الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القراءات الخاطئة وجحيم البلاد

محمود حسين موسى
(Mahmoud Housein)

2023 / 7 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


دار السيد مأمونة، هذا ما كان يقوله نوري السعيد أو الباشا كما كان ينادى، المثل العراقي القادم من زمن استفحال اللصوصيّة وقطاع الطرق في الأرياف والمدن العراقية، كان يقوله بثقة وقناعة لطمأنة من كان يحذره من مخاطر قادمة، السعيد وهو العسكري والسياسي والدبلوماسي المخضرم والمحنك الذي رافق الدولة العراقية منذ تأسيسها، العسكري الذي خلع البزة العسكرية، عاصر العثمانيين والثورة عليهم والانجليز وميلاد الدولة العراقية وملوكها الثلاثة فيصل الأول وابنه غازي وحفيده فيصل الثاني ومعهم الوصي عبد الاله، اقترنت به الوزارات المتتالية التي تشكّلت طيلة العهد الملكي، ترأس 14 وزارة، وكان وزيرا في عدة وزارات، هرب من البلاد مرتين أثناء فوضى الانقلابات، اليه تنسب احياء فكرة الجامعة العربية وانشاءها، وكان مهندسا للاتفاقية مع بريطانيا وحلف بغداد والاتحاد الهاشمي وغيرها الكثير.
لكن النهاية المفجعة التي انتهى اليها ومن معه، لا تتناسب وحجم التجربة والحكنة التي تمتع بها، واتضح أن الطبقة الحاكمة كانت ماضية نحو مزيد من العزلة، تجاهلت أو لم تكن تدرك طبيعة التحولات الاجتماعية والسياسية في القاع الاجتماعي وكيفية تطوره الذي تحول الى نار تحت الرماد منذ نهاية الأربعينات، في عالم تسارعت فيه التحولات الكبرى والثورات والانقلابات، كل المؤشرات كانت تشير الى أنه سينفجر يوما بوجه الجميع.
أخذته رحلة الفرار المذلة متخفيا بعباءة امرأة الى الهلاك، واتضح أن ..
(دار السيد غير مأمونة) .
هذه الخلاصة يعيد رسمها وتأكيدها صدام حسين الذي عاصر الملكية والثورة عليها وكل الجمهوريات المقدسة، الأفندي الذي ارتدى بزة عسكرية مطرزة بالنجوم، حين انتهك دار السيد غير مرة باعدام سادتها واحدا بعد آخر على ايقاع طبول الحروب وصوت الأناشيد (صدام اسمك هز أمريكا)، وعلى خطى نوري السعيد، أوصلته رحلة الفرار المذلة الى حفرة للهلاك، لم يشفع له حشر اسمه بالسيد ولا حتى الحملة الايمانية.
اتضح أن ما كان يهتز هو أكتاف رجال ونساء في حفلات المجون التي كان يقيمها أفراد عائلته ومقربيه في واحات الغجر (الكاولية) في أطراف بغداد الكمالية التي كانوا يرتادونها، أو احضارهم الى القصور والمزارع الخاصة التي تحولت الى كمالية مصغرة، عندها صار هذا العالم المسالم (عالم الغجر) تفوح منه رائحة البارود بعد احتلال الحمايات للمكان، وطقوس اطلاق النار في لحظات الذروة بعد النص، نص الويسكي أو نص الليل، ولم تعد هذه الأحياء التي كان يقصدها العامة آمنة، تحولت الى جماعات صغيرة تتبع كل منها أحد أفراد العائلة المالكة أو مقربيهم، ورغم الانتعاشة المادية التي حصدوها من الهدايا والمكارم، لكن حياتهم تحولت الى جحيم بعد اقتحام المسئولين لها، فبالاضافة للاهانات وغلاظة المخمورين وقساوة حماياتهم التي يتم تصويرها واشاعتها، أصبح مصيرهم معلقا. وقد انتكس هذا السوق بعد الحملة الايمانية الشهيرة، تعرضوا للتفريق والنقل، وتمكن عدد منهم من المغادرة الى دول الجوار بعد الهزّات الكبيرة للبلاد (الحصار والحرب).
