الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البعد الإنساني للصحراء في روايات غسان كنفاني مؤتمر ثقافة الصحراء : جمالية وعمق إنساني

عمر عتيق
أستاذ جامعي

(Omar Ateeq)

2023 / 7 / 15
الادب والفن


البعد الإنساني للصحراء في روايات غسان كنفاني
" رجال في الشمس و ما تبقى لكم " أنموذجا
جامعة القدس المفتوحة - فلسطين
مشاركتي في مؤتمر (ثقافة الصحراء : جمالية وعمق إنساني) الذي عقد الخميس 6-7-2023 في جامعة محمد الخامس في الرباط ( المغرب)- كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس والمنظمة الدولية لحماية التراث ومؤسسة فكر للتنمية والثقافة والعلوم وبشراكة مع قطاع الثقافة وبتعاون مع بيت الشعر بالمغرب والمنظمة الدولية للفن الشعبي ومجلة الميزان.
تجسد الصحراء في روايتي رجال في الشمس ، وما تبقى لكم لغسان كنفاني ثنائية دلالية حادّة ، تتوزع على فضاءات إنسانية تختزل مفاصل القضية الفلسطينية في مرحلتين زمنيتين شهدتا تطورا في وعي الإنسان لتحقيق وجوده الوطني وامتداده القومي والكوني. فرواية رجال في الشمس هي الرواية الأولى للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، صدرت عام 1963 في بيروت ، وتجسد النتائج السياسية الإنسانية التي تسببت بها النكبة عام 1948 بوساطة أربعة نماذج إنسانية موزعة على أربعة شخصيات اتخذت من الصحراء معبرا للخلاص من الجحيم الاقتصادي نحو الرخاء الاقتصادي في الكويت حيث الفردوس المنتظر ، ولكن أحداث الرواية تجعل الصحراء مقبرة للحلم المنشود حينما تموت الشخصيات في الصحراء داخل صهريج للماء اختبأت فيه الشخصيات لكي تعبر الحدود العراقية الكويتية.
تصور الصحراء في رواية "رجال في الشمس" فضاء للخوف والترقب والموت ،إذ تتوهم شخصيات الرواية أن الصحراء اللاهبة المخيفة هي الخلاص الاقتصادي والاجتماعي ، وهي المعبر إلى الحلم الذي ينتظرهم في "جنة الكويت" ويطرح المتن الروائي حزمة من الأسئلة: كيف يمكن العبور من جحيم الصحراء إلى جنة الكويت ؟ كيف يمكن المقامرة بالحياة بهدف الوصول إلى حياة مترفة متخيلة ؟ لماذا استسلمت شخصيات الرواية للموت داخل صهريج المياه الحارق في الصحراء ولم " يدقوا الخزان " ؟
تجسد الصحراء في رواية رجال في الشمس ثنائية القلق واليقين ، قلق الفلسطيني اللاجئ الذي يسعى إلى الخلاص من أنياب الفقر إلى مصير مجهول محفوف بالأحلام والأمنيات للوصول إلى فردوس الكويت ، واليقين المصطنع من السائق الذي لا يهمه مصير المسافرين عبر الصحراء بمقدار اهتمامه بدراهم معدودة يأخذها من المسافر كما يتجلى في الحوار الآتي : (إنها رحلة صعبة، أقول لك، ستكلفك خمسة عشر دينارا." -"وهل تضمن أننا سنصل سالمين؟"-"طبعا ستصل سالما، ولكن ستتعذب قليلا، أنت تعرف، نحن في آب الآن، الحر شديد والصحراء مكان بلا ظل … ولكنك ستصل) ، ويضمر هذا الحوار بعدا أخلاقيا للصحراء التي تحتضن الإنسان الحالم بالخلاص ، والقوي المستغل لضعف الآخرين.
وتمثل الصحراء في رجال في الشمس معادلا موضوعيا لمعاناة الإنسان في الفكر الوجودي ، فالسير في الصحراء يناظر التحديات المصيرية الوجودية التي يواجها الإنسان في تفاصيل الحياة كما يتجلى في الوصف السردي في أثناء السير في الصحراء (كانت الشمس تصب لهبا فوق رأسه ، وأحس فيما كان يرتقي الوهاد الصفر ، أنه وحيد في كل هذا العلم .. جرجر ساقيه فوق الرمل كما لو أنه يمشي على رمل الشاطئ .. اجتاز بقاعا صلبة من صخور بنية مثل الشظايا ثم صعد كثبانا واطئة ذات قمم مسطحة من تراب أصفر ناعم كالطحين).
تختزل الصحراء مساءلات عقائدية فلسفية تفتح آفاق التفكير والحوار والجدال حول مصير الإنسان المرتبط بالقضاء والقدر كما جاء في وصف المشي في الصحراء (الأرض تنطوي والسيارة تزأر، والزجاج يتوهج والعرق يحرق عينيه، وما تزال قمة الهضبة تتراءى له بعيدة ... يا إلهي العزيز العلى القدير، كيف يمكن لقمة هضبة ما أن تعني كل هذه المشاعر التي تموج في شرايينه وتصب لهبها على جلده الملوث بالوحل عرقا، مالحا ؟ يا إلهي العلي الذي لم تكن معي أبداً، الذي لم تنظر إلى أبداً، الذي لا أؤمن بك أبداً. أيمكن أن تكون هنا هذه المرة؟ هذه المرة فقط؟
تمتزج قدرة الإنسان على المقاومة بالاستسلام لتحديات الصحراء دون التخلي عن الهدف أو الحلم ، ويُبرز وصفُ الصحراء ماهية ثقافة التحدي الذي لا يخلو من ضعف إنساني (كانت الشمس ترتفع فوق رؤوسهم مستديرة متوهجة براقة، ولم يعد أحد منهم يهتم بتجفيف عرقه . فرش أسعد قميصه فوق رأسه وطوى ساقيه إلى فخذيه وترك للشمس أن تشويه بلا مقاومة. أما مروان فقد اتكأ برأسه على كتف أبي قيس وأغمض عينيه. وكان أبو قيس كدق إلى الطريق مطبقاً شفتيه بإحكام تحت شاربه الرمادي الكث.لم يكن أي واحد من الأربعة يرغب في مزيد من الحديث. ليس لأن التعب قد أنهكهم فقط بل لأن كل واحد منهم غاص في أفكاره عميقاً عميقاً. كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وآمالهم وبؤسهم ويأسهم وقوتهم وضعفهم وماضيهم ومستقبلهم)
تتحول هواجس الخوف والقلق والتوتر إلى ما يقترب من مشاهد الأدب الصحراوي العجائبي الذي يكشف عن البنية النفسية للإنسان الذي يتحدى المخاطر ويتمسك بحلم الخلاص والوصول إلى الفردوس المنتظر ، حينما تتحول الصحراء في مخيلة الشخصيات إلى عملاق مخيف يوشك ابتلاع السائرين فيها كما يصف السارد(كأن هذا الخلاء عملاق خفي يجلد رؤوسهم بسياط من نار وقار مغلي. ولكن أيمكن للشمس أن تقتلهم وتقتل كل الزخم المطوي في صدورهم ؟ كأن الأفكار كانت تسيل من رأس إلى رأس وتخفض بهواجس واحدة، لقد التقت العيون فجأة : نظر أبو الخيزران إلى مروان ثم إلى أبي قيس فوجده يحدق به، حاول أن يبتسم ولكنه لم يستطع فمسح عرق جبينه بكمه وقاله بصوت خفيض: - هذه جهنم التي سمعت عنها.- جهنم الله؟
يستدعي البعد الإنساني الصحراوي مرجعيات ثقافية مستمدة من الموروث الشعبي الديني حينما يشبه السارد عبور الصحراء بعبور الصراط المستقيم ، فمن عبر الصحراء بسلام وصل إلى جنة الكويت ، ومن عجز عن العبور ابتلعته الصحراء كما جاء على لسان أبي الخيزران سائق صهريج الماء(هذه الكيلومترات المئة والخمسين أُشبّهها بيني وبين نفسي بالصّراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار، فمن سقط عن الصّراط ذهب إلى النّار، ومن اجتازه وصل إلى الجنّة « ثم ينفجر أبو الخيزران ضاحكاً، كما لو كانت ضحكته سخريّة شيطان بهؤلاء الحَمقى المُغفّلين.)
تجسد الأحداث قبيل نهاية الرواية مفارقة إنسانية حادة ، فالرجال الأربعة داخل الخزان في جوف الصحراء لا يجدون هواء للتنفس ، وحرارة الخزان في قلب الصحراء توشك على هلاكهم ، في حين أن الموظفين في مكاتب نقطة الحدود منعمون مترفون في غرف مكيفة .
وتجسد الصحراء في رواية ما تبقى لكم فضاء للانعتاق والطهارة والتحرر والانتصار . ومعادلا موضوعيا لأسطرة الشخصية الفلسطينية التي لم يمنعها ظلام الصحراء ووحشتها عن المقاومة والانتصار. ويعزز تحول طبيعة الصحراء في الروايتين العلاقة النفسية بين الأرض (الصحراء) والإنسان ، فالصحراء ليست مساحة جغرافية رملية منعزلة عن البعدين النفسي والفكري للشخصيات ، قد تكون الصحراء حيزا للموت ، وقد تكون حيزا للتحدي والانتصار .
يبرز أسلوب أنسنة الصحراء في رواية ما تبقى لكم حينما خرج حامد من غزة نحو الأردن حيث تقيم والدته عبر الصحراء شعر أن الصحراء كائن حي موزع بين مشاعر الطمأنينة والخوف ، ولكن الطمأنينة والإرادة تتغلب على هواجس التوتر والخوف كما يصف السارد : (رآها الآن لأوّل مرّة مخلوقًا يتنفّس على امتداد البصر غامضاً ومريعاً وأليفاً في وقت واحد) وتعبر هذه الثنائية النفسية عما يمور في أعماق شخصية حامد ، فالصحراء مرآة تجسد البنية النفسية لمن يسير فيها . ويأتي وصف الصحراء منسجما ومتكاملا ومصورا للتحول النفسي وتجليات إنسانية الإنسان في قول السارد: (وأمامه على مدّ البصر تنفّس جسد الصحراء فأحسّ بدنه يعلو ويهبط فوق صدرها وفي قلب الجدار الأسود الذي انتصب وراء الأفق أخذت المصاريع تنفتح واحدا وراء الآخر، فتبثق وراءها نجوم ذات لمعان قاس . )
يتحول ليل الصحراء في رواية ما تبقى لكم إلى قصيدة نثرية تختزل حزمة من المشاعر الإنسانية لشخصية حامد الثائر الغاضب المقاوم الصابر الذي تغلب على شعور الوحدة والوحشة في الصحراء التي بدت في الليل قصيدة أو لوحة تشكيلية تنبض بمشاعر إنسانية في قول السارد : (سقط الظلام تماماً الآن وسقطت معه ريحٌ باردة صَفَرتٌ فوق صدر الصحراء , كأنها لهاث مخلوق ميت , ولم يعد يدري ما إذا كان خائفاً .فثمة قلب واحد كان ينبض ملء السماء في ذلك الجسد المترامي على حافة الأفق . )يجسد هذا المشهد صورة صوتية صحراوية تُضمر بعدا نفسيا إنسانيا يندغم مع شعور حامد في جوف الصحراء . ويتحول وصف الصحراء من صورة صوتية إلى صورة بصرية سماوية ، إذ لا انفصام بين الصورة الصوتية الأرضية للصحراء والصورة البصرية لسماء الصحراء فحينما (حدّق إلى السماء خيمةً سوداء مثقبة , وبدا له المدى غامضاً مثل هاوية , رفع ياقة معطفه وغرس كفيه في جيبيه الكبيرين . وفجأة ذاب الخوفُ وسقط , ولم يعد ثمة إلا هو والمخلوق الموجود معه , وفيه يتنفس بصفير مسموع , ويسبح بجلال في بحر من العتمة المرصعة . ) وتعود الصورة الصوتية مندغمة بالصورة البصرية ( ومن بعيد ترامي إليه الهدير , فبدا له شيئا متوقعاً تماماً , ليس بمقدور أي شيء في هذا المدى المبسوط أن يكون مفاجئاً , ليس بوسع أي شيء أن يكون إلا صغيراً وواضحاً وأليفاً في هذا العالم الواسع المفتوح على وسعه أمام كل شيء , ) وتفضي الصورتان الصوتية والبصرية في الصحراء إلى تشكيل خيوط نسيج المواجهة بين حامد الثائر وجندي الاحتلال الذي بدأ باستعمال الضوء الكاشف في قلب الصحراء كما يروي حامد ( ومن بعيد مسح خطٌ مستقيم من الضوء حافةَ الأفق مثل عصا بيضاء تدور على طرفها نصف دورة , وفي اللحظة التالية أطلت من بعيد عينان مضيئتان أخذتا تهتزان وهما تنثران حولهما ضوءاً دائرياً . ودون أن ينتابه خوف أو تردد استلقي على الأرض وأحس بها تحته ترتعش كعذراء , فيما أخذ شريط الضوء يمسح ثنيات الرمل بنعومة وصمت , عندها فقط شد نفسه إلى التراب وأحسه دافئاً ناعماً ) يشكل هذا المشهد الصحراوي الليلي علاقة الإنسان بالأرض ومشاعر حامد الفطرية حينما تتحول الصحراء من رمال إلى أنوثة عذراء وخصوبة وعلاقة خصوبة بين الإنسان والصحراء ، ويعود هدير الصورة الصوتية ليعزز التصاق الإنسان بالأرض , وفجأة تعالى الهدير وصارت السيارة أمامه تماماً , فغرس أصابعه في لحم الأرض وذاق حرارته تسيل الي جسده , وبدا له أنها تنفست في وجهه فلفح لهاثُها المستثاُر وجنتيه , وشد إليها فمه وأنفه , فاشتد الوجيب الغامض فيما استدارت السياره فجأة , فالتمع الضوء الأحمر في مؤخرتها وأخذ يذوب في الليل .)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