الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنّ فرعون علا في الأرض ، وجعل أهلها شيعاً ، حتى يستمر لوحده مسيطرا على السلطة ، والثروة ، والجاه ، والنفود ، فكان بذرة البدرات الأولى للانقسام القبائلي والمذهبي في الدولة الإسلامية .

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2023 / 7 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


هناك قناعة أساسية راسخة ، تولدت لدا معظم المفكرين المتخصصين في الشأن العام الاسلامي ، هي ان النظام القبائلي ، القبلي ، هو أداة للسيطرة السياسية ، وللاستبداد بكل اشكاله القبيحة المقززة ، أوجده حكم الاستبداد والطغيان المطلق ، والقهر السياسي والقومي ، وهو لم يظهر الاّ كوسيلة بيد المحتلين الاستعماريين والطغاة ، لشق صفوف المحكومين والمستعمرين ، والحيلولة دون إتّحادِهمْ ضد العدو المشترك . أي الغازي ، والمحتل ، وأذنابه في الداخل .
فعندما نتكلم عن النظام القبائلي الثيوقراطي ، فإننا لا نقصد العداء بين المنتسبين للأديان المختلفة ، ولا تفضيل الافراد لهذه القبيلة او تلك ، ولا ممارسة شعائر دينية معينة . فتلك قضايا تتعلق بالأفراد ، اكثر مما تتعلق بتكوين أنظمة الحكم السياسية .
إنما نعني بالنظام القبلي ، نظاما معيّناً للحكم ، يقوم على هيمنة اقلية دينية ، او مذهبية على السلطة السياسية ، واحتكارها للامتيازات الاقتصادية ، والثروة ، والجاه ، والنفوذ ، والمال ، واحتكار المكانة الاجتماعية المُتأتّية من السيطرة على الحكم السياسي .
وهنا ، غالبا ما تكون سلطة الأقلية القبائلية ، السارقة للحكم وللدولة وللثروة ، بحاجة الى دعم خارجي ، كقوة احتلال سابقة ، او نفوذ امبريالي ، بحكم كونها مهددة داخليا ، من ثورات القبائل الثائرة ، ضد حكم السلطة المركزية التقليدي ، فتلتمس المساندة الخارجية ، الامر الذي يوفر الأسس لقيام مصلحة مشتركة بين القوة الخارجية ، وبين الأقلية الحاكمة ، لقمع وكبت المحكومين ، والثائرين ، والاستئثار بالسلطة السياسية ، والثروات الاقتصادية . و يمكن تلمس هذا في دعوة السلطان عبدالحفيظ لفرنسا ، كي تحميه من ثورات القبائل البربرية ، التي ثارت ضد نظام " لمْحَلّة " في فاس ، كي يبقى السلطان العلوي مسيطرا على الأرض والثروة ، التي هي ارض البرابرة وثروتهم التي يسيطر عليها نظام " لمحلة " في فاس ..
لذلك يقترن النظام القبائلي الثيوقراطي في اكثر الأحيان ، بالاحتلال الأجنبي ، والهيمنة الخارجية ، حتى إذا كان المحتلون ، لا يشاركون الحكام المحليين ، المعتقد الديني ، او المذهبي .
فالاشتراك في الدين ، وفي المعتقد بينهما ، ليس ضروريا لقيام نظام قبائلي ، يشكل اقلية ، ويسيطر على البلد ... ومثال على ذلك ، معاهدة الحماية الموقعة مع فرنسا في سنة 1912 ، وتبني بريطانيا لليهود ، واختلاقها فكرة " الوطن القومي لليهود " ، رغم الاختلاف الديني بينهما . وبطبيعة الحال فإن الانتماء الديني او المذهبي المشترك ، يعزز من الترابط ، ويوفر أرضية واسعة لاستغلال النعرة القبائلية ، لأغراض التوسع الامبريالي الاستعماري ، كما يظهر في تبني فرنسا بلبنان للأقلية المارونية ، وإعادة القيصرية الروسية فيما سبق ، حماية الأرثودوكس في فلسطين .
ومن جانب آخر ، فإن فوائد النظام القبلي للمحتلين ، لا تقتصر على ربط الأقلية الحاكمة بهم ، بل يشجع أيضا على خلق القبيلة المعاكسة بين المحكومين ، الذين يجدون انفسهم يُضطهدون ، بسبب انتماءاتهم الدينية والمذهبية ، إضافة الى أسباب أخرى . ولذلك تثار النقمة القبائلية ، ويتسع الانقسام بين الشعب ، وتضعف قواه ، فتصبح كل قبيلة تبحث عن من يحميها ، ويوفر لها الامن والأمان ، والاستقرار ، وضمان الحقوق والامتيازات المتوفرة لدا القبيلة الأخرى .
هكذا يتسع الانقسام بين الشعب ، وتتكتل كل قبيلة حول من يدعي حمايتها ، فيتعذر بذلك توحيد الجماهير ، في حركة موحدة ضد المحتلين ، وضد الحاكمين ، ويتهيأ لهؤلاء تعزيز قبضتهم على البلاد والعباد .
ان مثل هذا الوضع المقصود ، والذي يعتمد سياسة فرق تسد ، يوفر للحكم فرصة الظهور بمظهر " حكم محايد " ، يتوسط بين جميع القبائل المتصارعة . وهنا سنجد ان دساتير الأنظمة الثيوقراطية ، تمنع الحزب الوحيد ، وتشرّع لظهور الأحزاب ، لخلط الأوضاع وبعثرتها ، وتحويل الصراع ، من صراع ضد الأقلية الحاكمة المستبدة ، الى صراع بين احزاب تدعي دفاعها عن كل قبيلة .
ان نظام القبيلة هذا ، يوفر مزايا عديدة للمستعمرين، وللحاكمين المحتلين ، الذين كثيرا ما يجدون انفسهم ، عاجزين عن كبت الشعوب المستعمرة ، والمحتلة والمقموعة ، واكراهها على الطاعة ، والخضوع ، والسجود .
ان النظام القبائلي يختلف عن النظام العنصري ، بكون الحاكمين والمحكومين في النظام القبلي ، ينتمون ظاهريا الى امة واحدة ، وبلد واحد ، لا تفرقهم سمات خارجية ، كاللون ، والملامح الجسدية ، او الانتماء القومي . لذك يتمتع نظام القبيلة ، بقابلية كبيرة على التمويه والثورية ، فقلما يمارس هذا النظام علنا ، او يتعرض الى الكشف والفضيحة ، الاّ في حالات غير معتادة ، او نتيجة التمحيص بانتساب الحاكمين ، وعلاقاتهم القبلية والمذهبية ، وهو امر لا يتهيأ لأكثر الناس .
