الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حجية الحكم القضائي ونسبية أثره

سالم روضان الموسوي

2023 / 7 / 15
دراسات وابحاث قانونية


ان الحكم القضائي سواء كان في القضاء الاعتيادي أو الدستوري أو الإداري، لابد وان يكون فاصل في موضوع النزاع المعروض عليه، ومتى ما أصبح هذا الحكم بات ونهائي لا يقبل ما يدحضه إطلاقاً لأنه يصبح حجة على الناس كافة، ويحتج به من ينتفع منه على من ينازعه من الخصوم، ويشير شراح قانون المرافعات إلى أن لحظة النطق بالحكم هي لحظة الولادة الحقيقية له، لان الحكم المكتوب ما هو إلا مشروع حكم سيتم النطق به وعند النطق يصبح الحكم حقا لأحد الخصمين وفي لحظة النطق بالحكم يخرج النزاع عن ولاية المحكمة التي أصدرته ويحوز حجية الشيء المحكوم به[1]. إلا ان اثر هذا الحكم يختلف بين حكمٍ وآخر، بمعنى ان ليس كل حكم قضائي يسري على الجميع، ولا كل حكم قضائي يقف عند حدود اطراف الدعوى التي صدر بموجبها، وهذا يدلنا على أساس التفريق بين حجية الحكم ونسبية اثره عند التنفيذ أو التطبيق وسأعرض له على وفق الاتي :

أولاً : ان مفهوم حجية الحكم القضائي الحائز لحجية الأمر المقضي به، هو وان يكون فاصل في موضوع النزاع المعروض على القضاء، ومتى ما أصبح هذا الحكم بات ونهائي لا يقبل ما يدحضه إطلاقا لأنه يصبح حجة على الناس كافة ويحتج به من ينتفع منه على من ينازعه من الخصوم[2]، ومعنى أصبح بات بانه استنفذ كافة طرق الطعن، ومع ذلك فان مفهوم او مصطلح حجية الحكم القضائي او ما يسمى بحجية الشيء المحكوم به تعددت مذاهب فقهاء وشراح القانون في تكييفه، منهم من قال ان حجية الشيء المحكوم به تعد قاعدة قانونية موضوعية، لان المشرع عندما يقرر حجية للحكم القضائي فهو مثلما يقرر قاعدة موضوعية فانه يقرر الحقيقة التي أثبتها الحكم القضائي وتعتبر هي الحقيقة الواقعية وهذا يقود إلى اعتبار حجية الحكم القضائي بمثابة قاعدة قانونية لان حجية هذا الحكم لا تدحض[3]، بينما يرى جانب آخر من الفقه إن حجية الحكم القضائي هي قرينة قانونية قاطعة لا تهدم ولا يثبت عكسها لأنها تقوم على اعتبارات تتصل بالمصلحة العامة فيبقى الحكم قرينة قاطعة على ما قضيَّ به ولو اقر المحكوم له بان الحكم خاطئ[4]، لكن لا يعتبر الحكم القضائي قرينة قانونية، إلا بنص قانوني صريح وهذا سبب تسميتها بالقرينة القانونية على عكس القرينة القضائية التي يستنبطها القاضي من الوقائع وتكون قابلة لإثبات العكس[5]، وتعتبر حجية الحكم هي الحصانة القانونية التي تحيط به من لحظة صدوره، وفيما يتعلق بالقانون العراقي فانه جعل حجية الأحكام من القرائن القانونية القاطعة حيث افرد لها قانون الإثبات رقم 107 لسنة 1979 الفرع الثالث من الفصل الخامس في المواد (105، 106، 107) لكن اشترط القانون عدة شروط لاعتبار الحكم القضائي ذو حجية قانونية وعلى وفق الاتي:

1. اتحاد أطراف الدعوى وعدم تغير صفاتهم وهذا بالنسبة للأحكام الفاصلة في الدعاوى التي يكون أطرافها من أشخاص القانون الخاص وليس العام لان هذه الأحكام لا يتعدى أثرها إلى الغير وإنما فقط بين أطراف الخصومة في الدعوى[6]

2. اتحاد الموضوع ويقصد به عدم تكرار المطالبة في حال تطابق الموضوع المطالب به مع الموضوع الذي يتحد معه والذي سبق وان فصل فيه القضاء

3. اتحاد سبب إقامة الدعوى مع سبب إقامة دعوى آخر سبق الفصل فيها[7]

ثانياً: أما اذا كان الحكم في دعوى ذات طبيعة عينية مثل الطعن بعدم الدستورية التي يعتبر القانون محل الطعن هو الخصم فيها، بمعنى إن محلها النظر في القانون المطعون فيه وليس في إخلال المدعى عليه بالتزام كان قد التزم به وهذا يمنع تنفيذه عبر الطرق الاعتيادية لتنفيذ الأحكام القضائية وأشارت إلى ذلك المحكمة الدستورية العليا في مصر في قرارها الصادر في الدعوى (1 لسنة 8 قضائية دستورية مشتركة مع الدعوى 2 لسنة 6 قضائية دستورية) [8] ، وصفة العينية في الدعوى الدستورية تمنحها امتياز يتعلق بعموميتها وان أثرها يتعدى إطراف الدعوى، وإنما لكل ذي مصلحة أن يتمسك بذلك الحكم، وعرفنا إن ما يقصد بالعينية هو اعتبار القانون المطعون فيه هو الخصم والدعوى موجه ضده، لذلك فان الحكم بعدم دستوريته يمنع من إثارة الدفع مرة أخرى حتى لو أثير في دعوى أخرى ومن أشخاص غير أطراف الدعوى لان الحكم الدستوري ملزم للجميع[9]، ومثل هذا الوصف ينطبق على الحكم الصادر عن القضاء الإداري المتعلق بإلغاء القرارات ذات الصبغة العمومية، وتعتبر حجة بمواجهة الكافة من حيث الأثر، ويرى شراح القانون ان الحكمة من هذه الحجية بان دعوى الغاء الأوامر الإدارية العمومية هي دعوى عينية موضوعية تخاصم القرار الإداري المطعون فيه لعدم مشروعيته[10]

ثالثاً: أما عن أثار هذه الأحكام التي حازت على حجية الشيء المحكوم به فان الأصل ان لا يتعدى اطراف الدعوى، لان من شروط حيازة الحكم القضائي لحجية الأمر المقضي به هو اتحاد الخصوم وعلى وفق ما ورد في المادة (105) من قانون الإثبات رقم 107 لسنة 1979 المعدل[11]، ويرى شراح القانون ان ليس من العدل في شيء ان نلزم شخصاً ما بحكم لم يكن ممثلا في الدعوى التي صدر بموجبها ولم يكن خصماً فيها ونكون قد حرمناه من الدفاع عن حقوقه والتي تعد من أساسيات التقاضي[12]، بينما وجدنا على العكس من ذلك في دعاوى الغاء الأوامر الإدارية ذات الصفة العمومية ودعاوى الطعن بعدم دستورية القوانين، وحتى هذا الأمر لم يكن بشكل مطلق بل في قضاء المحكمة العليا في أمريكا وهي المحكمة الدستورية العليا، نجد ان اثر حجية أحكام المحكمة العليا في أمريكا بأنها ذات اثر نسبي[13]، بحيث لا يلزم بهذا الحكم سوى أطراف العلاقة لأنها لا تقضي بإلغاء القانون المطعون فيه وإنما يبقى القانون المحكوم بعدم دستوريته قائماً لكن تمتنع المحاكم والسلطات عن تطبيقه ومن الممكن اختلاف الوضع في دعوى أخرى رغم الاستناد إلى نفس القانون حتى لو كان صادر من ذات المحكمة لان مهمة المحكمة وضع النص الدستوري بجوار النص المطعون فيه بعدم الدستورية لبيان ما بينهم من تعارض ويتم تغليب النص الدستوري وإهمال النص القانوني في حالة ثبوت مخالفته للدستور إلا إن الواقع العملي في الولايات المتحدة الأمريكية يشير إلى المحاكم تمتنع عن تطبيق القانون المحكوم بعدم دستوريته لان القضاء الأمريكي يأخذ بالسوابق القضائية والمحاكم الأدنى درجة تحترم أحكام المحاكم الأعلى درجة والمحكمة العليا في أمريكا تعتبر أعلى هيئة قضائية في الولايات المتحدة الأمريكية[14].

