الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا تملك حقا اخلاقيا بالحكم يوما واحدا:حكومة السوداني تريد صرف نصف تريليون دولار في 3 سنين!

آلان م نوري
(Alan M Noory)

2023 / 7 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


وقع الرئيس العراقي في 21 حزيران الماضي، على قانون موازنة الحكومة الاتحادية لعام 2023، بعد إقرار تعديلات وقبول المشروع الحكومي في جلسات ماراثونية في البرلمان. القانون المذكور يتضمن إنفاق ما يزيد على 153 مليار دولار في 2023، بضمنها عجز يقترب من 50 مليار دولار، تدعي الحكومة و معها البرلمان أن الدين الخارجي سوف لن يغطي سوى 15.5% منها. اما الباقي، فسوف يتأتى من خصم حوالات الخزينة وقروض داخلية مباشرة و سندات وطنية (حوالي 18 مليار دولار) من جهة، ومن رصيد مدور لدى وزارة المالية مقداره 17.7 مليار دولار. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحكومة فشلت في تقديم حساباتها الختامية للعام الماضي، والذي جرى الصرف فيه بدون قانون موازنة ناظم لهذا الصرف. كما فشلت دعوى قضائية لدى اعلى محكمة في البلاد في فرض تقديم هذه الحسابات إلى البرلمان أو أي جهة رقابية. ولكن المتوفر من بيانات البنك الدولي حسب مؤشر نسبة إنجاز أبواب الإنفاق الأساسية المخططة حسب موازنة مصادق عليها (وهو جزء من مؤشرات الحوكمة في قاعدة بيانات المنظمة الدولية) تشير إلى متوسط نسبة انجاز 80.92% في بيانات العراق المتوفرة منذ 2007، و نسبة انجاز 66.86% في عام 2021. وهذه النسبة تضع العراق في المرتبة الرابعة في اسفل قائمة دول العالم التي تتوفر بياناتها لدى البنك الدولي، متقدما فقط على غواتيمالا و هاييتي و افريقيا الوسطى في نسبة الإنجاز.

خلافا لأعراف أعداد الموازنات في العالم، مررت الحكومة بدعة أن هذه الموازنة هي لثلاث سنين، 2023 و 2024 و 2025، حيث انها عنونت القانون (قانون الموازنة الاتحادية العامة لجمهورية العراق للسنوات المالية 2023 و 2024 و 2025). و هذا يعني أن الحكومة هذه ادعت الحق القانوني في إعداد موازنة 3 أعوام، لصرف حوالي 460 مليار دوﻻر، رغم ضآلة فرصة أن تكون هي نفسها موجودة في السنتين القادمتين منها، وحصلت على الموافقة من برلمان يصعب على أي عاقل ضمان انه سيبقى سنتين إضافيتين. كما يعني أن الحكومة مررت قبولا برلمانيا للأفتراضات التي بنت عليها تقديراتها لأبواب الإيرادات و النفقات لثلاث سنين. أي افتراضها رصيدا مدورا سنويا مقداره 17.7 مليار دولار لدى وزارة المالية! والرصيد المدور هو بطبيعته دليل عدم التقدير الصحيح للإيرادات أو ظروف ايجابية استثنائية لم يكن تقديرها ممكنا. وهذا بدوره يعني أن الحكومة افترضت و البرلمان قبل منها عجزا مزمنا في تقدير إيراداتها بنسبة تزيد عن عشر موازنتها كل سنة، أو أنها افترضت ظروفا استثنائية عصية على التقدير بهذا المبلغ الضخم بشكل ثابت و متكرر كل سنة. هذا إضافة إلى افتراض قدرة واستعداد سوق السيولة المحلية على تغطية 55.5 مليار دولار على شكل قروض مباشرة و سندات دين عام و استثمارات في حوالات الخزينة العراقية خلال ثلاثة سنين، و هذا يستدعي ثقة المواطن والمستثمر المحلي في كبح البنك المركزي جماح التضخم وعدم لجوئه إلى تخفيض قيمة العملة العراقية وقدرته في تطوير سوق مالية و نظام مصرفي يثق بهما المواطن العراقي، اضافة إلى ضمان عوائد للحوالات و السندات تفوق تكلفة الفرص البديلة في سوق الاستثمار المحلي. و كل ما سبق هو ضرب من الخيال.

كما أن الحكومة افترضت واستحصلت قبولا برلمانيا بأن ابواب و مبالغ النفقات ستبقى ثابتة ايضا خلال 3 سنين. (بقول آخر تتوقع الحكومة، و معها البرلمان أن النمو الطبيعي للسكان، على سبيل المثال، سوف لن يرافقه أي حاجة إلى زيادة نفقات الخدمات الحكومية المقدمة للمواطنين خلال 3 سنين. علما أن معدل النمو السنوي للسكان الحالي هو 2.31% ، أي أن عدد سكان العراق سيزداد 3.5 مليون نسمة خلال هذه السنين الثلاث). و المحزن أن الجدول (و) في وثيقة مشروع القانون الحكومي، الذي تضمن النفقات حسب القطاعات و الأنشطة، في مشروع القانون، يبدو جدولا بالنفقات الفعلية لسنة 2022 كما هو مكتوب في عنوان الجدول (ص 39 من المشروع المرسل الى البرلمان)، وتم تغيير العنوان المخجل هذا في النص النهائي للقانون. وبافتراض أن الجدول هو فعلا لسنة 2022 التي لم نر حساباتها الختامية أو موازنة لها تنقيد الحكومة بها، فأن ذلك يعني الحكومة نجحت في أن تشرع، بقانون، تجميدا للإنفاق الحكومي يستمر 4 سنوات، رغم توقع زيادة سكانية خلالها، تقترب من 4.5 مليون نسمة.

لماذا ثلاث سنين؟
هنا لابد من إلقاء الضوء على خلفية تشكل هذا البرلمان و هذه الحكومة لمعرفة إصرارهما على التحكم أبعد من قدرتهما الواقعية في إدارة الحياة السياسية ، و إدارة شريان هذه الحياة الذي هو الموازنة العامة؛ نتج هذا البرلمان وهذه الحكومة المشتقة عنها بعد انتخابات أريد لها أن تتجاوز فضائح سابقتها عام 2018، التي صارت محل تندر الصحافة العالمية، و سمي البرلمان الذي تمخض عنه ببرلمان الـ 10%، نسبة إلى حجم المشاركة الفعلية في تلك الإنتخابات، و برلمان صناديق الإقتراع المشوية، نسبة إلى حرق أعداد كبيرة من صناديق الاقتراع قبل فرزها في بغداد. ولكن لم يكن الحال في 2021 أحسن كثيرا مما كان في 2018. فقد استمرت الغالبية العظمى من الناخبين في المقاطعة.