أولا ) تطور القبيلة في الإسلام :
فْسر ظهور نظام القبيلة في الإسلام ، تفسيرات شتى ، تتباين بالتحيّز والموضوعية ، تبعا لميول المؤرخ ، واتجاه الكاتب . ولعل اشهر التفسيرات وأكثرها انتشارا بين الأوساط القبائلية والشوفينية ، نظرية ابن حزم الاندلسي ، وهي كنظرية عنصرية ، لم يكن من الغريب ان تشيع بين المستشرقين الغربيين ، ومن تأثر بهم من دعاة الفكر القومي في البلاد العربية .
يقول ابن حزم : " والاصل في اكثر خروج هذه القبائل عن ديانة الإسلام ، ان الفرس كانوا من سعة الملك ، وعلو اليد على جميع الأمم ، وجلالة الخطير في انفسهم ، حتى انهم كانوا يسمون انفسهم الاحرار والابناء ، وكانوا يعدون سائر الناس عبيدا لهم ، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على ايدي العرب ، وكانت العرب اقل الأمم عند الفرس خطرا ، تعاظمهم الامر ، وتضاعفت لديهم المصيبة ، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى ، ففي كل ذلك يظهر الله سبحانه وتعالى الحق ، فرأوا كيْده على الحيلة انجع ، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا اهل التشيع ، بإظهار محبة اهل بيت رسول الله ، واسْتشْناع ظلم علي ، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى اخرجوهم من الإسلام ....
وقد سلك هذا المسلك أيضا عبدالله ابن سبأ الحميري اليهودي ، فانه ( لعنه الله ) ، اظهر الإسلام لكيْد اهله ، فهو اصل إثارة الناس على عثمان ، واحرق علي ابن ابي طالب منهم قبائل ، واعتصموا بالإلهية ، ومن هذه الأصول الملعونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة ، وهما مجاهرتان بترك الإسلام جملة ، قائلتان بالمجوسية المحضة ، ثم مذهب " مزدك " المؤبد الذي كان على عهد انو شروان بن تيماد ملك الفرس ، وكان يقول بوجوب تأسي الناس في النساء والأموال " ( الفصل في الملل والاهواء والنحل 115:2 ) .
لم يكن ابن حزم اول من ردّ ظهور القبيلة في الإسلام الى " ابن سبأ " الذي نسب اليه قابليات خارقة لم تتوفر للأنبياء ، كقدرته لاستمالة الناس ، وتوجيههم كيفما شاء ، وكأنهم قطيعا من الأغنام .
لكن الوقائع التاريخية ، تكذب هذا التفسير الساذج ، لظهور القبائل والمذاهب في الإسلام ، لان الخلاف الديني السياسي ، ظهر اول ما ظهر ، بين المسلمين الاوائل انفسهم ، قبل ان ينتقل الى اهل الأقاليم المفتوحة ، والاقوام المقهورة ، كالفرس مثلا .
وقد شاعت اسطورة " السبئية " ، بين مؤرخي الإسلام من غير الشيعة ، حتى أخذ بها كُتّاب مرموقون ، عُرفوا بالنزاهة والتجرد ، عن الافتراء الذي نسبه ابن حزم الى الإسماعيلية ، والقرامطة ، والمزدكية ، والأزارقة ، والشيعة عموما .
فقد أورد الطبري وهو صاحب مدرسة عقلانية محايدة ، روايات يُستشفّ منها ، ميله الى ارجاع الخلاف المذهبي ، الى مساعي عبدالله بن سبأ ( انظر تاريخ الطبري 4 : 230 – 341 ، 346 ...الخ ) .
لكن الطبري يورد أيضا خلافا لغيره من المؤرخين ، روايات أخرى اكثر صلة بالظروف الاجتماعية التي ظهرت فيها المدراس المذهبية ، والتجمعات القبائلية ، فأشار الى عوامل تكوينها ، مثل تراكم الغنائم الحربية بأيدي قلة متنفذة من المسؤولين ، وحرمان أكثرية المهاجرين الجدد الى الامصار الإسلامية من المستلزمات البسيطة للحياة . وهذه تفسيرات اقرب للقبول ، واكثر انسجاما مع التكوين التاريخي للمجتمع العربي الإسلامي .
ومن الجانب الاخر ، فقد طرحت المدارس الإمامية تفسيرا آخرا ، لأصول الانقسام المذهبي ، وبظهور نظام القبائل في الإسلام ، ردّته الى انكار مكانة الامام على علي ابن ابي طالب ، وغصب حقه الوراثي في خلافة الرسول ، باعتباره افضل المؤهلين لهذا المقام ، واقرب المرشحين رحما بالنبي ، فأوردت تبريرات شهيرة لدعم رأيها هذا ، منها وجود النص على امامة علي في خطبة غدير خمّ ، ومنها ترجيح مذهب الوراثة في الملك والإمامة .
لكن هذا الرأي ، لم يحض بموافقة مدارس أخرى ، انكرت مبدأ الوراثة السياسية ، وقالت ان المبدأ الذي نص عليه القرآن في امامة المسلمين ، هو مذهب الشورى . وقد احتج أبو بكر بهذا المبدأ عندما رفض تسليم ارض ( فدك ) الى ورثة النبي ، حيث استند الى حديث نبوي يقول :
" نحن معاشر الأنبياء لا نورث ....( انظر البلاذري ، فتوح البلدان ص 44 ، ياقوت معجم البلدان . مادة : فدك ) .
وقال أصحاب هذه المدارس ، ان الخلافة بالبيعة ، لمن يُجمع عليه اهل الحل والعقد من المسلمين ، ويوردون حججا لترجيح قولهم هذا ، منها قبول الامام علي بيعة الخلفاء الثلاثة ، من قبله ، ومنها حجج أخرى يطول سردها .
فنحن هنا ، لسنا في معرض مناقشة التبريرات النظرية ، والفقهية لإمامة الفاضل او المفضول ، ولا الدفاع عن قبيلة من القبائل العربية ، ولا الدفاع عن مدرسة مذهبية معينة ضد أخرى ، لان هذا ليس محله ، ويتطلب دراسات علمية مستفيضة ونزيهة ، بل ما يعنينا كباحثين ، مستنبطين ، ومحللين ، هو تحديد المغزى السياسي والاجتماعي للصراع المذهبي ، ومنه القبلي العربي ، فنرى ان ظهور المذاهب في الإسلام ، ونفخه في النعرة القبلية ، يعود في رأينا الى حقيقتين أساسيتين :
--- أسباب نفخ الإسلام في النعرة القبلية والمذهبية .
اولاً : الصراع بين المدينة والدولة :
اتخذ الصراع الطبقي في الإسلام اشكالاً معقدة وغير مألوفة ، يتعين توضيحها قبل تناول تطور النعرة القبلية والمذهبية في بلاد الإسلام .
فقد وُلدت مع ظهور الإسلام تناقضات أساسية استمدت جذورها من التكوينات الاجتماعية السابقة للإسلام ، وتطورت في اطار الامصار الجديدة ، واتخذت هذه التناقضات شكل صدام بين ( المدينة ) كوحدة اجتماعية – سياسية ، وبين ( الدولة ) المركزية الكبرى ، حيث اصبح الصراع فيما بعد ، القوة المحركة للمجتمع الإسلامي الأول .
برزت هذه الظاهرة جليا في الآيات القرآنية ، حيث يرد ذكر " القرى " ، و " القرية " ، باعتبارها الكيان السياسي الحضري المعروف قبل الإسلام . فمكة تميزت بكونها " أم القرى " ، وقد اشير الى مكة والطائف باصطلاح " القريتين " . وهنا لا بد من الإشارة الى ان معنى " القرية " في المفهوم اللغوي القديم ، هو غير المفهوم الدارج في الوقت الحاضر . فقد كانت تعني ( المدينة – الدولة ) مثل مدينة الحضر ، وتدمر ، والبتراء ، ومكة ، والطائف ، ويثرب ، وغيرها . فكانت هذه المدن يمثل كل منها دولة صغيرة مستقلة ، لها حكوماتها وارضها الزراعية المحيطة بها ، والمناطق التابعة لها . ولم يستخدم مصطلح القرية قديما بمعنى البادية ، وانما حُرّف هذا في العصر الحاضر ، فيَرِد على لسان العرب مثلا : " القرية .. المصر الجامع ... ويقال أهل القارية للحاضرة ، وأهل البادية للبدو .." .
وامام هذا التكوين " القروي " بالمعنى القديم للمجتمع الجاهلي ، ظهر الإسلام يدعو الى الوحدة السياسية المطلقة ، بتلبية الناس لدعوة النبي ، وطاعتهم لرسالته السماوية . فالإسلام كما معروف ، يعني الخضوع والطاعة ، بمعنى تنازل الكيانات السياسية المستقلة – القرى والقبائل – ، وانصهارها جميعا بالكيان المركزي الإسلامي الجديد .
هذا وقد دام التناقض بين الكيان القروي ( كيان المدينة – الدولة ) ، وبين الدولة المركزية الإسلامية ذات الابعاد العالمية ، بضعة قرون ، انعكس في عملية التنقل الدائم للعواصم الإسلامية طيلة القرون الثلاث الأولى للإسلام – مكة ، والمدينة ، والكوفة ، وبغداد ، وسامراء ، كأمثلة بارزة على ذلك . ففي اطار هذا التناقض ، ظهرت نعرة القبيلة في الإسلام كانعكاس لصراع اهل الكوفة ، وغيرها من الامصار الإسلامية ، ضد مركز الدولة الإسلامية كما سنبين فيما بعد .
ان التكوين التوحيدي للإسلام الأول ، لم يتسع لظهور نظام قبائلي . بل تعارض معه تمام التعارضة ، لأن المجتمع الإسلامي الأول ، كان يحمل بعض تقاليد المجتمع الجاهلي ، الذي وُلِدَ فيه ، بما في ذلك نظام القرى الحرة . فقد ذمّ القرآن التكوين القبلي للمجتمع ، وحرم تقسيم الناس الى شعوب وقبائل مختلفة ، وأدان الأنظمة المركزية القديمة ، معتبرا كياناتها القبلية دليلا على الظلم والجبروت : ( ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا – القصص : 4 ) . وجاء أيضا : ( ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء – الانعام : 159 ) .
ولم يكن نظام القبيلة مجهولا عن المسلمين الأوائل ، فاصطلاح القبيلة بمعناه السياسي ، ظهر اول ما ظهر في اللغة العربية ، إشارة الى نظام الملوك الذين ورثوا دولة الاسكندر المقدوني . فيقول السهيلي :
" وكانت ملوك القبائل والجماعات متعادين ، يغير بعضهم على بعض ، وقد تحصن كل واحد منهم في حصن ، وتحوّر الى حيّز ، منهم عرب ، ومنهم اشغانيون فُرس .... وكان الذي فرقهم وشتّت شملهم ، وأدخل بعضم بين بعض – لئلا يستوثق بهم الملك ، ولا يقوم لهم سلطان – " ( الاسكندر بن فيلبش اليوناني ... الروض الانف 1 : 31 ) .
وفي رواية أخرى إنّ ارسطوطاليس ، هو الذي أشار على الاسكندر ، بث النعرة القبلية بين الجموع فقال له : " فرّق كلمتهم بان تجعل لكل قبيلة منهم ملكا ، فلا يؤدي بعضهم الى بعض طاعة ، ويلجأ كل فريق منهم اليك " ( الاسكافي – لطف التدبير . ص 16) .
ويفسر الاسكافي ظهور المسيحية في الدولة الرومانية ، بدوافع قبائلية ، إذ يقول : ان الروم اجتمعت على خلع قسطنطين ، فشاور مستشاريه فقالوا له : لا طاقة لك بقومك ، وقد اجتمعت كلمتهم على خلعك ، وهم على غير دين يفهمونه ، هذا والروم لا تعرف النصرانية ، وهي تعبد الاوثان على جاهليتها ، فقال : فما الحيلة ؟ . قالوا له : تستأذن لتحجّ الى بيت المقدس ، ثم تطلب دينا من اديان الأنبياء ، فتدعوهم اليه ، وتحملهم عليه ، فانهم يفترقون فرقتين ، فرقة تصير معك على دينك ، وأخرى تشد عنك ، فتقاتل من عصاك بمن اطاعك ، فانك تظهر عليهم ، لأن كل قوم قاتلوا على دين فهم غالبون " ( المصدر السابق . ص 48 ) . وفي احد الخطابات السياسية للحسن الثاني قال ، وهو يشرح وضعه من المعارضة الشعبية : اذا قالت الثلثين عاش ، وقال الثلث يسقط ، نطْحن الثلث الذي قال يسقط ..
يظهر جليا إذن ، ان المسلمين القدماء ، كانوا يفهمون مغزى النظام القبائلي بكل دقة ، وكانوا يرون في الإسلام الأول ، ضمانا لعدم تطور هذا النظام التقسيمي . والحقيقة فان الفترة الإسلامية الأولى ، عهد النبي محمد ، لم تشهد نظاما قبائليا متناحرا بين المسلمين انفسهم ، وانما كان الانقسام القبائلي ، يقوم بين أهل الإسلام وأهل الذمة . ولكن مجرى التاريخ قد أظهر ، والمصالح قد أظهرت ، نظام القبيلة العربية الشوفينية العنصرية ، كنتيجة منطقية لتطور الدولة المركزية القائمة على القهر ، والتسلط ، والجبر ، والتوسع ، لا سيما تلك الدول الاستعمارية القديمة ، والملكيات المركزية الكبرى ، التي سيطرت على مناطق شاسعة من العالم . ومن ثم فلم تظهر النعرة القبائلية في الإسلام ، الاّ عندما ابتعدت الدولة الإسلامية عن أصولها ( المدنية – القروية ) القديمة ، واستخدمت العسكريين المماليك ، خصوصا بعد فترة البويهيين والسلاجقة الاتراك .
ثانيا ) النعرة المذهبية الدينية في تشتيت الوحدة الشعبية
في أعلاه ، رأينا كيف ان الإسلام نفخ في النعرة القبلية ، وان هذه ، لم تكن مجهولة لدا معتنقي الإسلام . بل انها كانت ملازمة له ، في كل اطوار الحكم الإسلامي ، من الخلافة الى الدولة الإسلامية . فالحاكم الإسلامي اعتمد النعرة القبلية ، لتشتيت الصفوف ، واضعاف الشعب ، وتحويل الصراع ، الى صراع يجري بين الحاكم الإسلامي الفاشي ، والشعب الذي تمثله القبائل ، الى صراع بين القبائل المتناحرة بعضها البعض ، على الغِلّة ، والامتيازات ، والثروة ، والجاه ، والمال ، فيما الحاكم الإسلامي الفاشي ، والمستحوذ وحده وعائلته على السلطة ، والثروة ، والمال ( عثمان بن عفان ) ، وبعد عثمان بن عفان ، يستفرد بالجميع ، ويظهر انه فوق الصراعات القبائلية ، وانه محايد ، ولا يد ، ولا دخل له فيها ، في حين انه هو رأس الفتنة الضاربة . حتى يستمر يسود لوحده ولعائلته .
هكذا سنجد ان النظام القبائلي ، وظفه الحاكم الإسلامي ، كأداة للقهر السياسي ، والسيطرة السياسية . فهو بذلك نظام أوجده نظام الطغيان ، والاستبداد المطلق للقهر السياسي ، وكوسيلة لشق الصفوف ، والحيلولة دون اتحاد الشعب ، لان في الاتحاد قوة اقهار الحكام ، وقهر نُظم القهر والاستبداد .
لقد قسمنا هذا القسم الى محورين . المحور الأول وكان عنوانه ، الصراع بين المدينة والدولة ، في حين ان عنوان المحور الثاني عنوانه ، هو النعرة المذهبية والدينية ، في تحديد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين .
ثانيا : النعرة المذهبية والدينية ، في تحديد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين :
انعكس التناقض بين الدولة الإسلامية المركزية ، وبين الكيانات المدنية ( القروية ) ، وتقاليدها التي استمرت بعد الإسلام ، في صراع اجتماعي آخر ، سرعان ما اندمجا فيه ، ليُكوّنا تيارا سياسيا يعارض السلطة المركزية للخلافة .
اعتمد الإسلام في نظريته السياسية ، على وحدة السلطة السياسية والاقتصادية ، التي اتخذت شكلا محددا بعد تطور نظام الخراج ، وذلك في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب . فقد إعتُبرتْ الأراضي الزراعية للأقاليم المحتلة التي غزوها عُنوة ، ملكا للامة الإسلامية ، أي ملكا للدولة الإسلامية ، التي أوكلت بدورها زراعة تلك الأراضي للفلاحين ، لقاء ضريبة معينة تسمى الخراج .
ولمّا كان عائد الخراج ، يرجع من الناحية ( الشرعية ) على الأقل لمجموع الامة ، فقد قيّد هذا النظام من دور الحاكمين في التلاعب في الأراضي الخراجية ، لكنه دفعهم من جانب آخر ، نحو تجميع المِلْكيات الخاصة ، وإقامة المصانع والمؤسسات الإنتاجية .
لقد اقترن نظام الخراج ، بتطور ديواوينية ( بيروقراطية ) واسعة النفوذ ، تتمتع بثقافة تقليدية عالية ، ميّزتها عن العامة المسحوقة الجاهلة . فكان من المنطقي ان يسير المجتمع الإسلامي ، بعجلة تطور عرجاء ، افضت الى انقسامه الى معسكرين كبيرين – الحاكمين والمحكومين – ، او يسمى في الادب القديم ، بالخاصة والعامة .
هكذا نرى ان التركيبة السياسية – الاقتصادية للمجتمع الإسلامي ، قد حدّدت الطبقات الاجتماعية ، وكيّفت طبيعة الصراع الطبقي ، واوجدت الأسس الاجتماعية ، لظهور القبائل المكرسة للانقسام ، كما حصل في فترات لاحقة ، باعتبار ان القبائل تمثل شكلا معينا من اشكال التكوينات الطبقية .
ان هذه التشكيلة السياسية الاقتصادية المعقدة ، تجعل من المُتعذّر فهم المدارس المذهبية في الإسلام ، بالاقتصار على الاقاويل الفقهية والنظرية ، دون النظر الى الدلالات الاجتماعية التي تعبر عنها تلك المدارس ، والى الظروف التاريخية الخاصة ، التي أحاطت بظهور كل فئة من الفئات المذهبية ، ومدى علاقتها بالدولة من ناحية ، وبالفئات المحكومة من ناحية أخرى .
وفي اطار هذا المنظور ، برزت ظاهرة عامة في تاريخ بعض المقاطعات الإسلامية ، قلما نجد لها مثيلا اليوم في المجتمعات الأخرى ، وهي حقيقة تمايز دين الحاكمين ، عن دين المحكومين ( الإسلام الرسمي والإسلام الشعبي ) ، واختلاف المذاهب الرسمية عن المذاهب الشعبية ، كما يجري الامر اليوم في العراق والبحرين والسعودية ، والمغرب ، حتى انعكست القاعدة القديمة القائلة : " الناس على دين ملوكها " ، الى نقيضها .
ان تقلب الأديان والمذاهب في المجتمعات الإسلامية ، كانت تجري تبعا لتقلب الأنظمة السياسية الحاكمة ، او الاسر المالكة . وهذا بخلاف ما عرفته اوربة . فانتشار المسيحية مثلا ، كان نتيجة قرار سياسي اتخذه بعض ملوك الروم ، لاعتناق دين المسيح ، وكذلك الحال بالنسبة لحركات الإصلاح الديني الاوربية في العصر الوسيط .
ان انتشار الأديان المختلفة بالمنطقة العربية الإسلامية ، كان يتقرر في حالات كثيرة ، حسب ميل السلطة السياسية القائمة . وهذا نلاحظه مثلا في ايران منذ عهد زرادتش وماني ، وحتى عهد الاسرة الصفوية في القرن السادس عشر . كذلك نفس الحال نجده في مصر التي كانت أحد اهم مراكز الدعوة المسيحية قبل الإسلام ، لكنها قبلت الدين الإسلامي ، واللغة القرآنية ، دون مقاومة تذكر .
ففي الفترة الإسلامية ، قامت في مصر اكبر دولة شيعية في تاريخ الإسلام : الدولة الفاطمية التي لم تزل آثارها العمرانية شاخصة للعيان : القاهرة ، والجامع الازهر ، والاضرحة المقدسة ....لخ ، لكن المذهب الامامي ( الإباضية الفاطمية ) ، سرعان ما اختفى من مصر ، مع تغلب صلاح الدين الايوبي ، وازالته للخلافة الفاطمية الشيعية .
اما في تاريخ وادي الرافدين ، فنرى ظاهرة معاكسة ، حيث ان أهل بابل ، قد عارضوا الاحتلال الإخميني – الفارسي ، قبل القرن السادس قبل الميلاد ، واتخذت المعارضة شكلا دينيا ، بانتشار مذهب وثني معين ( يتعلق بعبادة الاله سن ) ، حمل المحتلين الفرس على التظاهر بحماية المذهبي البابلي التقليدي ، إستمالةً لكهنة بابل المحافظين . وفي الفترات اللاحقة ، نجد اهل العراق يعتنقون المسيحية ، معارضة للمجوسية دين السّاسانيين . ( الفرس ) .
وكذلك الحال في العهد الإسلامي ، كان مدى انتشار المذهب الشيعي ، يتناسب مع تزمت الحاكمين ، وتقريبهم للحنابلة ، وأهل الحديث . وفي العهد العثماني ، نلاحظ ان كثيرا من العشائر والاسر السنية المرموقة في العراق ، انتقلت الى المذهب الشيعي ، استجارة بمراكز الشيعة الكاظمية ، والنجف ، وكربلاء من ظلم الحكم العثماني .
وقد شملت هذه الظاهرة اكثر نواحي العراق ، ولم تقتصر على المنطقة المحيطة بالمراقد الشيعية ، فمن المعروف ان اكثر المراثي الحسينية انتشارا في العصر الحديث ، هي من نظم بعض شعراء الموصل . وفي الوقت نفسه ، نرى بروز مظاهر التضامن ، بين اهل المذاهب والأديان المختلفة ، عند تعرض البلاد الى للاحتلال الأجنبي ، او عند قيام الثورات الشعبية الكبرى في القديم والحديث .
ان هذه الظواهر غير المعتادة التي برزت على مرّ القرون ، تدل لاشك ، ان الصراع القبائلي ، والصراع المذهبي ، كان دائما تعبيرا عن صراع اجتماعي ، وانعكاسا لمقاومة شعبية ضد تسلط اجنبي ، او استبداد محلي ، بأشكال دينية ، او مذهبية ، او قبائلية ، تنسجم مع الاحوال السائدة في المجتمع ، والتقاليد الجارية بين الناس .
--- الإطار الاجتماعي للنعرة القبلية والمذهبية .
بداية ظهور النعرة القبلية والمذهبية في الإسلام :
ظهرت مقدمات النعرة القبلية والمذهبية في الإسلام ، مع توجه الخلافة نحو الإدارة المركزية المطلقة ، والمَلكية المستبدة خلال ولاية عثمان بن عفان ، واقترن ذلك بانفجار اول ثورة سياسية في الإسلام ، من قبل القبائل التي تم اقصاءها من الغنيمة ، ومن النصيب من أموال بيت المسلمين ، الذي استأثر به عثمان لوحده ، مع اسرته و عائلته ، والمقربين اليه من عائلته وأصدقاءه ، كما هو عليه الوضع بالمغرب اليوم .
بيد ان الصراع السياسي في الإسلام ، يعود الى فترة سابقة عن ولاية عثمان ، شهدت بداية تحول الصراع القبلي والمذهبي ، الى صدام واسع بين العامّة ، وبين مركزية الدولة الإسلامية .
ومن اجل توضيح هذه القضية ، يجب ان نعود الى أوضاع مكة قبل الإسلام ، واستعراض الأحوال السياسية بعد وفاة النبي محمد .
– الإسلام والنعرة القبلية والمذهبية :
كانت مكة ، تمثل نموذجا متطورا للحكم القروي ( بالمفهوم القديم الذي المحنا اليه في الدارسات السابقة )، فهي كانت امّ القرى ، ومركز الحياة السياسية والتجارية في الجزيرة العربية قبل الإسلام . فكان نظامها السياسي اشبه بالجمهورية الديمقراطية الشعبية ، يقوم على توازنات بين بطون قريش القبيلة السائدة بمكة .
كانت السلطة السياسية في المدينة ، تتناسب والمكانة التجارية لكل بطن من بطون قريش ، لا على القوة العسكرية ، الامر الذي استلزم نشوء نظام من الحكم ، يقوم على السلطة الروحانية ، وشرف الانساب ، وهو نظام يستمد جذوره من تقاليد تاريخية عريقة في القدم .
في هذا الاطار ، سنجد ان قريش المستفيد الأول من هذا التراتب العنصري والتمييزي ، قد عارضت كل محاولة لتحويل مدينتها الى مَلَكية ، او الحاقها باي من الدول الكبرى القائمة آنذاك ، فأحبطت دسائس البيزنطيين لتنصيب عثمان بن الحُوَيْرث ملكا عليها . وقد ساعد هذا الوضع غير العسكري لمكة ، على تعزيز مكانتها الدينية ، باعتبارها حَرمُ أمن ، يأوي اليه كل خائف ، وملاحق ، وطريد ، ومضطهد .
وفي فترة معينة قبل دخول الإسلام ، تصدّر بنو امية رئاسة مكة ، وسيطروا على تجارتها ، وحلّوا محل بني هاشم الذين ذهبت ثرواتهم ، وتردّت مكانتهم التجارية . فيذكر ابن حبيب ( انظر . المحبر ص 165 ) ، ان حرب بنو اميّة خلف المُطّلِب بن عبد مناف ، على رئاسة قريش ، وكان أبو سفيان قائد قريش في حربها ضد المسلمين .
وبعد فتح مكة ، تقرر ان تظل المدينة ( يثرب ) عاصمة الدولة الإسلامية ، لأسباب كثير منها ، رغبة النبي في بناء مجتمع إسلامي بعيدا عن التناحر القبلي والمذهبي ، وهو هدف لا يمكن ان يتحقق في ظل هيمنة قريش على مكة ، حتى بعد الغزو ( الفتح ) ، واستمرار نفوذها السياسي والديني في جزيرة العرب .
وفي المدينة ، لم يكن لبني اميّة ، او أي من القبائل العربية ، نفوذ يوازي نفوذ ومكانة الجماعة الإسلامية ، إذ أخذت القبائل التي هاجرت اليها ، واستقرت فيها ، بالانحلال والاندماج بالمجتمع الإسلامي الجديد ، الذي بدأ يتطور ، ويمتد منها الى بقية الانحاء الأخرى .
استهدف الإسلام ، مركزة مختلف مستويات الحياة السياسية ، والاقتصادية ، والروحية ، وكان من دوافعه الاجتماعية ، إزالة الانقسام العشائري ، والقبائلي ، والقومي ، وصهر التشكيلات الاجتماعية المستقلة – كالقبائل والقرى ( المدن – الدولة ) ، والدويلات الصغيرة – ، بكيان إسلامي موحّد ، يسعى الى تشكيل دولة مركزية عالمية .
انصبت مساعي النبي محمد بعد فتح مكة ، على إقامة نواة المجتمع العالمي الجديد في المدينة ، وفق الاسبقية والاولوية في خدمة الدعوة الإسلامية ، لا على أواصر الانساب القبلية .
بيد ان التقاليد القبلية ، كانت عميقة الجذور ، تستمد قوتها من تكوين اجتماعي عضوي ، رسّخته ظروف حياة البادية . وقد ظلت التقاليد والعلاقات القبلية حيّة ، خارج حدود المدينة ، رغم بداية انحلالها في العاصمة الإسلامية . فكان من المحتم ان تجد تعبيرها في الحياة السياسية ، حين توفّر الظروف المناسبة ، وهذا ما جرى مباشرة بعد موت محمد .
ثار خلاف عميق بين صحابة النبي محمد ، حول مسألة اختيار خليفة له . فقد أراد اهل المدينة وهم الأنصار ، ان يكون الخليفة منهم ، فرشحوا سعد بن عبادة ، في حين مال بقية المسلمين الى اختيار الخليفة من قريش ، فبُويع أبو بكر الصديق ، وهو من قبيلة قريشية قليلة الشأن ، وهذا أهّل أهم بيتين من بيوت قريش : بني هاشم اهل النبي ، وبني اميّة زعماء مكة قبل الإسلام .
كانت دوافع اختيار ابي بكر ، حِرصُ جماعة المسلمين ، تجاوز الصراعات القبلية القديمة ، وترسيخ مبدأ الشورى ، رغم ان التصويت على ابي بكر كان من ستة أصدقاء في مؤتمر " سقيفة " الإنقلابي . أي كان انقلابا مدروسا على نظام الشورى المُتغنّى به . وما كان من الممكن ان يتحقق هذا ، الاّ بقطع الطريق على استئثار البيوتات العليا من قريش ، سيما بني هاشم وبني امية ، بالسلطة السياسية والدينية . وقد ساعد هذا الاختيار المفروض على وحدة اهل المدينة ، في مواجهة حركة الثورات القبائلية ، التي شوّهوها بتسمية حرب ( الردة ) بعد وفاة النبي ، واستعادت الدولة الإسلامية سيطرتها على الجزيرة العربية .
وبعد القضاء وتصفية القبائل الثائرة ( المرتدة ) ، ضد دكتاتورية السلطة المركزية الراشدة ، توجّه المسلمون للغزو ( الفتوح ) الخارجي ، بحملات عسكرية عاصفة ، أطاحت بأكبر امبراطورتين في العالم آنذاك .
وفي ظروف التوسع الإسلامي ، ومركزة السلطة السياسية ، امكن لجم الصراعات القبلية ، والشروع على نطاق أوسع من ذي قبل ، بصهر القبائل المختلفة بالقوة .
لكن الأوضاع التي ظهرت على مسرح الاحداث بعد هذا الغزو البربري ، وتمصير الامصار ، جلبت معها صراعات وانقسامات اجتماعية جديدة ، إذْ تكدّست الغنائم الهائلة في مركز الخلافة في الحجاز ، واقتسام ثروات الاكاسرة والبزنطيين ، بين المُقاتلة المسلمين في الامصار ، فخلقت أوضاعا تطورت فيها طبقات اجتماعية جديدة ، وتطلعات حضارية لم تكن معروفة في المجتمع الإسلامي في الحجاز .
استقر المقاتلون المسلمون اول الامر ، في المدن القديمة المحتلة التي تعرضت للغزو، وطالب البعض منهم بتقسيم الأرض الزراعية بينهم في تلك الأقاليم ، والسماح لهم بالانخراط في حياة البلدان المحتلة .
امام هذه المطالب ، وجدت الخلافة نفسها ، تواجه خطر انصهار المقاتلين في التجمعات السكنية الكبيرة لتلك البلدان ، وابتعادهم تدريجيا عن الحياة الإسلامية . هنا قرر الخليفة عمر بن الخطاب ، بالتشاور مع صحابته واصدقاءه في المدينة ، إعادة تنظيم القوات الإسلامية ، وتنفيذ خطوات سياسية وعسكرية بعيدة الأثر ، منها تطبيق نظام الخراج ، وسحب المقاتلين من المدن القديمة ، وتجميعهم في امصار جديدة ، وتطبيق المناوبة في خدمة البعوث العسكرية الى المناطق النائية . فكانت الكوفة ، اول الامصار الإسلامية الجديدة ، التي ضمت اكثر المقاتلين الذين انتهت اليهم خزائن الساسانيين ، واتسعت خلال بضع سنوات ، حتى قاربت نفوسها نصف مليون نسمة حسب الروايات التاريخية ، وبعد ذلك مصّرت البصرة والفسطاط .
--- أول حكم ذاتي لمواجهة النعرة القبلية في الدولة الإسلامية .
ان تمصير الامصار ، وتطبيق الأنظمة الإدارية الديمقراطية الجديدة ، خلقا مراكز سياسية جديدة ، لا تقل وزنا عن عاصمة الدولة الإسلامية في الحجاز . ونتيجة لذلك ، برزت مخاطر الصدام بمركز الدولة ، وتطوّر الى صراع متنامٍ ، بين المدينة في الحجاز ، واهل الكوفة .
وقد حاول الخليفة عمر تسكين الأمور ، بمداراة الكوفيين ، وتلبية اكثر مطالبهم ، ولكن الوضع السياسي الجديد ، كان من الخطورة بمكان ، ممّا حمل الخليفة على اتخاذ إجراءات تنظيمية ، لتحقيق توازن سياسي جديد ، يعزز من مكانة العاصمة الإسلامية في الحجاز ، وهيمنتها على الامصار .
تتلخص هذه الإجراءات ، بإعادة تنظيم الدولة الإسلامية كلها ، وفق نظام ديمقراطي جديد للأمصار ، منح لكل منها استقلالاً ذاتيا فيما يتعلق بأمور الإدارة ، والاقتصاد المحلّيين ، على ان يُراجع مركز الخلافة في القضايا السياسية العليا . و كان نظام الحكم الذاتي هذا اشبه بالاتحاد الفدرالي انْ صح التعبير ، مركزه المدينة .
قسم الخليفة عمر الدولة الإسلامية الى سبعة اقسام ، وفق نظام ( الأسباع ) ، وهو نظام قديم يرجع الى أصول بابلية ، يُصور العالم المعمور على هيئة سبعة أقاليم ، مُرتبة على شكل سبع دوائر ، ست منها بدائرة مركزية تمثل أقاليم بابل . يقول اليعقوبي ( 142: 2 ) ان عمر بن الخطاب ، هو الذي اوجد هذا النظام . فقال ان عمر : " مُصّر الامصار في هذه السنة ( 17 هجرية ) . وقال الامصار سبعة . فالمدينة مصر ، والشام مصر ، والجزيرة مصر ، والكوفة مصر ، والبصرة مصر ....لخ " .
كان المقصود بهذا التنظيم ، منح الامصار قدرا كبيرا من الاستقلال الذاتي ، وخصص لها أربعة اخماس الغنائم العسكرية ، ودفع الخمس المتبقي لمركز الدولة الإسلامية ، إضافة الى نسبة معينة من إيرادات الخراج . ونتيجة لهذه الإجراءات الديمقراطية التقدمية ، اصبح في حوزة الامصار موارد اقتصادية ، وقوة عسكرية كبيرة ، فعمل الخليفة عمر على خلق توازنات مُعينة بينها ، لئلا تتمرد على مركز الخلافة .
كان تأسيس مدينة البصرة وتمصيرها ، يستهدف خلق قوة موازنة للكوفة ، وكانت البصرة اول الامر معسكرا صغيرا ، وقد سارعت الخلافة بمدها بالمهاجرين من مختلف انحاء الجزيرة العربية ، ثم الحقت بها بعض الأقاليم التي غزاها اهل الكوفة لسد نفقات المقاتلين ، والمهاجرين الجدد . ( انظر الطبري 4 : 160 ) .
اثار هذا الاجراء الأخير اهل الكوفة ، فطلبوا من اميرهم عمّار بن ياسر ، رفع شكواهم الى الخليفة . لكن امام رفض الأمير طلبهم ، وساند قرار الخليفة بدعم اهل البصرة ، شغبوا ( شغب ) عليه ، وطالبوا الخليفة بعزله ، فاضطر عمر لتلبية طلبهم وهو كارها ، فقال : " أعضل بيّ " أهل الكوفة " . وكان يقول : " أي نائب اعظم من مائة الف لا يرضون غير الأمير ، ولا يرضى عنهم امير " .
ان هذا الصراع بين أهل الكوفة والخلافة ، قد تطور فيما بعد عبر سلسلة من الثورات والحروب الأهلية ، مع أهل البصرة وأهل الشام ، ليتخذ صورة مذهبية . وفي أرضية هذا الصراع ، بذرت البدرات الأولى للانقسام القبائلي والمذهبي في الإسلام . ثم ان ما جرى على نطاق الدولة الإسلامية ، انعكس أيضا داخل كل مصر من الامصار بصورة متفاوتة .
لم يقتصر تطبيق نظام ( الاسباع ) على إدارة الدولة الإسلامية ، بل شمل تنظيم بعض الامصار الإسلامية نفسها . وقد أُعيد تخطيط مدينة الكوفة وفق النظام المذكور ، لضمان هيمنة المركز الإداري على الاحياء القبلية المحيطة . فكان من مزايا التخطيط الجديد ، توفير سيطرة مركز المدينة على الأطراف ، وضمان عزل الاحياء القبلية عن بعضها البعض عند الضرورة ، وكذلك سد منافذ المدينة الى الخارج إذا اقتضى الحال .
وقد ظهرت نتائج هذا التخطيط الذي استقرت عليه الكوفة ، في تسهيل ضرب الحركات الثورية فيما بعد ، ولا سيما ثورة الحسين ، وثورة زيد بن علي ، حيث استطاعت الكوفة المدينة ، حصر الناس في معسكر النخيلة ، او في المسجد الجامع ، وعزلهم عن الثوار .
وكما حدث في الصراع بين الكوفة ، والبصرة ، والشام ، فقد جرى ذلك بين احياء الكوفة نفسها ، فانحازت قبائل اليمن الى الشيعة ، في حين انحازت ثقيف وغيرها من القبائل العدنانية الى الامويين .
لكن التنظيمات الديمقراطية التي نفّدها عمر بن الخطاب ، باحترامها للاستقلال الذاتي للأمصار ، حافظت على وحدة المقاتلة الإسلامية ، واضعفت عوامل الانقسام المذهبي ، والصدام السياسي . غير ان هذا الوضع سرعان ما تغير بعد وفاة عمر ، وانتقال الخلافة الى عثمان بن عفان ، الذي سيطر بالكامل لوحده ، وعائلته ، وأصدقائه ، والمقربين منه على بيت المال ، شرارة مقتله ، وشرارة ثورات الامصار الثورية ، وعلى رأسهم ثوار مصر .
كان الخليفة الجديد ، ينتمي الى الاسرة الاموية التي فقدت مكانتها السياسية المهيمنة بعد الإسلام . وقد تولى عثمان الخلافة في وقت أنجزت اكثر الغزوات ، وتزايدت ثروات المقاتلة ، وتراكمت الأموال في الامصار ، فأدى هذا الى تزايد هجرة الناس للبلدان المغْزُوّة ، وخلق مشاكل خطيرة حاول الخليفة مواجهتها بإحداث إجراءات لم تعهدها الجماعة الإسلامية ، إذ لم يمر وقت طويل ، حتى شرع عثمان بن عفان بانتهاج سياسة تخالف سيرة من سبقه .
فقد حاول تعزيز المركزية في الدولة الإسلامية ، وتحويلها من ديمقراطية الى دكتاتورية ، وتقوية مؤسسة الخلافة ، الدولة انا / انا الدولة ، وجعلها اشبه بالمُلْك . فاقدم على الغاء نظام الامصار ( الحكم الذاتي ) الديمقراطي التقدمي ، وحولها الى إدارات محلية مرتبطة مباشرة بالخلافة ، وعيّن أبناء عشيرته ، وأصدقائه من الامويين امراء على الأقاليم والامصار ، وخول لهم الاستئثار بأموال الدولة الإسلامية .
وكان من إجراءات عثمان ، تعزيز هيبة الخلافة أمام العامة ، ونبذ حياة البساطة التي سار عليها النبي ، وأبو بكر ، وعمر . فقد بنى لنفسه قصرا كبيرا في منطقة الزوراء بالمدينة ، وحاول نقل مركز الخلافة الى مكة كصلاة المقيم فيها . وهذا امر اخذه عليه خصومه ، واعتبروه من احداثه المبتدعة . ثم عمل عثمان على احاطة نفسه بجند مماليك ، اختارهم من العبيد الذين كانوا يرسلون الى الحجاز ، ضمن الخمس المخصص للخلافة من الغنائم العربية ، فكانوا يسمون " عبيد الخمس " ، أي الخماسة .
ثم شرع عثمان بتدوين القرآن ، وحصره ذلك بالخلافة وحدها ، فامر بتوحيد المصاحف ، واحراق القديمة منها التي كتبت في عهد النبي والخلفاء من بعده . والغى نظام الامصار، واحل محله نظام ( الاجناد ) ، لذلك ابدل اسم الكوفة ، فأصبحت " كوفة الجند " ، كما تذكر العديد من المصادر .
ورغم انه بعث للأمصار سبعة مصاحف ، الاّ انه اسقط مصاحفها الخاصة بها ، سيما مصحف ابن سعود ، الذي ظل موضع اجلال من اهل الكوفة والشيعة عامة . وسمح عثمان لأشراف الحجاز ، الانتقال الى الأقاليم بعد ان كان عمر منعهم من ذلك . وسوغ لهم استثمار أموالهم ، وشراء العقارات في الامصار ، وبناء دور التجارة فيها ، أي الجمع بين الحكم ، والتجارة ، والثروة .
وبمثل هذا التنظيم الاستبدادي شبه الملكي للدولة غير المعهود من المسلمين ، قاد الى تدمر واسع بين الناس ، واثار روح التمرد في الامصار التي حُرمت من استقلالها الذاتي ، كالكوفة ، والفسطاط ، والبصرة . وقد كانت ثورة اهل مصر شديدة على عثمان لأسباب عديدة ، منها انه اسقط الفسطاط كليا من بين الامصار، ولم يخصّها كما فعل مع الامصار الأخرى .
انفجر التذمر الشعبي بثورة سياسية كبرى ، حُوصر فيها الخليفة في داره في عاصمة الدولة الإسلامية ، ثم قتل دون ان ينصره احد ، غير بعض أبناء عمومته من الامويين .
وبعد مقتل عثمان بايع اهل المدينة علي بن ابي طالب بالخلافة ، فهرب الامويون من المدينة ، وتجمعوا في الشام استجارة بأميرها معاوية بن ابي سفيان . بعد ذلك انحاز بعض اشراف قريش الى البصرة في محاولة للإنفراد بالعراق ، وعزل الحجاز عن اهم أقاليم الدولة الإسلامية ، الامر الذي دفع بالخليفة علي بن ابي طالب الإسراع الى ترك الحجاز ، واتخاذه الكوفة مركزا للخلافة ، والشروع بحروب طويلة ضد البصرة والشام كما هو معروف .
هكذا نرى ان محاولات عثمان بن عفان فرض نظام دكتاتوري مركزي مطلق ، وحرمان الامصار من استقلالها الذاتي الديمقراطي ، وتركّز الملكيات الخاصة بيده ، ويد عائلته ، وأبناء عمومته ، وتعمق التمايز الطبقي ، والعنصري ، كانت العوامل التي قادت الى صراع سياسي حاد ، مهّد الطريق لظهور القبلية والمذهبية في الإسلام . فما اشبه الامس باليوم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حيوان راكون يقتحم ملعب كرة قدم أثناء مباراة قبل أن يتم الإمس


.. قتلى ومصابون وخسائر مادية في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل و




.. عاجل | أولى شحنات المساعدات تتجه نحو شاطئ غزة عبر الرصيف الع


.. محاولة اغتيال ناشط ا?يطالي يدعم غزة




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة