الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإستعارات الجسدية في نصوص العراقي عبد الرحمن الماجدي

كريم ناصر
(Karim Nasser)

2023 / 7 / 20
الادب والفن


لم يقبل الشعر في خضمّه السياقات التركيبية في صورها الجنينية بوصفها انفعالات باهتة لصيغٍ نمطيّة لم تبلغ ذروتها التعبيرية، من هنا تبرز المفارقة ما يعني أنَّ الخامة اللغوية لا تحمل جذوراً لتنوب عن بنية أدبية مثالية، لأنّها بإيجاز لا تمثّل رؤية شاملة تُفضي إلى كثافة اللغة حين يصل الشاعر إلى قمّة تساميه من تصوّرات شعرية لا تلمس أحلامه، ونضيف إلى ذلك أنَّ الشعر في تاريخه الطويل لم يقبل انفصالاً حتميّاً عن سياقه التركيبي المتأصّل في بنية اللغة ذاتها..
وربما نعزو ذلك الاستهلال إلى سطوة الخطاب البديهي بما ينطوي على مفارقات في سجل ثقافتنا، ومن هنا تصبح كلّ قيمة هزيلة من المنظور العام بنية هشّة تنقصها الرؤية العميقة مهما لامست حدود أنساقها اللغوية، لأنّها لن تقدّم شيئاً إضافياً في أقصى مدلولاتها إلى الشعر..
واستخلاصاً لما سبق فلن يسمح المنطق أن تضحى هذه البنية معياراً للتلقّي في مضمار الحداثة لئلّا تبرز ظاهرة شعرية تكون لها سماتٌ قارّة وملامح لأشكال مبتسرة، وعليه فإذا ما تغلّبت التراكيب الهشّة واتّسعت دائرتها بمعنى من المعاني على العمل الأدبي سواء في لغة الشعر أو في نثره، فإنّ ذلك يبقى في الأغلب تقليداً مبتذلاً لا يحمل في طيّاته قيمةً جماليةً صارخة، ولا ينبغي للشعر أن يرهن نفسه بعوامل من خارج سياقه لينتصر لمعايير ما فتئت من منظور اللغة بديهيات سالبة، ونتيجة لذلك فإذا ما اخترقت هذه المعايير خاصة قلب اللغة في لبّها فسيكون حينئذ موت اللغة عاملاً في انهيار الشعرية وموضوعها الجمالي لاستشراء الكليشيهات الجاهزة، إن لم يسبق ذلك موت الشعر في جوهر وجوده، وعليه فلن يبقى ما يجسّده علم اللغة من معانيَ في سياقه الدلالي.
ولكي يتحقّق المعنى الشعري في صوره العميقة فإنّه يتطلّب بداهةً توضيب العناصر الأدبية واستنطاقها وإحالتها على منطق جدلي لتوجيهها وجهة إيجابية تأصيلاً للغة وتغذيتها بقيم ودلالات لأنّها تمثّل سماتها الرئيسة ولا تنفصل عنها البتّة، فالإصرار على تحقيق رغبة عاطفية يُحيل على دلالة وليس على هزيمة الروح، فالأدب بمنطق ماريو فارغاس يوسا "يحمي الانسان" ويدمغ كوّة الظلام وهذا تشخيص بليغ يتخطّى التفاصيل وقضايا التأويل.

الملاحظ في الكتاب أنَّ قيمةَ الشعر لم تأتِ من العبث، وطبيعي أن ينتفي الاحساس السلبي بالواقع حين ينطلق الشاعر من رؤية ينساق فيها إلى خياله الحر الذي يستدلّ عليه من اللغة ويعزّز بناءه التركيبي من جوهر التحوّل الشعري وآلية تطوّره ليضحى بنية متماسكة تنال من البديهيات الطفيلية التي تقوم على أساس يناقض مبدأ الشعر ويعارض جمالياته.
يعتمد شعر الماجدي على عنصر اللغة كمقياس لتميّزه، هكذا تقتضي القاعدة، وكأنما لا تتحقّق شعرية القصيدة ما لم تقم أساساً على تماسك لغوي يفتح إمكانية التأويل بكيفية تضمن سلامة الدلالة فضلاً عن ذلك فالشعر بكلّيته يكتسب قيمته المعرفية من العبارات العميقة التي تستدعي بنية ضمنية قويّة، إذاً "فلا تصبح الأشياء شعرية إلّا بفضل اللغة فبمجرّد ما يتحوّل الواقع إلى كلام يضيع مصيره الجمالي بين يدي اللغة" كما يرى جان كوهن، وهذه الصيرورة الشعرية تجعل موضوع التأويل يسمح للمتلقّي أن ينتج بنيةً دلاليةً مشابهة تماثل جوهر الموضوع نفسه، وتحتفظ بوحدة البناء وترسيخ وجوده لضمان سلامة الفكرة والمحتوى والرؤية.


الإيروتكيا التعبيرية والإستعارة الوجدانية:

ليست الإيروتكيا (Erotica) في الحقيقة مذهباً ثابتاً دائماً ولا ظاهرة معمّة، بل تبقى في الخلاصة شكلاً تعبيرياً إيروسيّاً يمثّل محور العلاقات العاطفية والوجدانية في نطاق واقعة جمالية لا تخضع تراكيبها لنسق شاذ يقطع أوصالها تارة بحجّة الانزياح وطوراً لتلبية ضرورات تعبيرية لتزهيدها..
وحتى يبقى الأثر الشعري حيّاً في إطار مترابط لا يقبل الفصل ولا التفصيل فيقتضي بداهةً أن تتوفّر مناخات ذهنية تسقي الانزياحات وتضع المحدّدات اللغوية المثالية كشرط على تحسين التراكيب المستعصية على التأويل في رحاب شعرية توحي بتبلور خاصياتها لتغدو الصورة أيقونةً شعرية متسامية عن الوصف البورنوغرافي (Pornography) والساديّة وإباحة اللذّة والهياج الجنسي، أي بمعنى أن تبلغ الصورة أقصى مدياتها في الوصف الفني و" التصوير الحسّي" للتعبير عن العاطفة الملتهبة في نطاق الشعرية لتكشف عن معنيين متباينين: ـ
أولهما: يجعل من الابتذال سلوكاً إباحيّاً لصيغة طارئة في حال وضوح بنيتها، وثانيهما يعتمد على ترهيف الجملة الشعرية لتحويلها إلى قيمة فنية فريدة لا تتعارض سلباً مع المعنى الشعري ولا تقوّض أسبابه إلّا لأغراض جمالية ولا تخدش الحياء العام الذي ينجم عنه في حال انفلاته خطابٌ يتجاوز حدوده البنيوية.


دلالة الاستعارة وأثرها الجمالي:

من البديهي أنَّ الافراط في توظيف الاستعارة الايروتيكية بالمعنى الذي يمجّد الجسدكمنبع للرغبات المكنونة والنزعات الشهوانية والشغف الملتهب قد يعيق انثيال الصورة الشعرية ويفقدها قدسيتها، لذلك يقتضي تجسيم الاستعارة بالمعنى "المثالي الرومانسي" كرؤية تحمل سمات تضمن في أكثر الاحيان سلامة التراكيب اللغوية، فلربما يكون الهدف الأساس من كلّ استعارة إغناء الصورة الفنية بما يعمّق الاحساس الجمالي للتعبير عن الجسد برؤية لا تثير جدلاً أخلاقياً.
وإذا ما نحن تفحّصنا المجموعة الشعرية "باه" لعبد الرحمن الماجدي فإنّنا سنلاحظ حتماً فرقاً دلالياً ما بين الاستعارة البلاغية وطريقة أنسنتها وتحديد دلالتها وبين المفهوم البورنوغرافي كتحدٍّ للحشمة في إطار يوسّع من مساحة الدلالة المفقودة التي يضيع مصيرها بفعل "الاستعارات الجسدية" المتخيلة وإسقاطات التزويق اللفظي على الذات الجمالية، والشاعر هنا يتقمّص شخصية الرومانسي العذب في غمرة رومانسيته لأنّه مؤمن بها، وهذا الرأي يؤيّد زعمنا ما دام ذلك يستند إلى آليةٍ مبتكرةٍ تغذّي المنظومة الشعرية لكي يسهل أستقراءُها وتتبّعها منذ البداية للسعي إلى تحويلها من حالة الإضمار والإستغلال العاطفي إلى حالة العلن لتمكّنها من تجاوز شطط الخيال كما تفسّرها الرومانتيكية في عموم أدب لامارتين وشاتوبريان كمبدأ لتبجيل العواطف الانسانية وخلق الانسجام بين الروح والعقل من دون تقويض للذات الفردية، لأنّها المحور الذي تتولّد منه كلّ صورة حيّة بما يوازي التعبير الفني ليجعل الشعر ذات دلالة عميقة كما في حالة التصوّف الإيروتيكي الروحاني في أدب جلال الدين الرومي وعمر الخيام وحافظ شيرازي، وهذا ما يضع الشاعر في جوهر القضيّة ليطلَّ منها لا أن يغرّد خارج سربه مجترحاً تراكيب ميكانيكية تولّد الإدمان السلوكي الإباحي..
ومثلما تنجز الدلالة وظيفتها على أحسن وجه تقوم الاستعارة أيضاً بدور يسمح بالتحوّل العاطفي في هذا المستوى للاحتفاظ بالعلاقة الحميمة التي يقيمها التوازن في سياق المعنى الدلالي سواء أكانت الاستعارة مكينة أو تصويرية أو تمثيلية.

قلّما نرى في الشعر نقلةً متناميةً ترمي إلى التجديد وتستجيب لمعطيات المعرفة في سياق التطوّر الحضاري، ولأنّ المسألة تحتاج إلى برهنة وإثبات للتدليل على الجوهر الحقيقي، واضح من ذلك أنَّ الشاعر "الماجدي" كان يطمح إلى خلق مُناخٍ أدبي ليسجّل في صفحات هذا الكتاب تصوّراته الحسيّة لتأكيد الاختلاف في البنية التي تفرضها قيمة صدقها ضمن هذا الفضاء المُخملي فضلاً عن قوّتها الكامنة في تراكيبها اللغوية، وانطلاقاً مما سبق تسعى تجربة الشاعر الثرّة من داخل كمون اللغة إلى إشاعة شعرية الإيروتيكا أو إلى شعرية المتعة الوجدانية أي إلى شعرية (Poeticite) تنماز بأدبيتها لأنّ "الخطاب الشعري مكنونه أدبي" وهو المنظار الذي يربط فيه رومان ياكوبسون الشعرية باللغة ويعدها واصفة له" وهنا تكمن أصالة الشاعر "عبد الرحمن الماجدي: في مسعاه الدؤوب إلى ضخّ قصيدته بسيل فيّاض من الرؤى المتخيلة التي تشفّ عن خبرة عميقة وحسٍّ فني شفيف لتغدو اللغة في جوهرها صيرورة فنية تُتيح لنفسها التفريق بين القيم الجمالية وقيم الابتذال التي تمسّ قلب الشعرية ومكنونها اللغوي.
صفوة القول إنَّ الشعر من منظور الحداثة ودلالتها العميقة لا يقاس بمقياس الحلم الميتافيزيقي، ولا بفوتوغرافية الصورة الخاطفة بصفتها بنية تتناول وصف صور متراكمة في منظوماتها، بل إنّه يقاس بتماسك تراكيبه اللغوية الصارمة من حيث قيمته الأُسلوبية واستقلالية معانيه وعمق وظيفته ومضمونه وجوهره انطلاقاً من طهرانية تستعير نضارتها من نقاء الروح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