ادعت السلطات المشرفة على انتخابات 2021 أن نسبة المشاركة كانت 42% وهي، لو انها كانت صحيحة، لكانت تمثل تجاوزا ملحوظا لـ 2018. ولكن هذه السلطات توصلت إلى هذه النسبة بقسمة المصوتين لا على مجموع من يحق لهم التصويت، بل على من استلموا بطاقات التصويت ممن يحق لهم التصويت. أي أنهم و بأعترافهم، استبعدوا 15% من مجموع قاعدة هذه القسمة (وهي نسبة من لم يتسلموا بطاقاتهم إلى مجموع من يحق لهم التصويت).هذا يعني أن المشاركين كانوا 36.5% و ليس 42%. ثم اعترف رئيس المفوضية العليا للإنتخابات أن 23.5% ممن شاركوا في الانتخابات أبطلوا بطاقاتهم عمدا. وهذا نوع آخر من أنواع المعارضة لمجمل النظام السياسي الذي أنتج العملية الإنتخابية. هذا يعني أن التصويت غير المبطل عمدا (بافتراض نسبة تزوير 0%) هو 24.6%. أما تقدير حجم التزوير فلنتركه للكتل الحاكمة الحالية التي اعترضت حينها على نتائج الأنتخابات و ادعت وجود حجم من التزوير كاف لقلب نتائج الأنتخابات في اغلب الدوائر.


البرلمان الذي تشكل في هذه الظروف من المقاطعة الشعبية الساحقة، سرعان ما استقالت عنه بالكامل الكتلة الأكبر وهي كتلة التيار الصدري التي شكلت 22% من مجمل أعضاء البرلمان… هذا يعني أن بافتراض نسبة تزوير 0%، فإن المتبقي من برلمان 2021 ، بحكامه و معارضيه، لم يصوت له سوى 19.2% ممن يحق لهم التصويت في البلد.

القوى السياسية التي تشكل السلطة السياسية الحالية في العراق هي المستفيدة الرئيسية من طبيعة النظام السياسي ودوره في توزيع الثروة في العراق منذ 2003 ولا تمر احتجاجات شعبية في العراق من دهوك إلى البصرة دون أن تشارك ميليشياتها بشكل مباشر في أعمال العنف المفرط والقتل والخطف والتعذيب الهادفة إلى قمع الحركات الشعبية الرافضة لها، و لا يوجد بينها تنظيم لم تتعرض مقاره السياسية إلى الرجم و الحرق في كل انتفاضة جماهيرية شهدها البلد، واشملها كانت انتفاضة تشرين عام 2019.

استلام دفة ادارة الدولة من قبل هذه الأحزاب و التنظيمات بعد تقلبات سياسية هائلة و جراء انسحاب دموي للكتلة الأكبر بينها من البرلمان، رسخ مبادئ سياسية في المشهد العراقي الحالي تتحرك على أساسها هذه القوى في إدارتها لدفة الحكم، وهي أن اللعبة البرلمانية غير قادرة على ازاحة هذه النخبة السياسية الحاكمة، و دون تحكمهم بآليات توزيع الثروة، عبر آليات الإنفاق الحكومي، الحرب واراقة الدماء. هذه النخبة السياسية ترى نفسها متأبدة في السلطة السياسية العراقية مادامت آليات وتوازنات الرعب فيما بين مكوناتها كما هي. لذا لا تفهم شكليات التداول السياسي و الفصل بين بيروقراطية إدارة مؤسسات الدولة و بين المعينين السياسيين و حدود عملهم في إطار التداول السياسي. و تريد عبر استحصالها ختم البرلمان على ميزانيتها لثلاث سنين أن تكبل آليات الإنفاق الحكومي لمصلحة رؤيتها ورؤية زبائنها لتوجهات نشاط الإقتصاد الكلي بالرغم من توجهات خصوم لها ضمن تركيبة القوى الحاكمة، تعتبرهم هي من العدميين و الفوضويين في تركيبة القوى الميليشياوية المهيمنة على المشهد السياسي العراقي.

البيئة التاريخية التي تتحرك ضمنها السياسة العامة في العراق منذ 2003
تتفق مدارس الفكر الإقتصادي أن الموازنة الحكومية تهدف، بشكل عام، إلى ثلاث مخرجات هي: مكافحة كل من البطالة و التضخم و ضمان نمو الاقتصاد الوطني لتلبية الحاجات المتزايدة للسكان. تختلف، بل و تحترب، المدارس الفكرية بشأن كيفية الوصول إلى هذه الأهداف و سبل المفاضلة بين المتعارض منها فيما بينها، ولكن المعطى أن الدولة الحديثة تفترض في سلوكها مسارا يعمق قدرة السياسات الحكومية على تلبية ارادة قطاعات متزايدة من المجتمع في إتاحة استفادتها من الإنفاق الحكومي من دون أن يكون الثمن حرمانها من حقها في التنظيم والنشاط السياسي وقدرتها على تحدي القوى الحاكمة بوسائل سلمية مستدامة. وفي هذا المعطى المفترض يكمن الفشل الأكبر للسياسة العامة في العراق منذ 2003. فإن كان البلد قد شهد انفتاحا ملموسا في الحقوق السياسية والتنظيمية منذ 2003، قياسا بنظام حكم الحزب الواحد و الأب القائد السابق، إلا أن الثمن كان تقليصا حثيثا في تلبية مصالح القطاعات الأفقر في البلد وتنصلا متزايدا من الخدمات الحكومية الداعمة لها. حتى بات أغلب المواطنين العراقيين اما يعيشون تحت خط الفقر أو قريبا منه و بالكاد فوقه. وبات سوق عرض الخدمات التي كانت توفرها الحكومة مشوها ببنية طلب تنحاز بقوة إلى تلبية حاجات الأغنياء الجدد وإهمال الفئات الاجتماعية التي تُخرجها تراجع حصتها من الثروة الوطنية تدريجيا من السوق حتى في الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة. هذا يعني أن المسار التاريخي للنظام السياسي العراقي هو بأتجاه الأوليغاركية التنافسية التي، وإن احتوت آليات مجتزأة من الديمقراطية الصورية لكنها على مسار مخالف لأسس الديمقراطية المستدامة بحدودها الدنيا.

وهنا نتساءل كيف انعكس ما سبق قوله على صياغة موازنة 2023 الثلاثية وقبلها كل الموازنات السابقة منذ 2003 (ممثلة، لغرض الاختصار، بآخر موازنة صادق عليها برلمان عراقي، وهي موازنة 2021)؟

قياسا بآخر موازنة مقرة بقانون في عام 2021، فإن مشروع الموازنة الحالي يفترض زيادة الصادرات النفطية المقدرة بمعدل يومي هو 250 ألف برميل. و زيادة في السعر التقديري للبرميل الواحد ب 25 دولار للبرميل الواحد و انخفاض تقديري لقيمة الدولار بمقدار 150 دينار للدولار الواحد. لذلك يتوقع محررو الموازنة زيادة في إيرادات الحكومة بمقدار 33.5 مليار دولار. هذا إضافة إلى انتهاء التزامات العراق السنوية بتعويض الكويت عن آثار غزوها في 1990 التي كانت تمثل في الأعوام القريبة السابقة 3% من الإيرادات السنوية من بيع النفط العراقي، و كانت ستعني حوالي 2.5 مليار دولار للسنة الحالية. أي أن قاعدة الإيرادات لعام 2023 فاقت مثيلتها لعام 2021 بحوالي 36 مليار دولار. و هذا المبلغ الضخم الذي يمثل زيادة تفوق الـ 50% من إيرادات عام 2021، هو أكثر من اجمالي الناتج المحلي السنوي الأسمي Nominal GDP لـ 94 دولة في العالم(حسب آخر الإحصاءات الرسمية و اغلبها في عام 2017)، ابتداءا بدولة البحرين و انتهاءا ب توفالو، الجزيرة التي انضمت إلى الأمم المتحدة عام 2000. ورغم هذه الزيادة الهائلة المتوقعة في الأيرادات، فإن الحكومة قررت انها سوف توسع الفجوة بين الإيرادات و النفقات (الفرق بين العجز المخطط في 2021 و 2023) بمبلغ يقترب من 30 مليار دولار. هذا يعني أن زيادة الإنفاق المتأتي من مجموع زيادة الإيرادات المتوقعة و زيادة العجز المتوقع، يقترب من 65 مليار دولار، و يشكل ما يزيد على 72% من الإنفاق الكلي لموازنة عام 2021، وهذه الزيادة وحدها هي أكثر من اجمالي الناتج المحلي السنوي الاسمي (وليس الإنفاق الحكومي السنوي) لـ 118 دولة من أصل 190 في العالم.

الطبقة الحاكمة تحمي أغنيائها
حين تجد الحكومات في العالم (أيا كانت فلسفتها الإقتصادية) أن النفقات الحكومية، التي تخطط لها و تراها ضرورية وفق منظورها لدور الحكومة في النشاط الاقتصادي، تفوق حجم إيراداتها، فإنها تلجأ، من ضمن ما تلجأ، إلى اعادة النظر في مصادر هذه الإيرادات و تقارنها بما هو سائد في الاقتصادات المقارنة و في العالم.

تشير البيانات المتوفرة لدى البنك الدولي أن معدل نسبة الضرائب و الرسوم إلى إجمالي الناتج المحلي في العالم هي بحدود 15.7%، وحسب البيانات ذاتها يقبع العراق في المرتبة الثالثة قبل الأخير من حيث ضآلة نسبة الضرائب إلى إجمالي الناتج المحلي وفق آخر بيانات العراق في 2019، وذلك بنسبة 1.3%، بعد الصومال (0%) و الإمارات العربية المتحدة (0.5%). لا علاقة للطابع الريعي للاقتصاد العراقي بهذه النسبة الهزيلة، فآخر بيانات إيران هي 7.4% والسعودية هي 8.6%. أما متوسط هذه النسبة بين بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (بإستثناء الدول الأكثر غنى)، فهو 13.1%.

و من هذه النسبة الهزيلة للضرائب و الرسوم إلى الناتج المحلي الإجمالي في العراق، فأن قانون الموازنة الحالي يجبي أكثر من 41.5% منها من الضرائب المباشرة والرسوم على الخدمات الحكومية المقدمة. هذا يعني أن أغنياء العراق الجدد، الزبائن الأساسيين للنظام السياسي السائد منذ 2003، سوف ينأون بثرواتهم و دخولهم هذه السنة أيضا عن المتعارف عليه في العالم من ضرائب على تراكم الثروة و الأرباح، و لا يشاركون سوى بـ 4.72% من مجموع الأيرادات المتوقعة لعام 2023. وهذا تراجع عن نفس النسبة في قانون موازنة 2021 التي كانت 9.21%. علما أن متوسط هذه النسبة في المتاح من بيانات العالم لدى البنك الدولي، هو 25.3%، ومتوسط النسبة في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو 15.3%.

ماذا كان سيحصل لو اوصلنا نسبة الضرائب على الثروة و الأرباح والدخول إلى المتوسط العالمي في موازنة 2023؟ الإيرادات الإضافية من هذه الزيادة كانت ستكون كفيلة بتقليص حجم العجز في الموازنة بما يقرب من 21.3 مليار دولار (حوالي 43% من مجموع العجز المخطط). أما إذا أوصلنا نسبة الضرائب هذه إلى متوسط الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن إسهام الزيادة كان سيكون حوالي 11 مليار دولار. أي أن زيادة كهذه في الضرائب على أصحاب المليارات الجدد في العراق كانت ستساهم بانتفاء الحاجة إلى 7.6 مليار دولار من القروض الجديدة على بلد يدفع في نفس السنة أكثر من 9.8 مليار دولار لخدمة قروضه المتراكمة (اصول مع فوائد).

لكن هذه الحكومة التي تضع حماية ثروات زبائنها على رأس قائمة أولوياتها، تختار، في هذه الموازنة، أن تعمق هوة مديونية العراق الدولية وتحول تغطية العجز من واجب مواطنة على أغنياء العراق إلى فرصة استثمارية لهؤلاء في مزاد سندات الحكومة.

القطط "الأمنية" السمان و المواطن المهمل
منذ 1991 في إقليم كردستان و 2003 في بقية أنحاء العراق، تٌستغل أدوات السياسة العامة في توجيه ثروات البلد إلى ميليشيات القوى السياسية المتحكمة في النظام السياسي في العراق، بعد أن نجحت تلك القوى في إضفاء غطاء قانوني على أذرعها المسلحة تحت مسميات الأمن و الدفاع.

يستحوذ قطاع "الأمن و الدفاع" على 15.1% من موازنة 2023. وهذا، أن كان يمثل تخفيضا كبيرا قياسا بموازنة عام 2021 والتي استحوذت فيه إقطاعيات الأحزاب داخل قطاع الأمن والدفاع على 21.28% من مجموع الإنفاق الحكومي، فإن حساب الأرقام المطلقة يبين أن حجم تخصيصات الأمن و الدفاع قد زيد في موازنة 2023، بمقدار 4 مليارات دولار ليصل إلى حوالي 23.1 مليار دولار.

يصعب على المتتبع فصل نفقات الدفاع عن تلك المخصصة لما يسمى بالأمن، إذ تشمل نفقات الدفاع التخصيصات لهيئة الحشد الشعبي، التي يفترض بها أن تكون تشكيلات مسلحة تابعة لوزارة الدفاع لكنها في الحقيقة تعاونية ميليشيات عقائدية دينية بهوية طائفية واضحة لا تلتزم بمرجعية وزارة الدفاع أو سلطة ورقابة المؤسسات المدنية عليها. كما تشمل نفقات وزارة الدفاع قوات إقليم كردستان المعروفة بـ البيشمركة، وهي ميليشيات حزبية خاضت حربا أهلية داخل الأقليم ضد بعضها منتصف التسعينات، وفشلت جهود تجاوز تلك الحرب الأهلية في توحيدها إلى اليوم، وهي و إن توحدت شكليا و جزئيا، فعقيدتها العسكرية هي ما تعتبره حماية الإقليم من القوات العراقية بالدرجة الأساس. وهي أيضا ترفض مرجعية وزارة الدفاع و سلطة ورقابة السلطات المركزية عليها. رغم هذه التعقيدات والانحرافات المفاهيمية، و استنادا إلى تعريف الحكومة العراقية لهذه النفقات يقدر البنك الدولي أن نسبة الإنفاق العسكري إلى مجموع الإنفاق الحكومي العام في العراق لسنة 2021 كان 5.4% و بأتباع طريقتها في التقدير يمكن تقدير أن هذه النسبة ظلت ثابتة في الموازنة الحالية. والنسبة هذه، هي في حدود متوسط نسبة الإنفاق العسكري إلى الإنفاق العام في العالم، حسب المتوفر من بيانات الدول لدى البنك الدولي لعام 2021 و البالغ 5.7%. هذا يعني أن ما يمكن تسميته بقطاع الأمن كان قد استحوذ على 15.88% من مجموع الإنفاق الحكومي العراقي في موازنة 2021، و تم تخفيض هذه النسبة إلى 9.71% في موازنة 2023. وهذه حسنة تحسب لقانون 2023 الذي صارت نسبة الإنفاق على الصحة و التعليم مجتمعين فيه، لأول مرة أعلى من نسبة الإنفاق على ما يسمى بالأمن منذ 2003. (مجموع نصيب قطاعي الصحة والتعليم صار يفوق نصيب قطاع الأمن بحوالي 4.25 مليار دولار ). و رغم عقدين من اولوية الأنفاق على القوى الأمنية المختلفة فوق أولويات التنمية البشرية في العراق، فإن سجل هذه القوى مزر. إذ أن تريب العراق حسب مؤشر سيادة القانون الذي يعتمده البنك الدولي هو الثامن بين أسوأ البلدان التي تتوافر عنها البيانات في العالم، بحسب بيانات 2021، وهي جميعها بلدان تعتبر القوى الأمنية فيها المنتهكة الأولى لسيادة القانون. نتقدم في هذه البيانات بفارق طفيف على بلدان تمزقها الحروب الأهلية، مثل ليبيا واليمن وأفغانستان وسوريا.

نسبة الإنفاق الحكومي على التربية و التعليم إلى الإنفاق الحكومي العام في موازنة 2023 انخفضت إلى 7.71%، بعد أن كان 9.12% في موازنة 2021. ولكن بحسابات الأرقام المطلقة، تخصص الموازنة الحالية حوالي 3.63 مليار دولار اضافية لهذا القطاع المهم. ولكن، حتى باستبعاد اثر ماكنة الفساد، لا زال العراق يتخلف كثيرا عن الإنفاق الحكومي على التربية و التعليم في العالم الذي كان متوسط المتوفر من بياناته لعام 2020 هو 12.6% من مجموع الإنفاق الحكومي. ولمن لا يعتقد بعدالة مقارنة العراق بمتوسط بيانات العالم، نورد متوسط تلك البيانات في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في نفس العام، وهو 12.3%.

أما نصيب الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة في مشروع الموازنة، فلكي نفهم ما يمثل من فداحة الإهمال الحكومي، نذكر ما يلي، من بيانات البنك الدولي: متوسط نصيب الحكومات من مجموع الإنفاق المحلي الجاري على الصحة في العالم هو 63.42%. هذا يعني أن كل مائة دولار تٌنفق على الصحة في العالم، تغطي الحكومات (حسب المتوفر من بيانات) حوالي 63.5 دولار منها. نفس البيانات تشير إلى أن الحكومة العراقية غطت عام 2020 نسبة 54.83% فقط، في حين أن هذه النسبة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في نفس العام كان 58.59 %. ولإكمال الصورة نذكر أن متوسط الإنفاق على الصحة للفرد الواحد (حكومة + الفرد نفسه) في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2020 كان 470.59 دولار، بينما كان في العراق 202.31. أي أن متوسط الإنفاق الحكومي على صحة الفرد الواحد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 275.71 دولارا في السنة، أما في العراق فلم يتجاوز 111 دولارا للفرد الواحد. ارتفعت تغطية الحكومة لنفقات الصحة على الفرد في العراق في مشروع الموازنة الحالي إلى 164.20 دولار ولكنه لازال يتخلف عن متوسط إنفاق دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأكثر من 110 دولار للفرد الواحد في السنة. جدير بالذكر أن البرلمان العراقي قد خفض ما رصدته الحكومة للقطاع الصحي في مشروع القانون بحوالي 150 مليون دولار!


