الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لما أنت ناوى تغيب على طول

صفوت فوزى

2023 / 7 / 16
الادب والفن


حين جاءني صوته عبر الهاتف، بادرته بالسؤال: "ازيك يا وصخ". أجاب مندهشًا: "هذا اللفظ لا يعرفه سوى اثنين، أنت من فيهما؟" ولما أجبته قال بصوت كتلك الأصوات التي نسمعها فى الأحلام، تأتي من بعيد مع أنها قريبة : "يااااااه .. ثلاثون عامًا تنهض من تحت الردم. كيفك، وكيف أحوالك؟ لا شك أنك تزوجت وأنجبت، كيف حال الأولاد والأسرة والأصدقاء القدامى؟"
من علبة شيكولاتة صفيح صدئة تنهض الذكريات متزاحمة. صور قديمة بالأبيض والأسود، قصائد البدايات الأولى، نزق الخلافات العابرة، رسائل المراهقة وعتبات الشباب، مجلات مكتوبة بخط اليد ومطبوعة بالاستنسل، رسومات بأقلام الرصاص والفحم، وكلمات أغاني قديمة مكتوبة على أوراق مدرسية اصفرت وحال لونها.
في الحجرة الصغيرة المنزوية في طرف الدار، المعروشة بعروق الخشب وحطب القش، والمدهونة حوائطها بالجير الأزرق الباهت، كنا نلتقي. يستقبلنا والده العجوز على باب الدار موجهًا لـه السؤال : "كنت صايع فين يا وصخ؟ ابقى قابلني لو فلحت".نضحك متندرين على لغته وأسلوبه وندلف إلى الحجرة المعزولة. يخرج رسومه بأقلام الفحم، والراديوالترانزستور الصغير ببطاريتيه البارزتين إلى الخارج والمربوطتين بأستك حزم النقود والمضبوط على محطة أم كلثوم. هو الوقت المخصص لبث أغاني محمد عبد الوهاب الذي يعشقه بجنون، وكنا نحن أصدقاءه المقربين نشاركه هذا العشق. يمضي بنا الوقتُ سريعًا ممتعًا، مابين الاستماع والطرب والفرجة على آخر إبداعاته من البورتريهات المرسومة بأقلام الفحم، وتبادل الأسئلة المعلقة في رؤوسنا كالذبائح، والتي تعصف بنا ولانكاد نجد لها إجابات شافية.النهم الثقافي والفضول العقلي والبحث عن الحقيقة، والحنين إلى الذى لا يجيء، وكل ما يجعل مراهقين مثلنا يتفتحون لكل ما كانوا يتعرضون له من قراءات جادة.
كنا فى أول الشباب ، ومن هؤلاء الذين يأتون من القرى محتشدين بقلة تجاربهم ، وخجلهم ، يتخبطون فى شوارع المدينة الواسعة تائهين ، يجدون فى تجمعهم ملجأ وحماية .
في عتمة الضوء الكابي للغرفة الصغيرة، تنعتق أرواحنا، تتحرر أفئدتُنا من ربقة اليومي والمعتاد. تنطلق في آفاق رحبة من الفن والفلسفة والجمال، في مناقشاتوحوارات لا تنتهي، موجعة وكاشفة ومحرضة، تتخللها ضحكات صغيرة تغسل الروح وتشفي القلوب المنكسرة التي تنوء بحمول أكبر من سنها ومن فهمها. نتحرر من قسوة الفقر وأحلامنا الموءودة وخيباتنا الصغيرة المكرورة. نربت على أرواحنا بأيدينا، لنكتشف الثابت والمتحول في وعينا وعلاقاتنا بالناس والأماكن والأشياء، ماسحين نزيف أرواحنا بقطنة مبللة.
فى غدوه ورواحه، يمضي في الحارات والدروب. في الشارع الذي تقطنه يتطلع إلى نافذة تطل منها، شرفة تقف فيها مرتدية تاييرًا هادئ اللون، شيش مغلق يتضوع من خلفه عبيرها. لا يغادر حتى تمتلئ روحه من طلتها البهية. يعود إلى غرفته المنزوية، يرسم لها صورًا بأقلام الفحم. يسكب روحه على الورق شعرًا ورسمًا. هام بها. حدثني كثيرًا عنها. في كل لوحاته التي رسمها كانت تبدو قادمة من عالم آخر، عالم مليء بالصفاء كَنَدى حقول الصباح. يؤطِّر وجهها القمحي المدور هالة من النور تنبع من حدقتي العينين البنيَّتين الواسعتين، فتغمر اللوحة وتضفي عليها مزيدًا من المهابة والجمال الشفيف، يطيل النظر في ملامحها فيتدفق الكلام على لسانه، يصبح يمامًا أبيض، يحط بأمان في حنايا القلوب والأرواح.
*****
من الجنوب يأتي مسافرًا نحو الشمال، آلاف الأميال يقطعها في رحلة لا تني تتجدد مع الأيام.النهر العجوز، صبيًّا لم يزل، يوزع الخير والنماء أينما ارتحل، ويلتئم حوله المحبون حيثما حل. على ضفافه يلتقيان. أنيقة في بساطة، جميلة في غير تكلف يكسوها خجل ريفي، قوية القوام تميل إلى الطول بمقاييس النساء. كان القمر بدرًا مكتملًا، والسماء صحوضَحوك. نسيم الصيف كالصبا، ونور القمر غلالة فضية منثورة على ماء النهر، وصوت عبد الوهاب يصدح هادئًا شجيًّا:
مسافر زاده الخيال
والسحر والعطر والظلال
ظمآن والكأس في يديه
والحب والفن والجمال
تبتسم فيتورد الخدان وتبرز الغمازتان في جانبي الوجه الجميل الطلعة. يتناجيان، يتهامسان، فتتفتح كل مسارب النور، وتزهر كل ورود الكون. يزدحم الفضاء بجلال جمالها. ترق القلوب المترعة بالرضا، وتخشع النفوس، فتسيل دموع الامتنان عذبةً بين شفاه ترتعش بالحمد.
*****
كانت للتو قد أنهت تعليمها المتوسط، فيما لم يزل هو يدرس بالجامعة. تقدم لخطبتها. متوترًا مؤملًا يجلس قبالة أبيها الذي يميل إلى القصر، مدكوك القوام، خشن الملامح، على شيء من الغلظة، نظراته واخزة، شديد سواد العينين. الكلام خفيض، ووقع الأقدام أشد انخفاضًا، وهويلقف أنفاسه بصعوبة. سأله الرجل عن استعداداته. أجاب أنه يعمل إلى جانب دراسته. أجاب الرجل أن ذلك ليس كافيًا وأن حب التلاميذ لا يؤسس بيتًا ولا يؤكل خبزًا وأن طلبه مرفوض.
عرق بارد غزير يتحدر من أعلى القفا متدحرجًا ببطء يلمس فقرات الظهر. مكشوف العورة تأكلني العيون. مائلًا للأمام منحنيًا أضع يديَّ–لا إراديًّا– أمام عورتى لأداريها. أتحامل على نفسي، لاتقوى قدماي على حَملي. قلبي مُفعمٌ بالحزن والخجل أغادر المكان.
كنت أدرك على نحو خفي أننا فقراء، وأننى أخفى بؤسى داخل البنطلون المكوى والقميص حديث الموضة ، لكنني الآن أعرف تمامًا معنى الفقر مُجسَّدًا. أن يتم انتزاع أغلى ماتملك في حياتك من بين يديك دون أن تكون قادرًا على التمسك به. تحملني أمواج عاتية، تلقي بي على شاطئ صخري مهجوروتتركني وحيدًا، وحيدًا وحزينًا.
زوجوها لعريس جاهز.
كانت سيناء قد عادت إلى حضن الوطن الأم. منقوصة السيادة نعم، لكنها عادت.حزم أمتعته القليلة ورحل إلى شمال سيناء، ومن يومها انقطعت عنا أخباره تماما. قاطع كل من عرفهم. قاطع الدنيا بأكملها وعاش وحيدًا معزولًا.سنوات كثيرة مضت حتى عرفت بالصدفة البحتة رقم هاتفه المحمول وتواصلنا.
في آخر مكالمة هاتفية، كان متدفقًا سعيدًا، وهو يحدثني عن آخر إبداعاته في فن البورتريه الذي تخصص فيه وأتقنه، وكيف أنه صار يرسم بألوان الزيت وأنه أحرز تقدمًا كبيرًا في هذا المضمار، واتفقنا على أن نلتقي ليطلعني على ما أنجزه وهو كثير.
هذه المرة، ظل جرس الهاتف يرن طويلًا طويلًا، وعندما جاءني الصوت كان صوت ابنته ضعيفًا واهنًا. قالت: أبويا تعيش أنت.
دمعة ساخنة فرت من عينيّ. أغلقت الهاتف وفتحت علبة الشيكولاتة الصفيح الصدئة المدورة. حكايات من الزمن القديم تنهض من النسيان حزمة من شرايين حية . ذكريات تضرب خاصرتى من غير رحمة .هأنذا أعدو من غير حسبان ، متجاوزا سنينى ، عائدا لتلك المنطقة السرية من ذلك الزمن البعيد . تتقافز أمام عينيّ صورمن ذكريات قديمة، فيما ينساب صوت محمد عبد الوهاب شجيًّا أسيانًا:
لما أنت ناوي تغيب على طول
مش كنت آخر مرة تقول
___ _____ ______ ___








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب