الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لعنة عناق .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2023 / 7 / 22
الادب والفن


جمع القدر الذي لا مفر منه بين ( عناق ) ، وهي فتاة حسناء مندفعة جريئة ، ومليئة بالحياة ، وبين ( غالي ) الشخصية المتباعدة الخجولة الضعيفة ، والسهلة الانقياد ، وعناق أولى تجاربه مع النساء ، فأنّى لمثل هذا الزوج أن يكون خيّالاً لفرس جامح مثل عناق ..؟!
سألوها عن اسمها الغريب ، والنادر .. قالت كأنها تكشف سراً :
— سمّاني أبي على اسم أول ( فاجرة ) على هذه الفانية .. !
ويا لمصادفات القدر كأن روح عناق الأولى قد حلت في عناق اليوم .. !
وما أنقضت الأشهر الأولى على زواجهما حتى فجّر متسكع مفاجأة عندما قال بأنه شاهد امرأة تخرج من بيت غالي ، وقد تلفعت بعبائتها ، وغطت وجهها بخمار أسود ، فإن لم تكن عناق ، فمن عساها تكون ؟ لا يمكن أن تكون أمه العجوز القميئة المحدودبة الظهر التي تنوء بأحزانها ، ولا تخرج إلا نادراً .. ! لكنه لا يعرف أين ذهبت ومتى عادت …
انطلق الكلام يسيل همساً بين الجيران سرعان ما توسعت دائرته أكثر وأكثر كأن حجراً قُذف على سطح النهر .. ! ثم تكرر خروج ذلك الشبح الاسود كل يوم عدا الأيام التي كان غالي يرتاح فيها من مشقة عمله حتى أصبح منظراً عادياً لا يثير استغراب أحد ، ولا يستدعي وضع الخمار .. !
كل هذا والزوج صامت كالقبر .. لساعات طوال لا تستطيع خلالها أن تنتزع منه كلمة واحدة .. يسير وحده كئيباً مثقلا بالهموم ، ويغمغم بينه وبين نفسه كمن أصابه مَس !
ظلت عناق كالوهم لا أحد يعرف عنها شيئاً ، وعندما سألوا غالي الذي شاخ وتقوس ، ووهنت قواه ، وبمجرد ذكرها امتقع لونه ، فأصبح شاحباً شحوب الموتى ، ثم أجاب بصوت مرتعش كأنه كان يبكي بأنها تذهب الى أهلها لتزور أمها المريضة .. !
التفّت عناق كما تلتف الافعى على ( صبرية ) زوجة ( عاشور ) العامل في مصلحة السكك ، وهي امرأة لها قدر لا بأس به من الجمال ، واتخذت منها صديقة أو خليلة .. كأن الرغبة المحرمة عند هذا الصنف من الهوام كانت كامنة متربصة .. تنتظر من يخرجها من جحورها .. !
وفي يوم .. كان الحي صامتاً ، وشبه نائم .. سمعنا هدير عويل ، وضجيج أصوات ، وتسارع خطى كأنها تهرول .. تفاجئنا عندما قالوا بأن غالي قد مات .. كأنها رحمة من نوع ما هبطت تحمل لهذا المسكين السلام والسكينة .. قالت أمه ، وهي تولول منتحبة : داهمه الموت دون مقدمات ، فمات لساعته دون احتضار ، ولم يُمهله وقتاً لتوديعنا .. آه يا روحي يا ولدي .. لقد قتله الحب ، وعذبته الغيرة على هذه الافعى التي ليس في قلبها ذرة رحمة .. انه مفتون بها الى حد الجنون .. الله يلعن الحب وساعته .. عندما يعود من عمله تسألني عينيه قبل لسانه : هل خرجتْ .. أهز رأسي إيجاباً .. تموت على شفتيه ابتسامته الحزينة الباردة ، وفجأةً يرتعد ويرتجف ، ويتغير لونه ، فيصبح بلون الليمونة ، ثم يدخل غرفته ، ويغلق عليه بابها .. أتبعه خشية أن يفعل بنفسه شيئاً.. أراه يبكي وينتحب كطفل أغتصبت منه حاجته .. حتى بداعلى وجهه من إمارات الشحوب والحزن ما أخافني ، فقلت أواسيه : هون عليك ، يا ولدي .. انها لا تستحق شيئاً مما تفعله بنفسك .. لا يراني ولا يسمعني كأنه وحده في هذا العالم ، ثم يتركني كأني غير موجودة ، ويتهاوى على فراشه .. رافعاً رأسه الى فوق .. شاخصاً الى اللاشيء حتى بدأت أشك في سلامة قواه العقلية ، لقد سحرته هذه الحية بجمالها ، وبما تتفضل عليه من جسدها الآثم متى أرادت .. انها شيطان في كيان امرأة .. لا أدري ما الذي فعلته لتجعل من ولدي حملاً وديعاً مسلوب الإرادة .. ؟ أنا أعرفه مسالم لا يؤذي بعوضة .. ألا لعنة الله على ضعف الرجال .. كان عليه أن يقتلها ، ويخلص الناس من شرها ، أو بالقليل يطلقها ، ويخلص من أذاها وعارها ويرتاح لا أن يموت هو كمداً .. يميناً بالله لو كنت رجلا لتوليت بنفسي ذبحها .. غداً سأموت أنا الأخرى ، ويبقى البيت بما فيه لها .. آه يا حبيبي . وواصلت بكاءها وأنينها .. كان منظرها ، وهي تسرد مأساة ابنها يدعو الى الرثاء .. !
صُدم الحي ، وتعالى صراخ النسوة يردحن نادبات شباب غالي الذي ضاع ، وهن يتأوهن ويصدرن أنات بعضها حقيقي وبعضها لا .. حتى زأر بهن أحد الشيوخ قائلاً بأن هذا يومه - اللهم لا اعتراض - والموت علينا حق ، وما عناق إلا سبباً من الأسباب .. كان المسكين في عز شبابه ، ولم يُعرف عنه أنه مريض ، أو يشكو من علة ما .. لكن الموت هو الموت .. لا جدال فيه .. !
قالوا لعلها تحترم موت زوجها ، وتكف عن طيشها ، وترجع الى جادة الصواب لكن كيف لمن خانته حياً أن تخلص له ميتاً .. ؟!
أصبحت عناق جسماً غريباً منبوذاً ، ولعنة على كل بيت تدخله ، أو تمر من أمامه ، وتوجس الرجال منها خيفةً على نسائهم وبناتهم ، وكلما وقع حدث جلل حتى لو لم يكن لها دخل فيه قالوا انها لعنة من لعناتها .. !
عندما تطلقت ( مهجة ) بنت الفران من زوجها قالوا بأن عناق هي السبب ، فهي من جرجرت رجلها الى طريق الضياع .. !
وقالوا نفس الكلام عندما اختارت ( سهام ) الموت بعد أن فقدت زهرة عفافها ، ولما وصلت بحملها الى الشهر الثالث ، ولم يعد بمقدورها أن تخفيه على أهلها .. انتحرت ، وأخذت سرها معها .. !
وفي عصر يوم قائظ من أيام الصيهود .. حدث ما هو أفضع هزَّ الحي بأكمله هزة عنيفة حينما أقدم عاشور على قتل زوجته صبرية :
بلغ الرجل بيته ، والليل كان قد اقترب بعد أن أمضى سحابة نهاره في العمل ، ولما لم يجد زوجته ، ورأى أطفاله حفاة تغمر القذارة وجوههم .. استشاط غضباً .. أخذ يجول في الغرفة .. تائه النظرات متقد العينين يزأر كأسدٍ جريح ، وهو يُحدِّث نفسه كالمجنون .. ظل ينتظرها ممتقع الوجه .. تتقاذفه الظنون ، فلم يحدث أن جاء يوماً ، ولم يجدها في بيتها مع أطفالها .. انه مصعوق .. لا يصدق أن هذه الافعى يمكن ان تكون زوجته التي يعرفها .. حتى سمع حفيف أقدام متلصصة .. !