دمشق التي عرفت نوري السعيد والضباط الشريفيين قبل تأسيس الدولة العراقية 1921م، عرفت صدام أيضا مطلع الستينات بعد اشتراكه بمحاولة اغتيال فاشلة لعبد الكريم قاسم أواخر 1959م أي بعد أكثر من أربعة عقود من معرفة نوري السعيد، كما عرفت أغلب النخب السياسية والثقافية العراقية، لم تكن تعرف الغجر عن قرب رغم انتشارهم في شمال سوريا، عرفت النسخة العراقية عن قرب قبيل وبعد 2003م، أي بعد أكثر من أربعة عقود من معرفة صدام حسين وضعفها من معرفة نوري السعيد.
نادي الروابي في أطراف دمشق الشمالية (دمر الهامة) الذي كان مهملا بعد تراجع السياحة الخليجية في التسعينات، انتعش بطريقة ملفتة بعد وصول أعداد كبيرة من الماجدين الفارين بثرواتهم ودفاترهم (الدفتر هو عشرة آلاف دولار)، وتحوله الى كمالية جديدة، يرتاده القادمون الجدد والهاربون من الحرب الأهلية، انتعاش السوق وازدياد الرواد وكثرة الدفاتر التي كانت تنثر في لحظات الذروة، قد شجّع متعهدي الليل الى توسيع الروابي وانشطارها الى صالات روابية جديدة في منطقة جبلية نائية شمال دمشق (أطراف التل)، حتى بات سوقا وكرنفالا ليليا معزولا عن المدينة.
ومثل هذا السوق، كان قد انتعش سوق السجون منذ انطلاق الجمهوريات، قصر الرحاب تحول الى قصر للنهاية، وهو ليس الوحيد الذي كانت تنتهي فيه أحلام وحياة العراقيين، تبادل فيها المواقع أطراف الثنائيات العراقية، الأخوة الأعداء، الضحية والجلاد، الساحل والمسحول، القاتل والمقتول، وتناوب على نفس السجون والزنازين أخوة وجيران وأصدقاء، قبل أن تجمعهم جمهورية عبد السلام عارف في سجن واحد، تمهيدا لعناق جديد، عناق الأشهر المتجاورة (آذار يعانق نيسان)، آذار العشب والخصب الذي تغزل بقمره الشعراء، ومثله نيسان الذي أهدى الله منتهاه عيدا للميلاد، توقد فيه الشموع وتقام الموائد على أبواب البيوت.
ثنائيات انقسامية متطرفة هي التي هيمنت على البلاد، شطرت المجتمع العراقي الى أنصاف متتالية، الأحياء والبيوت والعائلات، المقاهي ومقاعد الدراسة والحانات، واذا كانت الروح الستينية الحية كما يطلق عليها فاضل العزاوي والصاخبة حسب سامي مهدي، تفوح منها رائحة الرمز الأيديولوجي، رجعي تقدمي، عبد الكريم عبد الناصر، لينين عفلق، وطني عميل، مناضل متخاذل، قومية أممية، التي أصبحت عناوين للموت واشتداد الصراع الدموي بين أطراف الثنائية من 1958 الى 1970م، واعلان عن مسارات المستقبل في العقود اللاحقة وخارطة جديدة للموت طالت الجميع، لم يسلم منها متعبد مسالم أو درويش ولا حتى قروي في أعالي الجبال، ستؤسس لاحقا لثنائيات مشتقة عنها، ايراني امريكي، صفوي عثماني، ابن المتعة وابن المسيار، علماني ديني.
وعلى ايقاع طبول الحرب والثنائيات، ينشطر الحزب الأممي الى نصفين كردي وآخر عربي، يدخل الشق العربي العملية السياسية ضمن حصة المكون الشيعي (وفق مصطلحات ما بعد سنة 2003)، البعث يطلق اللحى ويتحول بلحظة الى القاعدة، يذوب فيها أو تذوب فيه، الإقليم ينشطر الى مملكتين بعاصمتين ومطارين دوليين السليمانية وأربيل، القوى الإسلامية تخرج عن منطق الثنائيات، مجلس ودعوة، حوزة ناطقة وصامتة، وتنشطر وفق متتالية عددية لعشرات التشكيلات والفصائل.