رابعاً: ما هو المعيار لمعرفة الأثر المطلق والأثر النسبي للحكم القضائي؟: بعدما وجدنا ان الفرق بين الحكم القضائي في الدعاوى العينية التي يكون القانون أو الأمر الإداري الخصم فيها وبين الدعاوى الشخصية التي يكون أشخاص القانون الخاص خصماً فيها، فما هو المعيار الذي نعتمده هل نعتمد نوع المحكمة التي تقضي بالنزاع وتصدر الحكم أي جهة إصدار الحكم ام نوع الدعوى التي صدر فيها الحكم (موضوع الحكم ام اطراف الخصومة في الدعوى التي صدر فيها الحكم لذلك لابد من النظر في الأمر على وفق الاتي:

1. اذا اعتمدنا جهة إصدار الحكم فان محاكم القضاء الاعتيادي بلا ادنى شك يكون اثر حجية أحكامها نسبي وينحصر بأطراف الخصومة والممثلين فيها اختصامياً، أما في القضاء الدستوري او الإداري فان تلك المحاكم تنظر في عدة أنواع من الدعوى مثال ذلك القضاء الدستوري في العراق فانه ينطر في نوعين من الدعاوى الدستوري الأولى الطعن بعدم الدستورية والأخر القرار التفسيري وعلى وفق اختصاصاتها في الفقرتين ( أولا وثانياً) من المادة 93 من الدستور النافذ التي جاء فيها الاتي (تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي: أولاً:- الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة. ثانياً:- تفسير نصوص الدستور وهم) بينما في سائر الاختصاصات فإنها تكون بمثابة محكمة موضوع تفصل في قضايا بين طرفين متخاصمين من اجل تطبيق القوانين وليس من اجل الطعن بعدم دستورية النصوص القانونية[15]، ومثال ذلك الدعاوى التي نظرها المحكمة الاتحادية بإلغاء أوامر إدارية بترشيح موظف لإشغال وظيفة معينة فان تلك الدعوى كانت استناداً الى صلاحياتها في الفقرة ثالثاً من المادة (93) من الدستور فهذه دعوى شخصية وليست دعوى عينية او وصفها بانها دعوى دستورية، لان تعريف الدعوى الدستورية مثلما اقره فقه القانون الدستوري بانه دعوى مخاصمة القانون المخالف للدستور بدعوى أصلية يرفعها الطاعن أمام القضاء وبعد فحص القانون المطعون بدستوريته تحكم المحكمة إما الحكم بعدم الدستورية أو رد الدعوى، كما تعرف بأنها الوسيلة الاختيارية التي خولها القانون لصاحب الحق في اللجوء إلى القضاء الدستوري لإيقاع الجزاء الذي يقرره الدستور على إخلال البرلمان بالواجب الذي تنطوي عليه القاعدة الدستورية وتهدف إلى رفع الاختلاف بين ما أتاه مجلس النواب (من تشريع مخالف للدستور) وما كان عليه أن يأتي به (من إصدار قوانين تحترم الدستور)[16]

2. كذلك الحال في القضاء الإداري فانه أحيانا ينظر في الفصل بنزاع في دعوى ذات طبيعة شخصية مثل مقاضاة احد الموظفين للإدارة لأنها لم تمنحه الترفيع او الترقية، فان الحكم الصادر هو ذو اثر نسبي لا يتعدى اطراف الخصومة، بينما اذا ما قضت بإلغاء امر إداري ذو طبيعة عمومية مثال ذلك الغاء امر صادر عن الإدارة بقطع طريق معين او حجب الإنترنيت فان الحكم الصادر بالدعوى يتعدى اثره الأطراف الذين كانوا ممثلين في الدعوى، إلى كل من له مصلحة في الغاء ذلك الأمر الإداري حتى لو لم يكونوا ممثلين فيها، ويشير بهذا الصدد احد شراح القانون بان ليس من المنطق والمعقول ان يلغى ذلك الامر العام بالنسبة لبعض الناس ويبقى قائما على غيرهم[17].

3. أما اذا اعتمدنا موضوع الحكم القضائي لتمييز الأثر النسبي من المطلق ، فان ما تم عرضه يوضح فكرة توفر الأثر النسبي في الحكم القضائي، وكذلك بالنسبة لمعيار اطراف الدعوى، الصورة واضحة على وفق ما تقدم.

خامساً: ونخلص إلى ان المعيار الذي يعتمد على توفر الحكم القضائي الصادر عن أي محكمة كانت على الأثر المطلق او النسبي، هو موضوع الدعوى فاذا كان يتعلق بقانون او قرار ذو صفة عمومية ويتناوله من حيث قضاء الالغاء، فانه يكون ذو اثر مطلق تجاه الكافة ويتمسك به كل من له مصلحة في تقرير الالغاء او البطلان، أما اذا كانت المحكمة أيا كان وصفها واسمها تنظر في النزاع باعتبارها محكمة موضوع في نزاع يتعلق بأطراف خصومة شخصية وليست ذات طبيعة عمومية او عينية، فان الاثر يكون نسبي لا يتعدى اطراف الخصومة.

سالم روضان الموسوي

قاضٍ متقاعد

الهوامش =======================

[1] عبدالرحمن علام ـ شرح قانون المرافعات المدنية ـ منشورات المكتبة القانونية ـ الطبعة الثانية ـ ج 3 ــ ص206

[2] للمزيد انظر الدكتور احمد نشأت ـ رسالة في الإثبات ـ طبعة بيروت عام 2008 ـ ج2ـ ص203

[3] الدكتور احمد ابو الوفا ـ نظرية الاحكام في قانون المرافعات ـ دار المطبوعات الجامعية في الإسكندرية ـ طبعة عام 2007 ـ ص752

[4] الدكتور احمد ابو الوفا ـ مرجع سابق ـ ص753

[5] الدكتور احمد نشأت ـ رسالة في الاثبات ـ مرجع سابق ـ ج2ـ ص186

[6] الدكتور ادم وهيب النداوي ـ الموجز في قانون الاثبات ـ طبعة 1990 ـ توزيع المكتبة القانونية في بغداد ـ ص176

[7] الدكتور ادم وهيب النداوي ـ مرجع سابق ـ ص 176

[8] الموقع الالكتروني للمحكمة الدستورية العليا في مصر http://sccourt.gov.eg

[9] المستشار الدكتور إبراهيم محمد حسنين ـ اثر الحكم بعدم دستورية قانون الجمعيات الاهلية ـ منشورات دار الكتب القانونية في القاهرة ـ طبعة عام 2006 ـ ص228

[10] الدكتور محمد رفعت عبدالوهاب ـ القضاء الإداري الكتاب الثاني ـ منشورات الحلبي الحقوقية ـ الطبعة الأولى عام 2005 ـ ص 339

[11] نص المادة (105) من قانون الإثبات رقم 107 لسنة 1979 المعدل(للأحكام الصادرة من المحاكم العراقية التي حازت درجة البتات تكون حجة بما فصلت فيه من الحقوق اذا اتحد اطراف الدعوى ولم تتغير صفاتهم وتعلق النزاع بذات الحق محلا وسببا)

[12] الدكتور احمد نشأت ـ مرجع سابق ـ ص 307

[13] الدكتور احمد عبدالحسيب عبدالفتاح السنتريسي ـ الأثر الرجعي في القضائين الإداري والدستوري ـ منشورات دار النهضة العربية ـ طبعة عام 2011 ـ ص850

[14] الدكتور صبري محمد السنوسي محمد ـ اثار الحكم بعدم الدستورية دراسة مقارنةـ منشورات دار النهضة العربية طبعة عام 2000ـ ص14

[15] نص المادة (93) من دستور العراق لعام 2005 (تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي: أولاً:- الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة. ثانياً:- تفسير نصوص الدستور. ثالثاً:- الفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية، والقرارات والأنظمة والتعليمات، والإجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، ويكفل القانون حق كل من مجلس الوزراء، وذوي الشأن، من الأفراد وغيرهم، حق الطعن المباشر لدى المحكمة. رابعاً:- الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية، وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية. خامساً:- الفصل في المنازعات التي تحصل فيما بين حكومات الأقاليم أو المحافظات. سادساً:- الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، وينظم ذلك بقانون. سابعاً:- المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب. ثامناً:- ‌أ- الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي، والهيئات القضائية للأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم. ‌ب- الفصل في تنازع الاختصاص فيما بين الهيئات القضائية للأقاليم، أو المحافظات غير المنتظمة في إقليم.)

[16] الدكتور رفعت عيد سيد ـ الوجيز في الدعوى الدستورية ـ منشورات دار النهضة العربية ـ الطبعة الأولى عام 2004 ـ ص 188

[17] الدكتور محمد رفعت عبدالوهاب ـ القضاء الإداري الكتاب الثاني ـ مرجع سابق ـ ص 339








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كم عدد المعتقلين في احتجاجات الجامعات الأميركية؟


.. بريطانيا.. اشتباكات واعتقالات خلال احتجاج لمنع توقيف مهاجرين




.. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والإسكوا: ارتفاع معدل الفقر في


.. لأول مرة منذ بدء الحرب.. الأونروا توزع الدقيق على سكان شمال




.. شهادة محرر بعد تعرضه للتعذيب خلال 60 يوم في سجون الاحتلال