وحين دخلت عليه بهيئة لم يألفها .. استقبلها بوجه جامد كأنه قُدَّ من صخر ، وانفجر في وجهها صارخاً :
— أين كنتِ ، يا بنت الكلب كل هذا الوقت .. تاركة الاطفال في حالة مزرية .. قذرين مذعورين .. ؟
أجابته ببرود بأنها كانت عند جارتهم عناق دون أن تدرك عاقبة جوابها ، وعندما سمع اسم عناق جُن .. توارد على ذاكرته ما سمعه عن هذه الفاجرة من سوء سيرة وسلوك .. طاف في ذهنه في تلك اللحظة خاطر ارتعد له جسده كله .. أخذ يردد الاسم دون وعي ، وهو يجز على أسنانه يكاد يطحنها ..
اتسعت عيناها ، وغاص قلبها في صدرها ، واستحال وجهها قاتماً ، وهي تراه وقد أشهر السكين .. صرخت صرخة أودعت فيها كل رعبها وفزعها ، وهي تجيل النظر حولها كأنها تبحث لها عن مهرب .. صاحت مستعطفة :
— بالله عليك دعني أفهمك ..
استدارت وحاولت أن تهرب لكن السكين كانت أسرع .. اندفع خلفها يطاردها بأنفاس لافحة كذئب يطارد فريسته ، وهو يردد من خلال أسنانه .. مجرمة .. فاجرة .. خائنة حتى تعثرت وسقطت ، فانهال عليها طعناً ، وقد تلاشى من ملامحه أي أثر للشفقة أو الرحمة .. انبعثت منها صرخات مدوية اختلطت مع عويل أطفالها .. جحظت عيناها .. ترنحت ، ثم خرت صريعة تزفر آخر أنفاسها ، وسكنت الى الأبد .. !
لبث عاشور وقتا طويلا جاثيا على ركبتيه الى جانب الجسد المسجا أمامه ، والغارق في دمه .. مطأطئ الرأس ، وبدنه يرتج بعنف ، والسكين الدامية ترقد بالقرب منه .. ما أشد حزنه وعذابه .. ! إن أفضع ما يمكن أن يحدث قد حدث كأنه كان كابوس في إغفاءة قصيرة .. ! ثم أسلم نفسه الى البكاء .. !
أُقتيد عاشور الى التحقيق ، وبقي أطفاله مشتتين بين الجيران بانتظار من يأخذهم من أهله .
كان وقع الحادث صادماً على أهل الحي .. احتشدوا في جلبة ولغط .. صاح بهم الشيخ عبد العظيم بأنفاس مبهورة :
— أخوتي .. ما وقع قد وقع .. ماذا عسانا أن نفعل .. ؟ إنه ابتلاء حل بنا .. تطهروا تطهروا ، يا ناس .. !
وهتف الأستاذ منعم كأنه يغمز الى شيء ما :
— ( لا شيء غير القبر يقوِّم ظهر الأحدب ) .. !
وضاع حساب الأيام في غمرة الأحداث ..
وظل المكان الذي تذهب اليه عناق سراً لم يُميط اللثام عنه أحد حتى جاء ( رمزي ) ذلك الشاب العابث الذي أفشى السر من الألف الى الياء .. وقف بقوامه الوسيم ، وقال بأنه شارك شخصياً في احدى الحفلات الماجنة التي كانت المرأة اللعوب عناق تشارك فيها وسط المدينة .. أحياناً لوحدها ، وأحياناً بصحبة نسوة أُخريات لم يرغب في الكشف عن أسمائهن ، وقال أيضاً ، وهو يقسم على ذلك بقبر أبيه بأن عناق امرأة يسكن جسدها الجائع دوماً .. الشيطان ، فلم تكن تشبع ، ولا ترتوي أبداً .. وعاء مثقوب لا يمتليء ، وقال أشياء قبيحة ليس من اللائق ذكرها ، وختم .. بأنه لم يشاهد امرأة على شاكلتها في حياته ، ولا يعتقد بأنه سيشاهد في المستقبل .. !
ظلت سيرة عناق ولعنتها حدوثة تتردد على السنة الناس في ليالي الشتاء الباردة .. لاعنين ذلك الاسم ، وصاحبته .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