يخصص القانون 17.3% من الإنفاق الحكومي لقطاع الطاقة، أي حوالي 26.5 مليار دولار. يستحوذ انتاج و استيراد الكهرباء على أكثر من 43% من مخصصات قطاع الطاقة تلك. لو عرفنا أن نسبة هدر الطاقة الكهربائية في شبكة النقل والتوزيع العراقية هي من بين الأعلى في العالم، قدرتها دراسة لصندوق النقد الدولي نشرت في 2023 بحوالي 50.6% في آخر بيانات متوفرة وهي لعام 2014، وحيث انه لم يتم تحديث هذه الشبكة منذ 2014، رغم زيادة ضغط النمو السكاني والحضري عليها، و بافتراض بقاء الهدر في معدله لعام 2014، فإن حجم الهدر في الإنفاق على الكهرباء في موازنة 2023 سيكون 5.76 مليار دولار. وهذا الهدر وحده سيكلف أكثر من الإنفاق المخطط في مجموع قطاعات الزراعة و الصناعة و الماء و المجاري و الصرف الصحي في الموازنة! ورغم العبء الهائل على الموازنة المقترحة، فإن واقع حال متوسط استهلاك الفرد الواحد للكهرباء في العراق في آخر البيانات المتوفرة في 2019 لدى منظمة الطاقة العالمية هو 2107 كيلو واط في السنة، متخلفا عن الفرد الإيراني بأكثر من 1500 كيلوواط بالسنة وعن السعودي بأكثر من 8400 كيلوواط وعن الكويتي بحوالي 15000 كيلو واط في السنة. و جدير بالذكر أنه حسب بيانات المصدر سابق الذكر، فإن في عام 2019 ذهب 32 دولارا من كل 100 دولار أنفقه العراق على الطاقة الكهربائية إلى استيراد الغاز من إيران لإنتاج الكهرباء ( 26 دولار) أو إلى استيراد الكهرباء مباشرة (6 دولار) من دول الجوار. ورغم التوجهات الإيجابية المذكورة في مشروع الموازنة بشأن إنشاء محطة لإنتاج الطاقة من اشعة الشمس و التوجه نحو إنتاج الغاز في غرب العراق تمهيدا للاستغناء عن الغاز الإيراني، ففي المدى المحدد ب 3 سنين لمشروع الموازنة الحالي، لا يتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في بنية تكاليف إنتاج الكهرباء في العراق عن واقع بيانات عام 2019.

متوسط حصة القطاع الزراعي من الإنفاق العام في العالم لعام 2021 كان 1.97%. هذه النسبة في آسيا كانت 3.35% و في افريقيا كانت 2.27%. أما في العراق، فرغم زيادة كبيرة في الأموال المخصصة للقطاع الزراعي في الموازنة الحالية، قياسا بموازنة 2021، و التي تتجاوز الـ 300% بالأرقام المطلقة، فلا تزيد نسبة حصة الإنفاق على القطاع الزراعي إلى مجموع الإنفاق في الموازنة الجديدة عن 1.7%. علما أن نسبة سكان الريف إلى مجموع السكان في العراق هو 29% وأن 40% منهم هم فقراء و يشكلون 18.22% من مجموع فقراء العراق (حسب آخر دراسة قام بها البنك الدولي في العراق في 2012). أحد أهم الوسائل لدعم القطاع الزراعي هو شراء الحكومة للمحاصيل الزراعية التي تشكل العمود الفقري للأمن الغذائي. وحسب السلة الغذائية العراقية، هي الحنطة والشلب، وينتج منهما المكونين الأساسيين للبطاقة التموينية في العراق و هما الدقيق و الرز. و رغم أن قانون الموازنة لسنة 2023 يتضمن زيادة في تخصيصات البطاقة التموينية بأكثر من 5.5 ضعفا، قياسا بنفس التخصيصات لسنة 2021، فوصلت إلى حوالي 3.66 مليار دولار. إلا أنها لا تتضمن زيادة تذكر في الأموال المخصصة لشراء الحنطة و الشلب. ورغم أن البطاقة التموينية هي الوسيلة الرئيسية لمكافحة الفقر في العراق، إلا أنها مع الزيادة التي شهدتها في الموازنة الجديدة، لا تترجم إلا إلى أقل من 7 دولارات في الشهر للفرد الواحد.

ليس حال الصناعة بأفضل من الزراعة في العراق. فحسب البيانات المتاحة لدى البنك الدولي في عام 2021، لا تشكل القيمة المضافة في قطاع الصناعات التحويلية في العراق سوى 2% من الناتج المحلي الإجمالي في البلد. بينما متوسط نسبة الصناعات التحويلية إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم هو 17%، ومرتبة العراق هي 16 في اسفل قائمة دول العالم. مرة أخرى لا يمكن تفسير هذا التخلف عن ركب العالم بلعنة النفط فقط. ففي إيران المجاورة هذه النسبة هي 21% والكويت هي 7%، و السعودية هي 13%، و هي جميعها من بين كبرى الدول المنتجة للنفط في العالم.

ورغم زيادة تخصيصات القطاع الصناعي في موازنة 2023 قياسا بموازنة 2021، بحوالي 300 مليون دولار. إلا أن هذه زيادة تشي بعدم جدية الحكومة ، إذ أن نسبة هذه التخصيصات إلى إجمالي الإنفاق الحكومي قد تراجعت من 1.3% في 2021 إلى 0.95% في 2023. بل و نرى في الموازنة نهجا معاديا على الأقل للمنشآت الحكومية في القطاع الصناعي، حالها حال كل المنشآت الإقتصادية المملوكة للدولة التي يعاني أصلا من الإهمال والفساد وعدم التحديث و اثقال الكاهل بالتعيينات غير المبررة. فحسب آخر ما توفر لنا من بيانات مجلس الأعمال العراقي البريطاني، في 2022، كان مجموع المنشآت الإقتصادية المملوكة للدولة هو 173 منشأة، 71 منها في قطاع الصناعة و التعدين، و بعد أن كانت 44 من مجموع المنشآت الحكومية تحقق أرباحا قبل عشرة أعوام، استنادا إلى بيانات البنك الدولي في 2022، تراجع الرقم إلى 30 في عام 2022. من بين المنشآت المربحة الباقية تعمل 11 منها فقط في القطاع الصناعي. و كلها بالكاد تحقق أي أرباح تذكر. لكن مشروع الموازنة الحالي يرفع حجم حصة الموازنة من أرباح منشآت القطاع العام من 793 مليون دولار في 2021 إلى حوالي 2.54 مليار دولار. أي أن الحكومة قررت رفع حصة الموازنة من أرباح القطاع العام في 2023 بنسبة 220%. ولا يعقل أن يعزى هذا إلى زيادة في الأرباح والربحية خلال سنتين، لذا لا يمكن تفسير هذه الزيادة الهائلة سوى بحرمان هذه المنشآت من استخدام الأرباح في التحديثات الرأسمالية المطلوبة بإلحاح لضمان صحة و استدامة هذه المنشآت اقتصاديا، بل يمكن الجزم بوجود إرادة حكومية متعمدة لحرمان هذه المنشآت من إعادة توظيف أرباحها في تحديث رأسمالها، لإن حصة أرباح القطاع العام هذه في إيرادات الموازنة الحالية ، رغم الزيادة الهائلة نسبيا قياسا بموازنة 2021، لا تسد سوى 2.45% من النفقات المقترحة في المشروع. أما لماذا إفشال المنشآت الحكومية الرابحة؟ فالجواب يكمن في أن تصفية المنشآت الإقتصادية العامة و بيعها إلى القطاع الخاص تعتبر "سياسة" محمودة تحث عليها المؤسسات الدولية المقرضة و حمعيات الأعمال العراقية الأجنبية. و حيث أن القانون العراقي يعتبر الفشل و عدم الربحية شرطا لعرض منشآت القطاع العام للبيع، فإن إفشالها يوفر الأرضية القانونية لبيعها.

ولعل أبلغ البيانات في عرض تصور "النخبة السياسية" للمال العام و طبيعة وصايتهم عليه هو مقارنة تخصيصات المراكز الرئيسية للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في موازنة 2023، بموازنة 2021. فرغم سخط العراقيين من المستوى الحالي لهذه التخصيصات، و اعتبارها من قبل قطاعات واسعة من المواطنين بمثابة اغناء فاحش للذات على حساب حرمان المواطنين من الحد الأدنى للخدمات العامة التي يٌتوقع توفرها في بلد يعتبر من ضمن الشريحة الأعلى في البلدان متوسطة الدخل في العالم. فقد زادت تخصيصات مجموع مؤسسات البرلمان و رئاسة الجمهورية و امانة مجلس الوزراء ورئاسة مجلس الوزراء والمحكمة الإتحادية العليا من حوالي 790 مليون دولار في 2021، إلى 2.06 مليار دولار، أي بزيادة تفوق مليار و 265 مليون دولار. وهذه الزيادة هي على مستوى واحد مع مجموع الزيادة في تخصيصات القطاع الصناعي والماء و المجاري و الصرف الصحي والثقافة والشباب والاندية والاتحادات مجتمعة! ولعل أفضل تعبير عن الطابع الإقطاعي لتقاسم هذه الأموال غير المرتبط بالإنتاجية هو معلومة أن عدد المناصب العليا المخصصة لمؤسسة رئاسة الجمهورية، التي هي اصلا مؤسسة تشريفاتيه محدودة المهام، هو 40، بينما في البرلمان الذي هو عصب التشريع، ويحتاج الى الكفاءات والاختصاصات المتنوعة في كل مجالات إدارة الدولة لأداء أعماله، عددهم هو 36. وقبل أن تشفق، عزيزي القارئ على أعضاء البرلمان، اعلم انهم برشاقة تحركاتهم المعهودة نجحوا في زيادة النفقات التشغيلية في البرلمان من حوالي 185 مليون دولار في هذه السنة المالية في قانون 2021 إلى أكثر من 298 مليون دولار في الموازنة الجديدة. بقسمة الرقمان على عدد أعضاء البرلمان في كل دورة، فإن راتب كل عضو في البرلمان مع رواتب المعينين لخدمته كان يكلف العراقيين، بالمعدل، 470 ألف دولار بالسنة في موازنة 2021. وبات يكلف 902 مليون دولار في الموازنة الجديدة. أي أن كلفته الشهرية زادت من 40 ألف دولار بالشهر، ما بين راتبه ورواتب اهله و اقاربه المعينين لخدمته، أو من عينهم باتفاق شراكته في جزء من رواتبهم، إلى أكثر من 75 ألف دولار بالشهر!

إساءة للدين والدولة ولحق المواطنة و للمساواة في مكافأة الخدمة العامة
اماكن العبادة و المؤسسات القائمة عليها في العراق تتلقى مبالغ طائلة من فقراء المذاهب و الأديان تحت مسميات دينية شتى. هذه الأموال تكفي للإعتناء بتلك الأماكن و تطويرها بما يليق بمكانتها التاريخية و الثقافية و الروحية لدى ملايين العراقيين. كما تكفي هذه الأموال لإعالة القائمين على هذه المؤسسات و غيرهم ممن يؤدون الخدمات الدينية في مختلف انحاء العراق، و لايوجد أي رقيب أو حسيب على كيفية صرف هذه الأموال و لا يستدل عليها سوى ببذخ القائمين على جمعها في حياتهم الشخصية. إذ لا توجد سجلات قابلة للتدقيق من قبل المواطنين لكيفية جمع و صرف هذه الأموال. رغم ذلك فإن قانون الموازنة لم يستمر فقط في تحميل الدولة عبء تمويل الأوقاف الدينية كما في الموازنات السابقة، بل زادها في موازنة 2023 قياسا ب 2021 بأكثر من 1.24 مليار دولار لتصل إلى حوالي مليارين و 33 مليون دولار، بنسبة زيادة تفوق 156%. يُدرج الإنفاق الحكومي على الأوقاف ضمن قطاع الثقافة و الشباب والأندية والاتحادات، و يستحوذ على أكثر من 80% من تخصيصات هذا القطاع حسب بيانات قانون الموازنة الحالي. وكل ما سبق يؤشر اساءة للدين و لحق الشباب والأندية والاتحادات في الإنفاق العام. ولا عجب أن الأوقاف الدينية باتت تتحكم بفوائض هائلة "تستثمر"ها في مختلف القطاعات الإقتصادية، الملائمة منها لعمل السلطات الروحية و غير الملائمة، و باتت محل نزاع عصابات الفساد والجريمة المنظمة التي تسعى للتحكم في هذه الأموال في إساءة واضحة لجوهر الدين و صورته في وجدان المؤمنين.

ورب قائل بحق الأوقاف في الاستثمار و التربح لضمان استقلالها عن السلطة السياسية. وهنا نقول بأن فكرة التمكين التراكمي لدور العبادة والمؤسسات القائمة عليها، الاكتفاء الذاتي عبر الإستثمار الآمن و المقنن لضمان استقلالها المالي عن الدولة، و لتخفيف ثقلها على كاهل الموازنة العامة تدريجيا، هي ليست فكرة سيئة. لكن أولا هذا ليس ما يحصل في العراق بدليل هذه الزيادة الهائلة في نسبة الإنفاق الحكومي رغم الفوائض التي تراكمها كل سنة. و ثانيا إن جرى التوجه بهذا الإتجاه، فلابد من قانون ينظم هذه الاستقلالية، يضمن للمؤمنين المتلقين لهذه الخدمات الروحية حقا مستداما في انتخاب الجهات المسؤولة عن استثمارات المؤسسات الدينية، وضمان إطلاع كل المواطنين على بياناتها، لضمان توجيه معظم إيرادات الاستثمارات و تبرعات المؤمنين إلى مستحقي فقراء المؤمنين و المواطنين عامة.


و في اطار الحديث عن تمكين بعض موظفي الدولة في قطاعات معينة من أموال عامة خارج إطار ما يمكن أن يخصص قانونا للخدمة العامة التي يفترض بهم اداؤها، فهناك من يخوله قانون الموازنة هذا الإمتياز لا لشيء سوى أن استحصال الاموال العامة يمر من خلال مؤسساتهم. فها هو قانون الموازنة يمنح العاملين في الخدمة العامة في قطاعات الإتصالات (المادة 19) و الضرائب (المادة 20) والقوى الأمنية (المادة 57) تحفيزات مالية لا لأداء فوق العادة بل لمجرد تعيينهم في هذه المؤسسات. فمثلا المادة العشرون - ثانيا تمنح نسبة من الضرائب المستحصلة على الدخول و الثروات إلى الموظفين في تلك الدوائر، من ما يجنونه من هذه الضرائب حسب حجم الوعاء الضريبي في المناطق الجغرافية المختلفة، لا، كما متعارف عليه في العالم، بحسب قدرتهم على كشف التلاعب الضريبي وزيادة حجم الوعاء الضريبي عبر مكافحة جريمة التهرب الضريبي التي تثقل كاهل الإقتصاد العراقي. اما (المادة 57) فتدعو إلى تأسيس ما يسمى بـ (صندوق تنمية ودعم قوى الأمن الداخلي) و الذي سيحول جزءا كبيرا من إيرادات الرسوم و الغرامات المستحصلة في الدوائر المختلفة التابعة لقوى الأمن الداخلي إلى صندوق استثماري تدخل به هذه القوى إلى السوق للتنافس مع المستثمر المدني. ولمعرفة خطورة هذا الأمر يكفي أن يستحضر المتتبع تجربة دخول الجيش المصري في سوق الاستثمارات المدنية، من صناعة البسكويت إلى الفنادق والمرافق السياحية، و ما تم تغطيته في الصحافة العالمية والمؤسسات الدولية بشأن استخدام هيبة الجيش و احتكاره للعنف في فرض إعفاءات قانونية لمشاريعه بما تدمر حق المواطن المدني في المنافسة من جهة، وفي فرض أساليب الترهيب و الأتاوات على المنافسين من جهة أخرى. و النتيجة هي تحول قادة الجيش المصري إلى مافيا اقتصادية محصنة من الديمقراطية و رقابتها. أما التجربة الأكثر دموية من المصرية هي تجربة قوات التدخل السريع الأمنية في السودان و استحواذها على استخراج الذهب كجزء من سياسة دعم "استقلال"ها ماديا فتحولت إلى مافيا عائلية تحرق البلد في نار حرب اهلية قبل أن تندمج بدون امتيازاتها الأقتصادية في بنية الجيش السوداني.

ليس حق اتحادات موظفي الدولة والنقابات العمالية في إدارة صناديق تقاعدها بالاستثمار في الأسواق المحلية و العالمية، هو أصل الخلل، بل وجود هذا التمايز بين موظف حكومي وآخر لا لشيء له علاقة بمؤهلاتهما و ادائهما الوظيفي. ويكفي أن الخدمة العامة في العراق قد ابتليت بمئات الآلاف من المناصب الوهمية و الوظائف الفضائية والتمييز غير العادل بين الدرجات الوظيفية العليا وما دونها من درجات.

لا يحسنون سوى لغة تأليب "المكونات" ضد بعضها!
نظرا لطبيعة النظام السياسي المتسيد في العراق منذ الإحتلال الأمريكي، فإن طبيعة النقاش البرلماني الذي احتدم لم يكن موجها بالدرجة الأساس إلى طبيعة النشاط الإقتصادي للدولة ودورها في إدارة مواردها و تعريفها للمشكلة الإقتصادية و طرحها بشأن تحقيق العدالة الاجتماعية وتعميم الفائدة من الثروة الوطنية. بل تمحور و احتدم حول حصة إقليم كردستان من الموازنة العامة في قبال حصص المحافظات العراقية الأخرى. وجرى تصوير مواطني الإقليم كمستفيدين بغير وجه حق من المال العراقي العام. وتجاوز هذا الخطاب جدران البرلمان ليكون الخطاب الإعلامي السائد المتحامل طوال فترة مناقشة بنود الموازنة.

و الناظر غير المختص لبنود الموازنة يجد أن حصة إقليم كردستان (بمحافظاتها الأربع المعترفة) هي حوالي 16.5 مليار دولار، أي بمعدل يزيد عن 4 مليارات للمحافظة الواحدة. بينما لا تزيد اكبر التخصيصات لمحافظة عراقية وهي البصرة عن 2.14 مليار دولار، في حين كان نصيب كربلاء هو الأدنى من التخصيصات (حوالي 150.5 مليون دولار فقط). لكن ما يتجاهله، و ربما يجهله من يجري هذه المقارنات هو أن ما يسلّم لإقليم كردستان هو مواز لتخصيصات المحافظات اضافة الى نفقات و مشاريع كل الوزارات العراقية التي تعمل في الوسط و الجنوب. إذ أن النظام الفيدرالي المعمول به في العراق ينتظر من وزارت حكومة الإقليم أن تقوم بتخصيص نفقاتها و نفقات مشاريعها من مخصصات الإقليم.

وجدير بالمواطن العراقي غير الساكن في إقليم كردستان أن يعرف أن سكان الإقليم يشكلون حوالي 13% من مجموع سكان العراق، و أن تخصيصات الحكومة العراقية للتعيينات الحكومية و رواتب المدنيين والعسكريين و القوى الامنية، و تبعا لذلك تخصيصات التقاعد و الضمان الإجتماعي، هي مطابقة للـ 13% هذه، بينما نسبة مخصصات الإقليم إلى مجموع نفقات الحكومة العراقية لا تصل إلى 8.5% من مجموع النفقات، أما حصة إقليم كردستان من النفقات السيادية فهي أقل من 10%. ولو نقب المواطن العراقي هذا اعمق قليلا، سيرى أن المواطن الكردستاني العادي يتحمل اعباء حصته من مديونية العراق مع حصة متزايدة لمديونية إقليم كردستان الدولية التي لا تدخل في باب النفقات السيادية العراقية و التي تقدر حاليا بـ 35 مليار دولار (نجم أغلبه من سياسة نفطية "مستقلة" حولت طغمة من المتسيدين في الإقليم إلى أعضاء بامتياز في نادي أصحاب المليارات في العالم و يتحمل المواطن الكردستاني ثمنها يوميا). فأسعار الكهرباء والوقود في الإقليم قد رفع عنها الدعم الحكومي الذي يتمتع به العراقيون في المحافظات الأخرى، منذ امد طويل. كما أن الرسوم على الخدمات الحكومية وصلت إلى أضعاف مثيلاتها في باقي أنحاء العراق. و المتقاعد الكردستاني (الذي هو متقاعد من الخدمة العامة في العراق و لا سند قانوني لمعاملة استحقاقه التقاعدي بأقل من رديفه العراقي في المحافظات الأخرى) يتلقى بالمعدل نصف المتقاعد العراقي.

و الإتفاق الذي تم التوصل إليه بين الحكومة المركزية و حكومة الإقليم بشأن السياسة النفطية سوف يفاقم الوضع في إقليم كردستان و سيتحمل أعباءه المواطن الكردستاني المثقل بالأعباء اساسا. و سنحاول أن نشرح أن الإتفاق هو في جوهره يمثل تخلي حكومة التوازنات الميليشياوية عن تنفيذ حكم القانون.


الإتفاق النفطي هو اتفاق بين قوى لا تريد أن تحمي الثروة الوطنية في كردستان و العراق
رغم أن اعلى سلطة قضائية في البلد قد قررت أن عقود شركات النفط العاملة في إقليم كردستان هي باطلة ببطلان قانون برلمان الإقليم الناظم لهذه العقود (وهو قانون صدر بعد أن قامت القوى المتنفذة في الإقليم بتوقيع أغلب العقود الأساسية بلا ناظم دستوري أو قانوني فيدرالي و بلا قانون محلي تتحكم هي في محتواه)، و رغم أن قرار المحكمة العليا هو بات و قطعي، وأن الواجب الدستوري الأول لأي حكومة تتقيد بالحد الأدنى من التزاماتها تجاه المواطنين هو تنفيذ قرار قطعي يختص باسترداد حقوق عامة على ثروة، تخص كل العراقيين، الإيراد السنوي المتأتي منها يتجاوز الـ 10 مليارات دولار، بالمتوسط. ورغم توفر شروط ايجابية تمكّن سلطات الإقليم و السلطات العراقية من مواجهة الشركات صاحبة العقود المجحفة بحق شعب كردستان قبل عموم العراق، للتفاوض معها على استرداد حقول النفط إلى الملكية العامة (وذلك بسبب وقف تركيا عمليات تصدير نفط كردستان عبر الأراضي التركية)، رغم كل هذا، اختار مفاوضو حكومة الإقليم و الحكومة المركزية، الإبقاء على سيطرة هذه الشركات غير القانوني و غير الدستوري على حقول نفط إقليم كردستان لغاية صدور قانون جديد للنفط و الغاز ينوي الطرفان ارجاع عقارب الساعة العراقية فيه إلى ما قبل قانون تأميم النفط الأول رقم 80 لسنة 1961، و فشلت حكومات عراقية متعاقبة في تمريره منذ الإحتلال الأمريكي إلى الآن.

و من التبعات الخطيرة لهذا الإتفاق، هو أن الحكومة العراقية تلتزم بدفع تكاليف الإنتاج، حسب معدل تكاليف الإنتاج في عموم العراق، إلى حكومة الإقليم لتدفعها بدورها إلى شركات النفط، ولكن المتحدث باسم حكومة الإقليم صرح علنا أن ما تدفعه الحكومة العراقية سوف لن يغطي سوى نصف التكلفة التي تطالب بها شركات النفط و أن على حكومة الإقليم توفير النصف الآخر من مصادر إيرادات حكومة الإقليم الأخرى. و ترجمة هذا الكلام أن مقابل كل برميل من النفط تنتجه شركات النفط في إقليم كردستان، ستدفع السلطات الفيدرالية 10 دولارات و سيدفع المواطن الكردستاني، عن طريق زيادة أخرى في رسوم الخدمات الحكومية و اجور الكهرباء و الماء و اسعار الوقود، 10 دولارات إضافية لشركات تعتبرها أكبر هيئة قضائية في البلد عاملة بدون غطاء قانوني. والأصل في هذا الاتفاق هو اتفاق المتسيدين في الإقليم مع متسيدي المركز بأن العقود المجحفة و غير الدستورية في كردستان ستصبح هي نمط العقود السائد لاحقا، مع قانون نفط جديد في كل العراق.

ملخص الكلام هو أن السلطة السياسية لإقطاعيات الميليشيات العراقية، تبين لنا في قانون الموازنة للأعوام 2023-2025 الذي مررته انها سلطة لا تؤتمن على المال العام و آمال التطور و النمو الاقتصادي المتوازن في بلد منهك و منتهك. هي ترى نفسها متأبدة في السلطة و تتصرف تصرف الضامن لهذا التأبد. بقي أن يسمعهم العراقيون كلاما غير ذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جزيل الشكر للأستاذ آلان
عبدالله عطية شناوة ( 2023 / 7 / 22 - 17:09 )
كشف رائع لقضايا ربما تكون بالغة التعقيد للمتابع غير المتخصص في شؤون السياسة والأقتصاد والقانون.
جهد يستحق التقدير حقا.

اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