أوروبية متنوعة وثقافات أخرى أحادية متخلفة.

في الحالات الّتي لا تتمكن فيها الفاشية من سلطة الدّولة تمامًا تجنح الكتلة الفاشية إلى "لبرلة" السياسة والاقتصاد بمعنى تفكيك أجهزة الرقابة تدريجيًا وتشكيل وعي جمعي عنصري ذى كبرياء قومية منتفخة الأوداج - في اعتقادي أن هذه هي شعرة معاوية الّتي تفصل اليمين الشعبوي الّذي يوافق على الدّولة العلمانية الديمقراطية ولو بتعديل شكلها ويكون مرشحًا كحليف مستقبلي ضمن الكتلة الفاشية وبين الفاشية التامة الّتي تغير أسلوب إدارة الدّولة إلى رأسمالية معسكرة.

في مجتمعات الأطراف التابعة تأخذ الفاشية شكلًا مختلفًا عن البلدان الرأسمالية المتقدمة؛ وهنا تحديدًا نقصد الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا الجنوبية والّتي كانت في موقع تبع للرأسمالية الاحتكارية المعممة؛ وفي الشرق نأتي على ذكر حركات الإسلام السياسي منذ تشكل حركة الإخوان بقيادة حسن البنا كنتيجة لمحدودية الإصلاح الديني وفشل القيادات الليبرالية بزعامة الوفد من تحقيق طموحات الشعب المصري فظهرت حركتان ذات طابع فاشي رافض للحداثة هما مصر الفتاة وحركة الإخوان المسلمين.

المؤسس حسن البنا لم يخفي إعجابه ب"السنيور موسوليني" وفي بداياته تطلع البنا إلى ديكتاتورية ملكية تحظر كل مظاهر الحداثة الّتي كانت تنمو في مصر، وأكد أسبقية الإسلام في "العسكرة" (الّتي ستتحول لاحقًا إلى "الحياة الجندية" مع سيد قطب) على الفاشية؛ ومع سيد قطب اكتمل التصور السلطوي الشامل للجماعة؛ بفكرتين هما: "التكفير والعصبة المؤمنة" مؤداها أن كلمة دين أصلًا تعني نظام الحكم الّذي تبنيه عصبة مؤمنة تحكم الإسلام في كل أمور الحياة بامتلاك معتنقي هذا الرأي للسلطة. وتتشارك حركة الإخوان مع الحركات الفاشية بالطموح الإمبراطوري الّذي يقطع مع كل أفكار وقيّم الحداثة.

ولكن يلاحظ في الفرق بين الفاشيتين أن حركة الإخوان وحركات الإسلام السياسي ككل تصورها للعالم مبنيٌ على تفوق ديني وليس تصور عرقي نظرًا لتفاوت تطور المجتمعات. يقول حسن البنا:
"يا قومنا إن الأمم كلها تستعد وتتكون وتتلمس بذلك الوسائل وقد وهب لكم الله من دينكم من التربية والتكوين ما لم يهبه لغيركم فاعملوا على تربية أنفسكم وتقويم أرواحكم وتوحيد صفوفكم فإن لم يكن ذلك لتكونوا مجاهدين في سبيل الله يوم تحين الساعة لذلك الجهاد فليكن لأن هذه الروح خير ماينفعكم في حياتكم اليومية كذا يريد الإسلام أن تكونوا فإن أبيتم إلا تقليد أوربا حتى في هذا وتنقلوا بضاعتكم من حانوت غيركم كما يقول السنيور موسوليني". (السنيور موسوليني يشرح مبدأ من مبادئ الإسلام - حسن البنا).

رغم التصورات والمشروع الفاشي لجماعة الإخوان إلّا أنها كانت أتفه وأقل من أن تحقق شيئًا منه على أرض الواقع.

إمكانية الفاشية ما تزال قائمة في العالم المعاصر؛ ولكن الفاشية كتكتل تاريخي وشكل الدّولة الّذي وصفناه سابقًا لا يتم إحلاله بمجرد صعود حزب يميني شعبوي إلى السلطة بل تعتبر أحزاب اليمين الشعبوي مقدمة للفاشية وجزءً من الكتلة المشكلة للفاشية في مرحلة لاحقة بما يفعله اليمين من إتلافٍ للوعي وخطاب كراهية جذريّ؛ وتكون الفاشية التامة إستجابة تاريخية لشرط تاريخي تدخل فيه الدّولة والمجتمع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استمرار التظاهرات الطلابية بالجامعات الأميركية ضد حرب غزّة|


.. نجم كونغ فو تركي مهدد بمستقبله بسبب رفع علم فلسطين بعد عقوبا




.. أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يبحث تطورات الأوضاع


.. هدنة غزة على ميزان -الجنائية الدولية-




.. تعيينات مرتقبة في القيادة العسكرية الإسرائيلية