مراجعات نقدية هامة ظهرت في السنوات الماضية بسويات ومسارات متباينة، وهي الظاهرة التي كانت غائبة أو مغيبة لعقود طويلة، عن تجربة استثنائية وانعطافات خطيرة في تاريخ العراق السياسي والاجتماعي والثقافي، انتهت بالجميع الى اليتم والبداوة وعصر ما قبل الدولة، وليس ترفا الغوص بهذه الموضوعات الجدلية والمثيرة للحزن وربما الاكتئاب، موضوعات وانعطافات ضاعت فيها الأعمار والأحلام والتجارب وراء سراب وأوهام الأيديولوجيات والثنائيات الملتبسة التي سرعان ما تبخرت وتركت روادها عراة في واحة الندم والتناسي، القبور أو المنافي أو المقاهي.
فاضل العزاوي أحد أعلام الثقافة الستينية، يمسك بالقلب قلب المشكلة، وهو ابتلاع أطراف ثنائية التطرف القوى الوسطية بعد تموز 1958م، وهي قوى كانت قائمة، أسستها شخصيات وطنية لها باع طويل وخبرة في العمل السياسي والوطني (الوطني والاستقلال)، ويعزو ذلك الى الجهل السياسي وأخطاء الأحزاب وهيمنة الروح الفوضوية وجهل القادة والنزعة العسكرية للامساك بالسلطة والتسابق عليها، الحادثة التي يسردها عن إغماء عبد السلام عارف وسقوطه أرضا أثناء إلقاءه خطبة، نظّمها له واستقبله حزب إسلامي في كركوك حين ارتفعت هتافات الجمهور اليساري، قد تختصر هذه الحادثة (بنمظور آخر) المأساة العراقية والملهاة في الثلاثية الأيديولوجية المتنافرة والمتصادمة التي شابه تنافرها واحترابها الحياة السياسية المصرية زمن عبد الناصر، ويرى إن تقييم عقود من الدكتاتورية في العراق يجب أن يبدأ بيوم 14 تموز 1958م نفسه، اليوم الذي أرتكبت فيه جريمة ليس لها مثيل في تاريخ الانقلابات التي حدثت في العالم، إبادة أسرة بكاملها، أوجدت الأرضية النفسية للإرهاب والقتل والسحل ضد الخصوم.
قراءات أخرى تذهب بالنقد الى أبعد من يوم 14 تموز والى أبعد من السياسي، يذهب المشتغلون في سوسيولوجيا الثقافة الى أن الثقافة كانت شريكا بنيويا، بل في المواقع المتقدمة للسير نحو الهاوية، فالح عبد الجبار يذهب بالجميع الى منطقة فقدان الوزن، يرى أن الانتقالات الحديثة بانضغاطاتها المتجاورة جرّت الثقافة ومعها المجتمع الى الدمار حين تشظى الاجتماع والثقافة، لنترك في صراع مرير، فوزي كريم أحد شهود الثقافة الستينية، يرى أن تلك الثنائية (الروح الحية والموجة الصاخبة) مثّلت بصورة صادقة عن هستريا الرغبة في تجريد الإنسان الى مجموعة أفكار، وأعطت الشرعية لسحقه تحت عجلة رمزيته، وقد تمكنت من البستان أشجار الشر تماما، وأسهمت (هذه الروح) في تغذيتها ورعاية أغصانها وقطاف ثمارها، ولكن القطاف كان مرّ المذاق. غازي الأخرس أحد الناجين من معجم أم المعارك، يحاكم الثقافة والمثقف الذي جعله يتربع جحيم وخريف الفصول، يرى أن الجميع كان ضد الجميع، وسلام عبود يحرج الجميع بسؤاله، من صنع الإمبراطور ؟ يفكك البنى الثقافية وخطابها الترويجي، وتحول رموزها الى أدوات وعصى ضد كل صوت لا ينتظم في قافلة القطيع، ومثلهم يذهب آخرون.
في آخر الرحلة الجمهورية اختفت الوسطية،
ومثلها اختفت الكمالية.
...............
بين مفتتحين ودولتين ولا خاتمة،
تدور المدينة المدوّرة المغدورة مرات، حول دائريتها
لتعبث بكل الجهات
لم تعد في الشرق آباد
لا باب الكوفة هنا ولا بيت المال هناك
وحده النهر الخالد لا يدور
يحتضن السيل الهادئ، يخترق الدائرة
ليكتب الخاتمة.
.................








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل