الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبدُالنَّاصِرِ في مِرآةِ الشعرِ العُروبيِّ

صبري فوزي أبوحسين

2023 / 7 / 16
الادب والفن


أ.د/صبري أبوحسين
إن العلاقة بين الشعر والتاريخ، وبين الشعر والترجمة الغيرية، علاقة متينة مُتجذِّرة منذ وُجِد فنُّ الشعر عند أسلافنا العرب؛ أولئك الذين رأوا فيه ديوانًا لهم: يُسجِّلون فيه مفاخرهم ومآثرهم، ويرصدون به مُجريات أحداثهم وصنيع أبطالهم، فكان عندهم "علم قوم لم يكن لهم علمٌ أصحَّ منه"؛ لأنه يعايش البيئة في آلامها وآمالها، ويتابع الواقع العربي في الأفراح والأتراح، عبر تفرُّس الشعراء في الحياة والأحياء، ووقوفهم مع الشخصيات البطولية الفذة، ذات التاريخ الحي الساخن الحار، من الممدوحين أحياءً، والمَرْثِيِّين أمواتًا، سواء عن طريق الرؤية الوصفية، أو النظرة التحليلية: بعثًا لتاريخ ماضٍ تعرض للاندثار، أو استدعاءً له وتوظيفًا لأحداثه في موضوعات معاصرة.
وإن (ثورة الثالث والعشرين من شهر يوليو سنة 1952م)، ثورة ذات أثر فاعل في نفوس المبدعين المصريين والعرب جميعًا، منذ زمن حدوثها وإلى الآن، وأكبر دليل فني على ذلك الأثر ما يسمى (الشعر العُروبي)؛ فهو نوع من الشعر العربي المُستَحْدَث في فترة الخمسينيات وما بعدها، انبثق عن ثورة يوليو، وعبَّر عن الحالة السياسية العَرَبِية وحدةً وتفرقًا، نصرًا وانكسارًا، وتحدث عن أعداء العرب والعُروبة وكيفية مواجهتهم، تسجيلاً وتصويرًا، وعرضًا واستشرافًا، وما أصدق قول الشاعر المصري عبدالمجيد فرغلي(ت2009م) في ذلك:
إن للأوطان دَيْنًا مُسْتَحَقًّا إن أرادته يُؤدَّى من دمـانا
فهي أمٌّ طالما تاقت إلينا مذ نشأنا ثم أولتنا الحنانا
وقوله:
وما نحن إلا أمة عــربـــيـــة ونيل المُنَى فيها على غيرِها صعبُ
ومن القادة العُروبِيِّين البارزين المؤثرين والتاريخيين في هذه الثورة الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر(1918-1970م) الذي له جهود فارقة وأدوار خطيرة في مجرياتها سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، مصريًّا وعربيًّا ودوليًّا، وهي جهود وأدوار صنعت له كاريزما خاصة ساحرة وجاذبة، ولا أدل على ذلك من تلك المسيرات التي حدثت في ربوع الوطن العربي عقب نبأ وفاته، حتى قال أحد المتابعين هذه المسيرات: "أعظم إنجاز لعبد الناصر كان جنازته. إن العالم لن يرى مرة أخرى خمسة ملايين من الناس يبكون معًا"! كما نرى أثر هذه الكاريزما في تلك الأشعار الباكية والمُتَفَجِّعة والنَّادِبة والمُؤَبِّنة لشخصية ذلكم الزعيم العُروبي التاريخي، وهي أشعار كبيرة الكمِّ، كثيرة الكيف، متنوعة المكان مصريًّا وعربيًّا، ففي حالة موت هذا الزعيم حيث الحزن الجاثم، والصدمة النفسية والعقلية المهيمنة، كان لابد للشعراء من تجارب للتعبير عن حزنهم على فراقه بطلاً، وفراقه مُخلِّصًا، وفراقه زعيمًا، وفراقه أملاً، وفراقه نجمًا يُستَراح إليه ويُنتَظر نورُه ويُتبَع طريقُه... فقد كان لفترة حكمه أثر كبير على الشعر العربي والشعراء بكل توجهاتهم، فشهد الشعر احتفاءً بإنجازاته، ورصدًا لأحداث حياته، وظل ذلك حتى بعد رحيله تجد الشعراء يُعنَوْن بتوديعه، ويبكونه في كل ذكرى من ذكرياته، ويستدعونه رمزًا في مُلِمَّاتِهم!
ونبدأ هنا مع قصيدة شاعر لم يكن من دراويش عبدالناصر ولا مادحيه، ومع ذلك تأثر تأثرًا شديدًا برحيله، هو الشاعر صلاح عبدالصبور(1931-1981م) في قصيدته (الحلم والأغنية) التفعيلية التي على نسق (متفاعلن) الإيقاعي، والتي يقول في مقطعها الأول مُعلنًا عن الدهشة الشعبية العارمة من صدمة موت الزعيم:[لا، لم يمت …/وتظل أشتاتُ الحديثِ مُمزَّقاتٍ في الضمائرِ/غافياتٍ في السكينةْ/حتى تصيرَ لها من الأحزان أجنحةٌ،/تُطيرُ بها كلامًا مُرهقًا، يَمضى ليلقفَه الهواءُ ،/يَرُدّه لترنِّ في جدرانِ دورِ مدينةِ الموتِ الحزينةْ/أصواتُ أهليها الذين بنَتْ بهم سُرُر البكاءْ/يتجمَّعون على موائدِ السهرِ الفقيرِ،/مُعذَّبين ومُطرِقين/الدمعُ سُقياهم، وخُبزهمُ التأوُّهُ والأنينْ/يُلقون ـ بين الدمعتين ـ زفيرَ أسئلة،/تُخشخِشُ مثلَ أوراقِ الخريفِ الذابلاتْ/هل مات مَن وهبَ الحياةَ حياتَهُ/حقًّا أماتَ؟/ماذا سنفعلُ بعدَه ؟/ماذا سنفعل دُونَهُ ؟/حقا أماتَ؟]... إنه سؤال جماهيري دال على حزن شعبي عميق، وعلى مكانة المرثي العميقة في القلوب والأرواح!
وبعد هذه المقطع العاطفي الاندهاشي نجد عبدالصبور يُؤبِّن ناصرًا قائلاً: [كان الملاذ لهم من الليل البهيمِ، وكان تعويذ السقيم/وكان حلم مَضاجع المرضى، وأغنيةَ المسافرِ في الظلامِ/وكانَ مفتاحَ المدينةِ للفقيرِ، يذودُه حرَسُ المدينةِ/عن حِماها/وكان موسمَ نِيلِها،/يأتي فينثرُ ألفَ خيطٍ من خيوطِ الخِصْبِ تُورق في رُباها/وكان مَن يحلو بذكرِ فعالِه في كل ليلةْ/للمُرهَقينَ النائمينَ بنصفِ ثوبٍ، نصفِ بطنْ/سَمَرَ المودةِ والتغنِّي والتمنِّي والكلام/والآنَ أصبحَ كلُّ لفظٍ خنجرًا، ولكلِّ أمنيةٍ عذابْ/هل مات، واحزناه/آهِ لو يعودُ لبُرهةٍ، ويُجيلُ نظرتَه،/ويكشفُ عن غدٍ بعضَ الضبابْ/أواهُ ، لكن كيف آبَ إلى الترابِ؛/ولم يحِنْ وقتُ الإياب!]؛ فما (الحلم) إذن في نظر عبدالصبور إلا عبدالناصر، وما (الأغنية) إلا كل فن انفعل بعبدالناصر فعبر عنه وشدا له وشدا به، فناصر أمل، وناصر أنشودة.
وها هو ذا الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري(1899-1997م)، يتذكر عبدالناصر في الذكرى الأولى لوفاته فيرثيه بقصيدة بيتية همزية على قالب البحر الكامل، تعبر عن سمو مكانة الزعيم ووجاهته في نفوس المصريين والعرب، يقول في مطلعها:
أكبرتُ يومَك أن يكونَ رثاءَ الخالدونَ عهدتُهم أحياءَ
أَوَ يُرزقونَ؟ أجلْ، وهذا رزقُهم صنوُ الوجودِ وجاهةً وثراءَ
صالوا الحياةَ، فقلتُ: دَيْنٌ يُقتَضى والموتَ قيلَ فقلتُ كان وفاءَ
أُثنِي عليك وما الثناءُ عبادةٌ كم أفسدَ المُتعبّدون ثناءَ!

ثم يفصل هذا الثناء بقوله:
قد كنتَ شاخصَ أمّةٍ: نسماتِها وهجيرَها، والصبحَ والإمساءَ
ألقتْ عليكَ غياضَها ومُروجَها واستودعتْكَ الرملَ والصحراءَ
كنتَ ابنَ أرضِكَ من صميمِ تُرابِها تُعطي الثمارَ، ولم تكنْ عنقاءَ
تتحضّنُ السرّاءَ من أطباعِها وتلُمّ – رغمَ طِباعِك – الضرّاءَ
قد كانَ حولَكَ ألفُ جارٍ يَبتَغِى هَدْمًا، ووحدَكَ مَن يُريدُ بناءَ
لله صدرَك ما أشدّ ضلوعه في شدّة، وأرقّهن رخاءَ
أَثنى عليك، على الجموعِ يصوغُها الزعماءُ، إذ هي تخلقُ الزعماءَ
ناهضتَ فانتهضتْ تجرّ وراءها شممَ الجبالِ عزيمة ًومضاءَ
وهذا تفسير شعري خاص للكاريزما التي نالها الزعيم، حيث تأثيره بلون بشرته العربي الصعيدي، وصدره الواسع الكبير، وقدرته على النهوض بالجماهير العربية والتأثير النفسي الجبار فيها.
وهذا هو ذا الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش(1941-2008م)، يودع جمال عبدالناصر، في قصيدة "الرجل ذو الظل الأخضر"، التي بدأها بهذه السطور الشعرية التفعيلية الساحرة التي جاءت بضمير الجماعة العربية التابعة والمُؤيِّدة، وهي على نسق التفعيلة(فعولن)، يقول: "نعيش معك/ نسير معك/ نجوع معك/ وحين تموت/ نحاول ألا نموت معك!/ ولكن، لماذا تموت بعيدًا عن الماء/ والنيلُ مِلءُ يديك؟/ لماذا تموت بعيدًا عن البرقِ/ والبرقُ في شَفَتَيك؟/ وأنت وعدتَ القبائل/ برحلةِ صيفٍ من الجاهليةْ/ وأنتَ وعدتَ السلاسل/ بنارِ الزنودِ القويةْ/ وأنتَ وعدتَ المقاتل/ بمعركةٍ.. تُرجعُ القادسيةْ"، فعبدالناصر هنا أمل ينتظر، للقبائل العربية، وللسلاسل المجتمعية، وللمقاتلين المقاومين، أينما وُجدوا، وحيث حَلُّوا!.
وفى هذه الخريدة الدرويشية "الرجل ذو الظل الأخضر" نجد تصويرًا لشخص الزعيم في السطور الشعرية الخطابية بضمير الجماعة العربية المناضلة، يقول درويش: "نراك.. طويلًا.. كسنبلةٍ في الصعيد/ جميلًا.. كمصنع صهر الحديد/ وحُرًّا.. كنافذةٍ في قطارٍ بعيد/ ولستَ نبيًّا/ ولكنَّ ظلَّكَ أخضرُ/ أتذكرُ؟ كيفَ جعلتَ ملامحَ وجهى/ وكيفَ جعلتَ جبيني/ وكيفَ جعلتَ اغترابي وموتيَ/ أخضر/ أخضرَ/ أخضرَ"، وذلك لأن عبدالناصر أنقذ درويشًا من الغربة في موسكو بجواز سفر دبلوماسي مصري خاص، ييسر له الانتقال حيث يريد، ومن ثم يختم خريدته بقوله مخاطبًا الزعيم: [نحاول ألاّ نموتَ معك/ففوقَ ضريحِكَ ينبتُ قمحٌ جديد/وينزلُ ماءٌ جديد/وأنت ترانا/نسير/نسير/نسير]، وهكذا عبر الشاعر الفلسطيني: محمد درويش، بقصيدته هذه عن مشاعره ومشاعر الشعب الفلسطيني والعربي عند رحيل عبد الناصر، الذي كان ينظر له بأنه الأمل في تحقيق حياة عربية مستقلة وكريمة وعزيزة وموحدة ومنصورة!
وترى هذه المشاعر والأفكار عند كثير من شعراء العروبة أينما حلوا وارتحلوا، ومن أبرزهم نزار قباني(1923-1998م) في قصيدته (قتلناك يا آخر الأنبياء)، وقصيدته "الهرم الرابع"، وقصيدته "رثاء عبدالناصر" وقصيدته(رسالة إلى عبدالناصر)، فهي قصائد تتغنى بناصر حبيب الملايين المصرية والعربية، وهذه التجارب النزارية تحتاج مقالة خاصة تعرضها وتتذوقها وتقرأ خطابها وتتبين رؤاها....
ويُعدُّ الشاعر المصري عبدالمجيد فرغلي [14/1/1932م-3/12/2009م] من أكبر الشعراء العُرُوبيين إبداعًا في التعبير عن ثورة يوليو، وعن زعيمها التاريخي (عبدالناصر)، حيث نجد في شعر رَحَّالة الشعر العربي تمجيدًا للثورة، وذكرًا لأهدافها، وتعديدًا لمنجزاتها، وسردًا لأحداثها، وثناءً على أبطالها، وإعلانًا عن آثارها اجتماعيًّا وثقافيًّا وعُروبيًّا، فشعره مُوثِّق للفعاليات المصرية والعروبية منذ خمسينيات القرن المنصرم، كما أن علاقة شاعرنا بالزعيم التاريخي متعمقة متجذرة؛ فعنوان ديوانه الأول عنه، وهو (العملاق الثائر)، وله فيه قصائد أربع هي: (مواقفك يا جمال)، و(العملاق)، و(عملاقنا الثائر أمام خروشوف)، و(بين شكري وجمال)، هذا إضافة إلى قصائد أخرى عرضت لأحداث كان الزعيم أساسها، وله في ديوان (لحن العبور) ست قصائد رثائية فيه، هي: (في موكب وداع الزعيم[30/9/1970م]، ووداعا فقيد العروبة: وداعا يا جمال [1/10/1970م]، ومضى عام على فقد الزعيم [28/9/1971م]، إلى الزعيم الخالد، هو هرم باق ما مات [28/9/1996م])، ومن ثم فشاعرنا عبدالمجيد فرغلي من أكبر الشعراء تأثرًا بالزعيم الراحل وتعبيرًا عنه وتمجيدًا لشخصه وأعماله، ومن ثم حظي بست رسائل من مكتب الزعيم مختومة بختمه، وممهورة بتوقيعه. ومن قصائده العروبية الدالة قصيدة بعنوان(أنا والثورة) التي تكثف التعبير عن ذلك حيث يقول:
أنا والثورة قد قمنا معا نرقب الأحداث نمضي شرعا
قد رأينا مصر تبني صرحها عاليًا تبغي الثُّريَّا موضعا
جمعت آمالها في ثورة كانت الأم ومولاها رعى
حطمت من قيدها ثم انثنت تسمع الدنيا حديثًا أروعا
شقت الصعب إلى آمالها وانبرت تبني وقد سرنا معا
حققت للشعب والعرب عُلًا جَلَّ مَن كانوا الملاذَ الأمنعا
ثم انتقل شاعرنا إلى الحديث عن الزعيم قائلاً:
حققت من حول قلب نابض كان للتصميم دوما منبعا
حققت جمعًا وشوقًا حوله أينما حلت خطاه موقعا
ثائر يبني بناء خالدا صرحه يبقى أشمًّا أرفعا
أبها الباني وقد كنا له درعه الأقوى الملبي من دعا
أيها الماضي إلى آمالنا مسرع الخطو مسحت الأدمعا
كنت فاتحا تحدى خصمه عن ثبات لم يزحزح إصبعا
قلت ما قلت عن وعي به ويقين نحو مغداه سعى
مؤمنا بالحق مشدودا له أينما ألفيت قلبا قد وعى
أنت يا عملاقنا الساعي بنا نحو ما العرب ابتغوه أجمعا
فعبدالناصر في نظر عبدالمجيد فرغلي بانٍ، وثائر، وفاتح، ومحقق إنجازات، ومؤسس للقومية العربية... وهكذا عبّرت هذه النصوص الشعرية المذكورة، وعبَّر غيرها من المُشار إليه عن قيمة ثورة يوليو، ودلت على تقدير الشعراء العرب في كل وطن عربي لناصر الإنسان، وناصر الزعيم، وناصر الحلم، وناصر الخطيب، وناصر البناء، وناصر المقاوم، الذي أسس نظامًا عربيًا موحدًا، خرجت ألسنته من كل قطر في الوطن الأكبر لتنشد فيه ما تجود به وتعلن عن حبها وتمجيدها إياه، وطموحها فيه وبه... وما اختلف مع ناصر من الشعراء، ولا اعترض عليه إلا قليل منهم، من ذوي الأيدلوجيات الحادة والمشاريع الخاصة، وكان اعتراضهم على الوسائل لا الغايات!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??